مقدمة:

مضت 69 عاماً على احتلال إسرائيل القدس الغربية، و50 عاماً على احتلالها القدس الشرقية وضمها إلى الأولى، والإقرار بكون المدينة بشقيها هي عاصمة إسرائيل الأبدية، مع تعريضها منذ تلك الفترة إلى يومنا هذا، لمختلف الإجراءات القسرية، التي يهدف من خلالها الصهاينة إلى تغيير حقيقة القدس، العربية جغرافياً وتاريخياً ومجتمعياً، واستبدال هذه الحقيقة بالطابع اليهودي عبر سياسة الاستيطان والإحلال.

بما أن القدس تاريخياً، فلسطينية عربية أرضاً وبشراً، وما الوجود الإسرائيلي فيها إلا عبارة عن احتلال إحلالي، فإن المقالة البحثية هنا ستكون معنية باستخلاص موقف الشرعية الدولية من هذه الحقيقة، اعتماداً على قرارات كل من اليونسكو كإحدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة، والجمعية العامة كأحد هياكل هذه الأخيرة.

وفي هذا السياق، وانطلاقاً من قرارات كل من اليونسكو والجمعية العامة، يثار سؤال: إلى أين تتجه مواقف الشرعية الدولية من عروبة القدس؟ هل إلى خدمة الأجندة الإسرائيلية أم إلى تكريس حقيقة القدس العربية؟ أم إلى شيء آخر؟ وفي محاولة الإجابة عن هذا التساؤل سنتوقف عند فرضيتين:

الأولى، مفادها أن الشرعية الدولية ممثلة على سبيل الحصر بكل من الجمعية العامة واليونسكو، لديها موقف واضح من عروبة القدس، هو أنها تتبنى تدويل القدس، ولا تقر بالتالي بحقيقة القدس العربية أرضاً وبشراً، إلا أنها تندد وتعبِّر عن رفضها، في الوقت نفسه، لكل الإجراءات الاحتلالية التي تقوم بها إسرائيل على الأرض، من أجل تغيير وضع القدس.

أما الفرضية الثانية فترى أن موقف الشرعية الدولية من القدس خاضع لإملاءات القادة الإسرائيليين، بحيث إن إسرائيل تثبّت تدريجياً وضعها وهيمنتها على مدينة القدس من خلال المستوطنات والحفريات، وهو ما يعني أنها سائرة في سياسة التهويد، في حين أن الأجهزة الممثلة للشرعية الدولية تكتفي بالتنديد وإصدار التوصيات، ولا تتعدى ذلك إلى محاولة وقف الإجراءات الإسرائيلية على الأرض. وستكون محاولة قياس هذه الفرضيات، وفق محورين رئيسين:

أولاً، موقف الشرعية الدولية من حقيقة القدس.

ثانياً، موقف الشرعية الدولية من الإجراءات الإسرائيلية في القدس.

أولاً: موقف الشرعية الدولية من حقيقة القدس

بعد إعلان قادة الحركة الصهيونية عن إنشاء إسرائيل في 15 أيار/مايو 1948، احتل الصهاينة مباشرة الجزء الغربي من القدس، وقاموا بطرد ما يقارب 60 ألفاً من سكانها العرب، من أحياء «مأمن الله»، و«البقعة الفوقا»، و«البقعة التحتا»، و«الطالبية»، و«القطمون»، و«الكولونيالية الألمانية»، و«الحي اليوناني»، و«حي الثوري»، و«المصرارة»، وقسم من «أبي طور»‏[1]، لتصل إلى حدود 88.7 بالمئة من مجمل مساحة القدس الغربية، التي لم تعد بحوزة سكانها الأصليين الفلسطينيين العرب، لأن الكيان الصهيوني استطاع حقاً تهويدها، عبر سياسة هدم منازل المقدسيين وإعادة بناء مستوطنات إسرائيلية فوق أراضيها‏[2].

وستبقى الأمور على هذا المنوال، أي أن القدس الغربية ستظل تحت سيطرة إسرائيل، والقدس الشرقية تحت نفوذ الأردن، إلى أن وقعت حرب حزيران/يونيو عام 1967، التي من بين أهم ما أدت إليه، سقوط القدس الشرقية كذلك عسكرياً، تحت الاحتلال الإسرائيلي، الذي قام بعدة إجراءات من أجل تثبيت هيمنته على المدينة، وعلى رأسها محاولة توحيد شقَّي المدينة الشرقي والغربي‏[3]. كما أن هذه الآليات نفسها التي كان الكيان الصهيوني يحاول من خلالها تهويد الجزء الغربي من المدينة، ما زالت هي نفسها الآليات التي يحاول بها تهويد الجزء الشرقي من مدينة القدس.

وإذا كانت عروبة القدس عبارة عن حقيقة راسخة في التاريخ، فالوجود الإسرائيلي فوق أرض هذه المدينة التي تشكل جزءاً من كل هو فلسطين، ما هو إلا احتلال غاشم حسب ما تقر به المعطيات التاريخية، يحاول على أرض الواقع تثبيت وجوده بميكانيزمات إحلالية استيطانية. وأمام هذا الوضع، فمن الضروري إثارة تساؤل، حول ما هو موقف الشرعية الدولية من هذه الحقيقة أي عروبة القدس؟

كما هو معلوم بدأت مشكلة القدس حين لم تستطع بريطانيا – الدولة المنتدبة على فلسطين – حل القضية الفلسطينية، التي أسهمت هي نفسها بالدور الأكبر في خلقها، ما أجبرها على الاتجاه نحو الأمم المتحدة عارضة عليها القضية. فكان انعقاد جلسة الجمعية العامة في دورتها الاستثنائية الأولى في 12 نيسان/أبريل 1947، بمنزلة الخطوة الأممية الأولى في الموضوع، التي سيتمخض عنها في النهاية، اتخاذ قرار تأليف لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين، المعنية بالبحث في كل خبايا وتفاصيل القضية الفلسطينية‏[4].

عند اقتراب موعد انعقاد جلسة الجمعية العامة في دورتها الاستثنائية الثانية، قدمت اللجنة الخاصة المشار إليها مشروعين لحل قضية فلسطين: الأول، يرمي إلى إحداث دولة اتحادية مكونة من دولتين عربية و«يهودية» في فلسطين؛ والثاني، يدعو إلى إنشاء دولتين في فلسطين إحداهما عربية والأخرى يهودية مع الوحدة الاقتصادية بينهما، مع إخضاع مدينة القدس لوضع خاص تكون فيه تحت إشراف دولي‏[5].

لقد أقرت الجمعية العامة المشروع الثاني، في إطار قرار التقسيم رقم 181 الصادر في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، الذي يعد أول قرار لها فيما يخص قضية فلسطين، ومن خلاله أقرت إلى جانب تقسيم فلسطين، على وضع القدس – لاحتوائها على الأماكن المقدسة للمسلمين والمسيحيين واليهود – تحت نظام دولي‏[6]، بالصيغة الآتية: «سيؤسس لمدينة القدس كيان منفصل تحت نظام حكم دولي خاص، تقوم على إدارته الأمم المتحدة، ويعيَّن مجلس للوصاية ليضطلع بمسؤوليات السلطة والإدارة، بالنيابة عن الأمم المتحدة»‏[7].

يشمل النظام الدولي هذا بلدية القدس، أي القدس بشقَّيها الغربي والشرقي، بما فيها من أحياء قديمة وأخرى حديثة، إلى جانب القرى التي تشكل معها وحدة واحدة‏[8]، حيث تكون ««أبو ديس» أقصاها شرقاً و«بيت لحم» أقصاها جنوباً، وعين كارم أقصاها غرباً – بما في ذلك المنطقة المبنية من «موتسا» – وتكون «شعفاط» أقصاها شمالاً»‏[9].

كما نص القرار على قيام مجلس للوصاية بتعيين حاكم لإدارة القدس داخلياً، والاهتمام بعلاقاتها الخارجية، ونص كذلك على تأسيس مجلس تشريعي للمدينة، ينتخب من أبنائها وفق نظام عام، كان من المفروض أن يوضع لحكم المدينة وإدارتها، ويستمر لمدة عشر سنوات على الأقل‏[10]، بيد أن هذا المشروع لم يرَ النور، نتيجة معارضة البلدان العربية من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، ما أبقى التدويل معطلاً‏[11].

ومن الضرورة الموضوعية الإشارة هنا، إلى أن قرار التقسيم السالف الذكر سيتخذ في الحقيقة قبل إنشاء إسرائيل، بل إن إحدى فقراته هي التي شكلت الذريعة القانونية الوحيدة لإنشاء إسرائيل، إلا أن القرارات في هذا الصدد، ستتكاثر بعد احتلال إسرائيل للقدس الغربية، وستكرس هذه القرارات نفس ما جاء في قرار التقسيم، حيث سينص القرار الرقم 194 الصادر في [كانون الأول] ديسمبر 1948، على أن الجمعية العامة «تقرر […] نظراً إلى ارتباط منطقة القدس بديانات عالمية ثلاث، [أن] هذه المنطقة بما في ذلك بلدية القدس الحالية […] يجب أن تتمتع بمعاملة خاصة منفصلة عن معاملة مناطق فلسطين الأخرى، ويجب أن توضع تحت مراقبة الأمم المتحدة الفعلية»‏[12]، وسيتم تأكيد الأمر بموجب قرار آخر، الرقم 303 الصادر في كانون الأول/ديسمبر 1949، الذي نص على وجوب وضع القدس تحت نظام دولي دائم‏[13].

هنا يتبين أن القدس وفق موقف الشرعية الدولية، واستناداً إلى القرارات الصادرة عن الجمعية العامة المذكورة سلفاً، تعد كياناً ذا نظام دولي منفصل عن فلسطين. وهذا الموقف يتعارض تماماً وبوضوح مع حقيقة القدس، ناهيك بأن قرار التقسيم هذا، المتبنى من قبل الشرعية الدولية «يعطي 54 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية لإسرائيل»‏[14]، أي أن الشرعية الدولية تضرب بحقيقة القدس العربية الفلسطينية أرضاً وبشراً عرض الحائط.

لأن حقيقة القدس بالأساس مبنية على عنصرين أساسيين هما الأرض والبشر، أي لمن كانت هذه الأرض أثناء تكون المجتمعات؟ ومن هم أصحابها؟ وما دامت القدس فلسطينية عربية أرضاً، وأهلها مقدسيون عرب، فإن موقف الشرعية الدولية ممثـلاً، على سبيل المثال وليس الحصر، بقرارات الجمعية العامة، يصب في تغيير هذه الحقيقة، من خلال الإقرار بوجوب جعل القدس منطقة خاضعة لنظام دولي خاص، انطلاقاً من مبرر أنها مهد الديانات السماوية الثلاث.

صحيح أن موقف تدويل القدس هذا، لا يقر بحق السيادة على مدينة القدس لأي طرف من الأطراف المتنازعة عليها، بقدر ما يمنح صلاحيات إدارتها فحسب لكيان خارج هذه الأطراف ضمن مشروع التدويل‏[15]، إلا أنه يبقى رغم هذا، موقفاً منافياً لحقيقة القدس، المتجلية في كون الوجود الإسرائيلي على هذه الأرض هو احتلال لجزء من فلسطين العربية، عبر مرحلتين: الأولى، كانت سنة 1948 للشق الغربي؛ والثانية، كانت في عام 1967 للشق الشرقي، ما يعني أنه كان من الحق والعدل في ظل الشرعية الدولية الإقرار بحقيقة القدس، أي أن هذه المدينة فلسطينية الوجود وأهلها الأصليين هم المقدسيون العرب، ويجب أن تعود إليهم في نهاية المطاف، وليس إخضاعها لنظام التدويل، الذي لا يتجاوز في حقيقته، كونه غطاءً دولياً لنزع ملكية الأرض من أصحابها الأصليين، في ما يخص حالة القدس.

زيادة على ما تم ذكره، في ما يخص تنافي موقف الشرعية الدولية مع حقيقة القدس، فإن موقف هذه الأخيرة يراه كثير من القانونيين على أنه مس واضح بأحد أهم مبادئ القانون الدولي، وهو حق الشعوب في تقرير مصيرها، بمعنى أن قرار فصل القدس عن المناطق الفلسطينية الأخرى وإخضاعها لنظام دولي خاص، هو مس صريح بحق الشعب الفلسطيني ككل والمقدسيين كجزء في تقرير مصيرهم‏[16].

ثانياً: موقف الشرعية الدولية من الإجراءات الإسرائيلية في القدس

في إثر انهزام العرب في حرب الأيام الستة عام 1967 أمام إسرائيل، ستحتل هذه الأخيرة القدس بأكملها، ومباشرة بعد هذا الفعل الاستعماري، ستباشر إسرائيل في إجراءات عديدة وعلى عدة مستويات، من أجل تثبيت أقدامها تدريجياً على الأراضي المحتلة داخل مدينة القدس، كما أن هذه الإجراءات ستنفذ بطريقة سريعة، إن دلت على شيء، إنما تدل على أن إسرائيل في سباق ضد السرعة نفسها في ما يخص تحقيق حلم الأجداد المتمثل بتهويد القدس، وجعله نتيجة حتمية وأمر واقع على الأرض. لهذا فمن الضروري التساؤل عن طبيعة هذه الإجراءات المتبعة في تحقيق هدف التهويد؟ وما موقف الشرعية الدولية من هذه الإجراءات؟

لم تنتظر إسرائيل كثيراً، فبعد شهر ونصف الشهر من اندلاع حرب 1967، ستبدأ بإجراءات التهويد على مستوى القدس الشرقية، مع العلم بأن التهويد في القدس الغربية كان قائماً منذ عام 1948. وبما أن الحديث هنا يخص القدس الشرقية، فإن البداية كانت مع «بن غوريون»، الذي دعا إلى توطين 20.000 أسرة يهودية كخطوة أولى من أجل إنهاء فكرة تدويل المدينة المقدسة، وفي إطار هذه الدعوة قامت إسرائيل بإصدار الأمر الرقم 1443، المتعلق بمصادرة الأراضي والمباني داخل أسوار القدس القديمة، وتتالت الأوامر فيما بعد في ظل هذه المصادرة، حيث انتقلت إسرائيل من أمر إلى آخر، حسب المدة الزمنية التي يتطلبها تنفيذ كل مصادرة‏[17].

كما أن هذه المصادرة للأراضي من أصحابها الأصليين، واكبها أيضاً توسع على مستوى المستوطنات التي كانت قائمة في القدس، وإقامة أخرى جديدة، أقل ما يمكن أن يقال عنها هو إنها مستوطنات إحلالية بالكامل، تقوم بإحلال مبانٍ ذات طابع يهودي، مكان المباني العربية الإسلامية التي تم تدميرها، والإتيان كذلك بسكان غرباء عن المدينة، عوض سكانها العرب الأصليين (المقدسيين)، الذين تم طردهم وتشريدهم وإنكار حقهم في العودة‏[18].

لم تتوقف إجراءات إسرائيل على الأرض، عند إزاحة المباني العربية عن الوجود فحسب، بل امتدت عملياتها الإحلالية حتى إلى الأمكنة المقدسة الإسلامية والمسيحية، حيث عملت على إجراء حفريات حول الحرم الشريف في القدس، بهدف إزالة الحرم الشريف والمسجد الأقصى ومسجد الصخرة، وكل ما حولها من أوقاف إسلامية ومسيحية، واستبدال كل هذا بهيكل جديد لليهودية. وهذه الحفريات ما زالت قائمة لحد الآن، وقد وصلت إلى أسوار الحرم الشريف‏[19]. لكن إسرائيل لن تقف عند ما وصلت إليه هذه الحفريات، بل تبنت عقلية إحلالية إجرامية أكثر، تجسدت بوضوح في عملية إحراق المسجد الأقصى، يوم 21 آب/أغسطس من عام 1969، كمحاولة منها لطمس أهم المعالم الإسلامية في القدس‏[20].

إلى جانب هذه المستويات التي يعمل في إطارها الكيان الصهيوني على تهويد القدس، هناك مستوى آخر، لا يسهم في تهويد القدس فحسب، بقدر ما يسهم في تكريسه، وهو المستوى التشريعي الإداري الذي يقوده الكنسيت الإسرائيلي، بحيث يتضح من خلال العودة إلى عام 1980، أن إسرائيل قامت بضم القدس المحتلة واعتبرتها عاصمتها الموحدة‏[21]، بموجب القانون الأساسي الذي أصدره الكنيست، والذي ينص في مادته الأولى، على أن القدس كاملة الوحدة هي عاصمة إسرائيل، وفي الثانية، على أن القدس هي مقر رئيس الدولة والحكومة والمحكمة العليا والكنيست‏[22]. وهذا يعني فرض السيطرة الإسرائيلية على القدس حتى على المستوى القانوني، رغم أن هذه القوانين تتعارض شكـلاً ومضموناً مع المواثيق الدولية، وبالأخص اتفاقية لاهاي في شأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح لعام 1954 وبرتوكوليها، والاتفاقية الخاصة بالوسائل التي تستخدم لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل ملكية الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة لعام 1970.

وبعد محاولة التطرق هذه إلى الإجراءات الإسرائيلية في القدس، التي هدفت عبرها إسرائيل إلى تغيير وضع القدس وتثبيت وجودها وهيمنتها، يمكن الآن التعرض للقرارات الصادرة عن كل من اليونسكو والجمعية العامة في حق هذه الإجراءات، لنستخلص من خلالها موقف الشرعية الدولية من هذه الإجراءات.

تعتبر اليونسكو والجمعية العامة بالأخص، الإجراءات الإسرائيلية في القدس انتهاكات تخرق أحكامها‏[23]، لهذا فهي تطلب من كل الفاعلين الدوليين، دولاً كانوا أو منظمات دولية، عدم الاعتراف بأي إجراءات تقوم بها إسرائيل على الأراضي المحتلة وبالخصوص القدس، والتي تهدف عبرها كما هو معلوم، إلى خلق تغيرات على مستوى الوضع في هذه الأراضي، وتدعوهم كذلك إلى تجنب أي أعمال يمكن أن تستخدمها إسرائيل في مواصلة هذه الإجراءات‏[24].

 

كما أن الجمعية العامة في دورتها الاستثنائية المنعقدة في 4/7/1967، أصدرت قراراً رقمه 2254، دعت من خلاله إسرائيل إلى إلغاء جميع التدابير التي اتخذتها بهدف تغيير وضع القدس، والامتناع فوراً عن أي عمل من شأنه تغيير وضع مدينة القدس‏[25]، وستؤكد تشبثها بموقفها هذا في قرارها المرقم 2253، الذي نص على أن «الجمعية العامة، إذ تشعر بقلق شديد من أجل الموقف السائد في القدس، نتيجة للإجراءات التي اتخذتها إسرائيل لتغيير وضع القدس، [ولهذا فإنها] تعتبر أن هذه الإجراءات غير شرعية […]»‏[26].

نحت اليونسكو بدورها منحى الجمعية العامة نفسه، حيث أدانت بدورها مجموعة من التدابير الإسرائيلية في القدس، كحادث إضرام النار بالمسجد الأقصى، الذي اعتبرته اليونسكو عمـلاً تدنيسياً للمقدسات، في الوقت الذي أدان مكتبها التنفيذي إسرائيل بسبب ارتكابها هذا الفعل الإجرامي في حق المسجد الأقصى‏[27]، الذي كان يبتغى منه إزالة أهم معلم ديني إسلامي بالقدس.

علاوة على ذلك، فقد طلبت اليونسكو من إسرائيل الامتناع عن جل الحفريات الأثرية، وكل العمليات التي تهدف إلى نقل الصروح أو تغيير مظاهرها أو مميزاتها، ثقافية كانت هذه الصروح أم نفعية‏[28]، في حين سيقابل هذا الطلب بعدم الاكتراث من إسرائيل على مستوى الواقع، بحيث ستواصل حفرياتها طبعاً، التي ما زالت قائمة إلى الآن.

بيد أن اليونسكو لم تقف عند هذا التنديد فحسب، بل تعدته إلى الخروج بعدة قرارات في الموضوع، أمام واقع تعدد التدابير الإسرائيلية في القدس وعدم توقفها، حيث أصدرت قراراً رقمه 88 م ت/1. 3. سنة 1971، دعت فيه إسرائيل إلى المحافظة على الممتلكات الثقافية، وخصوصاً الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية في القدس القديمة‏[29]، لكن للأسف كل هذه القرارات بقيت حبراً على ورق، مما فرض واقعاً لا يخدم سوى إسرائيل بالدرجة الأولى، التي تستمر في تثبيت هيمنتها، والتكثيف من الإجراءات الاستيطانية، جاعلة التهويد أمراً واقعاً.

أمام هذا الوضع، عادت الجمعية العامة في 26 كانون الثاني/يناير 2012 لتأكيد قراراتها وقرارات اليونسكو بخصوص القدس، من خلال قرارها الأخير في ما يخص الموضوع، الرقم 66/18، الذي يكرس في شموليته حقيقة موقف الشرعية الدولية، من التدابير التي تقوم بها إسرائيل في مدينة القدس. وأعربت من خلاله عن قلقها البالغ «[…] إزاء استمرار، السلطة القائمة بالاحتلال، في القيام بأنشطة استيطانية غير قانونية، بما في ذلك ما يسمى بالخطة هاء – 1، وتشييدها الجدار [العنصري الفاصل] في القدس الشرقية وحولها، وفرض القيود على دخول القدس الشرقية والإقامة فيها، وزيادة عزل المدينة عن باقي الأرض الفلسطينية المحتلة، بما لتلك الأنشطة من أثر ضار في حياة الفلسطينيين[…]»‏[30].

كما أنها أعربت عن قلقها «إزاء إمعان إسرائيل في هدم منازل الفلسطينيين وإلغاء حقوق الإقامة وطرد العديد من الأسَر الفلسطينية من منازلها في أحياء القدس الشرقية، وتشريدها، وإزاء الأعمال الاستفزازية والتحريضية الأخرى في المدينة، بما في ذلك الأعمال التي يقوم بها المستوطنون الإسرائيليون في المدينة»‏[31]، ناهيك بأنها تعبر عن تخوفها من نتائج «الحفريات التي تقوم بها إسرائيل في مدينة القدس القديمة، بما فيها المواقع الدينية وحولها»‏[32].

وستؤكد كذلك من خلال هذا القرار، ما أقرته سابقاً في ما يخص «[…] [الـ]إجراءات [التي اتخذتها] إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، لفرض قوانينها وولايتها وإدارتها على مدينة القدس الشريف، [والتي اعتبرتها] إجراءات غير قانونية، ومن ثم فهي لاغية وباطلة وليست لها أي شرعية على الإطلاق، وتطلب من إسرائيل أن توقف فوراً جميع هذه التدابير غير القانونية المتخذة من جانب واحد»‏[33].

يتبين من خلال هذا التفحص للقرارات الخاصة بالقدس، الصادرة عن الجمعية العامة واليونسكو، أن موقف الشرعية الدولية من التدابير الإسرائيلية في القدس، موقف واضح يعتبر كل الإجراءات التي تقوم بها السلطة القائمة بالاحتلال، إجراءات غير شرعية، ليس لها أي سند قانوني، ما يعني أنها تبقى باطلة رغم استمرار إسرائيل في تفعيلها وتوسيع دائرة رقعتها، لأن هذه الاستمرارية في تفعيل إجراءات التهويد، ما هي إلا نتيجة طبيعية لكون إسرائيل تمثل إرادة القوة في الوطن العربي من جهة، ولوجود اختلال صارخ في موازين القوى بين الطرف العربي ككل والطرف الإسرائيلي من جهة أخرى.

وفي محاولة من الشرعية الدولية، التصعيد في مواجهة هذا الاستمرار في سياسة التهويد، وعدم الاكتراث الإسرائيلي لقراراتها، يعود المجلس التنفيذي لليونسكو في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2016، عبر اجتماعه المنعقد في العاصمة الفرنسية باريس، ليتخذ قراراً جديداً في الموضوع، يحمل الرقم 200 م ت/ب ع خ/م ق 25،2. ضاربة اليونسكو عرض الحائط بكل المخططات الإسرائيلية، الهادفة إلى إضفاء الطابع اليهودي على المآثر الإسلامية بالقدس. ويتضح هذا من خلال ما حمله القرار، من استنكار شديد لليونسكو اتجاه كل قرارات «إسرائيل الخاصة بالموافقة على خطة، لإقامة خطَّي تلفريك في القدس الشرقية، وعلى مشروع بناء ما يسمى «بيت ليبا» في مدينة القدس القديمة، وكذلك بناء مركز للزوار يسمى «مركز كديم» بالقرب من الحائط الجنوبي للمسجد الأقصى/الحرم الشريف، وشيد مبنى «شتراوس»، ومشروع مصعد ساحة البراق [أي] «ساحة الحائط الغربي». [كما أن اليونسكو لم تقف عند الاستنكار، بل] [..] [تـ]حث إسرائيل، القوة المحتلة، [على] التخلي [نهائياً عن فكرة، هذه] […] المشاريع المذكورة […]»‏[34].

أما في ما يخص ما تم إنجازه من مشاريع تهويدية على أرض الواقع بمحيط دائرة المسجد الأقصى، فإن القرار الأخير لليونسكو السالف الذكر، يطالب إسرائيل بالعدول عن هذه المشاريع، والسماح بكل ما من شأنه، «[…] إتاحة العودة إلى الوضع التاريخي الذي كان قائماً حتى شهر أيلول/سبتمبر من عام 2000، إذ كانت دائرة الأوقاف الإسلامية الأردنية السلطة الوحيدة المشرفة على شؤون المسجد الأقصى/الحرم الشريف […]»‏[35]، وهذا يعني أن كل إنجازات إسرائيل الإحلالية التهويدية، تبقى في عمقها حسب الشرعية الدولية، انتهاكات صارخة للوضع التاريخي لمدينة القدس ولوضع المآثر الإسلامية فيها.

كما هو معلوم لا يبدأ وضع القدس التاريخي حقيقة من عام 2000 ميلادية كما أشار القرار، لأنه وضع راسخ في التاريخ قبل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، إلا أن إقراراً كهذا من الشرعية الدولية، يعدّ مكسباً للأمة المجتمعية الإسلامية العربية ككل، ولفلسطين كجزء، في مسارها الترافعي للدفاع عن حقيقة وطبيعة القدس المقدسية العربية، في ظل اختلال موازين القوى بين الطرفين الإسلامي العربي الفلسطيني والإسرائيلي.

لا يخفى على أحد، أن وجود إسرائيل ككيان واستمراره، مبني على نقل فكرة تهويد القدس من دائرة الوهم إلى دائرة الواقع، عبر تكريس وجود ارتباط ديني يهودي محض بمدينة القدس، وبكل الصروح الإسلامية الموجودة فيها، وعلى رأسها المسجد الأقصى وحائط البراق، وهنا يمكن التوقف من جديد عند القرار الأخير لليونسكو، الذي نجده يقتل أي أمل لإسرائيل في نسج أي علاقة تهويد بأهم مَعْلم ديني في القدس، من خلال نفيه قطعاً وجود أي ارتباط ديني لليهود بالمسجد الأقصى، وبكل ما يحيط به‏[36]، ويستشف هذا عبر تأكيد اليونسكو، «[…] وجوب التزام إسرائيل بصون سلامة المسجد الأقصى/الحرم الشريف، وأصالته وتراثه الثقافي وفقاً للوضع التاريخي الذي كان قائماً، بوصفه موقعاً إسلامياً مقدساً مخصصاً للعبادة»‏[37]، وغير ذلك يبقى محاولات لتغيير هذه الحقيقة التاريخية.

كما أن هذا القرار، يؤكد أيضاً أن «[…] منحدر باب المغاربة [هو] جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى/الحرم الشريف»‏[38] نفسه، أي أن ما يسقط عليه هو نفسه ما يسقط على المسجد الأقصى، باعتباره موقعاً إسلامياً مقدساً، وبالتالي فكل الإجراءات والحفريات الإسرائيلية في هذا الموقع، تظل إجراءات إحلالية تحاول إضفاء الطابع اليهودي عوض الطابع الإسلامي العربي المقدسي، الذي يشكل حقيقة هذا الموقع بالقدس.

زيادة على ذلك، فإذا كانت السرعة التي تنجز بها عمليات الهدم للمواقع الإسلامية، من جانب إسرائيل في القدس، والتي تعتقد بأنها كفيلة بطمس حقيقة هذه الأخيرة، الإسلامية العربية، ما دامت تبني مواقع أخرى تزعم أنها ذات طابع يهودي، عوض المواقع الإسلامية التي تهدمها، فإن هذا لا يغير شيئاً من حقيقة القدس العربية الإسلامية، حسب رؤية الشرعية الدولية، التي تؤكد من خلال اليونسكو أن جل إجراءات إسرائيل المذكورة تظل عبارة عن «عمليات […] هدم [..] غير […] مشروعة للآثار الأموية والعثمانية والمملوكية»‏[39] الإسلامية في القدس، وأي طمس لهذه الآثار، وبناء أخرى في مكانها، لا يتعدى كونه تغييراً للحقيقة التاريخية العربية الإسلامية للقدس. وهذا يوضح أن موقف الشرعية الدولية يتجه في ما يخص ما تقوم به إسرائيل في القدس، نحو الدفاع عن وضع القدس وتكريسه، وإبطال أي إجراء من شأنه أن يغير هذا الوضع. لكن ماذا تعني الشرعية الدولية بوضع القدس، هل هو وضع التدويل الذي أقرت به مسبقاً الجمعية العامة، أم الوضع الحقيقي لمدينة القدس المتمثل بكونها مدينة فلسطينية عربية، أصحابها مقدسيون عرب، كما كرسه اليونسكو في قراره الأخير في ما يخص المسجد الأقصى؟ فإذا كانت الشرعية الدولية تقصد هنا أن وضع القدس هو حقيقته العربية، فآنذاك نكون أمام تراجع عن قرار التدويل، فإن كان هذا التراجع حقيقياً فهل هو نابع من وصول الشرعية الدولية إلى حقيقة القدس، أم هو عبارة عن إتاحة المجال أمام إسرائيل لتكريس رؤيتها للقدس بجعلها عاصمتها الأبدية ذات الطابع اليهودي؟

خاتمة

إن موقف الشرعية الدولية من عروبة القدس هو أمر يتضح بجلاء من خلال القرارات الصادرة من الهيئات الدولية الممثلة لها، بحيث إن إقرار الجمعية العامة بتدويل القدس وجعلها كياناً منفصلاً عن المناطق الفلسطينية الأخرى، وإخضاعها للأمم المتحدة ممثلةً بمجلس الوصاية، ما هو إلا إقرار بنزع ملكية القدس من أصحابها الأصليين (الفلسطينيين العرب) أو المقدسيين، ووضعها تحت التدويل، ما يعني أن موقف الشرعية الدولية، لا يتجه نهائياً نحو تكريس حقيقة القدس، العربية أرضاً وبشراً.

ورغم هذا الموقف الذي يمس بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، فإنه من الضروري الإشادة بموقف الشرعية الدولية في ما يخص الإجراءات الإسرائيلية في القدس، التي سعى من خلالها الكيان الصهيوني إلى تغيير حقيقة القدس وفرض التهويد كأمر واقع، وهنا نجد أن قرارات كل من اليونسكو والجمعية العامة تصب في إبطال جل هذه الإجراءات الإسرائيلية على الأرض، وعدم الاعتراف بها.

إن وجود نوع من التناقض في تعامل الشرعية الدولية مع حقيقة القدس، أمر لا يخدم سوى الكيان الصهيوني. وفي ظل هذا التصور العام، يمكن الإقرار بأن أي رغبة حقيقية لدى الشرعية الدولية في المساهمة الفعلية في حل مشكلة القدس، لا بد أن تكون بدايتها من تفعيل القرارات الصادرة في هذا الشأن، المبطلة لجل الإجراءات الإسرائيلية في القدس، التي تحاول إسرائيل من خلالها تهويد المدينة، وإلغاء فكرة تدويل القدس نهائياً، وربط هذا الإلغاء مباشرة بالاعتراف بكون هذه الأخيرة أرضاً فلسطينية عربية محتلة، ينطبق عليها سائر ما ينطبق على الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة، كما يجب المساهمة فعلياً في فرض الانسحاب كأمر واقع على قوات الاحتلال، إلى أن تعود القدس إلى أصحابها الشرعيين.

إنه من غير المقبول في القرن الحادي والعشرين أن تعترف الهيئات الممثلة للشرعية الدولية، بأن الكيان الإسرائيلي لم يمتثل «لأي قرار من قرارات المجلس التنفيذي [لليونسكو] الإثني عشر [الصادرة بشأن القدس]، [ولا] لأي قرار من قرارات لجنة التراث العالمي الستة»‏[40]، المتخذة سابقاً في الموضوع، ولا حتى لأي قرار من قرارات الجمعية العامة في نفس الشأن، وعلى رأسها القرار الأخير الرقم 66/18 الصادر في عام 2012، من دون أن تتخذ هذه الهيئات كل ما من شأنه إلزام إسرائيل بالانضباط لهذه الإقرارات، إذ إن تجاهـلاً كهذا للقرارات الصادرة عن الهيئات الممثلة للشرعية الدولية الذي يوازيه عدم تفعيل الإلزامية، يضع مجموعة من علامات الاستفهام في ما يخص مشروعية هذه الأخيرة نفسها، في عصر أصبح التنظيم الدولي تتحكم فيه إرادة قوة الدول العظمى، وتهيمن عليه ازدواجية المعاير في التعامل.