أولًا: المسكوت عنه: متلازمة هشاشة المناخ وهشاشة الإنسان في الوطن العربي

طبعًا… العرب ظاهرة صوتية‏[1]،…

لكن لماذا تَخْفُت هذه الظاهرة الصّوتية أثناء انعقاد مؤتمرات الأطراف حول التغيرات المناخية (COP)‏[2]، وفي أروقة النّدوات العالمية التي تهتم بمستقبل الإنسانية وسُبل الحفاظ على بقائها. وكما لاحظنا في قمة غلاسكو (Glascow) (31 من تشرين الأول/أكتوبر 2021 إلى 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2021) لم نسمع الكثير عن التّرافع/التقاضي العربي بشأن تدبير الأزمات المناخية العالمية وتداعياتها على الأمن الإنساني المجتمعي في الوطن العربي، إلّا رفض السّعودية للانتقادات التي وُجهت إلى الدول في شأن الاعتماد على الوقود الأحفوري والمساعدات السخية له، وبالتالي كان اعتراضها واضحًا على التّقليل من نفث المزيد من غازات الدفيئة وهو موقف اللوبيات الأحفورية نفسه‏[3] على المستوى العالمي، ولا سيّما في الدول الصناعية (تحديدًا في الولايات المتحدة الأمريكية). وربما لا تَحِيد البلدان العربية الأخرى عن هذا التوجه الذي يغيّب تكلفة البيئة (الاقتصادية والسياسية والمجتمعية) على المستوى المحلي في علاقاتها بالأمن الإنساني الذي يتمحور حول الفرد لا الدولة، مع الأخذ في الحسبان الانتقادات التي تعرّض لها مفهوم الأمن الإنساني‏[4]. وبهدف توسيع النّقاش، سنركز على الأمن الإنساني المجتمعي ككل من أجل تجاوز المفهوم الغربي للأمن الإنساني الذي يركز على سيادة الفرد‏[5]، وربط الأمن الإنساني بالتفكير في معايير جديدة للعلاقات الدولية في شأن الأعمال (التدخلات) الإنسانية‏[6].

فماذا يعني السّكوت/الصّمت في الوطن العربي الذي يعرف هشاشة مناخية بفعل الاضطرابات المناخية والتقلبات المناخية القاسية التي تتقلب بين موجات الفيضانات (في سلطنة عُمان مثلًا) والحرّ والجفاف (سورية‏[7]) وزيادة التّصحر (المغرب والجزائر… إلخ) وارتفاع مستويات البحر [لذا فاقتصاد مصر أكثر تعرضًا إلى حدّ بعيد ولا سيَّما أن 12 بالمئة من أفضل الأراضي الزراعية في دلتا النيل هي في خطر من ارتفاع مستويات البحار]‏[8] وتراجع مخزون الثّروات البحرية، وفُقدان التنوع الحيوي، و«ردود فعل مثيرة للحساسية وأمراضًا رئوية (لبنان، السعودية، الإمارات)»‏[9]. لذا تزداد صعوبة تجاوز الهشاشة، وسُبل التكيف (Adaptation)‏[10] وآليات القدرة على الصّمود (Resilience) في وجه التغيرات المناخية والتّعافي من آثارها المُدمرة.

يسمح تحليل الهَشَاشَة المناخية في المغرب مثلًا أن توضع في الحسبان الرهانات الوطنية التي يُمكن تصنيفها إلى ثلاث فئات أساسية هي‏[11]: (1) الرهان الأمني (الأمن الغذائي، والممتلكات وأمن السكان، والتّزود بالماء الصالح للشّرب، والأمن الصحي). (2) الرهان الاقتصادي للمناطق الأكثر هشاشة (المناطق الجبلية، والواحات، والسواحل، والمناطق القاحلة). (3) رهان التنمية الاجتماعية ومحاربة الهشاشة لا سيَّما في العالم القروي وشبه الحضري.

إن ارتباط الإنسان بالطبيعة لا يطرح أي إشكال، لكن السّلوك المدمر للطبيعة من جانب الإنسان يطرح مشاكل في شأن مدى قدرته على ضمان البقاء وبالتالي الاستمرار والعيش في هناء.

في ما يخص العلاقة بين التغيرات المناخية والعُنف، ينقسم الدّارسون إلـى فئتين رئيسيتين، ترى الأولى صعوبة الإقرار بوجود علاقة بين العوامل البيئية واندثار الدول (نظرًا إلى تداخل عوامل متعددة منها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية) بينما تُورد الفئة الثانية دلائل تثبت العلاقة بين العنف وتدهور التربة، وقطع الغابات ونُدرة الموارد المائية العذبة‏[12]. ومن الأمثلة على ذلك وجود علاقة جدلية بين الجفاف‏[13] الذي ضرب سورية بين عامي 2006 وَ2010 بسبب التّغيرات المناخية وشرارة الانتفاضة التي عرفتها سورية كما يزعم هذا الطّرح. فقد ساعد الجفاف على هجرة المئات من الفلاحين إلـى المدن للبحث عن العمل وشَعَر الكثير منهم أن الحكومة أساءت إليهم. رأى نيكولاس هيلوت‏[14] من جهته، أن التغير المناخي يفاقم حدّة الفقر والمعاناة واللاعدالة، وفــي بعض الأحيان يُعد التغير المناخـي مولّدًا للنّزاعات (وفي أحيان أخرى يزيد من التهديدات)‏[15]، فالتغير المناخي لا ينشئ تهديدات جديدة بالضّرورة؛ إلّا أنه يُفَاقِم مشكلات قائمة أصلًا، ولا سيما فـــي المناطق ذات المخاطر: أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية على وجه التحديد، فقد ساهم‏[16] التغير المناخي فــي زيادة التّصحر بسورية وانخفضت المحاصيل بنسبة 80 بالمئة والمواشي بنسبة 60 بالمئة ولا سيما فــي بلدان أمريكا اللاتينية.

وما دمنا في صدد تحليل الهشاشة‏[17]، بيّنت دراسات إمبيريقية‏[18] أن السكان الأكثر هشاشة لا يستطيعون الفرار من تدهور البيئة نتيجة عدم توافر الموارد (الكافية والضّرورية) وعدم وجود سياسات هجرة ملائمة؛ والنتيجة أن هؤلاء السكان هُم أكثر الفئات تَضَرّرًا من تدهور البيئة[19]، فــ‏«الموارد الطبيعية فـي حدّ ذاتها تشكل مصدرًا للنّزاع»، لذلك لا تستطيع الفئات الهشة خوض النّزاع والصّراع لأن قانون القوة هو المحدّد للسيطرة على الموارد الطّبيعية.

في سياق هذه الدراسة سنعتمد على المنهج الجدلي من أجل إبراز طموح الجمهور العربي والسكان المحليين في مجال تعزيز السياسات المناخية وتفادي تكلفة البيئة وأعبائها المالية المجتمعية؛ في المقابل، سنكشف عن المسكوت عنه في السياسات المناخية العربية الرسمية التي تنحو نحو الصّمت والتّجاهل لترابط المُعضلة البيئية بالأمن الإنساني‏[20](التّهديدات غير التقليدية) في ما يعرف بتهديد بقاء الوُجود البشري. لذا نسعى إلى تفكيك أهم الآليات المعتمدة (رسميًا) وإبراز محدوديتها حيث بقيت الدراسات مهمشة ومعيارية إلى حدّ ما من أجل رفع اللبس عن الأمن الإنساني المجتمعي وتقديم بعض النتائج الأولية لحماية المشترك الإنساني البيئي.

ثانيًا: المسكوت عنه في السياسات المُناخية: انتظار المساعدات الدولية مقابل وعي بيئي مُتزايد لدى الجمهور العربي

يتسع مفهوم الأمن الإنساني إلى مستوى يتجاوز أبعاد الأمن العسكري، فقد فشلت الدول العربية في إدماج الأمن الإنساني ضمن (الإنفاق) العسكري، وتبين أن هذه الدول من أكثر المناطق التي تعرف النزاعات وباستمرار كما يزداد الإقبال على الإنفاق العسكري. وهو ما سيؤثر حتمًا في الخُطط والبرامج التنموية. وقد لا تُشكل الخُطط والبرامج المناخية استثناءً عن هذه القاعدة.

من المؤكد أنه «لا توجد منطقة في العالم في مأمن من التحديات البيئية، لكن تلك التي تواجه المنطقة العربية هي تحديات ذات طبيعة شديدة بوجه خاص، فرغم أن المنطقة غنية ببعض الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز، فهي تواجه عجزًا خطيرًا في موارد أخرى كالماء والأرض الزّراعية اللازمة لدعم متطلّبات النمو‏[21].

ومع ذلك لا تملك البلدان العربية استراتيجيات شاملة في حقل التغيرات المناخية، ولا سيما ما يرتبط بالتّكيف (Adaptation) والتّخفيف (Attenuation) والصّمود (Resilience)‏[22]؛ لذا «لا يجري تنفيذ برامج شاملة ومتكاملة لجعل البُلدان العربية مهيأة لمواجهة تحديات تغيّر المناخ. وتحديدًا، لا يمكن استشفاف أيّ جُهود متواصلة لجمع البيانات وإجراء البحوث في ما يتعلق بتأثيرات تغيّر المناخ في الصحة والبُنَى التحتية والتنوع الحيوي والسياحة والمياه وإنتاج الغذاء. ويبدو أن التأثير الاقتصادي يتم تجاهله تمامًا. ونادرًا ما توجد سجلّات موثوقة للأنماط المناخية في المنطقة العربية»‏[23].

إن «الكثير مما يحدث للبيئة يتعلق بمن يملك القدرة على التأثير في السياسات البيئية، ويؤثر في الممارسات على أرض الواقع، وبنوع خاص في عصر هيمنة الإطار الاقتصادي لليبرالية الجديدة. فيمكن السياسات أن تُسهّل أو تخفّف أثر المحركات والعمليات البيئية المختلفة، لكن البيئة لم تحظ بمكانة مرموقة في البرامج السياسية، وبالتالي لم تحظَ بها في السياسة العامة»‏[24].

على خلاف السياسات المناخية العربية التي تنحو نحو انتظار المساعدات التمويلية بما يُعرف بالصندوق الأخضر للمناخ؛ سَجّل المنتدى العربي للبيئة والتنمية وعي الجمهور العربي بالمُعضلة المناخية؛ فـ«قد أظهرت نتائج الاستطلاع تزايدًا في الوعي، إذ تبيّن أن 98 بالمئة يعتقدون أن المناخ يتغيّر، ويعتبر 89 بالمئة أن ذلك ناتج من نشاطات بشرية. ويرى 51 بالمئة أن الحكومات لا تفعل ما يكفي للتصدي للمشكلة، بينما يرى 84 بالمئة أن تغيّر المناخ يمثل تحديًا خطيرًا لبلدانهم. ويعتبر أكثر من 94 بالمئة أن بُلدانهم سوف تستفيد من المشاركة في جُهد عالمي للتّعامل مع تغير المناخ، بينما تعهّد 93 بالمئة بالمشاركة في عمل شخصي لخفض مساهمتهم في المشكلة»‏[25]. ومن المنتظر أن تؤدي زيادة الوعي بالمعضلة البيئية إلى زيادة الضغوط على الحكومات العربية. ولا سيَّما أن التزامات الدول العربية بالجهود الدولية الموثّقة في اتفاق باريس للتغيرات المناخية (2015) محل انتقادات شديدة؛ ففي حال عدم تحقيق البلدان العربية لالتزاماتها فسيكون لذلك تكلفة اقتصادية واجتماعية، ومن المنتظر أن تبدأ المجتمعات المدنية في البلدان العربية في مُحاسبة/مقاضاة الدول في شأن الالتزامات المناخية.

ثالثًا: المسكوت عنه في التّدبير السياسي للأزمات المجتمعية: الاهتمام بالمركز في مقابل تهميش المحيط

رغم أن صنَّاع السياسات يُحلّلون ويضعون خططًا في شأن التغير المناخي بوصفه يمثل تهديدًا أمنيًا، فإنهم نادرًا ما يطلبون اتخاذ إجراءات عملية للحدّ من هذا التّهديد، ولا يتحرّكون بالحزم نفسه مع القضايا الأمنية الأخرى، مثل الإرهاب أو البرامج النووية للدول «المارقة»‏[26]. و«تعتبر الضغوط السكانية والديمغرافية قضية رئيسية متداخلة مع كل نوع من التّهديدات التي تشمل نقص المياه، والتصحر، والتلوث، والتغيرات المناخية. إن السمة الأساسية التي تنتشر فيها هذه التهديدات هي العلاقة الدينامية التفاعلية فيما بينها، فنقص المياه على سبيل المثال، يسهم في التصحّر بينما قد يؤدّي تغيّر المناخ إلى الفيضانات في بعض المناطق وإلى تفاقم نقص المياه والجفاف والتصحّر في مناطق أخرى، وبصورة مشابهة، تلوث الهواء هو من الأسباب الكامنة وراء تغيّر المناخ»‏[27].

وقد تزداد مُستويات تجاهل هذه ترابطات المياه والتصحر والتلوث والتغيُّرات المناخية في الوطن العربي. فقد عملت الحكومة المركزية السّودانية مثلًا لعقود على تهميش الجماعات السودانية التي وُجدت خارج مُحيطها (المركز في مواجهة الهامش) من دون تمكنها من الحصول على الأراضي والمياه، كما سلبت فوائدها المالية والتنموية الناتجة من ثروة الموارد، ولا سيما فوائد النّفط والزّراعة‏[28]. وقد يكون هذا حال المنطقة العربية ككل.

ولعل أحدث أعمال العُنف التي أُبلغ عنها على نطاق واسع في شأن الموارد المائية هو النزاع الدّائر بين المُزارعين والبدو الرُّحل في دارفور بالسّودان؛ فقد أدّى الجفاف والتصحر في الأجزاء الشّمالية من دارفور إلى هجرة الرُّحل العرب إلى جنوب دارفور، إذ دخلوا في مُناوشات مع المُزارعين الأفارقة السّود، وهو ما أثار نزاعات على الأراضي والموارد المائية الشحيحة. ويبدو أن سبب هذا النّزاع المحتدم هو الانقسام الإثني الذي تمتد جذوره إلى توزيع الموارد المائية‏[29].

فــ«هناك حاجة مُلحة جدًا إلى الإعانة الغذائية للسكان الذين يحتاجون إليها في بعض البُلدان، مثل الأراضي الفلسطينية المحتلة والصومال واليمن، ولا توجد بدائل، على المديين المتوسط والبعيد، لتعزيز مصادر الغذاء الإقليمية، التي تشمل زيادة الاستثمارات، وتحسين إدارة الموارد البرية والمائية، وتخفيف أثر التغير المناخي وهو ما يمكن أن يحسّن الإنتاجية الزراعية وينقص التعرض لتقلبات السّوق»‏[30].

ذكرت اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي في المغرب في سنة 2021 أنه فـي مجـال البيئـة، ستنجم عن اسـتفحال تداعيات التغيـر المنـاخي إكراهـات متزايـدة علـى التنـوع البيولوجـي الوطنـي وضغوـط علـى المـوارد الطبيعيـة، ولا سـيَّما على الميـاه، التـي قـد يعانـي المغـرب ندرتهـا بحلـول عام 2030 .ويمكـن أن يـؤدي التغيـر المناخـي أيضـًا إلـى زيـادة النـزوح القسـري للسـكان مـن المناطـق القرويـة القاحلـة نحـو المراكـز الحضريـة، ولا سـيَّما المناطق السـاحلية‏[31]. وأضافت اللجنة أن البيئة والموارد الطبيعية تتعرضان لضغوط شديدة ليس بفعل تداعيات التغيرات المناخية فقط لكن أيضًا بسبب السياسات العامة والاستراتيجيات القطاعية التي لا تُولي الاهتمام الكافي لمتطلبات استدامة الموارد والتوازنات البيئية‏[32]. وقد تزداد الضغوط على الموارد الطبيعية بحد لم يسبق له مثيل في تاريخ المغرب.

رابعًا: المسكوت عنه في الميزانيات الوطنية.. تداعيات ومخاطر المُعضلة المناخية الأمنية على ميزانيات البلدان العربية

من المعروف أن المنطقة العربية من أكثر المناطق التي ستتضرر من التغيرات المناخية رغم إسهاماتها الضيقة في المشكلة البيئية. لذا ستكون التكلفة مُدمرة للميزانيات الوطنية و«للتّعبير عن ذلك بمصطلحات اقتصادية، فإن تكلفة تدهور البيئة مقدرة بنسبة مئوية من الناتج المحلي الاجمالي هي 2 – 5 بالمئة (في الجزائر 3.6 بالمئة، وفي مصر 4.8 بالمئة، وفي لبنان 2.1 بالمئة، وفي المغرب 3.7 بالمئة، وفي سورية 3.5 بالمئة، وفي تونس 2.1 بالمئة)، ويقدّر أن هذه الأرقام أعلى بمقدار 1.5 – 2 ضعف من تلك الموجودة في البلدان الصناعية»‏[33].

ففي تونس مثلًا يشير بعض المهتمين أن تكلفة التغيرات المناخية يجب أن تتحملها في نهاية المطاف الأسر الأكثر ثراءً التي تعيش في المدينة على الرغم من التراجع الكبير للرعاية الاجتماعية في تونس. الأسر الفقيرة والقروية قد تستفيد شيئًا من توسع الاقتصاد وآثاره المتعلقة بالتغيرات المناخية‏[34].

في عام 2000 أجرى البنك الدولي دراسة من أجل تقدير التكلفة البيئية في المغرب ووجد أن التكلفة المجتمعية تقدر بـ 3.7 من الناتج المحلي الاجمالي (GDP). وطلب من البنك الدولي تحيين هذه الدراسة في سنة 2015‏[35]. ففي عام 2014 قدرت التكلفة البيئية المجتمعية في المغرب بــ 3.52 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي، وهذه التكلفة موزعة كالتالي: الماء (1.26 بالمئة) والهواء (1.05 بالمئة) والتربة (0.54 بالمئة) والنفايات (0.40 بالمئة) والمنطقة السّاحلية (0.27 بالمئة)؛ إضافة إلى الغازات الكربونية التي ستكلف المجتمع 1.62 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي‏[36]. أما القطاعات الأكثر تلويثًا في المغرب فهي قطاع النقل (57 بالمئة) والفلاحة (21 بالمئة) والنّفايات (8 بالمئة)‏[37].

إن إجهاد الكوكب هو مرآة لإجهاد المجتمعات، ولا سيَّما المجتمعات العربية؛ ظروف مناخية مميتة في العالم تراوح بين الجفاف والفيضانات والعواصف والأوبئة الصحية، لذلك يتم التساؤل باستمرار هل الأزمة المناخية تتموضع خارج السيطرة البشرية. فمنذ هيمنة العقل الأداتي (ديكارت) الذي لا يُسائل عن مصير أفعاله وتداعيات ذلك، سمح الإنسان لنفسه بتدمير الكون وإعادة ترتيبه بحسب العقل الأداتي الديكارتي. ومن أجل تلمس الملامح الأساسية للجواب علينا أن ننظر في معالم الأنتروبوسين وتداعياته على العالم العربي.

خامسًا: الأنتروبوسين وتكلفة البقاء
على قيد الحياة في الوطن العربي

تتجلى أهم مظاهر علاقة الإنسان بالطّبيعة في مدى الظّلم الذي سيلحق بالأجيال القادمة من البشرية، وفي إمكان ضياع حقها من الموارد الطبيعية والبيئية، وهي موارد محدودة أساسًا في الزمان والمكان. وانطلاقًا من هذا المنظور الكلي والتّضامني، ينبني الخطاب البيئي على نقد فلسفة الفعل الفردي الليبرالية والطاغية في العقلانية والربحية، ويؤسس لواجب الفعل كمسؤولية مشتركة للأفراد والجماعات‏[38].

يرى هانس جوناس (Hans Jonas) أن الطبيعة لم تعد تلك الأسطورة القوية التي قهرت الإنسان وبرهنت له دائمًا على حدود سلطته، بل صارت شيئًا هشًا ومهدّدًا من جانب الإنسان والتكنولوجيا، وهي لا تستطيع الدفاع عن نفسها مثل أي كائن بشري، لذلك فهي موضوع مسؤولية الإنسان، عليه أن يحميها من الخطر ويحافظ عليها لمصلحة الأجيال القادمة‏[39].

الأنتروبوسين أو عصر الإنسان، وهو ما يعني عصر تحكمه خيارات الإنسان، فنحن أشد سيطرة مما يمثل خطرًا على بقاء الجنس البشري نفسه‏[40]. في هذه الحقبة الجديدة، حقبة الأنتروبوسين يتوقف بقاؤنا ونماؤنا على إعادة رسم مسار للتقدم يحترم ترابط المصير بين الإنسان والأرض التي يعيش عليها ويقر بأن ما يستهلكه الميسورون وما يتركونه من بصمة في استنفاد الموارد، يحد من الفرص في وجه الأقل حظًا‏[41]. لقد دخلت الإنسانية في مرحلة تاريخية حيث المخاطر تهيمن على بقاء الإنسان نفسه‏[42]. فالحياة الجيدة تعتمد على وجود بيئة آمنة من أجل (ضمان) الازدهار. فبالنسبة إلى الإنسان لا يشمل ذلك البيئة المادية فقط، ولكن أيضًا البيئة الاجتماعية‏[43].

توصف مجتمعاتنا بمجتمعات المخاطر لذلك يتعين علينا نزع الستار عن تمجيد التكنولوجيا والتصنيع وبالتالي النظر في مدى قدرتنا على الاستجابة الفعّالة للتداعيات التي أنتجت على مسار الحداثة والتصنيع.

فقد سقط القناع عن القناع: سقط القناع عن قناع الحداثة والتصنيع والديمقراطية ومهمة الرجل الأبيض الحضارية.

كتب ذات صلة:

الخروج من جهنم: انتفاضة وعي بيئي كوني جديد او الانقراض

نمط العيش الإمبريالي: استغلال الإنسان والطبيعة في الرأسمالية العالمية

تفكيك الرأسمالية: بحث في تقويض المشترك البيئي الإنساني

المصادر:

نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 559 في أيلول/سبتمبر 2025.

الحسين شكراني: أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية، جامعة القاضي عياض، مراكش – المغرب، ومدير الكتاب العربي للقانون الدولي (ARJIL).

[1] عبد الله القصيمي، العرب ظاهرة صوتية (بيروت: منشورات الجمل، 2006).

[2] للمزيد عن متابعة مؤتمرت الأطراف (COP)، انظر: الحسين شكراني وخالد القضاوي، «المفاوضات المناخية العالمية: تنمية فـي النصوص وشكوك فـــي التطبيق،» سياسات عربية، السنة 4، العدد 21 (تموز/يوليو 2016)؛ الحسين شكراني، «الصين والمُفاوضات المُناخية العالمية :بين تعزيز النمو الاقتصادي ومحدودية التّفاعل السياسي مع الدول النامية،» المستقبل العربي، السنة 39، العدد 452 (تشرين الأول/أكتوبر 2016)؛ الحسين شكراني، «تقرير عن: قمة كوبنهاغن حول المناخ: تكريس للفشل أم بداية اتفاق شامل؟،» المستقبل العربي، السنة 33، العدد 383 (كانون الثاني/يناير 2011)؛ شكراني الحسين، «تقرير عن: مؤتمر ديربان حول تغيرات المناخ، جنوب أفريقيا 28 تشرين الثاني/نوفمبر – 9 كانون الأول/ديسمبر 2011،» المستقبل العربي، السنة 34، العدد 397 (آذار/مارس 2012)؛ شكراني الحسين وحلمي كمال، «مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة: ريو+20، ريو دي جانيرو، 20 – 22 حزيران/يونيو 2012،» المستقبل العربي، السنة 35، العدد 404 (تشرين الأول/أكتوبر 2012)، و«على هامش مؤتمر الأطراف (COP 22) بشأن التغير المناخي: من تناقض المصالح إلى تعدد المقاربات،» المستقبل العـــربي، السنة 39، العـــدد 457 (آذار/مارس 2017).

[3] في المجال البيئي، ولا سيّما في حقل المعدلات الوراثية (OGM) أو مجالات التأمين في شأن التغيرات المناخية أو الطّاقات الأحفورية أو الفلاحة البيوتكنولوجية، ترفض اللوبيات المنشغلة بهذه الحقول كل ما من شأنه أن يضبط حركيتها. كما تبحث هذه اللوبيات (باستمرار) على التأثير في السياسات البيئية العالمية. انظر: Amandine Orsini, Les Lobbies environnementaux: Intérêt d’une approche pluraliste, Sous la direction de François Gemenne L’enjeu mondial: L’environnement (Paris: Sciences Po Les Expresses, 2015), pp. 124-125.

[4] كصعوبة التركيز على الفرد والجماعات دون الدولة. وأن المفهوم يعبّر بالدرجة الأولى عن خلفية ليبرالية قد تؤسس للتدخل في الشؤون الداخلية للدول وخرق سيادتها بحجة حماية السكان وحقوق الإثنيات المحلية. كما ترد انتقادات كثيرة على المفهوم كــ «تداخل مستويات التحليل الأساسية بين أفراد ودول ونظام دولي ونظام كوني». انظر: أحمد محمد أبو زيد، «التنمية والأمن: ارتباطات نظرية،» في: مجموعة مؤلفين، النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة في الدول العربية: الأبعاد السياسية والاجتماعية (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013)، ص 262.

[5] تحدث كوفـــي أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة عن وجود مفهومين للسيادة: سيادة الدولة وسيادة الفرد. انظر: Kofi Annan, «Two Concepts of Sovereignty,» The Economist (16 September 1999), <https://www.economist.com/international/1999/09/16/two-concepts-of-sovereignty>, (accessed on 21 January 2022).

[6] انظر: Jean-François Rioux (dir.). Coll. Raoul-Dandurand, Montréal, Chaire Raoul-Dandurand en études stratégiques et diplomatiques, 2001, <https://www.erudit.org/fr/revues/ei/2003-v34-n2-ei775/009187ar.pdf> (accessed 22 March 2022).

[7] ففي الحقبة بــين عامي 2006 و2012، شهدت سورية واحدة من أسوأ حالات الجفاف طويلة الأجل، وأشد حالات تراجع المحاصيل وتدمير الماشية في تاريخها الحديث. وقد أدى التصحر إلى التأثير في مليون ونصف مليون مزارع، وبالتالي تسجيل الهجرات الكثيفة للمزارعين ومربي الماشية وذويهم إلى المدن. انظر: Caitlin E. Werrell [et al.], «Did We See It Coming? State Fragility, Climate Vulnerability, and the Uprisings in Syria and Egypt,» SAIS Review of International Affairs, vol. 35, no. 1 (Winter-Spring 2015), p. 32, and Agnès Sinaï, «Aux origines climatiques des conflits,» Le Monde diplomatique (août 2015), p. 2.

[8] المنتدى العربي للبيئة والتنمية، تغير المناخ: أثر تغير المناخ على البلدان العربية (بيروت: أفد، 2009)، ص 14.

[9] المصدر نفسه، ص 15.

[10] التكيف: عملية التكيف مع المناخ الفعلي أو المتوقع وتأثيراته. وفي النظم البشرية يكون الهدف من عملية التكيف هو التّخفيف من الضرر أو استغلال الفرص المفيدة. وفي بعض النظم الطبيعية، قد ييسر التدخل البشري التكيف مع المناخ المتوقع وتأثيراته. انظر: الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، تغير المناخ 2014: آثاره التكيف معه، ومدى التأثر به. الملخصات، والأسئلة المتواترة، والأطر المشتركة بين الفصول (بيروت: برنامج الأمم المتحدة للبيئة والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية، 2014)، ص 5.

[11] Le Conseil National de l’Environnement, Rapport sur l’opérationnalisation de la charte nationale de l’environnement et du développement durable (Rabat, 2011), p. 31.

[12] Emily Meierding, «Climate Change and Conflict: A Critical Overview,» Die Friedens-Warte, vol. 84 (2010), p. 188, and Jürgen Scheffran [et al.], «Link and Janpeter Schilling. Climate Change and Violent Conflict,» Science, New Serie, vol. 336, no. 6083 (18 May 2012), pp. 869-971.

[13] Barry S. Levy and Victor W. Sidel. «Collective Violence Caused by Climate Change and How It Threatens Health and Human Rights,» Health and Human Rights, vol. 16, no. 1 (June 2014), pp. 34-35.

[14] «Le Climat est un facteur d’injustice sociale,» Entretien avec Nicolas Hulot, Revue Française des Affaires Sociales, nos. 1-2 (janvier-juin 2015), p. 200.

[15] رازميغ كوشيان، «المناخ، الطبيعة، الموارد الطبيعية: ساحات المعارك الجديدة،» في: أوضاع العالم 2015: الحروب الجديدة، تحت إشراف برتران بادي ودومينيك فيدال؛ ترجمة نصير مروّة (بيروت: مؤسسة الفكر العربي، 2015)، ص 74.

[16]  «Le Climat est un facteur d’injustice sociale,» p. 200.

[17] هشاشة الأوضاع/القابلية للتأثر: الميل أو النزوع إلى التأثر تأثرًا سلبيًا. وتشمل هشاشة الأوضاع جملة متنوعة من المفاهيم والعناصر من بينها الحساسية أو القابلية للتعرض لأذى وانعدام القدرة على التأقلم وعلى التكيف. انظر: الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، تغير المناخ 2014: آثاره التكيف معه، ومدى التأثر به. الملخصات، والأسئلة المتواترة، والأطر المشتركة بين الفصول.

[18] François Gemenne, Géopolitique du climat: Négociations, Stratégies, Impacts (Paris: Ed. Armand Colin, 2010), p. 68.

[19] Sergio Luiz Cruz Aguilar, «Regional Conflict System in Africa: An Option for Analysis,» in: Sara Hasnaa Mokaddem, ed., Stability and Security in Africa: The Role of Hard and Soft Power (Morocco: Policy Center for the New South and Al Akhawayn University, 2019), p.83.

[20] بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (1994) يتكون الأمن الإنساني من الأمن الاقتصادي والأمن الصحي، والأمن الغذائي، والأمن البيئي، والأمن الشخصي، والأمن المجتمعي، والأمن السياسي.

[21] مي جردي، ريم فياض، وعباس الزين، «التدهور البيئي: التحدي لاستدامة الحياة،» في: الصحة العامة في الوطن العربي، المحررون سامر جبور [وآخرون] (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية؛ الجامعة الأميركية في بيروت، 2013)، ص 151.

[22] عمومًا يعني الصّمود قدرة مجتمع ما على مقاومة الكرب، وهو يرتبط، بــ (1) حجم الصّدمة التي يمكن المجتمع أو النظام امتصاصها للمحافظة على حالة معيّنة، (2) درجة التّنظيم الذاتي التي يقدر المجتمع أن يصل إليها، (3) درجة إمكانية المجتمع على بناء القدرة على التعلم والتكيف. كما وُصف صمود المجتمع بأنه «مركب التكيف… الذي يستفيد من جوانب القوة المادية والاجتماعية للأمة». انظر: إيمان نويهض [وآخرون]، «حرب صيف عام 2006 على لبنان: درس في صمود المجتمع،» في: الصحة العامة في الوطن العربي، ص 811 – 812.

[23] المنتدى العربي للبيئة والتنمية، تغير المناخ: أثر تغير المناخ على البلدان العربية، ص 9.

[24] جردي، فياض والزين، «التدهور البيئي: التحدي لاستدامة الحياة،» ص 155.

[25] المنتدى العربي للبيئة والتنمية، تغير المناخ: أثر تغير المناخ على البلدان العربية، ص 13.

[26] Paul Gilding, «The Mother of All Conflicts,» The Brown Journal of World Affairs, vol. 18, no. 2 (Spring – Summer 2012), p. 169.

[27] برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009: تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية (بيروت: البرنامج، المكتب الاقليمي للدول العربية، 2009) ص 33.

[28] Paul J. Sullivan and Natalie Nasrallah, «Improving Natural Resource Management in Sudan: A Strategy for Effective State Building and Conflict Resolution,» US Institute of Peace (2010) p. 2.

[29] Mohamed Abdel Raouf Abdel Hamid, «Climate Change in the Arab World: Threats and Responses,» in: David Michel and Amit Pandya, eds., Troubled Waters, Climate Change, Hydropolitics, and Transboundary Resources (Washington, DC: Stimson Center, 2009), p. 49.

[30] عبد الرحيم مصيقر [وآخرون]، «التغذية والأمن الغذائي: الوطن العربي في المرحلة الانتقالية،» في: الصحة العامة في الوطن العربي، ص 321.

[31] La Commission spéciale sur le modèle de développement: Le Nouveau modèle de dévelop­pement, Libérer les énergies et restaurer la confiance pour accélérer la marche vers le progrès et la prospérité pour tous, Rapport General (avril 2021), p. 45.

[32]  Ibid., p. 42.

[33] أخذًا عن: جردي، فياض والزين، «التدهور البيئي: التحدي لاستدامة الحياة،» ص 161.

[34] Manfred Wiebelt [et al.], «Who Bears the Costs of Climate Change? Evidence from Tunisia,» The Journal of Developing Areas, vol. 49, no. 2 (Spring 2015), p. 17.

[35] Lelia Croitoru and Maria Sarraf, eds., Le Coût de la Dégradation de l’Environnement au Maroc, Environment and Natural Resources Global Practice Discussion Paper; no. 5 Executive Summary (Washington, DC: World Bank Group, 2017), p. vii.

[36]  Ibid., p. iv.

[37]  Ibid, p. vi.

[38] عبد الحميد العبيدي، «محاولة في فهم تقاطعات الخطاب البيئي مع مسار نقد الحداثة،» عمران، العدد 31 (شتاء 2020)، ص 118.

[39] المصدر نفسه، ص 132.

[40] United Nations Development Programme [UNDP], Human Development Report 2020 The Next Frontier: Human Development and the Anthropocene (New York: UNDP, 2020), Forword, p. iii.

[41]  Ibid., p. iii.

[42]  Ibid., p. 106.

[43]  Ibid., p. 119.


الحسين شكراني

باحث في العلاقات الدولية، من مواليد سيدي بوزيد، أكليم (المغرب) عام 1971. حاصل على الدكتوراه في الدينامية الجديدة للعلاقات الدولية من جامعة محمد الأول (كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية)، وجدة – المغرب. وهو عضو بالجمعية الروسية للقانون الدولي البحري. من مؤلفاته: المقاربة المتوسطية الخضراء للبنــك الأوروبــي للاستثمار (1958-2012): دورها ومحدوديتها وسبـل تطويرها (قيد الطبع)، ونحو مقاربة بيئية للمياه العربية (مركز دراسات الوحدة العربية، 2021)، وتناقضات القانون الدولي: مدخل تحليلي (مركز دراسات الوحدة العربية، 2019). كما نشر عددًا من المقالات والتقارير العلمية في عدة دوريات متخصصة.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز