مقدّمة

يُعَدُّ مفهوم «السلام» من أكثر المفاهيم تداولًا على المستويين الدّوليّ والإقليميّ، فقد شكّل عمدة خطاب السّياسيّين وعلماء الاجتماع والمنظّرين الاستراتيجّيين، واحتفى به الفلاسفة في دراستهم مفهومَي الاختلاف والتّنوّع في إطار حقل دلالي أكثر اتّساعًا وشمولًا لتتفرّع من مفاهيم أخرى من قبيل الاعتراف بالآخر والهويّة والغيريّة والتّعاون والتّكامل. وهي مفاهيم تجمع على أهمّية السلام في المباحث الإنسانيّة رديفًا للأمن والاستقرار والرّخاء والطّمأنينة. ولكنّ تعدّد الحقول الدّلاليّة للسلام، وتوزّع مجالاته المعرفيّة، جعله مفهومًا إشكاليّا بالأساس في غاية من التّعقيد.

وعلى الرّغم من الإقرار بصعوبة تعريف السلام، فإنّ الإشكال لا يتوقّف على هذا الحدّ، وإنّما مداره قدرة هذا المفهوم على إعادة ترتيب العالم وفق جغرافيّة معيّنة للفكر والسّياسة معًا. ومن ثمّ، كان للسلام دور مركزيّ في بنائيّة العالم المعاصر، وتشكيل فضائه الجيوسياسي وفق مقتربات[1] متنوّعة. فهو مفهوم صائغ للعالم ولعلاقة المركز بالأطراف، وموجّه لسياسات الدّول الكبرى المتحكّمة في إدارة الشّأنين العالميّ والإقليميّ. ومع انهيار التّوازن العالمي، وانحسار القوّة السّوفياتيّة، تزايد الاهتمام بمفهوم السلام من جرّاء افتقاد الولايات المتّحدة الأمريكيّة المنافس الجدّي على السّاحة العالميّة، وهو ما جعل مفهومَي الحرب والصّراع فاقدين لإشعاعهما الكونيّ. ومن استتباعات ذلك أن أصبح السلام جزءًا من استراتيجيّات الدّول الكبرى إقليميّا ودوليّا، فتواترت المؤتمرات الدّاعية إليه، وتعدّدت الاتّفاقيّات التي أُبرمت في شأنه، وتنوّعت المفاوضات التي أُديرت حوله منذ مؤتمر كامب دايفيد سنة 1978 إلى حدود اللّحظة الرّاهنة.

ونظرًا إلى أهمّية مفهوم السلام وقدرته على ترتيب الخرائط الجديدة في المنطقة العربيّة من جهة، وارتباطه بالصّراع العربي- الإسرائيلي من جهة أخرى، بدا البحث في مكوّنات السلام الإسرائيلي واستراتيجيّاته ضروريّا متى أدركنا أنّه يحول دون نهضة المنطقة العربيّة وتقدّمها. ومن هذا المنطلق لن يكون بحثنا في «السلام» الإسرائيليّ متوقّفًا على إبراز موضوعاته ومقترباته، وإنّما هو تعرّف إلى العقل الإسرائيلي وتطلّعه إلى صوغ نظام إقليمي عربي جديد قائم على الهيمنة والتّبعيّة. وما على العقل العربيّ متى أراد كسب معركة السلام إلّا إعادة النّظر في مقدّماته الرئيسيّة، وفروضه النّظريّة، وإجراءاته العمليّة، بعدما تخلّت الإدارات الأمريكيّة المتعاقبة عن دور الرّاعي الموثوق به في إدارة المفاوضات.

على هذا الأساس، سينطلق البحث في «السلام» الإسرائيليّ من إشكاليات مركزيّة مفادها كيف نظر العقل الإسرائيلي إلى موضوعات السلام؟ وهل كان منسجمًا في مقترباته أم هي متعدّدة متباينة؟ وإذا كان السلام الإسرائيلي معقودًا على مقتربات بصيغة الجمع فما الجامع والمختلف بينها؟ في هذا السّياق سَنُعْنَى بالبحث في هذه الإشكاليّات، ونلتزم منهجًا يتداخل فيه التّاريخيّ بالسّياسيّ والثّقافيّ نظرًا إلى طبيعة مفهوم السلام وشموليّته، فننظر أوّلًا في العقل الإسرائيلي وبنائيّة السلام انطلاقًا من المتغيّرات الدّوليّة والإقليميّة في الشّرق الأوسط، ثمّ نتطرّق إلى مقترباته.

أولًا: العقل الإسرائيلي وبنائيّة «السلام»:
قراءة في الموضوعات والمتغيّرات الدوليّة والإقليميّة

أفرزت التّحوّلات العالميّة والإقليميّة الكبرى جدلًا فكريًّا واسعًا حول طبائع المراحل المترتّبة عنها واستحقاقاتها الجيوسياسيّة، ذلك بأنّ الآليّات التي تدار بها كلّ مرحلة تاريخيّة مختلفة عن غيرها لعدم قدرتها على مواكبة تطوّر الأنساق التّاريخيّة وما يُستجدّ من أحداث مؤثّرة في سيرورة العالم. وإذا كان كلّ إرباك في مسار الأحداث التّاريخيّة الكبرى يقتضي تحوّلًا موازيًا في الفكر السّياسيّ ونظريّاته، فلا بدّ أن تكون أولويّاته موصولة بالبحث في الأدوات الكفيلة بحلّ القضايا الكبرى والصّراعات القائمة دفعًا إلى الاستقرار.

كان للتّحوّلات العالميّة أسبابها، منها ما هو مرتبط بأحوال الأمم في انقضاء بعضها وظهور أخرى في حراك تاريخيّ لا يتوقّف، وهذا شأن العالم منذ انهيار الاتّحاد السّوفياتي. فالصّراع بين التأقطب الثّنائيّ خلق نوعًا من الاستقرار، وإن كان مشفوعًا بالخوف والرّعب، وواقعًا تحت مسمّيات متعددة منها سلام التّوازن (Peace of Balance) وسلام الرّعب النّووي المتوازن (Peace of Balanced Neclear Terror). ومهما اختلفت التّسميات، فليس بمقدور هذا التّوازن أن يستمرّ إلى الأبد نتيجة علاقة الصّراع التي حكمت الطرفين، والتي من شأنها أن تفرز منتصرًا في النّهاية يخلّ بالتّوازن العالمي ومقوّمات السلام.

من هذا المنطلق، كانت ولادة مفاوضات «السلام» في الشّرق الأوسط سنة 1978 البداية الفعليّة لانهيار التّوازن العالمي. وأفضى التّخلّي السّوفياتي عن نفوذه في المنطقة العربيّة إلى عصر جديد من السلام حاملًا فروضه الأساسيّة وآليّاته الجديدة في إدارة الصّراع العربي-الإسرائيلي مراعيًا في ذلك أهمّية المنطقة الاستراتيجيّة وثرواتها الباطنيّة. ولئن لم تألف المنطقة من قبل النّزوع الانفرادي بالقوّة وهيمنة القطب الواحد، فإنّ متناقضات جمّة بين سياسات دول المنطقة أنهت مسيرة سنوات من العمل الوحدوي، ورسمت التّوجّهات القطريّة في معالجة الصّراع العربي- الإسرائيلي بعيدًا من كلّ متطلّبات العمل المشترك. فكانت معاهدات السلام – ابتداءً من كامب دايفيد – مراعية لهذا التّوزّع الجديد للقوّة، وانهيار الموقف العربي الموحّد من القضيّة الفلسطينيّة لتلقي بتداعياتها على مسار السلام في ظلّ الانحياز الأمريكي لإسرائيل، وتجاهل شروط السلام العادل.

1 – كامب دايفيد: سلام الحدود

يدرك المتأمّل في وثيقتَي السلام، معاهدة كامب دايفيد سنة 1978 [2] والمعاهدة المصريّة- الإسرائيليّة سنة 1979 [3] أبعادهما الحقيقيّة ومضامين خطابهما. وإذا كان إقرار أغلب الباحثين بأنّ نهجًا من التّعامل الفردي – القطري في معالجة الصّراع العربي – الإسرائيلي وأسبابه سيسود، فإنّ  تحليل مضامين السلام الكبرى توزّعت على قضايا التّطبيع (Normalization) ومسائل التّعاون الإقليمي (Regional Cooperation) والانفتاح على إسرائيل. وعلى الرّغم من أنّ وثيقتي السلام لم تغفلا البحث في آليّات التّعاون ومجالاته تمهيدًا لعصر جديد ينهي كلّ أشكال العداء والكراهيّة، فالمضمون الأبرز، وهو سلام الحدود (Peace of Borders)، كان العنوان الرّئيس لبنود الاتّفاق. وما المنطلق الأساسيّ للوثيقتين سوى البحث في مسألة ترسيم الحدود وتحديد خطوط الحرب والسلام. فهل كان ذلك من مقتضيات المرحلة التّاريخيّة والتّحوّلات الطّارئة على المنطقة، أم يعود إلى قدرة العقل الإسرائيليّ على صوغ استراتيجيّات السلام  (Peace Strategies) في رؤية شاملة متناغمة مع منطلقاته الأساسيّة وأهدافه المتاحة من جهة، ومراعية طبيعة التّحوّل التّدريجيّ في موازين القوى العالميّة والإقليميّة من جهة أخرى؟

لقد تركّزت جهود السلام في كامب دايفيد على «احترام السّيادة والوحدة الإقليميّة والاستقلال السّياسيّ لكلّ دولة في المنطقة وحقّها في العيش في سلام داخل حدود آمنة معترف بها، غير معرّضة لتهديدات أو أعمال عنف»[4]. وتطرّقت الوثيقة إلى أهداف التّفاوض من خلال ضبط «موضع الحدود وطبيعة التّرتيبات الأمنيّة»[5]، وإعادة النّظر في الإجراءات المتعلّقة بالضفّة الغربيّة وقطاع غزّة ضماناً لأمن الحدود معلنة ضرورة «اتّخاذ كلّ التّدابير لضمان أمن إسرائيل»[6]. وأمّا المسائل المتّصلة بالتّعاون، فموضعها ثانويّ لأنّها ستكون نتيجة حتميّة متى تمّ الاعتراف بإسرائيل وحدودها الجغرافيّة في المنطقة، وتعزّزت المواقف العربيّة الدّاعية إلى ضرورة الحفاظ على أمنها وجعلها في منعة من كلّ هجوم أو عمل عدوانيّ، وهو ما أشارت إليه الوثيقة بـ«أنّ السلام يتعزّز بعلاقة التّعاون بين الدّول التي تتمتّع بعلاقات طبيعيّة […] وبالموافقة على ترتيبات أمن خاصّة مثل مناطق منزوعة السّلاح ومناطق ذات تسليح محدود»[7].

وعلى الرّغم ممّا أبدته وثيقة سلام كامب دايفيد من حرص على الأمن الإسرائيلي في اعتراف صريح بسيادتها الإقليميّة، فإنّها تجاهلت في المقابل مسألة السّيادة في المناطق المحتلّة وموضوع القدس ومكانتها في الوجدان العربيّ والإسلاميّ؛ فتغافلت عن مسألة بناء المستوطنات والرّابط الجغرافي بين الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، لتؤكّد إبقاء الجيش الإسرائيلي في المناطق المحتلّة، واستثناء فلسطينييّ الخارج من أيّ حقوق. وما من شكّ في أنّ ما تطرّقت إليه وثيقة كامب دايفيد من أحقّية الوجود الإسرائيلي الآمن مقابل تجريد الشّعب الفلسطينيّ من أرضه التّاريخيّة يعدّ انتصارًا للعقل الإسرائيليّ المفاوض في ظلّ انحسار العقل العربي ووهنه.

والمتمعّن في وثائق اتّفاقيّة السلام المصريّة – الإسرائيليّة سنة 1979 يدرك قدرة العقل الإسرائيلي على صوغ استراتيجيّة للسلام ملائمة لأهدافه في هذه المرحلة التّاريخيّة بالذّات. فالمفاوضات بين أطراف الصّراع في المنطقة ما تزال في بداياتها، والقبول العربي بإسرائيل شريكًا في عمليّة السلام ما يزال متأرجحًا بين الرّفض والقبول، والاعتراف بوجودها طرفًا إقليميًّا يحتاج إلى ترسيم الحدود الجغرافيّة أوّلًا قبل الشّروع في التمدّد والتوسّع. وهكذا تضمّنت بنود الاتفاقية بين مصر وإسرائيل موضوعات الحدود، أمّا موضوع التّعاون الإقليمي بينهما فسيكون عرضيًّا تمهيدًا لاتّفاقيّات لاحقة. في هذا الإطار تركّزت جهود السلام في الموادّ الأولى من الوثيقة على مسألة ترسيم الحدود استكمالًا لما انتهت إليه وثيقة كامب دايفيد. فلم تبرح المادّة الأولى سياق «سحب إسرائيل كافّة قوّاتها المسلّحة من سيناء إلى ما وراء الحدود الدوليّة»[8]، في حين تكفّلت المادّة الثّانية  برسم الحدود الدّائمة  بين  مصر وفلسطين المعترف بها في عهد الانتداب[9] من دون المساس بوضع قطاع غزّة مبقية على حالتَي الاعتداء والاحتلال. وأُقِرَّ في المادتين الثّالثة[10] والرّابعة[11] ضرورة التزام كلّ طرف باحترام حقّ الآخر في أن يعيش بسلام داخل حدوده الآمنة لتقام لاحقًا ترتيبات أمنيّةً متّفقًا عليها بما في ذلك المناطق محدودة التّسليح.

وتبرز قدرة العقل الإسرائيليّ على صوغ استراتيجيّة للسلام تتمشى مع المرحلة التّاريخيّة في أواخر السّبعينيات ما عنونت به الملاحق تفصيلًا لبنود الاتّفاق والتّرتيبات المزمع اتّخاذها، إذ كانت متناغمة مع الاستحقاقات الأمنيّة الإسرائيليّة. فورد الملحق الأوّل[12] شرحًا للانسحاب الإسرائيلي من سيناء وشرم الشّيخ من خلال التّطرّق إلى أسس الانسحاب[13] وتحديد خطوطه النّهائيّة والحدّ من وجود القوّات المصريّة فيهما[14]. وصيغت الموادّ المتعلّقة بهما في صورة تفاهمات تنهض على مبادئ الانسحاب ومراحله وتعريف المنطقة العازلة. واللافت أنّ انتظام الموادّ المطروحة للاتّفاق في الوثيقة واحتفاءها بمسألة الحدود الجغرافيّة، ثمّ الاهتمام بالعلاقات الدّبلوماسيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة لاحقًا، ورد في تدرّج شبيه بوثيقة كامب دايفيد، وهو ما يكشف عمق الوعي الإسرائيليّ بأولويّاته في كلّ عمليّة سلميّة. فمرحلة رسم الحدود وثتبيت الوجود هما الأبرز والأهمّ لانفتاح عصر السلام، أمّا ما عداهما من مجالات التّعاون الأخرى فسيكون موضوع اتّفاقيّات لاحقة في ظلّ الاهتمام الأمريكيّ المتزايد بالمنطقة، والهيمنة على إدارة الشّأن الشّرق الأوسطي. وسيتعزّز ذلك من خلال نفوذ اللوبي الصّهيوني في الإدارة الأمريكيّة، وتوفيره الدّعم العسكري والمادّي لإسرائيل بوصفها أفضل حليف استراتيجيّ لها في المنطقة، وهو ما سيفضي إلى تفعيل الموضوعات الثانويّة للسلام في كامب دايفيد من قبيل التّعاون والتّكامل والاندماج لتصبح متصدّرة وثائق مؤتمر مدريد سنة 1991 [15].

2 – مؤتمر مدريد وانفتاح عهد جديد من السلام الإقليميّ

عقد مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991 بعد انتهاء حرب الخليج الثّانية، وقد بدا الوضع في المنطقة العربيّة أكثر هشاشة من  جرّاء اختلاف وجهات نظر الأفرقاء السّياسييّن في شأن التّدخّل العسكريّ الخارجيّ لحسم الخلافات الإقليميّة، والتّقارب الإسرائيلي- الأمريكي إزاء قضايا الحرب والسلام[16]؛ ففي ظلّ تصاعد القوّة الأمريكيّة ومساندتها المطلقة للسّياسات الإسرائيليّة وانحسار القوّة العراقيّة، عُقد مؤتمر مدريد للسلام، وأنبأ منذ بداياته بدعم أمريكي مطلق للسّياسات الإسرائيليّة وتطلّعاتها إلى الهيمنة تحت اعتبارات أمنيّة واقتصاديّة[17]. ولم تكن مباركة الرّاعي الأمريكيّ لمفاوضات السلام بمدريد وتفرّعها إلى ثنائيّة ومتعدّدة سوى استجابة لرغبة الحليف الإسرائيليّ في تجاهل القضايا الأساسيّة للسلام من قبيل اللاجئين والقدس والاستيطان، وتأجيلها إلى حين الانتهاء من عقد سلام إقليميّ.

والرّاجح في تقديرنا أنّ مسارات التّفاوض وبنوده وطرائق معالجة قضايا الصّراع في المنطقة جزء من المقاربة الأمنيّة الإسرائيليّة الشّاملة، التي تركّزت الجهود فيها على إقامة عهد من «السلام» ينهي سنوات طويلة من الحرب من دون الاعتراف بحقّ الشّعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره. ومن ثمّ، تخطّى السلام في مؤتمر مدريد موضوعات كامب دايفيد والاتّفاقيّة المصريّة – الإسرائيليّة، فلم يعد مقتصرًا على رسم الحدود الجغرافيّة والخطوط الاستعماريّة، منشغلًا بالأمن الإسرائيلي في بعده الضيّق ليرسي تقليدًا جديدًا من التّعاون الإقليمي مع كلّ من سورية ولبنان والأردن بحثًا في عوائق السلام برؤية إسرائيليّة خالصة. لم تكن هذه المقاربة الجديدة للسلام بمدريد في معالجة الأزمات الإقليميّة والبحث في سبل الاستقرار في منطقة الشّرق الأوسط منفصلة عن التّطوّر الحاصل في نظريّة الأمن القومي الإسرائيليّ، فالمقاربات الأمنيّة تتطوّر بظهور التّهديدات الجديدة والتّحوّلات العميقة في موازين القوى، وهو ما جعل موضوعات السلام في التّسعينيات مختلفة عمّا ألفته في أواخر السّبعينيات. وإزاء وفرة التّكنولوجيا العسكريّة والصّواريخ العراقيّة المنهالة على تلّ أبيب سنة 1991 أعاد العقل الإسرائيلي ترتيب مقدّماته، وأهمّها تعزيز سبل التّعاون تمهيدًا لسلام إقليميّ شامل[18] يستجيب كلّيًا لأولويّاتها في إنهاء الحرب وتأمين الحدود على الواجهة المصريّة، وإقامة سلام إقليميّ دعامته التّعاون والاعتماد المتبادل.

وفي قراءة شاملة لبنية التّحوّلات في السّياسة الأمريكيّة بفوز الديمقراطيّين ووصول بيل كلينتون إلى منصب الرّئاسة خلفًا لبوش الأب، والتغيّر في السّياسة الإسرائيليّة الدّاخلية بفوز حزب العمل في إسرائيل عوضًا من حزب الليكود، يمكن القول إنّ نموذجًا جديدًا من السلام الإقليمي قيد التّشكّل. فبين أطروحات الدّيمقراطيّين في السّياسة الخارجيّة الأمريكيّة والتّوجّهات السّياسيّة لحزب العمل الإسرائيلي وجوه اتّفاق استنادًا إلى اللّيبراليّة السّياسيّة (Poltical Liberalism) مرجعًا في إدارةّ الأزمات الإقليميّة والعالميّة.

ومتى أدركنا أنّ استراتيجيّات «السلام» ليست منعزلة عن السّياسات الخارجيّة للقوى العظمى والتّحالفات الاستراتيجيّة بين الدّول، فإنّ سبب فشل المفاوضات المتعدّدة الأطراف يعود إلى المرجعيّة السّياسيّة المتوخّاة للإدارتين الأمريكيّة والإسرائيليّة بقيادة بوش الأب وإسحاق شامير، واعتمادهما على أطروحات الواقعيّة السياسيّة (Political Realism) في إدارة الأزمات الإقليميّة في الشّرق الأوسط. لهذا السّبب تعطّلت عمليّة السلام سنة 1992، وانتهت المفاوضات المتعدّدة الأطراف إلى الفشل بسبب الإملاءات الإسرائيليّة وشروطها المجحفة بحقّ الفلسطينيّن ودول الطّوق. ولكنّ التّقارب بين إدارتي كلينتون وإسحاق رابين عزّز أطروحات السلام الإقليمي بناء على تصوّراتها المشتركة لآليّات التّقارب بين العرب وإسرائيل، فكانت المعاهدة الأردنيّة- الإسرائيليّة عنوانًا للتّكامل والتّعاون في المنطقة[19]، وشكّلت المؤتمرات الاقتصاديّة الشّرق الأوسطيّة  في الدّار البيضاء[20] وعمّان[21] والقاهرة[22] والدوحة[23] عمدة السلام الاقتصادي.

جملة القول، لقد أرسى «السلام» الإقليمي تقليدًا جديدًا من التّعاون والاعتماد المتبادل بين العرب وإسرائيل، وكان استراتيجيّة مناسبة للتّوجّهات السّياسيّة لحزب العمل والدّيمقراطيّين في معالجة القضايا المعلقة في المنطقة. وغاية ذلك فكّ عزلة إسرائيل اقتصاديًّا حتّى تكون بمنأى من الأخطار التي قد تعصف بوجودها، وتنزيلها موقع القطب الاقتصاديّ والسّياسيّ المهيمن على دول الإقليم في تجاهل لأسس السلام العادل والشّامل. وما من شكّ في أن ذلك يعود إلى قدرة العقل الإسرائيلي على الهيمنة على قرارات البيت الأبيض والمؤسّسات البحثيّة من جهة، وعلى صوغ رؤية للسلام تتمشَّى مع أهدافه والبيئة الإقليميّة المتغيّرة من جهة أخرى. لذلك لم يتوقّف العقل الإسرائيلي عند حدود السلام الإقليمي، بل كان عقلًا منتجًا لأنواع أخرى من السلام، تراعي المراحل التّاريخيّة المتغيّرة حتّى يكون سلامًا متحرّكًا، وهو ما كان محور اتّفاقيّة أوسلو ومضمونها.

3 – أوسلو: الأمن مقابل السلام

طرحت علاقة السلام بالأمن إشكاليّات متعددة، منها ما هو متعلّق بالتّعريفات المختلفة المتباينة، ومنها ما هو موصول بالعلاقة بينهما، ومنها ما هو مرتبط بأولويّة أحدهما على الآخر. وربّما لا يتوقّف الإشكال الرّئيس عند حدود ما ذكرناه سلفًا من اختلاف في مضامين المفهومين، وإنمّا يتعدّى إلى ما ألمّ بوثائق السلام من تحوّل في أولويّاتها. فالمتمعّن فيها يلمح ما تضمنته من انحراف عن مسارها الأوليّ الذي انطلق في كامب دايفيد 1978 بالبحث في قضايا الحدود الآمنة إلى النّظر في إعادة الترتيبات الأمنيّة وصلاحيّات منظّمة التّحرير الفلسطينيّة في أوسلو. وإذا كان من الطّبيعيّ أن تشهد وثائق السلام مسارًا جديدًا نظرًا إلى التّحوّلات في النّظامين العالمي والإقليمي، فجوهر ذلك يعود إلى التّغيّر في مبادئ التّفاوض من «الأرض مقابل السلام» إلى «الأمن مقابل السلام».

على هذا الأساس انشغلت وثائق «سلام» أوسلو بالمسائل الأمنيّة داخل الأراضي الفلسطينيّة أكثر من انشغالها بترتيبات السلام مع دول الجوار؛ فمؤتمرا كامب دايفيد ومدريد حقّقا نوعًا من الاستقرار السّياسيّ الإسرائيلي بعد الاعتراف بوجودها الآمن في المنطقة ودورها الرّيادي في إنماء «السلام» الإقليميّ. وليس من مخطّط استراتيجي قادم سوى انتهاك السّيادة الفلسطينيّة. ففي «وثيقة إعلان المبادئ بشأن ترتيبات الحكم الذّاتي 1993»[24] ما يكشف عن تقاطع بعض الموادّ مع الهاجس الأمني للمشروع الصّهيوني في السّيطرة على القرار السّياديّ الفلسطينيّ وتعزيز الاحتلال. وقد نصّت المادّة العاشرة على أهميّة الدّور الإسرائيلي العسكري في حفظ الأمن ودعم السلام والاستقرار بالقول: «من الواضح أنّ إسرائيل ستظلّ بعد الانسحاب مسؤولة عن الأمن الخارجيّ والدّاخليّ والنّظام العامّ للمستوطنات. ويجوز للقوّات العسكريّة استعمال الطّرق البحريّة في قطاع غزّة ومنطقة أريحا»[25].

وفي الإطار نفسه، لم تنفكّ وثائق «الاتّفاق حول قطاع غزّة ومنطقة أريحا سنة 1994»[26] تؤكد أهميّة الأمن القومي الإسرائيلي وضرورة التّصدّي للتّهديدات الدّاخليّة والخارجيّة من دون الإشارة إلى ما يترتّب عن ذلك من تأبيد الاحتلال. فرأت نقل السّلطة في قطاع غزّة ومنطقة أريحا إلى الفلسطينيّين مقابل انسحاب الحكومة الإسرائيليةّ خطرًا يهدّد وجودها، وما عليها إن أرادت أن تكون في مأمن سوى أن تواصل ممارسة صلاحيّاتها ومسؤوليّاتها في هذه المناطق[27]. وتوضّح الموادّ الثّامنة[28] والثّانية عشرة[29] والثّامنة عشرة[30] الإجراءات المتعلّقة بالأمن والنّظام العام والعلاقات الإسرائيليّة – الفلسطينيّة وضرورة  منع الأعمال التّحريضيّة على أن تتولّى القيادة الفلسطينيّة تعزيز التّفاهم والتّسامح وتكفّ عن الدّعاية المعادية لإسرائيل، وتتّخذ التّدابير اللازمة لمنع الأعمال العدائيّة ضدّ المستوطنات مع إبقاء مسؤوليّة الدّفاع وضبط الأمن للسّلطة الإسرائيليّة.

لا يختلف مضمون الاتّفاق الإسرائيلي – الفلسطينيّ المؤقّت في شأن الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة الموقّع في 28 أيلول/سبتمبر 1995 [31] عن إعلان المبادئ واتّفاق غزّة – أريحا، إذ كان مواصلة لمسار التّفاوض وفق مبدأ «الأمن مقابل السلام». وتركّزت موادّ الوثيقة وبنودها على المسائل الأمنيّة لإعادة توزيع القوّات العسكريّة الإسرائيليّة[32]  والبحث في مسائل الأمن[33]، وتحديد المسؤوليّات التي يمكن أن تضطلع بها الشّرطة الفلسطينيّة[34]، وهي كلّها مسائل تندرج في إطار حفظ الأمن الإسرائيليّ. فليس هناك ما يدين الاحتلال الإسرائيليّ أو يقرّ بالسّيادة الفلسطينيّة واستقلاليّة قرارها السّياسيّ. واللافت للنظر أنّ الإجراءات الأمنيّة المنصوص عليها في الوثيقة لم تخلُ من إدانة لأعمال المقاومة وتحرير الأراضي المحتلّة، فالمادّة الرّابعة عشرة[35] تمنع ظهور أي قوّة مسلّحة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وتعدم أيّ نشاط مقاوم للاحتلال. وفي حال مخالفة ذلك وظهور بعض الفصائل المسلّحة، فما على السّلطة الفلسطينيّة إلّا إبلاغ إسرائيل بذلك حتّى تتكفّل بتفكيكها والحدّ من نشاطها.

لقد كشفت وثائق أوسلو للسلام عن تقاطعها مع المشروع الصّهيوني، وتعاطت مع العمليّة السّلميّة بين إسرائيل وفلسطين من منظور تحقيق الأمن القومي الإسرائيليّ. وفي مقابل ذلك، تجاهلت استمرار مظاهر الاحتلال والقوّة والاستيطان، وأبانت عن أعطاب العقل الفلسطيني المفاوض من أجل السلام العادل والشّامل، وعجزه عن صوغ المشروعات البديلة انطلاقًا من المسائل الجوهريّة المتعلّقة بالأرض وتقرير المصير واللاجئين والقدس. ومن ثمّة، كانت أوسلو انعكاسًا للخطاب الأمني الإسرائيلي ومتطلّباته بدلًا من أن تكون وثيقة سلام[36].

4 – «السلام» مقابل الحرب على الإرهاب:
من خارطة الطريق إلى أنابوليس

تزامنت خارطة الطّريق[37] مع ظهور تحوّلات عميقة على المستويين العالميّ والإقليميّ، ورافقها خطاب سياسيّ جديد شكّلت أسسه أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001. فمع صعود تيّار المحافظين الجدد في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وهيمنة حزب الليكود في إسرائيل، برز خطاب سياسيّ أصولي متشدّد داعم للصهيونيّة والغطرسة العالميّة. وعلى الرّغم من التّبريرات الأمريكيّة لهيمنة الخطاب الأمني وسياسات القوّة الصّلبة في الشّرق الأوسط ردًّا على القاعدة والهجمات الإرهابيّة، فإنّ مؤتمرات «السلام» في المنطقة تأثّرت بتوّجهات الإدارة الأمريكيّة في بسط سلطانها على العالم، وبمقاربات اليمين الإسرائيلي في مواجهة الإرهاب اقتداءً بحليفها الاستراتيجيّ. من هذا المنطلق، أظهرت خارطة الطّريق أهميّة البعد الأمني في تحقيق السلام الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، لا كما عهدته وثائق أوسلو الرّامية إلى الهيمنة الإسرائيليّة على كلّ التّرتيبات العسكريّة والسّياسيّة والأمنية في المناطق المحتلّة، وإنّما في إنهاء خيار المقاومة المشروعة، وتصنيفها ضمن دوائر الأعمال الإرهابيّة.

والنّاظر في وثيقة خارطة الطّريق يلمح تصاعد الخطاب الأمني مقارنة بأوسلو، وقد توزّعت على مراحل ثلاث، انتمت أغلب مفرداتها إلى حقل دلالي موصول بالعنف والإرهاب من قبيل «إنهاء الإرهاب والعنف»، ثم «إنهاء العنف والتّحريض» و«إنهاء النّشاط المسلّح» و«توقّف أعمال العنف ضدّ إسرائيل» و«إلقاء القبض على الأفراد والمجموعات التي تقوم بهجمات عنيفة على الإسرائيلييّن». ففي الوثيقة إلزام للسّلطة الفلسطينيّة كي تتعهّد بوقف أعمالها «العدوانيّة» ضدّ إسرائيل، والاعتراف بحقّها الطبيعيّ في العيش بسلام في أرضها التّاريخيّة في مقاربة مرجعها السّرديّة التّوراتيّة والصّهيونيّة التي ترى فلسطين أرض إسرائيل الكبرى وأرض الميعاد.

وتؤكّد المرحلة الأولى الموسومة بـ«وقف الإرهاب والعنف» من وثيقة خارطة الطّريق[38] صحّة ادّعائنا في تعمّدها قلب حقائق الصّراع. ففي هذه المرحلة تلتزم السّلطة الفلسطينيّة «بوقف العنف بلا شروط (…) ويجب أن يصحب هذا الإجراء تدابير داعمة تتّخذها إسرائيل»[39]، بهدف إنهاء العنف والتّحريض الفلسطينيّ، وما على السّلطة الفلسطينيّة إلّا أن تصدر «بيانًا لا لبس فيه تكرّر تأكيد حقّ إسرائيل في الوجود في سلام وأمن»[40]. بناءً على ذلك، لم يعد للمقاومة من وجود في وثيقة خارطة الطريق لا لفظًا ولا معنى، وعُدّت إرهابًا برفضها السّياسات الإسرائيليّة، والتّنديد بجرائمها وحملها السّلاح تحريرًا للأراضي المحتلّة. ولم تخلُ المرحلة الثّانية في خارطة الطّريق من الإشارة إلى ضرورة أن تتخلّى السّلطة الفلسطينيّة عن المقاومة ومواصلة الأداء الأمني الفعّال حفظًا لوجود إسرائيل واستقراره»[41]، لتختتم الوثيقة بمرحلة ثالثة تكون بموجبها البلدان العربيّة على استعداد لإقامة علاقات طبيعيّة مع إسرائيل في إطار سلام شامل.

في سياق متّصل بالمقاربة الإسرائيليّة للسلام مقابل الحرب على الإرهاب (إنهاء المقاومة والاستسلام) كشف خطاب أيهود أولمرت في أنابوليس عن تطلّعاته لهذا المؤتمر، مبيّنًا طبيعة المرحلة وما تمليه من تضافر الجهود الدّوليّة في الحرب على الإرهاب. فأشار إلى صلة السلام بوقف المقاومة (الإرهاب الفلسطيني) في قوله: «إنّنا نريد السلام ونطالب بوقف الإرهاب والتّحريض والكراهيّة»[42]. لم يكن خطاب أولمرت مقتصرًا على ما يجب أن يؤول إليه السلام في مرحلة ما بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، بل أشار إلى مراحله الأولى ابتداءً من كامب دايفيد والمعاهدة المصريّة- الإسرائيليّة ليبرز أنّ آليّات سلام الأمس لم تعد قادرة على مواكبة التّحوّلات العالميّة والإقليميّة لإحلال السلام في سنة 2007. والثّابت أنّ مقاربة أولمرت للسلام، وأساسها الحرب على الإرهاب، تنمّ عن وعي عميق بمتطلّبات إسرائيل في كلّ مرحلة تاريخيّة. فالسلام الذي وقّع مع مصر والأردن قاعدة للاستقرار لم يعد يفي بمتطلّبات إسرائيل الأمنيّة في قوله: «إنّنا نتطلّع إلى التّطبيع مع الدّول العربيّة التي تنفر مثلنا من الأصوليّة المتشدّدة والمتطرّفة ونبحث عن الطّرق التي تتيح العيش في عالم أكثر اعتدالًا وتسامحًا وازدهارًا»[43].

وإنّما يعني وقف التّحريض، ودعم الإرهاب […] وتفكيك قياداته»[44]. وأعربت عن أملها في التّوصّل إلى السلام انطلاقًا من مسارات ثلاثة متوازية: الأوّل سياسيّ، منطلقه الحوار الثّنائيّ بين إسرائيل وفلسطين، ومرجعه خارطة الطّريق؛ والثّاني عملي، موصول بالحرب على الإرهاب ومنظّماته في غزّة والضفّة الغربيّة؛ وأمّا الثّالث فإقليميّ، مضمونه دعم الجهات المعتدلة في الشّرق الأوسط وإقرار ثقافة التّطبيع في خطاب موّجه أساسًا إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة لتعديل سياسات دول المنطقة تجاه إسرائيل[45].

بناء على ما ورد في وثيقتي خارطة الطّريق وأنابوليس من مقاربة للسلام مقابل الحرب على الإرهاب، وما تواتر من مواقف إسرائيليّة داعمة لاستراتيجيّة السلام في الشّرق الأوسط وتوقّفها على قدرة منظمة التّحرير الفلسطينيّة على إبطال أعمال المقاومة، نلحظ تطابقًا في الرّؤى بينهما. ولا يمكن أن نرجع هذا التّطابق إلى محض مصادفة، وإنّما إلى التّحالف الاستراتيجي الإسرائيلي- الأمريكي الذي صاغ وثائق السلام وفق منظور الهيمنة. وهكذا بدا للتّحوّل في مقاربات السلام من بعده الإقليميّ إلى بعده العالميّ مبرّراته في نظر الإدارتين الإسرائيليّة والأمريكيّة، فموضوعات السلام من قبيل الحدود الآمنة والتّعاون الإقليمي وغيرهما لم تعد تستجيب لمرحلة أنابوليس وما بعدها. وعلى هذا الأساس، رأت تسيبي ليفني أن «الانسحاب من المناطق [المحتلّة] لن يجلب السلام إذا لم تتمّ معالجة المصادمة الأساسيّة بين القيم التي تحتلّ جوهر الصّراع»[46].

5 – صفقة القرن واكتمال السّرديّة الإسرائيليّة

استكمالًا لمسار السلام المعطّل أثناء حقبة حكم الرّئيس أوباما عملت إدارة ترامب على البحث في حلول للصّراع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ، لكنّها في اعتقادنا لم تكن حلولًا عادلة أو مستندة إلى أدنى شروط الموضوعيّة. فالمتفحّص في الوثيقة[47] يدرك أنّها نصّ أمريكيّ – إسرائيليّ مشترك لا صلة له بمفهوم السلام إطلاقًا، وما بنودها القائمة على اعتبار القدس عاصمة أبديّة لإسرائيل ورفض حقّ اللاجئين الفلسطينيّين في العودة ودعم التّوسّع والاستيطان الإسرائيليّ سوى إلغاء لقضايا الحلّ الدّائم وإبطال للمسار التّفاوضي القائم منذ إعلان المبادئ في أوسلو.

وعلى الرّغم من أنّ وثيقة صفقة القرن لم تكن اتّفاقًا أو معاهدة، بل هي مجرّد مبادرة أمريكيّة، فقد جسّدت منطق القوّة والتّخلّي عن الشّرعيّة الدّوليّة والتّبنيّ المطلق للسّرديّة الإسرائيليّة وغيبيّاتها التّوراتيّة. وانتهت في لغتها الاستعماريّة الوصائيّة إلى تجريد الدّولة الفلسطينيّة المقترحة من كلّ مقوّمات الدّولة تمكينًا لإسرائيل من السّيطرة على القدس وانتصارًا للتّوجّهات اليمينيّة. وهكذا سعت إلى سنّ مرحلة جديدة من المفاوضات أساسها التّطبيع أوّلًا ثم السلام لاحقًا، ومهّدت إلى خلق بيئة شرق أوسطيّة بمقدّمات جديدة مدارها قدسيّة الأمن الإسرائيليّ ومتطلباته وتشكيل تحالف إسرائيليّ - أمريكيّ – عربيّ، وإعادة ترتيب المنطقة لا من خلال ما تعهّدت به الإدارات الأمريكيّة المتعاقبة سابقًا من تجزئة وتفتيت، وإنّما بتثبيت الأنظمة القمعيّة ودعمها إجهاضًا للثّورات العربيّة وتحسّبًا لتداعياتها على الوجود الإسرائيليّ.

استنادًا إلى تطوّر في موضوعات السلام وتطابق بين الرّؤى الأمريكيّة والإسرائيليّة إزاء الحلول المفضية إلى إنهاء الصّراع في الشّرق الأوسط، لم يعد من المفيد البحث في وثائق السلام من دون النّظر إليها بوصفها جزءًا من متطلّبات الأمن القومي الإسرائيليّ، وافتقادها متطلّبات السلام العادل. ولا شكّ في أنّ غياب الموضوعات التي تلامس جوهر القضيّة الفلسطينيّة من جهة، وعمق السلام الذي ينشده الفلسطينيّون والعرب من جهة أخرى، كشف عن قدرة العقل الإسرائيلي على رسم استراتيجيّات السلام وإحلالها على أرض الواقع. وهي في نظرنا استراتيجيّات مرتبطة بالسيّاسات الإسرائيليّة وتأبيد الاحتلال، وموصولة بالتّحوّلات العالميّة والإقليميّة الخادمة لمشروعها الصّهيوني بعد انفراد حليفتها الولايات المتّحدة الأمريكيّة بالقوّة الكافية لإعادة صوغ التّحالفات العالميّة وخرائط الشّرق الأوسط الجديد.

ثانيًا: مقتربات السلام الإسرائيلي

سنهتمّ بالبحث في أنواع السلام الإسرائيلي، وسُبل الاستقرار في المنطقة انطلاقًا من الرّؤى التي سادت الحكومة الإسرائيليّة وقراراتها. وهما رؤيتان مختلفتان، عُرفت الأولى بسلام الرّدع ومرجعها أطروحات حزب الليكود، ووُسمت الثّانية بسلام التّعاون الإقليمي وأساسها أطروحات حزب العمل. وعلى العقل العربي والإسلامي أن يدرك أنّ البحث فيهما ليس ترفًا فكريًّا، وإنما سبيل إلى دراسة البدائل وإيجاد المخارج لأزمة السلام في المنطقة متى أراد أن يعيد ترتيب موضوعاته، ويستشرف آفاقه بعيدًا من هيمنة التّصوّر الإسرائيليّ الأحادي.

1 – سلام الرّدع

تطرّق نتنياهو إلى نوعين من السلام، وهما السلام الانسجامي وسلام الرّدع. وإذا كان مدار السلام الانسجامي أو الدّيمقراطي تطبيع العلاقات بين البلدان العربيّة وإسرائيل، ودمقرطة الأنظمة السّياسيّة في المنطقة، فجوهر سلام الرّدع إلزام البلدان العربيّة بتحقيق الأمن الإسرائيلي ومنعها من التّفكير في شن الحرب. فما الجدوى من تصنيف العقل الإسرائيلي للسلام؟ وكيف بنى حزب الليكود مقارباته انطلاقًا من هذا التّصنيف؟

انطلق العقل الإسرائيلي في تعريفه «السلام» من فرضيّتين مختلفتين، فإمّا الانسجام وإمّا الرّدع، وشرط تحقّق الثّاني إلغاء الأوّل لعدم نجاعته تنظيرًا وممارسة. وفي سياق تأكيد قدرة الرّدع على تحقيق الاستقرار في المنطقة يتساءل نتنياهو عن أيّ الأنواع من السلام يجب أن يسود بالقول: «هل يمكن تحقيق سلام حقيقي في الشّرق الأوسط؟»[48]. وربّما يختزل هذا السّؤال منهج عقل الليكود في بناء مقدّماته التي يستدلّ بها عن العلاقة بين إسرائيل والعرب، وأساسها القوّة استكمالًا لبناء المشروع الصّهيوني القائم على الإقصاء والاستيطان ونفي الآخر. فليس الإشكال في نظر نتنياهو في ما استتبّ في العقل الإسرائيلي من نزوع إلى الهيمنة والاحتلال، وإنّما يعود إلى البيئة العربيّة التي لم تشهد طوال تاريخها نظامًا ديمقراطيًّا يؤمّن السلام ويحافظ على الاستقرار في المنطقة.

ومن أجل تأكيد نتنياهو مزاعمه أنّ لا سلام ممكنًا في الشّرق الأوسط إذا لم يكن رادعًا أساسه القوّة، عمد إلى تشريح الأنظمة السياسيّة العربيّة، فرأى أنّها «تميل إلى العنف والكراهيّة (…) غارقة في الصّراع الدّاخلي المستمرّ حول مسألة شرعيّة حكمها»[49]، فهي مجتمعات منغلقة على نفسها، «تضيق بغير العرب والمسلمين»[50]. وما من شكّ في أنّ هذه المقدّمات التي بنى عليها نتنياهو أحكامه تحتاج إلى مزيد المراجعة والتّقييم، وعودة إلى التّاريخ العربي الإسلامي في قراءة موضوعيّة بمنأى من المنحى الأيديولوجيّ والمقاربات الذّاتية. ولمّا كانت غاية عقل الليكود تأكيد الطّابع الوجودي العفوي الإسرائيليّ في المنطقة، والنّأي بالوجود الإسرائيلي من كونه احتلالًا واستعمارًا رأى من الصّعب تحقيق سلام انسجاميّ في شرق أوسط استبداديّ وعدوانيّ. من هنا كان سؤال نتنياهو «كيف يمكن مجرّد التّفكير في سلام دائم بين العرب أنفسهم، ناهيك بسلام بين العرب واليهود؟»[51] إقرارًا باستحالة تحقيق السلام الانسجامي بين العرب وإسرائيل، وإيمانًا بأنّ لا بديل سوى إقامة سلام الرّدع.

وفي الإطار نفسه، يرى العقل الإسرائيلي استحالة قيام السلام الانسجامي من جرّاء الدكتاتوريّات العربيّة واستخدام العنف والإكراه في الدّاخل والسّعي إلى تصديرها إلى الخارج معالجة للنّزاعات الدوليّة. ومرجعه في ذلك تاريخ الحروب وصلتها بالاستبداد بالقول: «هذا هو السّبب الذي جعل الحروب الكبيرة ومعظم الحروب الصّغيرة التي شهدها القرن العشرون تندلع بمبادرات من حكّام مستبدّين»[52]. ولا شكّ في أنّ هذه الأنظمة الدكتاتوريّة وتمجيدها الحرب ستجعل من الصّعب تحقيق السلام بين العرب وإسرائيل ما لم تشهد المنطقة نظامًا ديمقراطيًّا على غرار ما عرفته إسرائيل. ولكنّه في المقابل، لا يعدم إمكان قيام السلام الانسجامي، وشرطه الأساسيّ النّظام الدّيمقراطي، أسوة بالدّول الغربيّة التي استطاعت التّغلّب على أحقاد الماضي والنّزعة العدوانيّة، فأرست مبدأ التّعاون بينها وتخلّت عن الاستعداد العسكري والتّأهّب للحرب.

إنّ مقاربة الليكود نوعَ السلام الذي ينسجم مع الواقع العربي تنهض على مغالطات في مستوى المقارنات والأمثلة، إذ لم تنشأ بين الدّول الغربيّة قوّة غازية لتفرز استعمارًا استيطانيًّا وتهجيرًا قسريًّا وإبادة جماعيّة. وعلى الرّغم من تفوّق هذه الدّول على العرب في الأخذ في مبادئ الدّيمقراطيّة، فإنّها لم تشهد أيّ منها انتهاكًا لسيادتها وكرامة شعوبها مثلما هي عليه الحال في فلسطين. وأمّا القول بديمقراطيّة إسرائيل، فموضع جدل ومراجعة، متى أدركنا حجم تمسّكها بالنّصوص التّوراتيّة المحرّفة وأساطيرها الدينيّة في مقولات أرض بلا شعب لشعب بلا أرض وظهور شعب اللّه المختار والنّبوءات المبشّرة بأرض إسرائيل الكبرى الممتدّة من النّيل إلى الفرات. ومن ثمّ، فإنّ التّعلّل الإسرائيليّ بمسألة غياب الدّيمقراطيّة في البلدان العربيّة يطرح جملة من الأسئلة، ما هي الدّيمقراطيّة التي يحبّذ العقل الإسرائيلي حضورها في المنطقة؟ وما هي مقاييسها، وكيفيّة اشتغالها؟

تندرج معالجة العقل الإسرائيلي لمسألة الدّيمقراطيّة في المنطقة العربيّة في إطار استراتيجيّة سلام الرّدع، وهي جزء من مشروع صهيونيّ بأكمله، غايته الهيمنة والاختراق. من هذا المنطلق كانت دعوة حزب الليكود إلى توخّي النظم العربيّة مبادئ الديمقراطيّة ودرء الاستبداد محاولةً لا لإيجاد بيئة شرق أوسطيّة أكثر استقرارًا وأمنًا ورخاءً، بل لتبرير ممارسة القوّة، فلا سبيل للسلام إلّا بعسكرة السّياسة الإسرائيليّة حتّى تكون في مأمن من دكتاتوريّات تهدّد استقرارها. وعلى الرّغم من مزاعم  نتنياهو أنّ مكمن الصّعوبة في إحلال سلام عادل وشامل[53] سببه انعدام الدّيمقراطية في الوطن العربي، فإنّ العقل الإسرائيليّ لم يفكّر في السلام حلًّا للصّراع القائم في المنطقة، وإنّما كان يبحث في المصالحة فحسب ليختزل الصراع العربي- الإسرائيليّ في مجرّد نزاع بين أطراف متخاصمة.

بناءً على ذلك، فما من ديمقراطيّة عربيّة في نظر العقل الإسرائيليّ إلّا متى انخرطت في مصالحة شاملة تقرّ بالوجود الإسرائيلي الآمن وبهيمنتها على المنطقة، متنازلة عن حقّها التّاريخي في أرض فلسطين. وليست المصالحة الحقيقيّة إلّا تضاعف القوّة العسكريّة الإسرائيليّة حتّى تكون قادرة على الرّدع، مقابل نزع سلاح المقاومة ومنع البلدان العربيّة من التسلّح دفعًا إلى انهيار موازين القوى في المنطقة. واللافت للنظر أنّ هذه المزاعم سرعان ما انكشف زيفها بمجرّد قيام الثّورات العربيّة في تونس ومصر وليبيا واليمن. فقد أعربت الإدارة الإسرائيليّة برئاسة نتنياهو عن قلقها وانزاعجها من التّحوّل الحاصل في المنطقة معتبرة أنّ الأنظمة الدكتاتوريّة «لا تتردّد في إقامة تحالفات مع إسرائيل، وذلك بعكس الأنظمة الدّيمقراطيّة التي تخضع للرّقابة وتكون مطالبة بأن تتّخذ قراراتها على أساس الشّفافيّة»[54].

وإذا كانت الأسباب في الفكر التّنظيريّ السّياسيّ موصولة بغائيّة معيّنة، فإنّ عقل الليكود أوجد الأسباب الرّئيسيّة لإقامة سلام الرّدع بوصفه السلام الوحيد الممكن في الشّرق الأوسط. والغايات من ذلك متعدّدة، يعود بعضها إلى تناقص عدد الدّول المستعدّة لمحاربة إسرائيل، وإلى إضعاف قوّتها العسكريّة، ولكنّ أهمّها على الإطلاق دفع الدول العربيّة إلى الاستسلام وإعلان النّيات الحسنة تجاه الاحتلال، والالتزام بتطبيق بنود الاتّفاقيّات على غرار الالتزام المصري بمعاهدة 1979 وتطبيق موادّه المتعلّقة بنزع سلاح شبه جزيرة سيناء. وقد اتّخذ نتنياهو من الاتّفاقيّتين المبرمتين مع إسرائيل على الواجهتين الأردنيّة والمصريّة أنموذجين تاريخيّين في حفظ الاستقرار في المنطقة بناء على تفوّق إسرائيل النوعيّ الذي ساهم في عدم خرق هذه الاتّفاقيّات[55].

وعلى الرّغم من أنّ العلاقة بين السلام والأمن ضروريّة لإيجاد حلول للصّراع العربي – الإسرائيليّ، فالسلام يوفّر الأمن والاستقرار انطلاقًا ممّا تطرّقت إليه المعاهدات والاتّفاقيّات، إلّا أنّ هذه العلاقة بينهما شهدت ترتيبًا معكوسًا في تصوّر الليكود للسلام. فقد رأت إسرائيل الأمن أولويّة مطلقة قبل البحث في السلام، ذلك أنّ «السلام الممكن تحقيقه في الشّرق الأوسط مع الدول الدكتاتوريّة منوط  بالأمن وليس العكس»[56]. ولا شكّ في أنّ هذا التّصوّر للسلام ساد مراحل كثيرة من المفاوضات إبّان فترة حكم الليكود، إذ بدت الغاية من سلام الرّدع مندرجة في السّياق الاستعماري وخطابه التّضليليّ.

هكذا إذًا، اقتصرت الرّؤية الإسرائيليّة للسلام على المسائل الأمنيّة من دون الخوض في الحقوق الفلسطينيّة ومسألة تقرير المصير. وغدا بحث العقل العربي المفاوض في شروط السلام العادل والتّمسّك بقرارات الأمم المتّحدة اختيارًا خاطئًا في ظلّ رفض العقل الإسرائيليّ أيّ طرح بديل للسلام. والمتتبّع لفشل الاتّفاقيّات الإسرائيليّة- الفلسطينيّة في كلّ محطّاتها التّفاوضيّة يتبيّن إصرار عقل الليكود على إرغام الأطراف المقابلة على تبنّي رؤيته، ولكنّه يكتشف في الآن نفسه عجز العقل العربيّ المفاوض عن صوغ رؤية للسلام تتمشى وحقوقه المشروعة. وهو ما يدفع إلى التّساؤل عن الجدوى من مواصلة مسار التّفاوض في ظلّ تباعد وجهات النّظر بين أطراف الصّراع، وإقرار نتنياهو بأنّ «السلام الوحيد الممكن تحقيقه حاليًّا بين العرب وإسرائيل سلام مسلّح وحذر يوفّر لإسرائيل درجة كافية من القوّة»[57].

2 – السلام الإقليمي

للسلام الإقليمي حضور لافت للنظر في برامج حزب العمل الانتخابيّة والسّياسيّة[58]، وهو سلام معقود على صِيغ مختلفة من التّعاون بين البلدان العربيّة وإسرائيل للحسم في إشكاليّات الصّراع القائمة. وقد تعزّز هذا الطّرح الإسرائيلي للسلام الإقليمي في إثر اقتناع حزب العمل بعدم جدوى القوّة العسكريّة في ظلّ انتشار الصّواريخ بعيدة المدى وقدرتها على إطاحة نظريّة الأمن الإسرائيليّ وزعزعة عمقها الاستراتيجيّ. ومن ثم، غدا التّفكير في مخرجات جديدة للتّسوية أمرًا واقعيًّا من وجهة نظر حزب العمل ابتداءً من مفاوضات أوسلو[59] ووادي عربة[60] والمؤتمرات الاقتصاديّة للشّرق الأوسط وشمال أفريقيا[61] إلى حدود سنة 1996. وانتهى بيريز إلى الإقرار بأنّ «المفتاح للحفاظ على نظام إقليمي عادل يكمن في النّواحي السّياسيّة والاقتصاديّة أكثر منه في امتلاك القوّة العسكريّة. وفي عالمنا اليوم، [يتطلّب] تأمين مستوى معيشي عالٍ وعلاقات تجاريّة متنامية وحدودًا مفتوحة واعتمادًا على العلوم والتكنولوجيا»[62].

يعود اهتمام حزب العمل بالبحث في مخرجات جديدة تفي بالاستقرار والسلام إلى انتفاء الحاجة إلى الصّراع مع اختفاء الاستعمار منذ النّصف الثّاني من القرن العشرين، وضرورة ضبط التّسلّح في المنطقة نظرًا إلى خطورة ذلك على الشّعوب ورخائها، وإيجاد مناخ سياسيّ يساعد على ظهور القوى المعتدلة حتّى لا تشهد المنطقة بروز حركات إسلاميّة متشدّدة مناهضة للثّقافة الغربيّة، ترفض التّحديث وتدعو إلى «إقامة جمهوريّة إسلاميّة سلطويّة قمعيّة على النّمط الإيراني»[63]. ولا يحجب تعقّب العقل الإسرائيلي لدواعي السلام الإقليميّ تغاضيه عن الأسباب الحقيقيّة، مقابل جملة من المغالطات، أهمّها ألّا تعَدّ إسرائيل معتدية على حق الشّعب الفلسطينيّ كي تتجلّى في صورة الضحيّة الطّامحة إلى سلام ينهي معاناة سنوات طويلة من العدوان. واستتبعت هذه المغالطة بقياس فاسد في قول بيريز: «إنّ ما يصلح لبقيّة العالم يصلح لإسرائيل والعالم العربي، فالقدر نقلنا من عالم تسوده الصّراعات الإقليميّة إلى عالم تحكمه التّحدّيات الاقتصاديّة والفرص الجديدة»[64]، وذلك راجع إلى سببين مفادهما أنّ إسرائيل مجموعة من الأعراق المختلفة لا رابط بينها سوى الدّين والعقيدة الصّهيونيّة، وغازية معتدية تركّزت أهمّ مبادئها على الصّراع والهيمنة.

إنّ لهذه المغالطات والقياس الفاسد غاياته، فمسائل التّعاون والاندماج ودمقرطة الأنظمة العربيّة لا يمكن أن توفّر شَرطَي الشّموليّة والعدل ما لم تعالج القضايا الجوهريّة للصّراع والحدود واللاجئين والمستوطنات والقدس، وفق مبادئ الأمم المتّحدة وقوانينها. وهو ما يشكّل عائقًا أساسيًّا لإرساء السلام ببعديه الإنسانيّ والكونيّ.  ومن ثمّ، فالدّيمقراطيّة لن تضع حدًّا للمخاطر المهدّدة للسلام الإقليمي، ولا هي قادرة على كسر دوائر الشرّ وسحق حوافز الكره والحقد ما لم تقبل إسرائيل بالعودة إلى حدود 1967 وتعترف بحقّ الشّعب الفلسطينيّ التّاريخيّ في أرضه.

ومن فوائد السلام في نظر حزب العمل قيام نظام إقليمي يؤسّس للتّعاون ويبدّد الكراهيّة والعداء الأيديولوجي بين العرب وإسرائيل، ويساهم في إرساء نظام شرق أوسطي جديد. فالمنطقة لم تعد تحتمل مزيدًا من الصّراع بعد انهيار النّظام الإقليمي القديم، وظهور نظام عالمي جديد. وفي هذا السّياق، يعدّد بيريز إيجابيّات السلام الإقليمي بالقول: «سيخلق البيئة الموائمة لإعادة تنظيم مؤسّسات الشّرق الأوسط (…) إنّ التّوافق وقبول العرب بإسرائيل كاملة ذات حقوق ومسؤوليّات متساوية سيجلب نوعًا من التّعاون لا بين إسرائيل وجيرانها فحسب، بل بين البلدان العربيّة أيضًا، وذلك سيغيّر وجه المنطقة ومناخها الأيديولوجيّ»[65]. وعلى هذا الأساس، يغدو السلام الإقليمي ثورة في المفاهيم وجهدًا دوليًّا واسعًا لإبطال المفاهيم القديمة المفضية إلى الصّراع إسهامًا في خلق أسرة إقليميّة وسوق اقتصاديّة مشتركة وإطارًا إقليميًّا دعامته الأمن القومي الإسرائيليّ. ولا نعتقد أنّ هذه المفاهيم وما تحمله من بعد قيمي إنسانيّ قادرة على إحلال السلام العادل، فما هي سوى خطاب مضلّل موجَّه إلى الأطراف الإقليميّة ومنظّمة التّحرير الفلسطينيّة حتّى تتخلّى عن الأطروحات القديمة للصّراع، وتعترف بإسرائيل ودورها في معالجة القضايا الإقليميّة.

ومهما كانت أهمّية المسائل الأمنيّة في نظر حزب العمل في التّرتيب للسلام الإقليمي، فالجانب الاقتصاديّ أو ما يعرف «باقتصاديّات السلام» شكّل الأساس الجوهري لكلّ عمليّة تفاوض. وإذا كان الجمود السّياسيّ لمباحثات السلام منذ معاهدة كامب دايفيد يطرح إشكالًا عميقًا من جرّاء رفض العقل الإسرائيلي القبول بالسلام العادل، فالبحث في الأدوات الاقتصاديّة أصبح المحرّك للعمليّة السلميّة تعزيزًا للهيمنة الصّهيونيّة. وعلى الرّغم من أنّ المحور الاقتصادي لم يكن غائبًا في جلّ المعاهدات التي تمّ توقيعها في حقبة الليكود، إلّا أنّ تزايد الاهتمام به في حقبتي شمعون بيريز وإيهود باراك يكشف عن ماجريات تحوّل العقل الإسرائيلي من الانشغال بالأمني إلى إيثار الاقتصاديّ[66]. فكان التّطلّع الإسرائيلي إلى التّعاون الاقتصادي الإقليمي المسألة المحوريّة في نظر حزب العمل إلى صوغ نظام إقليمي، حاضنته النّظام العالمي الجديد في نزوعه إلى الانفتاح والتّعاون والتّكامل. فهل كانت توجّهات المشهد العالمي نحو الانفتاح الاقتصاديّ دافعًا إلى تبنّي العقل الإسرائيلي مقولة الاعتماد المتبادل أم أنّ الخارطة السياسيّة والاقتصاديّة العالميّة التي رسمتها إدارة كلينتون ما هي إلّا جزء من تصوّرات بيريز لإعادة تشكيل المنطقة تعزيزًا للعولمة الاقتصاديّة والهيمنة على الاقتصادات العربيّة؟

لقد أراد حزب العمل أن تكون القمم الاقتصاديّة مدخلًا إلى السلام والشّراكة بين دول المنطقة، غايته إلغاء كلّ أشكال المقاطعة وانفتاح عصر جديد من التّطبيع. والنّاظر في مجمل مسائل التّعاون الاقتصادي الإقليمي وتراتيبها يلمح مدى قدرة عقل حزب العمل على إقامة جسر من التّواصل بين العرب وإسرائيل، همّه تحقيق الحلم الإسرائيلي في الوجود الآمن والتّفوّق النّوعيّ مستبعدًا أي إشارة لصفة الاحتلال وأي ذكر لموضوع النّضال والمقاومة، وقد خلت وثيقة البيان الختاميّ لقمّة الدّار البيضاء من ذلك. وما من غاية سوى أن تكون إسرائيل مركزًا وما عداها هامشًا، إمّا تابعًا أو خاضعًا، وإعادة النّظر في طبيعة العلاقات بالمنطقة، وما استقرّ في بنية العقل العربي من مفاهيم سائدة ترفض التّعامل مع إسرائيل. إنّ اغتيال ثوابت العقل العربي في مقاومة الاحتلال لهي القيمة الأساسيّة التي عمل العقل الإسرائيليّ على إنتاجها دعمًا للوجود الصّهيونيّ وتثبيت أركانه.

إنّ مقارنة بين السلام الإسرائيليّ القائم على الرّدع والتّعاون الإقليميّ، تكشف عن الحدود الواهية بينهما، فلا اختلاف بينهما إلّا في آليّات تحقيق سلام الهيمنة (Peace of Hegemony). ولهذا كانت الغاية واحدة سواء رأى العقل الإسرائيليّ الرّدع والقوّة العسكريّة الأداة المناسبة لإقامة السلام في المنطقة أو اعتمد التّكامل والتّعاون للاستحواذ على عوامل القوّة واختراق البنية المفهوميّة للعقل العربي إبطالًا لمفاعيل ثقافة المقاومة. وما هما سوى جوهر الاستراتيجيّة الإسرائيليّة في رؤيتها لأولويّة الأمن على السلام. فلم تكن إعادة الاعتبار للتّعاون الإقليمي سوى «ضرب من الطّوعيّة المنظّمة»[67] استكمالًا لمشروع الهيمنة. وقد كشف المسار التّاريخيّ للمفاوضات وإخفاقاتها عن تصوّر إسرائيليّ للسلام همّه البحث في حروب أخرى بمعدّات جديدة وقضايا مستحدثة. ومن ثمّ، كان العقل الإسرائيليّ وما يزال يرى السلام استعدادًا للحرب بطرائق جديدة وآليّات مغايرة، ومرجعيّات مختلفة، المشترك بينها تبخيس السلام مقابل الإعلاء من قيمة الأمن.

خاتمة

لقد ظلّ السلام الإسرائيلي أسير التّحوّلات العالميّة والإقليميّة، مواكبًا التّغييرات الجذريّة في هيكل النّظام قديمه وجديده. وعلى الرّغم من قدرة العقل الإسرائيلي على مجاراة سيرورة التّحوّل في موازين القوى العالميّة، فإنّه لم يفقد ثوابته ومواقفه من موضوعات السلام. واستطاع صوغ مقترباته انطلاقًا ممّا اعترى العالم من تغيير من جهة، وما طرأ على نظريّة الأمن القومي الإسرائيليّ من تطوّر من جهة أخرى، فلم يكن السلام الإسرائيليّ أنموذجًا واحدًا، وإنّما هو مقترب مختلف باختلاف المداخل والمرجعيّات والأحزاب السّياسيّة ومواقفها المتغيّرة في كلّ محطّة تفاوضيّة. ولا يعني ذلك خللًا في آليّات العقل الإسرائيلي، بل يجب أن يُفْهَمَ في سياق ديناميّة هذا العقل وقدرته على تطوير أفكاره حتّى يكون فاعلًا ومتجدّدًا، يواكب التّحوّلات العالميّة والإقليميّة معًا، ويصوغ نظريّات أمنه القوميّ من دون أن يفقد مناعته الذّاتيّة أو يتخلّى عن مشروعه الصّهيونيّ.

كتب ذات صلة:

السلام الداني: المفاوضات السورية – الإسرائيلية

أمريكا الخصم والحكم: دراسة توثيقية في “عملية السلام” ومناورات واشنطن منذ 1967

يمكنكم أيضاً تحميل النسخ الالكترونية من المجلدات الستة لكتاب إسرائيل 2020: خطتها التفصيلية لمستقبل الدولة والمجتمع