بين عملية طوفان الأقصى (أكتوبر 2023) وقمة شرم الشيخ (أكتوبر 2025) عرفت القضية الفلسطينية ومنطقة غرب آسيا حروبًا وتحوُّلات جيوسياسية كبيرة ربما ستُدخل المنطقة في مرحلة تاريخية جديدة، تسعى الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل إلى تحديد خطوطها فيها منذ عقود. وهذه المرحلة التاريخية الجديدة تقوم على تأسيس نظام شرق أوسطي جديد محكوم بالسيطرة الأمريكية الكاملة على هذه المنطقة وبإعطاء إسرائيل دورًا محوريًّا فيها بعد إنهاء الأنظمة والقوى المقاوِمة لمشروعها الصهيوني العنصري في فلسطين ومحيطها، مع وجود مؤشرات واضحة على إعادة ترسيم الحدود الجغرافية السياسية لبعض الدول في المنطقة، بما فيها الكيان الصهيوني نفسه الذي يسعى إلى توسيع حدوده وفق أطماع ومشاريع تاريخية كانت الحركة الصهيونية تسعى لتحقيقها منذ ما قبل تأسيس الكيان الصهيوني.

وإذا كان مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تروّجه الولايات المتحدة اليوم غيرَ جديد في المطلق، إذ بدأ العمل على تنفيذه منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، فإن ما يحمله هذا المشروع من جديد اليوم هو النزعة الاستعمارية المباشرة التي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى اعتمادها في المنطقة والتي بدأت فعلًا في تطبيقها في بعض الدول والكيانات السياسية فيها. وإذا كان ثمة عوامل متعدِّدة تدفع المنطقة إلى هذا المصير فإن هناك عوامل أخرى في المقابل تعيق تحقيق المشروع الاستعماري الأمريكي الجديد فيها، وتترك المنطقة مفتوحة على أكثر من مشهد.

يسعى الكثير من الكتَّاب والمحللين والسياسيين إلى إسقاط صفةٍ ترامبيَّة على السياسة الأمريكية الاستعمارية الجديدة في المنطقة، في حين أن وضع ما يحدث في المنطقة والعالم من حروب وتدخلات ومشاريع أمريكية في سياقه التاريخي يُظهر أن معظم، إن لم يكن جميع، المشاريع الاستراتيجية والهيمنة الإمبريالية التي تسعى الولايات المتحدة لتحقيقها اليوم هي ليست  وليدة العصر الترامبي، ولو كان ترامب قد صبغ تلك المشاريع وتنفيذها بنزعةٍ أكثر تطرُّفًا وعدوانية وعبثيَّة، تعبِّر عن حالة أنويَّة تسلطيَّة ونرجسية لديه متماهية مع المشاريع الصهيونية في المنطقة، بما فيها المشاريع الاقتلاعية والتوسعيَّة، مترافقةٍ مع تحولات موضوعية على الساحتين الأمريكية والعالمية تُنتج ميولاً نحو التشدُّد لدى شريحة واسعة من صنَّاع القرار ومن الناخبين الأمريكيين، ذوي النزعة الشعبوية الأمريكية التمركز، وأبرز هذه التحوُّلات إعادة اصطفاف المجتمع الأمريكي باتجاهات تتخطى الاتجاهات التقليدية التي تحكم الحزبين السائدين في بنية النظام الأمريكي تاريخيًّا؛ وتعمُّق ظاهرة تركُّز الثروة وسيطرة الأوليغارشية المالية ذات الطموحات الجامحة في العمل على توظيف التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي في عملية تراكم الثروة والتحكُّم في صنع القرار، وفي إعطاء الموقع الإمبريالي للولايات بعدًا كونيًّا يتخطى البعد العالمي من خلال عملية توسيع مجال الاستغلال الاقتصادي والسيطرة العسكرية والأمنية من حدود كوكب الأرض وغلافه الجوي إلى أبعاد الفضاء والكواكب الأخرى غير المحدَّدة بحدود أمام جموح الشركات العالية التكنولوجيا التي باتت تسعى لفتح المجال الكوني أمام مصالحها وتطلق العنان للذكاء الاصطناعي، والكائنات الذكية الاصطناعية، شبه الحيَّة أو ربما الحيَّة، مقابل تهميشها الإنسان، الكائن والفرد، الذي كان يحتل، نظريًّا على الأقل، مكانة مركزية في الثقافة والمجتمع الغربيين، بل في مختلف الثقافات العالمية. وفي مقابل ذلك تتعمق ظاهرة الانفصام والتباعد بين هذه القوى المتحكِّمة في الحزبين المكوِّنين للنظام الأمريكي وبين فئة واسعة من الجيل الجديد المتمرِّد على واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي لم يعد يعبِّر عن طموحاتهم ومصالحهم، والمتحرِّر من منظومة صناعة الرأي العام والوعي التقليدية التي أخذت هيمنتها وتأثيرها في المجتمع يتراجعان، وأخذت سردياتها والصور النمطية التي تقدمها عن الكثير من القضايا في العالم تتلاشى، مع صعود وانتشار دور وسائل التواصل الاجتماعي في العصر الرقمي، التي كسرت العلاقة الأحادية بين وسائل الإعلام والصحافة التقليدية المرسلة للخبر والرأي وبين الجمهور المتلقي لهذين الخبر والرأي، وكسرت هيمنة القضايا المحلية على المشهد الإعلامي والهمِّ العام وبات هذا الجمهور، وبخاصة أجياله الجديدة، قادرًا على التفاعل مع ما يحدث في العالم، والمشاركة في صنع الخبر وفي تحديد الرأي بحرية وباستقلال عن هيمنة آليات صناعة الرأي والوعي المتحكَّم فيها من جانب رأس المال الحاكم والمتحكِّم بدوره في صنع القرار في كل من الدولة والحزبين السائدين. وأفضل وسيلة أمام مرشَّح رئاسي أمريكي من أفراد الطبقة الأوليغارشية لمواجهة النزعة الشبابية التحرُّرية الجديدة ذات التوجه «اليساري» بالمعنى الغربي هو اللجوء إلى الخطاب الشعبَوي الأمريكي التمركّز، المترافق مع نزعة إلى عسكرة المجتمع الأمريكي وتوسيع دور الجيش وقوات الحرس الوطني في مواجهة الأزمات الداخلية وفي قمع الحركات الشعبية أو المواقف المناهضة لسياسات الرئيس تجاه بعض الملفات الداخلية أو الخارجية.

أما على الساحة العالمية، فمع تراجع مكانة الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي وتصاعد القوة الاقتصادية والقدرات العسكرية لبعض البلدان الكبرى أو الناشئة ذات النزعة الاستقلالية في العالم، وبخاصة الصين وروسيا وإيران، تتزايد النزعة العدوانية والتدخليَّة العسكرية للولايات المتحدة في الخارج؛ فالسياسة الخارجية الأمريكية تتمحور تاريخيًا حول عدة أركان، أولها الحفاظ على الهيمنة الأمريكية على العالم ومنع صعود أي منافس حقيقي للولايات المتحدة على قيادته؛ ثانيها حماية النظام الرأسمالي النيوليبرالي وحرية السوق في العالم؛ وثالثها التبادل المنخفض الرسوم الجمركية بين الأسواق العالمية، الذي كان يُفترض أن يخدم الاقتصاد الأمريكي وغيره من الاقتصادات الرأسمالية الغربية، لكنه جاء مع الوقت بنتائج عكسية مع توسع القدرات الإنتاجية المتدنية التكلفة لبعض بلدان العالم الثالث وعلى رأسها الصين، وهو ما زاد من النزعة الحمائية والعدوانية الاقتصادية لدى رواد اليمين الأمريكي التمركز في الولايات المتحدة وعلى رأسهم ترامب، والسعي لمحاربة أي نموذج حكم يمكن أن يكون منافسًا جديًّا للولايات المتحدة أو مغايرًا للنموذج الرأسمالي النيوليبرالي الغربي، ويناقض المصالح الأمريكية ومشاريع الهيمنة الإمبريالية التابعة لها في العالم؛ رابعها الهيمنة على موارد الطاقة التقليدية والمعادن النادرة التي تمثِّل مادة أولية أساسية للصناعات الدقيقة والتكنولوجيا العالية؛ خامسها ذلك الركن المحوري الثابت في السياسة الخارجية الأمريكية، الذي لا يخضع لمعايير تداول السلطة والمصالح الاقتصادية وحدها، ويتطلب فهمه وتفسيره الاستعانة بمقاربة اقتصادية – سياسية – ثقافية – أيديولوجية، بنيوية – تاريخية، لتحديد مكانة هذا المكوِّن في السياسة الخارجية الأمريكية، وحتى في بعض مفاصل السياسة الداخلية، والذي بات جيل Z الجديد في الولايات المتحدة يمثل تهديداً حقيقيًا له، وهو ما يفسّر بدوره شراسة النزعة الترامبية لمواجهة هذا الجيل وتوجهاته الجديدة، وبخاصة في ما يتعلق بالنزعة اليسارية حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وبالموقف من السياسة الخارجية الأمريكية، وبخاصةٍ تجاه حرب الإبادة الجماعية في غزة، بل تجاه مشروعية دولة إسرائيل نفسها، وبالتالي مشروعية الدعم الأمريكي لإسرائيل في هذه الحرب، بما فيه الدعم العسكري المباشر، والاندفاع الأمريكي باتجاه تغيير معالم الشرق الأوسط بما يضمن القضاء على أي طرف، حكومي أو شعبي، يعمل على مناصرة المقاومة الفلسطينية ومواجهة المشروع الصهيوني العنصري التوسعي في  المنطقة. وهذا ما يمثل أحد أهم ثوابت السياسة الأمريكية في المنطقة وأهم أهداف المشروع الشرق الأوسطي الجديد القديم الذي تسعى الولايات المتحدة لتحقيقه منذ عقود.

انطلق مشروع الشرق الأوسط الجديد عقب حرب الخليج الثانية (1991)، من عدة أهداف، أهمها إنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي وتحقيق «السلام» بين العرب واسرائيل على قاعدة حلِّ الدولتين واستعادة الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام 1967 – مع إمكان إدخال تعديلات على ترسيم الحدود – وتطبيع العلاقات الاقتصادية والسياسية بين العرب وإسرائيل. وسعت الولايات المتحدة إلى فرض هذا «السلام» على معظم الأطراف العربية، مستغلة من جهة انتصارها الساحق في حرب الخليج تلك ونشر قواعد عسكرية لها في منطقة الخليج وسيطرتها على أمن المنطقة وإخضاع جزء كبير من الحكومات العربية لإرادتها ومظلَّتها الأمنية، ومن جهة ثانية انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي عقب تلك الحرب وانكشاف البلدان العربية الممانعة للمشروع الأمريكي – الإسرائيلي والحاضنة لفصائل المقاومة في المنطقة. غير أن تغيُّر موازين القوى في العالم عقب حرب الخليج تلك وانهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره الشرقي لم تكن كافية لتوفير شروط فرض الولايات المتحدة مشروعها في المنطقة، وبخاصةٍ مع صعود دور محور المقاومة في المنطقة، فلم تُفضِ مسارات  التفاوض في أوسلو وجنيف بعد حرب الخليج إلى تسوية لكل ملفات الصراع العربي – الإسرائيلي، وبخاصة على المسار السوري – اللبناني الذي كان خيار المقاومة فيه هو الخيار الأصوب لتحرير معظم الأراضي اللبنانية المحتلة من دون قيد أو شرط، في الوقت الذي أثبتت نتائج اتفاقات «السلام» وفق مسارات التفاوض، وبخاصةٍ على المسار الفلسطيني، فشل هذه المسارات في استعادة حتى الجزء المتفق عليه من حقوق الشعب الفلسطيني.

ومع تغيُّر الإدارة الأمريكية في مطلع الألفية، ووصول المحافظين الجدّد إلى البيت الأبيض برئاسة جورج بوش الابن، مؤلِّفًا حكومة من عتاة هؤلاء المحافظين المتماهين مع المشروع الصهيوني، واللاهثين خلف ثروات النفط والغاز في المنطقة، بدأت السياسة الأمريكية تزداد عدوانية وتحرِّض على ضرب العراق وإيران وإسقاط أنظمة أخرى في المنطقة، فجاءت أحداث التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر (9/11) 2001 في الولايات المتحدة لتتخذ الإدارة الأمريكية الجديدة قرارًا بإحداث تغيير كبير في الشرق الأوسط للقضاء على «محور الشر» المتمثل بالدول والأنظمة العربية والإسلامية المناهضة لإسرائيل وللسياسات الأمريكية في المنطقة، فكان غزو أفغانستان أواخر عام 2001 ثم كان غزو العراق عام 2003، وكان القرار الأمريكي متخذاً لضرب إيران وإسقاط النظام في سورية. غير أن تصاعد الضغط والخسائر في صفوف قوات الاحتلال الأمريكي في العراق حال دون استكمال العدوان الأمريكي العسكري باتجاه دول «محور الشر»، وتحديدًا إيران وسورية، بهدف بناء الشرق الأوسط الكبير.

وقد جاءت حرب تموز/يوليو 2006 الإسرائيلية ضد لبنان في هذا السياق نفسه لإبعاد تهديدات الأسلحة الصاروخية للمقاومة من الحدود «الإسرائيلية» ولتمهيد الطريق أمام أي خطة إسرائيلية لضرب البرنامج النووي الإيراني، ولمحاصرة سورية من جهة ثالثة، ولضرب محور المقاومة في نهاية الأمر تمهيدًا لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الكبير. غير أن إسرائيل والولايات المتحدة فشلتا في تلك الحرب في تحقيق أهدافهما. وظلَّ مشروع بناء الشرق الأوسط الجديد أو الكبير مركونًا في درجِ الإدارة الأمريكية، إلى حين توافر ظروف تحقيقه حرباً أو سلمًا. ثم تراكمت الأحداث على الساحة العربية منذ عام 2006 مرورًا بانتفاضات الربيع العربي وما أحدثته من تحولات سياسية وانقسامات عميقة على الساحة العربية، ليقدِّم ترامب في مدة رئاسته الأولى مشروع الاتفاقات الإبراهيمية و«السلام» بين العرب وإسرائيل بنسخة متطرِّفة تُسقط منها خيار حل الدولتين في فلسطين المحتلة واستعادة لبنان وسورية أراضيهما المحتلة في الجولان ومزارع شبعا وغيرها من الأراضي اللبنانية المحتلة التي لم يشملها الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2006.

في المقابل بلغ التنازل العربي أمام الولايات المتحدة وإسرائيل ذروته في ظل عملية تصفية تدريجية للقضية الفلسطينية كانت إدارتا ترامب ونتنياهو تنفذانها، سواء بالحروب المتتالية على غزة وضرب حصار خانق على القطاع أو بتسريع وتيرة الاستيطان في الضفة الغربية والسعي الإسرائيلي لاقتلاع فلسطينيي الضفة من أرضهم، أو بالمشروع الإبراهيمي واتفاقيات التطبيع التي عملت الولايات المتحدة على فرضها في المنطقة؛ فجاءت عملية طوفان الأقصى في سياق الرد على عملية التصفية هذه التي تتعرض لها القضية الفلسطينية، في ظلِّ صمت عربي أو موافقة ضمنية أحيانًا.

عقب عملية الطوفان، اتخذت الحرب الإسرائيلية – الأمريكية ضد غزة وبعض بلدان محور المقاومة بعدًا مغايراً لكل الحروب التقليدية التي عرفها العالم في التاريخ المعاصر؛ فقد مورست حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة على مدى عامين كاملين على مرأى العالم كله، من دون أن تحصل أي إدانة جدَّية أو جهود وضغوط جدية لإيقاف تلك الإبادة، وبخاصة من دول الغرب، أو حتى بعض الدول العربية.

وقد شاركت الولايات المتحدة في عهد جو بايدن – الـ «ديمقراطي» – في هذه الحرب إلى جانب إسرائيل مباشرة، تخطيطاً وتنفيذاً وتسليحاً وتمويلاً، فارتُكبت فيها أبشع المجازر في حق المدنيين بمن فيهم الجرحى والمسعفون والأطباء والصحافيون والمستشفيات ومختلف المنشآت المدنية بتغطية أمريكية، ودمرت غزة بكل ما فيها من تاريخ وحضارة ومؤسسات مدنية بسلاح أمريكي، وسعت إدارة ترامب إلى إزالة غزة بمن فيها عن الخريطة وإقامة منشآت استعمارية مكانها وتعيين مندوب سامٍ بريطاني لإدارتها، وفي نهاية المطاف، بعد عجز إسرائيلي وأمريكي واضحين في إزالة غزة من الخريطة رغم تدميرها، يجمع ترامب قادة عشرات الدول العربية والاسلامية وغيرها ليفرض اتفاق «سلام» في غزة هو مجرد اتفاق هش لوقف إطلاق النار، الأولوية فيه كانت لاستعادة الرهائن الإسرائيليين، أحياءً وأمواتًا، ونزع سلاح المقاومة هناك، من دون أي خطة فعلية أو حتى ضمانات على تحقيق «سلام» حقيقي في غزة أو في القضية الفلسطينية ولو في حدود حل الدولتين وفق قرارات الأمم المتحدة. كل ما كان مطلوباً تحقيقه في هذه القمة هو تحرير الرهائن والقضاء على المقاومة الفلسطينية المسلَّحة كونها فرضت معادلة جديدة في الصراع العربي – الإسرائيلي، أو ما تبقى من «عربي» في هذا الصراع، جعلت من الصعب إنهاء القضية الفلسطينية وفق الأجندة الإسرائيلية – الأمريكية الأخيرة بعدما أسقطت إدارة ترامب الأولى والثانية كل المسلَّمات السابقة حول حلِّ الدولتين والقدس الشرقية والجولان، وتبنَّت مشروع إسرائيل، التي لم يمض عشرة أيام على اتفاقية «السلام» الموقعة في شرم الشيخ حتى أقرَّ الكنيست لديها ضم الضفة الغربية إلى الكيان الصهيوني.

وعلى الساحات الأخرى المتداخلة بالقضية الفلسطينية، كلبنان وسورية، تقوم الولايات المتحدة بعد الحرب في لبنان (2024)، وبعد إسقاط النظام وتدمير الدولة والجيش في سورية (2024)، بفرض وصاية استعمارية مباشرة على البلدين، ففي لبنان بدأت الإدارة الأمريكية تُعِدُّ البلد وتحوِّله إلى مستعمرة، أو على الأقل قاعدة عسكرية واستخباراتية ودبلوماسية للولايات المتحدة على مستوى البحر المتوسط والمشرق العربي، وهي اليوم تعيد تشكيل الدولة في لبنان بكل مؤسساتها الإدارية والمدنية والعسكرية والأمنية وفق معايير متوافقة مع مشروع الوصاية الأمريكية هذا ومع الوظيفة المطلوبة من لبنان في هذا السياق مستقبلاً. وباتت الولايات المتحدة تدير شؤون لبنان وسورية بواسطة مندوب سامٍ غیر مقيم، يزور البلدين من وقت إلى آخر، ليملي الأوامر على حكَّامٍ ومسؤولين وظيفيين في كل من البلدين جيء بهم إلى السلطة بإرادة أمريكية أو خارجية متوافقة مع السياسة الأمريكية، حتى إن الوزراء وموظفي الفئة الأولى في لبنان بات يتم تعيينهم بناءً على توصية أو موافقة أمريكية، بل إن الجنود في الجيش اللبناني باتوا يتلقون جزءاً من رواتبهم مباشرة من الولايات المتحدة من دون أن تمر هذه الأموال في ميزانية الدولة أو حتى عبر قيادة الجيش. واليوم يتركز كل الضغط الأمريكي في لبنان على نزع سلاح المقاومة لتجريد لبنان مما تبقى له من قوة في وجه إسرائيل، فعلى لبنان وسورية المجاورتين لفلسطين المحتلة عام 1948 أن يكونا خاليين من أي سلاح، رسمي أو شعبي، يمكن أن يسبب أي أذى أو خطر على إسرائيل، أي أن يكونا بلدين بلا سيادة وتحت الوصاية الأمريكية؛ مع وجود تهديد حقيقي لكلا البلدين بتغيير حدودهما الجغرافية، إما بالتقسيم إلى كيانات طائفية، وإما بقضم إسرائيل وتركيا أجزاء من أراضيهما.

هذا هو نموذج الشرق الأوسط الجديد الذي تسعى الولايات المتحدة لتأسيسه في منطقة تقع تحت الوصاية الأمريكية أو تحت الاستعمار الأمريكي المباشر: منطقة ممتلئة بالقواعد العسكرية الأمريكية؛ وبلدان عربية حكَّامها بلا إرادة، وجيوشها مجرد أسود منزوعة الأنياب، وثروات وطنية تريليونية تُدفع كإتاوات للولايات المتحدة من وقت إلى آخر، وموارد طبيعية تحت السيطرة الأمريكية، وشعوب متنازعة ومنقسمة قبائل وطوائف ومذاهب.

لكن في نهاية المطاف، هذا المنحدر لا يمكن أن يستمر، ولن يستمر، فليس هكذا يُكتب التاريخ ويُصنع مستقبل الشعوب، أو تتحرك دينامية الجماعات لديها. وتبقى حركات التحرُّر، بمن فيها قوى المقاومة، هي الخيار الوحيد القادر على إيقاف هذا الانحدار، وعلى إنقاذ المنطقة من المشروع الصهيوني ومن والاستعمار الأمريكي الجديد.

كتب ذات صلة:

طوفان الأقصى: دراسات في الصراع والمصير

دور عائلة روتشيلد في إنشاء دولة “إسرائيل”

المصادر:

هذه هي افتتاحية العدد 561 من مجلة المستقبل العربي لشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2025.

فارس أبي صعب: باحث ومدير التحرير في مركز دراسات الوحدة العربية.

الصورة (مأخوذ جزء منها) هي رسم كاريكاتوري أمريكي يعود إلى عام 1904، عنوانها: “الإمبريالية الأمريكية، 1904/ نسر الإمبريالية الأمريكية بجناحيه الممتد من بورتوريكو إلى الفلبين”، بريشة جوزيف كيبلر الإبن.


فارس أبي صعب

مدير قسم التحرير ومدير تحرير مجلة المستقبل العربي

فارس أبي صعب مدير التحرير في المركز ومدير تحرير مجلة المستقبل العربي منذ عام 2012. باحث في العلوم الاجتماعية، نشر عدداً من الدراسات في دوريات عربية، أو فصولاً في كتب، حول قضايا عربية أو عالمية معاصرة، كتجارب الأحزاب السياسية في العالم العربي، والثقافة السياسية للفساد، والانتخابات وأزمة الديمقراطية في لبنان، والعرب والحداثة، والقضية الفلسطينية، والثورات العربية في عالم متغير ومستقبل الشرق الأوسط… فضلاً عن مجموعة من الدراسات والمقالات حول موضوعات متنوعة نشرت في صحف لبنانية أو عربية، وعن غيرها من الأبحاث غير المنشورة.
منذ بداية التسعينيات حتى اليوم، أدار الباحث على التوالي أقسام التحرير والنشر أو الدراسات في عدد من مراكز الدراسات العربية، منها مركز دراسات الوحدة العربية (2012-2018)، والمركز اللبناني للدراسات (1993-2006)، ومركز الخليج للأبحاث (2009-2006)، والمعهد المالي – بيروت (2011-2009). وهو ساهم في تأسيس مجلة أبعاد الفصلية (بيروت) وأدار تحريرها (1997-1993)، كما ساهم في تأسيس مجلة السادسة الفصلية (بيروت) ورَأَس تحريرها (2011).
حائز دبلوم الدراسات العليا في علم اجتماع التنمية من الجامعة اللبنانية.

مقالات الكاتب
فارس أبي صعب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز