مقدمة

يعاني الإنتاج العلمي العربي، المنشور باللغة العربية، في المجلات الأكاديمية والبحثية المعتمدة عربيًا، «تهميشًا وجوديًا معرفيًا وحضاريًا»، في مؤشرات الآخر (الغربي)؛ وذلك لأسباب جمة، من أهمها: عدم وجود مؤشرات وبيانات علمية عربية أصيلة، تقيس هذا النِّتاج، وتحدد حجمه، وتبين مدى تأثيره. وقد منع هذا التهميش والتجاهل، البلدانَ العربية، وجامعاتها، ومجتمعاتها البحثية – العلمية، من احتساب نتاجٍ علميٍّ كبيرٍ ومهمٍّ؛ حيث وضعته مؤشرات الآخر، نتيجة تحكمها، في وضع «الغائب وشبه الغائب، أو غير المرئي»؛ ومن ثم أصبح في مكانة دونية عالميًا، وفق حسابات قياس الآخر. بعبارة أخرى، وضعته ضمن دائرة التهميش الحضاري، ودائرة التبعية المعرفية للغربي، وفق رؤيته الحضارية ومنظومته العلمية والفكرية.

تسعى هذه الورقة لدراسة وتسليط الضوء على انعكاسات وتداعيات الاعتماد على مؤشرات الآخر (الغربية)، على واقع ومكانة الإنتاج العلمي العربي، وتأثير ذلك في الاستقلالية المعرفية – الحضارية، ودورها في صناعة مستقبل المشهد العلمي والبحثي للعالم العربي.

في المقابل، توضح الدراسة كيفية وحجم تأثير الاعتماد على المؤشرات العلمية العربية الأصيلة، التي تقيس الإنتاج العلمي العربي المنشور باللغة العربية، وتراعي الاعتبارات الحضارية والثقافية، على نحوٍ يساهم في إعادة الاعتبار والمكانة له عالميًا وحضاريًا، وإخراجه من تحكم الآخر ورؤيته الحضارية.

ولاستكمال معرفة تأثير وتداعيات الاعتماد على مؤشرات الآخر الأجنبي (الغربي)، تتناول الورقة عرض واقع واتجاهات الإنتاج العلمي في المجلات العلمية العربية، من خلال بيانات مؤشرات علمية عربية موثوقة، تفحص أكثر من 4600 دورية، تم العمل على رصدها خلال 15 عامًا.

أخيرًا، تقف الورقة عند بعض الجهود العلمية الرائدة لبناء مؤشرات عربية أصيلة، التي قدمت بديلًا علميًا حضاريًا مقابل مؤشرات الآخر (الغربي).

عملت الدراسة على رصد وتحديد أهم مؤشرات الآخر (الغربي) العالمية، التي تعكس تأثيرًا محوريًا في مكانة البحث والإنتاج العلمي العربي ومخرجاته، وقد تمثلت بثلاثة محاور أو أبعاد، هي:

الاعتماد على لغة الآخر في البحث العلمي والتطوير.

– العلاقة بين منظومة البحث العلمي العربي، والاعتماد على استيراد حلول حاجات التنمية العربية من الآخر.

– الاعتماد على أوعية النشر العلمي للآخر (الغربي)، ومؤشرات قياسه للإنتاج العلمي العربي.

وقد أجرت الدراسة مقارنة تأثير أو تداعيات هذه الأبعاد الثلاثة على واقع ومخرجات منظومة البحث والإنتاج العلمي العربي، ومكانته العلمية والحضارية، عربيًا ودوليًا.

أخيرًا، لجأت الورقة إلى تحليل ودراسة واقع الإنتاج العلمي العربي، المنشور في الدوريات العلمية والبحثية، من خلال استخدام مجموعة من المؤشرات والبيانات، التي يوفرها مرصد «معرفة» لقياس الإنتاج العلمي العربي[3]، حيث استخدمت الورقة بيانات أكثر من 4600 مجلة عربية علمية، صادرة من أكثر من 1500 جامعة وهيئة علمية في البلدان العربية، تغطي مختلف التخصصات أو الحقول العلمية المختلفة[4].

تغطي بيانات المجلات العلمية والبحثية العربية، المشمولة في هذه الدراسة، المدة الزمنية من كانون الثاني/يناير 2008، وحتى نهاية عام 2022. وبغضّ النظر عن تاريخ حصر هذه المجلات، فإن التغطية الزمنية للدوريات تشمل الدوريات التي يمتد تاريخ صدور بعضها إلى الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين.

أهمية الدراسة وأهدافها

1 – تقديم تشخيص مبني على بيانات دقيقة وأصيلة، حول تداعيات تأثير الاعتماد على مؤشرات الآخر حضاريًا ومعرفيًا.

2 – تعزيز استقلالية المنظومة المعرفية العربية، وتعزيز الثقة بالقدرات الذاتية والإنتاج العلمي المنشور باللغة العربية.

3 – تقديم صورة عامة وملخصة Summary Overview) )، بشكل كمِّيٍّ، عن واقع واتجاهات الإنتاج والنشر العلمي العربي للمجلات العربية.

4 – المساهمة في توجيه الجهود والإنتاج العلمي العربي، نحو التأثير الفعلي في قضايا وحاجات المجتمع العربي وأولوياته الفكرية – الحضارية والتنموية، والابتعاد من الجهود والإنتاج الاستعراضي وغير المنتج فعليًا.

ومن ثم، يُظهر هذا البحث أهمية بناء وتطوير منظومة مؤشرات عربية أصيلة، تغني الباحثين وصناع القرار والمهتمين، عن الاعتماد على مؤشرات وبيانات النشر العلمي الصادرة عن جهات ومرجعيات أجنبية، وبخاصة الغربية، التي تعاني إشكالية توافر أو حصول هذه الجهات على بيانات كافية، أو كاملة، أو دقيقة، عن الدوريات والمجلات العلمية العربية، وبخاصة المنشورة باللغة العربية، وإشكالية التباين واختلاف الاعتبارات الثقافية والموارد والمنظومة الاجتماعية الخاصة بالبيئة العربية عنها في البيئة الغربية، ومن ثم أهمية الاعتماد على بيانات من مؤشرات علمية عربية موثوقة، تساهم في عملية التخطيط السليم؛ لتطوير البحث والإنتاج العلمي العربي، وتحسين دائرة التأثير والاستفادة منه.

أخيرًا، يُبرز هذا البحث الأبعاد المحورية للتخلص من ممارسة «التدمير المعنوي» للإنسان العربي، فكرًا ووجودًا معرفيًا، ولإمكانياته وقدراته العلمية.

أولًا: دورة المعرفة

من المعلوم أن علوم المعرفة الإنسانية، بمجالاتها كافة، تسير ضمن ما يعرف بـ«دورة المعرفة». تعتمد هذه الدراسة النموذج الذي تتبناه مؤسسة قاعدة البيانات العربية «معرفة» الرقمية، وهي تتمثل بأربع مراحل رئيسة، كما هو موضح في النموذج الآتي:

إنتاج علمي جديد:

إنتاج المعرفة       إدارة المعرفة وتنظيمها          نشر المعرفة وتداولها      استخدام المعرفة وتطبيقها

     (1)                                    (2)                                       (3)                              (4)

وعند النظر في علاقة وموقع الإنتاج العلمي العربي، المنشور في المجلات العلمية والبحثية، الصادرة في الوطن العربي، ضمن مراحل «دورة المعرفة»، ومدى ارتباط هذه العلاقة والإنتاج العلمي العربي بالتبعية المعرفية لمؤشرات الآخر(الغربي)، نلاحظ النتيجة الآتية (انظر الشكل الرقم (1)):

الشكل الرقم (1)
العلاقة بين «دورة المعرفة» والإنتاج العلمي العربي
والتبعية المعرفية للآخر

سنتناول في هذه الدراسة كيفية حدوث هذه النتيجة وأسبابها، من خلال دراسة العلاقة من خلال «دورة المعرفة» على صعيد الإنتاج العلمي العربي، وارتباطه بمؤشرات الآخر (الغربي).

1 – إنتاج المعرفة[5]

نقف في هذه المرحلة عند فحص العلاقة بين مرحلة «إنتاج المعرفة» (في المجلات العلمية والبحثية) في العالم العربي، ومدى علاقتها بالتبعية المعرفية العربية للآخر(الغربي)، وذلك من خلال ثلاثة محاور أو عناصر مرتبطة بهذه المرحلة:

أ – العلاقة بين البنية التحتية المعرفية ومنظومة الإنتاج والبحث العلمي العربي
والاعتماد على استيراد حلول وحاجات التنمية العربية من الآخر

يعَدّ الاهتمام بتطوير البنية التحتية المعرفية، ومنظومة البحث العلمي العربية، في كل المجالات، ضرورة للانتقال من حالة أو وضع الاستهلاك والتبعية، واستيراد حلول وحاجات التنمية في العالم العربي من الآخر، إلى الإنتاج والإبداع، واقتصاد المعرفة القوي والريادي، وتحسين جودة حياة الإنسان، وتلبية حاجات التنمية العربية، إضافة إلى دوره في توفير ركن أساس في استقلالية الإرادة السياسية وخضوعها لضغوط القوى الخارجية الموفرة لحاجات الوطن العربي.

يمكن ملاحظة حجم مشكلة محدودية دور منظومة الإنتاج والبحث العلمي العربي في عملية التنمية، ومشكلة التبعية المعرفية العربية للآخر، ومدى علاقتها بالاستهلاك وتلبية حاجات التنمية في الوطن العربي، من خلال مقارنة بعض البيانات في هذا المجال؛ فعلى سبيل المثال: بلغ حجم الإنفاق على واردات الخدمات والسلع الجاهزة، بما فيها التكنولوجيا الجاهزة (Turn Key)، في الوطن العربي – كما تشير بيانات البنك الدولي، خلال السنوات 2016 – 2020، أكثر من 5.219 بمتوسط سنوي قدره تريليون دولار[6]. أي أن متوسط إنفاق العالم العربي، على وارادات الخدمات والسلع الجاهزة، كان (بمتوسط سنوي قدره 1.044 ترليون دولار).

ولو قارنّا ما سبق بإنفاق مشروع مارشال (لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، على مدى أربع سنوات، الذي مولته الولايات المتحدة الأمريكية)، الذي بلغ ما يقارب 13 مليار دولار (أي ما يساوي 1.62 ترليون دولار في عام 2023)، نلاحظ أن إنفاق الوطن العربي، على وارادات السلع والخدمات الجاهزة، لمدة سنة ونصف السنة، يعادل تكاليف إعادة إعمار أوروبا، التي أصبحت اليوم قوة إنتاج هائلة اقتصاديًا ومعرفيًا وتكنولوجيًا وعسكريًا… إلخ، بينما لا يزال الوطن العربي، يعتمد على الآخر، في توفير حاجاته الحياتية والتكنولوجية؛ ومن ثم فإن عدم انتقال الوطن العربي من التركيز على البحث العلمي والإنتاج المعرفي، الذي يلبي حاجات التنمية ويحل مشكلاتها، ويحقق النهضة العلمية، ويلبي متطلبات حياة الإنسان العربي، في مختلف المجالات، سيبقي التبعية المعرفية – السياسية أسيرة للآخر؛ الذي يوفر هذه الحاجات، ويصنعها أو يطورها، ويصدرها إلينا.

بالعلاقة بين الإنتاج والبحث العلمي العربي واعتماد لغة الآخر

تعدّ اللغة الأم مكونًا أساسيًا في الهوية الحضارية للمجتمعات الإنسانية، وأداة ضرورية لإنتاج العلم والمعرفة ونشرهما؛ من هنا فإنه لا بد من النظر في مدى تأثير العلاقة بين الإنتاج والبحث العلمي والتطوير واستخدام اللغة الأم (الأصلية /القومية)، بديلًا من لغة الآخر.

وترى هذه الدراسة أن هناك علاقة وثيقة ومحورية، بين استخدام اللغة الأم في البحث العلمي والتطوير وإنتاج المعرفة، وبين التحرر من التبعية للآخر، والنهضة العلمية والتنموية والقوة الحضارية. ولتأكيد ذلك وتوضيحه، تستند الدراسة إلى بعض البيانات العالمية، التي تؤكد وجود علاقة قوية، بين اعتماد الدولة واستخدامها للغة الأم (الأصلية)، في التعليم والبحث العلمي، وبين إحداث التطور والإبداع العلمي والمعرفي والتكنولوجي، وذلك من خلال النظر في العلاقة بين حجم طلبات براءات الاختراع – التي تعدّ واحدة من أهم مخرجات البحث العلمي – والدول التي تعتمد اللغة الأم في البحث والتطوير العلمي؛ حيث تشير البيانات العالمية، إلى أن الدول التي حققت مراتب عليا في البحث والتطوير والتعليم، لا تعتمد لغة الآخر بصورة أساسية فيه (انظر الجدول الرقم (1)).

الجدول الرقم (1)
الدول التي تعتمد اللغة الأم في البحث والتطوير العلمي

عدد طلبات براءات الاختراع(*)           ترتيب الدول عالميًا بحسب عدد طلبات براءات الاختراع التي تحققها(*)اللغة الأم في البحوث وتطوير العلوم والتكنولوجيااسم الدولة
1،497،0001الصينية (اللغة الأم)الصين
597,1722الإنكليزية (اللغة الأم)الولايات المتحدة
288,4723اليابانية (اللغة الأم)اليابان
226,7594الكورية (اللغة الأم)كوريا
62,1055الألمانية (اللغة الأم)ألمانيا
57,7716الإنكليزية/ و الهنديةالهند
34,9847الروسية (اللغة الأم)روسيا الاتحادية
34,5658الإنكليزية والفرنسية (هما اللغتان الأم)كندا
294, 299الإنكليزية (اللغة الأم)أستراليا
338,2410البرتغالية (اللغة الأم)البرازيل

(*)  سامي الخزندار، «المعرفة العربية في المجلات العلمية: مؤشرات جديدة برؤية حضارية،» المستقبل العربي، السنة 39، العدد 454 (كانون الأول/ديسمبر 2016) (وتم إضافة وتحديث هذه البيانات من تقرير العام 2022).

المصدر:     WIPO Report 2022: World Intellectual Property Indicators 2022 (Geneva: WIPO, 2022), pp. 46-52.

تظهر بيانات الجدول الرقم (1) أن أعلى 10 دول عالميًا، من حيث تحقيقها عدد طلبات براءات الاختراع اعتمدت 9 دول منها لغتها الأم في التعليم وبحوث العلوم والتكنولوجيا، منها 3 دول لغتها الأم هي اللغة الإنكليزية، وهي أمريكا، وكندا، وأستراليا، بينما دولة واحدة تعتمد اللغة الإنكليزية، إضافة إلى لغتها الأم، وهي الهند، مع العلم أن اللغة الإنكليزية فيها هي اللغة التوافقية المستخدمة وشبه الرسمية للدولة، في ضوء التعدد الكبير للغات فيها.

جاعتماد أوعية النشر العلمي للآخر ومؤشراته لقياس الإنتاج العلمي العربي

يتطلب اعتماد أوعية النشر العلمي (أي المجلات العلمية) لدى الآخر (الغربي)، لنشر الإنتاج العلمي الصادر من الوطن العربي، استخدام لغة الآخر (الغربي). وقد تم توضيح أهمية العلاقة بين الإنتاج البحثي العلمي واستخدام اللغة الأم سابقًا.

كما أن الاعتماد على مؤشرات الآخر (الغربي) لقياس الإنتاج العلمي العربي سيجعل الآخر هو من يقرر مدى الوجود العلمي والمعرفي الحضاري للإنتاج العلمي العربي، وفق معاييره ولغته؛ وبالتالي لا يعتمد في قياسه على حقيقة الوجود الفعلي للإنتاج العلمي العربي، وبخاصة المنتج باللغة العربية، الذي يُعَد منتجًا «غير مرئي» بالنسبة إليه (الآخر).

يرتبط هذا المحور بعمق بالمرحلتين الثالثة (نشر المعرفة وتداولها) والرابعة (استخدام المعرفة وتطبيقها)، من دورة المعرفة. لذا، ستقوم الدراسة بتوضيح هذه العلاقة عند الحديث عن هاتين المرحلتين، منعًا للتكرار.

2 – إدارة المعرفة وتنظيمها

يعدّ مجال «إدارة المعرفة وتنظيمها» مجالًا واسعًا، وهو يتعامل مع الانفجار وثورة المعرفة، والحجم الهائل للبيانات والمعلومات. سنتناول في هذه الورقة موضوعًا محددًا، وهو ما يتعلق بإدارة المعرفة وتنظيمها في نطاق الإنتاج العلمي، من المجلات البحثية والأكاديمية الصادرة في الوطن العربي.

عمومًا، هناك تطور ضخم في الإنتاج العلمي العالمي، المنشور في المجلات العلمية، وبكل اللغات، وقد استطاعت مجموعة متنوعة من قواعد البيانات العالمية، إدارة هذا الإنتاج العلمي العالمي وتنظيمه، ومن ثم توفيره للنشر والتداول، في أكثر من 200 دولة. ومن أمثلة هذه القواعد العالمية: قاعدة إلسيفير  (Elsevier)، وبروكوست – كلاريفيت Clarivate – ProQuest))، وإبسكو (Ebsco)، وغيرها.

أما على الصعيد العربي، فقد برزت في مجال «إدارة وتنظيم المعرفة»، الخاصة بالمجلات العلمية العربية، عدة جهود ومبادرات، وقواعد بيانات رقمية مميزة، من عدة دول عربية، استطاعت أن تسد ثغرة مهمة في مجال إدارة وتنظيم الإنتاج العلمي للمجلات العلمية العربية أو الوطنية. ومن أهم قواعد البيانات العربية: قاعدة بيانات «معرفة» الرقمية المتكاملة (مقرها الأردن)، وقاعدة دار المنظومة (مقرها السعودية)، وقاعدة آسك زاد (مقرها مصر)، وقاعدة المنهل، وغيرها من قواعد المعلومات الرقمية العربية. وتعتبر قاعدة «معرفة» قاعدة فريدة؛ من حيث شمولها على مجموعة من القواعد وبنوك المعلومات، وحلول البحث والإنتاج العلمي العربي، ومنها: مرصد «معرفة» لقياس الإنتاج العلمي العربي، معامل التأثير والاستشهادات المرجعية العربي «أرسيف» (Arcif)، ومنصة «كاشف»؛ للتحقق من التشابه والانتحال في الإنتاج العلمي العربي، كما تحتوي على 25 قاعدة بيانات عربية متخصصة، في مختلف المجالات العلمية، وعلى منصة «أين أنشر بحثي»، وهي منصة رقمية عربية فريدة في نوعها، ترشد الباحثين لكيفية اختيار المجلات الصادرة باللغة العربية، المناسبة لنشر أبحاثهم في مجال اختصاصهم، بالاعتماد على معايير علمية، وبيانات ومؤشرات كمية معينة، تحدد المجلات الأكثر تأثيرًا عربيًا، مثل: عدد الاستشهادات التي حصلت عليها المجلة، نسبة الاقتباس الذاتي للمجلة، معامل التأثير «أرسيف» الخاص بها، تصنيف أو مرتبة فئة المجلة ضمن أربع فئات (Q1، Q2 ، Q3 ، Q4 )، وغيرها من المعايير، إضافة إلى تميزها بضخامة المحتوى العلمي الرقمي العربي؛ حيث تحتوي على أكثر من 7 ملايين سجل، مثل: المقالات، الأطروحات الجامعية، تقارير إحصائية، كتب، أوراق مؤتمرات، بيانات مؤلفين، وغيرها من البيانات[7].

ولا تقف قواعد البيانات العربية والغربية عند مرحلة «إدارة المعرفة وتنظيمها»، وإنما هي مرحلة سابقة وضرورية للانتقال إلى المرحلة الثالثة لدورة المعرفة، وهي مرحلة «نشر المعرفة وتداولها»، التي سنتناولها بالحديث.

3 – نشر المعرفة وتداولها

تعَدّ هذه المرحلة مرحلة أساسية للاطلاع والتعريف بالمعرفة، والاستفادة منها واستخدامها. ولدراسة العلاقة بين مرحلة «نشر المعرفة وتداولها» العربية، مع منظومة التبعية المعرفية العربية للآخر (الغربي)؛ فسنحتاج إلى الوقوف على العناصر الآتية أو الإشارة إليها:

أالنشر العلمي في أوعية الآخر (المجلات الأجنبية)

عند الحديث عن مرحلة نشر المعرفة وتداولها في الإنتاج العلمي الغربي – الأجنبي، نلاحظ وجود فجوة ضخمة، لا تقارن، بين قدرات وإمكانات وهيمنة الآخر (الغربي)، وما يخص هذه المرحلة في ما يتعلق بالمحتوى العلمي العربي؛ ذلك أن نشر المعرفة لدى الآخر تتحكم فيه شركات عالمية، بإمكانيات مالية ضخمة، تقدر بعشرات مليارات الدولارات، وقدرات فنية وتكنولوجية هائلة، وحجم محتوى علمي رقمي ضخم، يحتوي عشرات الألوف من المجلات العلمية والبحثية، وعشرات الملايين من الأطروحات، والكتب العلمية، بأشكالها الرقمية المتنوعة، وانتشارٍ وحضورٍ وهيمنةٍ في جميع بلدان العالم. في المقابل، نلاحظ أن انتشار المحتوى العلمي العربي وتداوله يعدّ محدودًا، وبنطاق جزئي في البلدان العربية، وعلى نحوٍ متواضع في عدد لا يكاد يذكر من الجامعات الغربية، المعنية بالدراسات الإسلامية، واللغة العربية، والشرق الأوسطية.

تكمن إشكالية نشر المعرفة والإنتاج العلمي العربيين وتداولهما، في أنه يتركز بدرجة كبيرة إما في التوجه الطوعي وإما في التوجه الإلزامي للباحثين والأكاديميين العرب، للنشر العلمي في أوعية الآخر (المجلات الأجنبية – الإنكليزية بوجه خاص)، وبخاصة في مجالات العلوم الطبية والهندسية والطبيعية والتكنولوجية، وبدرجة أقل في مجال العلوم الاقتصادية والمالية والإدارية، وهذا التوجه هو غالبًا نتاج كثير من التعليمات الصادرة عن إدارات الجامعات العربية، التي تلزم أعضاء هيئة التدريس فيها، بالنشر في مجلات أجنبية، تعتمدها معاملات التأثير للآخر (وبخاصة سكوبس Scopus  ، و Web of Science)، لغايات ترقية أعضاء هيئة التدريس في الجامعة. تهدف الجامعة من هذا الإلزام تحقيق قيمة عليا في معيار البحث العلمي والاستشهادات، على نحوٍ يصب في تحقيق تصنيف مرتفع للجامعة ضمن تصنيفات الآخر للجامعات، على المستوى الوطني والعربي والدولي.

ومن أهم هيئات (شركات) الآخر لتصنيف الجامعات – ومنها الجامعات العربية -: تصنيف (التايمز (The Times ، وتصنيف (كيو إس QS) البريطانيتين.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن التوجه الرئيس نحو النشر العلمي في المجلات العلمية الأجنبية، كخيار إلزامي أو طوعي، من جانب الأكاديميين والباحثين العرب، يدفع إلى مشكلتين، هما:

الدفع في اتجاه التبعية والتهميش والدونية للنشر العلمي باللغة العربية، بمعنى آخر، فإن النشر العلمي في مجلات الآخر – الأجنبي، يعني النشر باستخدام لغته (وبخاصة الإنكليزية) بديلًا من اللغة العربية؛ ومن ثم المزيد من التهميش، وخضوع الباحثين والإنتاج العلمي العربي لمتطلبات الآخر، واهتماماته وأولوياته، وتقليص مساحة دائرة الإبداع العلمي باستخدام اللغة العربية.

وكذلك الدفع نحو تغيير أولويات وأجندة البحث العلمي للباحثين العرب، بما يتناسب أو يتلاءم مع القضايا والموضوعات التي تهم المجلات العلمية للآخر (الغربي)، حتى تتاح له الفرصة للنشر في المجلات الأجنبية واهتماماتها، وليس العمل البحثي وفق حاجات وأولويات التنمية والنهضة العلمية للمجتمعات العربية. ستلقي هذه الورقة المزيد من الضوء على هاتين الإشكاليتين، عند الحديث لاحقًا عن المرحلة الرابعة من دورة المعرفة؛ وذلك لخطورة وحجم تأثيرهما الكبير في الواقع المعرفي والتنموي العربي.

إن النشر في أوعية الآخر (المجلات الأجنبية)، جعل المجلات العلمية والبحثية للآخر (الغربي)، هي المرجعية أو المقياس المرجعي لصواب وخطأ الإنتاج العلمي العربي، ولتقييم الجهود العلمية العربية، ومن ثم أصبحت القيمة المضافة الحقيقية للمقال أو المقالات العلمية العربية، هي نشره في المجلات الأجنبية – الغربية، وبالتالي حصوله على التقدير، واعتماده في ترقيات الأكاديميين، وتقديم الحوافز لناشر المقال. وبالرغم من أن عملية النشر، في الكثير من الأحيان، في مجلات الآخر – الأجنبية، تخضع لاعتبارات تجارية ورسوم مالية أيضًا، فإن النشر في أوعية الآخر (الغربي) يجعله «إنتاجًا مرئيًا»، يمكن قياسه، ويصب في سمعة ومكانة الجامعة (العربية) ضمن مؤشرات الآخر (الغربي).

في المقابل، فإن المقالات المنشورة في المجلات العلمية في الوطن العربي، لا تحظى إلا بجزء يسير من الحوافز والتقدير.

4 – استخدام المعرفة وتطبيقها وتأثيرها

تعدّ هذه المرحلة، مرحلة المخرجات والتأثير أو الأثر بكل أشكاله، المرتبط بتطوير منظومة حياة الإنسان ونهضته العلمية والتنموية. وهذه المرحلة حصيلة المراحل الثلاث السابقة لدورة المعرفة. سنقف هنا عند عنصر جوهري، ذي أهمية خاصة في هذه المرحلة، وهو العلاقة بين الأثر/ التأثير (كأحد مخرجات «استخدام المعرفة وتطبيقها»)، وقياس الإنتاج العلمي العربي وتأثيره، من جانب مؤشرات وأوعية النشر العلمي الآخر (الغربي).

يقول عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو إن «التوحيد القياسي يفيد المهيمن (Standardization Benefits the Dominant)[8]، وهو ما يعني فرض التحكم والسيطرة من خلال ما يراه الآخر (الغربي) (Do it my way)، ومقياسه تجاه الأطراف أو الجهات والقضايا موضع القياس.

ويعلق ساري حنفي، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية في بيروت، على ذلك بقوله: «وبهذه التصنيفات يريدون ترسيخ فكرة مفادُها أن ثمّة قياسًا يناسب كل شيء، على نحو مستقل عن المضمون، والتوجّه والموقع أو الموارد»[9].

من هنا، فإن التوحيد القياسي، أو المؤشرات التي يصنعها الآخر (الغربي)، هي التي تحدد ما هو المقبول وما هو غير المقبول، وماذا يجب أن ينتج علميًا وما يجب ألّا ينتج علميًا، وبأي لغة وثقافة، وما هي القضايا والموضوعات التي يجب العمل عليها، ومن هو المتميِّز عالميًا وفق ما أقرره أو أصنفه «أنا الغربي»، بغض النظر عن اختلاف الموارد والإمكانيات، والأمور الثقافية والمعتقدات، والحاجات التنموية، وغير ذلك. بتعبير آخر، فإن الآخر (الغربي) يقوم بتفصيل بدلة بمقاس واحد، لجميع الحجوم الكبيرة والصغيرة، أي مختلف المجتمعات والمؤسسات، بغض النظر عن مدى ملاءمتها، وتباين ظروفها ومواردها وثقافتها.

في ضوء ما سبق، يمكن القول إن التركيز المبالغ فيه، لدى معظم الجامعات العربية، على اشتراط النشر العلمي في أوعية النشر للآخر (الغربي)، وبلغة الآخر (الإنكليزية بخاصة)، بهدف الحصول على قياس أو تصنيف مرتفع، ومرتبة عليا وفق/ لدى مؤشرات الآخر (الغربي)، في مجال المؤشرات الآتية:

معامل تأثير المجلات الغربية ((Scopus و (Web of Science)، والصادرة بلغة ومؤسسات الآخر (الغربي).

تصنيف الجامعات العالمية والإقليمية، من خلال مؤسسات تصنيف الآخر (الغربي)، مثل: (التايمز (The Times، و (كيو إس (QS، وغيرهما،

ثانيًا: إشكاليات الإنتاج العلمي العربي

سيدفع الإنتاج العلمي العربي إلى ثلاث إشكاليات خطرة، هي:

1 – إشكالية التهميش والدونية

ويقصد بها تهميش وإقصاء الإنتاج العلمي، المنشور باللغة العربية، من مؤشرات الآخر (الغربي)، على صعيد مؤشرات البحث العلمي والاستشهادات (Citation)، ضمن معايير تصنيف الجامعات العالمية؛ فهو لا يحسب قيمه إلا لما كتب بلغة الآخر، مع العلم أن بيانات مرصد «معرفة» لقياس الإنتاج العلمي العربي، تظهر أن حجم ما ينتج باللغة العربية في المجلات العلمية أو البحثية، يبلغ 73 بالمئة من إجمالي الإنتاج العلمي العربي بكل اللغات[10]، ومن ثم أصبح هذا الإنتاج المغيَّب «إنتاجًا غير معترف به» أو «غير مرئي»[11]، ولا يتم قياسه، ومن ثم ينظر إلى العالم العربي بأنه ضعيف ومتدنٍّ من حيث حجم ونوع الإنتاج العلمي؛ كنتيجة لغياب قياسه.

من جانب آخر، تفقد الجامعات العربية قيمة أوزان ما تنتجه من أبحاث علمية باللغة العربية، ولا يحسب في رصيدها في التصنيف العالمي للجامعات. يمثل هذا الإقصاء عاملًا في وضع تصنيف الجامعات العربية في مرتبة دونية؛ لعدم احتساب قيمة الإنتاج العلمي باللغة العربية الخاص بالجامعة.

عمومًا، يمكن تلخيص هذه الإشكالية بالقول: «أنا موجود معرفيًا – علميًا، من خلال ما يقرره الآخر».

2 – إشكالية «الاحتكار» و«التحكم» في أولويات البحث العلمي العربي

في ضوء ما سبق ذكره، وفي إطار ممارسة عملية التحكم والسيطرة في قياس الإنتاج العلمي والمعرفي، من خلال مؤشرات منظومة الآخر (الغربي)، سواء في تصنيف الجامعات، أو في أوعية النشر بلغة الآخر، فإن منظومة مؤشراته أصبحت تمارس دورًا محوريًا في تحديد اتجاهات البحث العلمي العربي، من حيث تحديد القضايا والأولويات البحثية العلمية، التي يمكن نشرها كمخرجات للبحث العلمي في الوطن العربي. من هنا، لن يجد الباحثون العرب فرصًا للنشر في أوعية النشر للآخر (المجلات الغربية)، إلا وفق اهتمامها وأجندتها البحثية، لا وفق الأولويات والقضايا البحثية الخاصة بالتنمية المحلية أو الوطنية للدول العربية؛ وبالتالي أصبحت فرص الباحثين، وبخاصة أعضاء هيئة التدريس في الجامعات العربية، في الترقيات والحوافز، مرتبطة، بصورة أساس، بالنشر المقبول من قبل منظومة الآخر (الغربي). لذا؛ يتوجه الباحثون العرب إلى العمل والتركيز على القضايا والاهتمامات البحثية التي تهم الآخر (الغربي) بوجه رئيس، بغض النظر عن أولوياتها ودورها في معالجة المشكلات والقضايا والحاجات المحلية أو الوطنية العربية. ولا شك أن الجامعات العربية، التي تدفع أعضاء هيئة التدريس فيها للنشر في أوعية الآخر (المجلات الأجنبية)، وبلغة الآخر، تشارك في تحمل المسؤولية في تغيير بوصلة البحث العلمي العربي، من أولويات التنمية الوطنية والعربية، إلى أولويات الآخر[12].

3 – إشكالية «مفهوم التأثير» (Impact)

تتلخص أو تتمثل هذه الإشكالية بأن الكثير من الجامعات العربية تهتم بجانبين، هما:

أالتركيز على «القوة الاستعراضية» لمفهوم التأثير

المقصود هنا، أن الاهتمام والتركيز يكون على «مظاهر القوة» أو «مظاهر التأثير»، أكثر من الاهتمام بفعالية الأثر ونوعية وحجم التأثير العمراني للمجتمع، وغالبًا ما يتم الاهتمام بمظاهر التأثير «الاستعراضية»: مثل «الأكبر»، «الأعلى»، «الأفضل»، «الأضخم»، «الأكثر»… إلخ، بمعنى أنه يعطى الاهتمام لما يسميه الباحث التأثير «البالوني»، حيث إن «البالون» يمكن أن يغرّك – من حيث المظهر – بحجمه الكبير، وهو يصدر عند انفجاره صوتًا مرتفعًا أو صدى عاليًا، ولكن لا يحدث تغييرًا فعليًا أو مجديًا، أو إيجابيًا، في الواقع.

بمعنى آخر، فإن الكثير من الجامعات العربية، تعطي الأولوية للتأثير «الاستعراضي»، بدلًا من تركيزها أو اهتمامها على نحو أكبر بالتأثير الحقيقي والفعلي، الذي يحدث تغييرًا نهضويًا وتنمويًا في مجتمعاتنا العربية. فليس كافيًا أن تحصل الجامعات العربية على مراتب عليا ضمن تصنيف الجامعات العالمية والإقليمية، وإنما الأهم كيف يمكن أن تكون عاملًا فعالًا ومؤثرًا، على المستوى العالمي أو العربي أو المحلي، في إحداث النهضة والعمران.

ب التركيز على «الفكر الورقي» في الإنتاج العلمي العربي

المقصود هنا وجود اهتمام كبير بإنتاج الأبحاث والدراسات المنشورة في المجلات العلمية العربية المُحكّمة، لكن من دون الأخذ في الحسبان مدى ما تحدثه هذه الأبحاث من تأثير/ أثر في مجالها، أو في المجتمع العلمي، أو لدى الباحثين العرب. على سبيل المثال: تظهر بيانات تقرير قاعدة بيانات معامل التأثير «أرسيف»، الصادر في عام 2023، أن عدد المؤلفين، الذين تم حصر ومراجعة استشهاداتهم في مقالات منشورة في المجلات العلمية العربية، التي نجحت في أن تكون في هذا التقرير، والبالغ عددها 1155 مجلة، بلغ ما يقارب 272 ألف مؤلِّف أو باحث، بينما كان عدد المؤلفين، المستشهد بمقالاتهم، ما يقارب 65 ألفًا، أي بلغت نسبة الاستشهادات (التأثير) 23.8 بالمئة فقط، وهذا يعني أن أكثر من 76 بالمئة من المؤلفين الناشرين لهذه المقالات، لم يحدثوا استشهادًا أو تأثيرًا لدى المؤلفين الآخرين، بمن فيهم أهل ذات الاختصاص[13]. هذا ما تقصده الدراسة بـ «الفكر الورقي»، أي أن ما يجتهد المؤلفون في إنتاجه ونشره، في المقالات العلمية العربية، تكون الاستفادة منه، في المجال الأكاديمي على الأقل، ضئيلة أو محدودة. هنا نتحدث عن أبسط مستويات التأثير، وهو الاستشهادات أو الاقتباسات من الإنتاج العلمي العربي، فما بال الوضع لو نظرنا إلى التـأثير أو الأثر الذي يحدث تغييرًا حضاريًا، فكريًا أو تنمويًا، في المجتمعات العربية؟

تعدّ محدودية التأثير «الاقتباسي»/«الفكر الورقي»، نتاج عدة عوامل، منها: عدم الاهتمام أو ضعف العمل على تداول المعرفة ونشرها من جانب الباحثين والجامعات ومؤسسات العلم والمعرفة، والتركيز على استخدامها للترقيات العلمية فقط، أو اهتمام الجامعات ـ في الغالب – بتحسين «حجم أو كمية الإنتاج»؛ لارتباطه بمظاهر «القوة الاستعراضية»، التي أشرنا إليها سابقًا.

من المهم جدًا التركيز على إنتاج ونشر «العلم النافع»، وهذا هو جوهر مضمون التأثير، وهو الذي حثنا عليه الرسول الكريم، حيث تعوَّذَ «من علم لا ينفع»[14]. خلاصة الأمر: إن وجود الإشكاليات الثلاث يستدعي معالجة شاملة، منها: بناء مؤشرات عربية تعبر عن حجم الاستفادة من الإنتاج العلمي، وتراعي الاعتبارات الثقافية والموارد، وتدعم الأولويات البحثية الوطنية والعربية، وتجعله مرئيًا ومؤثرًا.

في المقابل، فإن إدراك خطورة وأهمية معالجة هذه الإشكاليات؛ دفعت إلى إطلاق بعض المبادرات والجهود العلمية العربية الرائدة لمعالجة هذه الإشكاليات، منها: تأسيس معامل التأثير «أرسيف» للمجلات العلمية أو البحثية العربية، وبما يتوافق مع المعايير العالمية المماثلة؛ ومرصد «معرفة» لقياس الإنتاج العلمي العربي.

وكلتا المبادرتين ومؤشراتهما ترتكز على رؤية ثقافية حضارية عربية، وتشكل جزءًا من الاستقلال المعرفي والعلمي للوطن العربي.

ثالثًا: واقع واتجاهات الإنتاج والنشر العلمي في المجلات العلمية العربية[15]

استكمالًا لبيان صورة المشهد العلمي العربي في ضوء علاقته بالآخر؛ سنتناول هنا دراسة واقع الإنتاج العلمي العربي واتجاهاته، من خلال تحليل بيانات كمية تتعلق به في المجلات العلمية العربية، التي يوفرها مرصد «معرفة» لقياس الإنتاج العلمي العربي، حيث يظهر تحليل هذه البيانات واقع الإنتاج العلمي العربي واتجاهاته، من خلال مجموعة من المؤشرات، منها:

1 – الإنتاج العلمي في المجلات العلمية العربية
ومؤشر التوزيع اللغوي (لغة النشر)

يبلغ إجمالي حجم الإنتاج العلمي العربي، من المجلات العلمية والبحثية الصادرة في الوطن العربي، 4612 مجلة أو دورية، كما تشير إليه بيانات مرصد «معرفة» في نهاية عام 2022. ويبلغ إجمالي حجم الإنتاج العلمي، المنشور باللغة العربية، في هذه المجلات العلمية والبحثية، نسبة 73 بالمئة منها، أي بعدد 3361 مجلة أو دورية. بينما يبلغ حجم إجمالي الإنتاج (المجلات) العلمي العربي، المنشور باللغات الأجنبية (اللغة الإنكليزية والفرنسية بوجه خاص)، نسبة 27 بالمئة من إجمالي هذا الإنتاج، وبعدد 1245 مجلة. وبالتالي، فإن حجم الإنتاج العلمي، المنشور باللغة العربية «غير المرئي»، للجامعات والهيئات البحثية والعلمية، الذي لم يقسه الآخر، يمثل نسبة ضخمة (73 بالمئة)، وهي الأغلبية الساحقة للإنتاج العلمي في المجلات أو الدوريات الصادرة في الوطن العربي.

2 – مؤشر التوزيع الموضوعي (التخصصات) مع التوزيع اللغوي

يظهر هذا المؤشر أن إجمالي الإنتاج العلمي، المنشور في المجلات العلمية والبحثية، الصادر في الوطن العربي، بمختلف اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، وفق بيانات نهاية العام 2022، يمثل نسبة 66 بالمئة، بينما يمثل في مجالات العلوم الطبية والهندسية وتكنولوجيا المعلومات، نسبة 34 بالمئة من إجمالي هذا الإنتاج العلمي.

وعند دراسة التوزيع اللُّغوي مع طبيعة الحقول الموضوعية (التخصصات)، تظهر النتائج أن 83 بالمئة من الإنتاج العلمي، يتركز في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية، ويمثل المنشور منه باللغة العربية نسبة 66 بالمئة، في حين أن البقية منه، وبنسبة تقارب 17 بالمئة، تصدر باللغات الأجنبية.

في المقابل، فإن نسبة 84 بالمئة من إجمالي الإنتاج العلمي الصادر باللغات الأجنبية (الذي مقداره 34 بالمئة)، هو في مجالات العلوم الطبية والصحية، والعلوم الطبيعية، والعلوم الهندسية، وتكنولوجيا المعلومات، وأن نسبة تقارب 16 بالمئة منها تصدر باللغة العربية.

3 – مؤشر إجمالي عدد الدوريات العلمية العربية مع إجمالي
عدد السكان على المستوى العربي

يُظهر هذا المؤشر أن عدد المجلات العلمية، لكل مليون نسمة في الوطن العربي، كان في عام 2020 يساوي 10,3 دورية. بينما تراجع العدد إلى 9,92 دورية في نهاية عام 2022 (انظر الجدول رقم (2)).

الجدول الرقم (2)
إجمالي عدد الدوريات العلمية العربية مع إجمالي عدد السكان

عدد الدوريات لكل مليون نسمةعدد السكان عام 2022

(بيانات عام 2021)

عدد الدورياتالدولة
9.92464.7    مليون4612الوطن العربي

المصدر: بيانات عدد السكان في تقرير البنك الدولي 2022 على الرابط التالي:  <http://data.albankaldawli.org/region/ARB>  وبيانات الدوريات في مرصد «معرفة» لقياس الإنتاج العلمي العربي لعام 2022.

4 – مؤشر العلاقة بين براءات الاختراع والإنتاج العلمي العربي

من أبرز أوجه التعريف ببراءات الاختراع هو النشر العلمي في المجلات الأكاديمية والعلمية. كما أن نشر براءات الاختراع في هذه المجلات العلمية، يعكس مستوى جودة المقالات العلمية المنشورة فيها.

وعند النظر إلى عدد طلبات براءات الاختراع (Patent Application)، التي تقدمت بها البلدان العربية، وفق بيانات المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، في تقريرها عام 2022، يظهر أن هناك عشر دول عربية لم تتقدم بأي طلب تسجيل براءة اختراع، ونجد إجمالي عدد طلبات براءات الاختراع، التي تقدمت بها بقية البلدان العربية، وعددها (12 دولة)، بلغ (14.754) طلبًا، وطلب البراءة لا يعني بالضرورة النجاح في تسجيل براءة الاختراع، ولكنه مؤشر على جهد علمي في هذا الاتجاه (انظر الجدول الرقم (3)).

الجدول الرقم (3)
معدل طلبات براءات الاختراع على المستوى العربي

عدد طلبات براءات الاختراع لكل مليون نسمةإجمالي عدد طلبات براءات الاختراع على المستوى العربي للعام 2022 (**) (بيانات عام 2021)إجمالي عدد السكان في العالم العربي للعام 2022(*)

(بيانات عام 2020)

32.314.754456.5 مليون

المصدر: (*) تقرير البنك الدولي 2022 على الرابط التالي: <http://data.albankaldawli.org/region/ARB>.

(**)  WIPO Report 2022: World Intellectual Property Indicators 2022 (Geneva: WIPO, 2022), pp. 46-51.

نلاحظ من خلال بيانات الجدول أعلاه أن متوسط عدد طلبات تسجيل براءات الاختراع، لكل مليون نسمة، في الوطن العربي، يبلغ 32.3 طلب براءة اختراع، وعند مقارنة هذه النسبة بالنسبة العالمية، التي أنتجها الباحث، يظهر الجدول الرقم (4)، أن عدد طلبات براءات الاختراع، لكل مليون نسمة، عالميًا، تبلغ 432.02 طلب براءة اختراع.

الجدول الرقم (4)
معدل طلبات براءات الاختراع على مستوى العالم

معدل عدد طلبات براءات الاختراع لكل مليون نسمةإجمالي عدد طلبات براءات الاختراع على مستوى العالم عام 2021(**)إجمالي عدد السكان في العالم

(بيانات عام 2021)(*)

 

432.023,4,000 مليون7,87,000,000 مليون

 المصدر:  (*) تقرير البنك الدولي 2022 على الرابط التالي: <http://data.albankaldawli.org/region/ARB>.

(**)  WIPO Report 2022: World Intellectual Property Indicators 2022 (Geneva: WIPO, 2022), pp. 46-51.

خاتمة

بالرغم من الاتجاه العام عربيًا نحو اعتماد قياس الإنتاج العربي وأثره من جانب مؤشرات الآخر (الغربي)، وما لذلك من تأثير وتداعيات خطيرة حضاريًا ووجوديًا، وعلميًا ومعرفيًا، في النهضة العلمية للوطن العربي، فإن المجتمع العلمي العربي في المقابل بدأ يدرك حجم هذه المخاطر والتداعيات؛ وهو ما دفع إلى ظهور مبادرات ومؤشرات قياس علمية عربية، توفر بيانات ذات موثوقية، وتدفع باتجاه إعادة الاعتبار للإنتاج العلمي، وصناعة المشهد العلمي العربي، بما يراعي الاعتبارات الثقافية والتنموية والموارد، ومن دون الإخلال بالمعايير العلمية الرصينة.

من جانب آخر، وفي ضوء معطيات هذه الدراسة، تظهر الحاجة إلى بناء منهجية جديدة، تدفع نحو إحداث تغيير جوهري، في منظور الجامعات العربية بوجه خاص، تجاه الإنتاج العلمي المنشور باللغة العربية، يعتمد على الثقة بالذات، ويتجاوز إشكالية أو عقدة «عدم الثقة بقدراتنا الذاتية إلا إذا صادق عليها الآخر (الغربي)».

ومن الممارسات الضرورية لإحداث هذا التغيير ضرورة تعامل الجامعات العربية مع الأسئلة والخطوات الآتية:

– ممارسة الجامعات العربية جهودًا فعلية تجاه مؤسسات التصنيف العالمية، مثل: THE وQS لدفعها إلى اعتماد قياس إنتاجها العلمي المنشور باللغة العربية، وذلك من خلال ما يتم توافره من بيانات ومؤشرات علمية عربية موثوقة، مثل: معامل التأثير «أرسيف» (Arcif)  العربي  وبالتالي إنصاف هذه الجامعات، وتحسين مكانتها عالميًا.

– هل يمكن أن تتحمل الجامعات العربية مسؤوليتها العلمية والأخلاقية، بتوفير حلول لمشكلة النشر العلمي باللغة العربية، ومن ثم إنصاف أساتذة الجامعات، وبوجه خاص في تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية، بتقديم حلٍّ يضمن اعتماد إنتاجهم العلمي المنشور باللغة العربية للترقيات، أسوة باعتماد الإنتاج المنشور في المجلات الغربية المصنفة في معامل Scopus وغيره، وذلك باعتماد نتائج معاملات التأثير العربية البديلة، مثل: معامل التأثير «أرسيف» للمجلات العلمية العربية.

أخيرًا، توجد حاجة ملحة إلى اعتماد الجامعات العربية مقاربة أو منهجية (Approach)، تعتمد أساسًا على تقييم الإنتاج العلمي العربي الذي ينتجه أعضاؤها، وفق حجم ونوعية التأثير/الأثر الفعلي، بحيث تعطى القيمة العليا لما يحدثه الإنتاج العلمي (أبحاثهم) من تطور وتغيير إيجابي في منظومة حياتنا الفكرية والحضارية، ونهضتنا العلمية والتكنولوجية، وحلول مشكلاتنا التنموية، وبما يراعي أولوياتنا البحثية، وبخاصة على المستوى المحلي – الوطني – العربي، وبوجه مماثل - على الأقل – لما تعطيه من قيمة لنشره في أوعية النشر التي تعتمدها مؤشرات الآخر (الغربي).

كتب ذات صلة:

مساهمة العرب في تطوّر المعرفة العلمية: أعمال رشدي راشد في الرياضيات مرجعاً

بنية العقل العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية