مقدمة

يشهد الجدل الفلسطيني – العربي حول مستقبل الكيان الصهيوني ثلاثة ميول، يُمنّي الأول منها نفسه في أن التناقضات الداخلية للكيان يمكن أن تفككه من الداخل، بما يعوض العجز الفلسطيني والعربي في هزيمة هذا الكيان. أما الثاني فيتبنى استراتيجية التحرير من الخارج حيث يرى أن التناقضات داخل الكيان لا تعبر إلا عن صراعات على تقاسم المكاسب والمغانم المسلوبة من الشعب الفلسطيني وكيفية تحقيق ذلك، كما يرى أن الكيان بحد ذاته هو كيان مهزوز وأوهى من بيت العنكبوت في بنيته الداخلية، ولكنه باقٍ رغم الخلل الكبير في بنيته بسبب العجز الفلسطيني والعربي عن تحقيق هزيمته. أما الطرح الثالث فهو يحلل بصرامة حراك العوامل الداخلية والخارجية ودورها في دفع أو كبح عملية تمكن/أو تفكك الكيان في كل مرحلة من مراحل تطوره. يبنى هذا المنهج على دراسة الحقائق والوقائع في كل مرحلة لا على التجريد البحت، وفي هذا الإطار يرى هذا المنهج التداخل بين العوامل، فالخارجي الفلسطيني كعامل كابح لانتصار الكيان ليس خارجيًا، وإنما هو عامل داخلي يعيش فيه ويعدّ نفسه صاحب البلد الأصلي. وفي المقابل فإن الولايات المتحدة الأمريكية كعامل دافع بوصفها دولةً أمًّا للمشروع الصهيوني حلت فيه محل دور بريطانيا السابق ليست مجرد عامل خارجي بالنسبة إلى الكيان، فهي تفعل داخله من جهة، كما أن وضع الكيان من جهة أخرى هو موضوع داخلي في الولايات المتحدة نفسها بين القوى الأفنجليكانية التي تدعم الكيان نحو «تحقيق النصر التام على الفلسطينيين» كما يسمونه وبين الاتجاهات المناوئة للأفنجليكانية.

تتبنى هذه الدراسة المنهج الثالث، وفي إطاره تناقش العتبة الحالية التي وصل إليها الكيان كما عبّرت عنها نتائج انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2022، وتتساءل في ضوء تحليل العوامل الداخلية والخارجية المتداخلة الكابحة والدافعة منها: هل تؤذن هذه العتبة إلى تحول الكيان إلى عتبة أخرى من التمكن كما حصل من تمكن التيار العمالي من بناء الجيش الموحد والدولة في إثر أمر بن غوريون بإغراق السفينة التالينا بعد اشتباكات مع منظمة الإتسل سقط فيها قتلى وجرحى في حزيران/يونيو 1948؛ وكما حصل بعد مقتل رابين عام 1995، الذي أدى إلى انتهاء حقبة التيار الصهيوني العمالي الذي كان يطرح فكرة السلام مع العرب من دون أن يعطي ما يتطلبه هذا السلام، وحلول التيار الرافض لذلك السلام وتمكنه من فرض أجندته التي أنهت اتفاق أوسلو وما ترتب عليه من التزامات ووسعت المستعمرات في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وبصورة لا سابق لها.

تمثل العتبة الحالية كما عكستها الانتخابات الأخيرة، بروز بوادر بدء تحول ثالث يلي التحولين أعلاه، وهو التحول نحو الدولة الثيوقراطية المتجهة لا إلى تعزيز الإبادة والإحلال ضد الشعب الفلسطيني فقط، ولكن أيضًا إلى قمع الاتجاهات المعلمنة ومؤسساتها القضائية والتعليمية والإعلامية وفرض القيم الدينية على الحيز العام داخل الكيان نفسه. ومن المتوقع أن يحتاج هذا التحول إلى الدولة الثيوقراطية مدة تطول أو تقصر لكي يستقر، ولن يتم مرة واحدة ولا بضربة واحدة وإنما سيمر بمراحل، كما بينت تجربة التحولين السابقين. وستكتنف عملية التحول هذه صراعات وربما إراقة دماء «الإخوة» أيضًا في عراكهم بعضهم ضد بعض، كما حدث كذلك مع التحولين السابقين. ولكن حدة الصراعات قد تكون أكبر هذه المرة. فهل سيقيّض لهذا التحول أن يستقر في النهاية وربما بعد عقود على طريق المزيد من التمكن للكيان في أرض فلسطين كلها من النهر إلى البحر؟ أم أنه نذير ببداية تفككه؟ أم نذير لجولة جديدة من الصراع أكثر احتدامًا؟ هذا هو السؤال الثلاثي المركب الذي تحاول هذه الدراسة تناوله، مفترضة في الوقت نفسه أن العوامل الداخلية في الكيان لوحدها مهما بلغت حدتها لن تفكك الكيان إذا لم تؤججها عوامل خارجية/داخلية وفي مقدمها كفاح الشعب الفلسطيني كله وفي كل أماكن وجوده على طريق تحرير فلسطين.

أولًا: التحول المتجدد: الصهيونية النازية الفاشية

نشأت النازية والفاشية في أوروبا في وقت واحد، تشابهتا في الموقف القومي المتطرف المبني على العنصرية ذات التوجه العلماني، واختلفتا في أن النازية بلغت في عنصريتها شأوًا سعت من خلاله إلى فرض سيطرة العرق الآري على العالم، وإبادة سواه من الأعراق، في حين دعت الفاشية إلى تعزيز الدولة القوية والاستبداد الداخلي ضد قوى المعارضة والديمقراطية الليبرالية وجهاز القضاء والإعلام، وهو ما تتفق فيه مع النازية، هذا في حين لم تدعُ الفاشية إلى إبادة الأعراق الأخرى كما فعلت النازية، ولكنها (أي الفاشية) استمرت في دعم استعمار الشعوب الأخرى، واحتلت قوات موسوليني الإيطالية إثيوبيا عام 1935، وألبانيا عام 1939، كما قرر موسوليني ضم إقليم برقة الليبي إلى إيطاليا في العام الأخير نفسه، وألزم ليبييها استعمال اللغة الإيطالية.

أما الصهيونية التي ظهرت قبل كل من النازية والفاشية، فقد تميزت لا بالعنصرية وحسب، بل بالطابع الاستعماري الاقتلاعي الإحلالي أيضًا. وباختلاف آخر عنهما، فقد انبثقت الصهيونية من الدين بعد أن غلفته بأردية معلمنة أقامت على أساسها حركة قومية مزعومة بدعم من قوى الاستعمار العالمي. لهذا لا يمكن وصف الحركة الصهيونية بالفاشية وحسب، أو النازية وحسب، فهي تتضمن استبدادية الفاشية وعنصرية النازية ولكنها تتجاوزهما، حيث تتضمن العنصرية ضد الباقين في بلادهم من الشعب الفلسطيني، كما تتضمن ممارسات فاشية ضد مناوئيها اليهود، ولكنها تتضمن أيضًا اقتلاع الشعب الفلسطيني وإحلال أقوام مكانه وتغيير هوية فلسطين أرضًا وإقليمًا وفضاءً ومشهدًا لتصبح أرضًا أخرى بأسماء مختلفة ومشهدًا وفضاءً جديدين. لهذا فإن الصهيونية تنبني على أيديولوجيا وممارسة مركبة تشمل الاستيطان الاستعماري الاقتلاعي الإحلالي، وتوجهات الإبادة النازية ضد «الأغيار»، ممزوجة بتوجه فاشي مضاد لقوى المعارضة اليهودية الداخلية ويمارس الأبارتايد المتصل بدعوات الترحيل ضد الشعب الفلسطيني الباقي في بلاده بعد نكبة عام 1948.

في الحرب على الشعب الفلسطيني تمزج الصهيونية بين توجهات اقتلاعية إحلالية، مظللة بممارسات أبارتايد من الاستثناء السياسي والتهميش الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي والتمييز القانوني بأشكال مؤقتة ودائمة ضد قطاعات مختلفة من الشعب الفلسطيني، وتمارس هذه السياسات من خلال الاعتماد على قوة الجيش وميليشيات المستعمرين المسلحة والجسم الجديد قيد النشوء المسمى الحرس الوطني. أما ضد «اليهود غير الموالين»، فتمارس الصهيونية سياسات العزل والإقصاء، ونرى أن تعريف هذه الفئة كان ينحصر في البداية على اليهود المعادين للصهيونية، ثم توسع ليشمل كل من يرفض الهجرة إلى إسرائيل من اليهود، وفي العقد الأخير بات يشمل أيضًا حتى قوى ما يطلق عليه اسم «اليسار الصهيوني» لا لسبب سوى أن هذا «اليسار» يتهم بأنه مستعد للحوار مع الفلسطينيين من أجل التوصل إلى حل وسط إقليمي.

مرت الصهيونية بمراحل غلب في بدايتها الرداء العلماني، علمًا أن للعلمانية معنى خاصًا في حالته الصهيونية، وعلى عكس العلمنة الأوروبية التي أنهت أنظمة الحكم المستندة إلى شريعة الكنيسة، فإن العلمنة الصهيونية ليست إلا عبارة عن دين معلمن، حيث لم يكن ممكنًا الادعاء بوجود أمة يهودية من قبل الصهيونية إلا بالاستناد إلى يهوديتها، أي إلى الدين. استمرت مرحلة الصهيونية المعلمنة للدين منذ فجر الحركة الصهيونية وحتى عام 1977 بقيادة ما يطلق عليه اسم «اليسار الصهيوني»، وخلال هذه المرحلة استطاعت الصهيونية إقامة دولتها عام 1948 على جزء من فلسطين، ووسعتها عام 1967 محققة نكبة ثم نكسة للشعب الفلسطيني على التوالي، سعت بعدها لتحقيق حل وسط إقليمي بهدف الحفاظ على الأغلبية الديمغرافية اليهودية كما سيتبين أدناه، في وقت كانت قد تشكلت فيه حركة سمّت نفسها باسم «حركة أرض إسرائيل الكاملة»، التي نشط في قيادتها أقطاب من حزب مباي «اليساري» الحاكم آنذاك، أي أن هذا الحزب كان يطرح الحل الوسط الإقليمي ونقيضه في الوقت نفسه. في هذه المرحلة كانت الصهيونية تحاول ستر سماتها النازية والفاشية من خلال أطروحات السلام مع الآخر وقبول التنوع داخل الكيان الصهيوني.

شهد عام 1977 بداية المرحلة الثانية التي استمرت حتى عام 2009، ووصلت ذروة عام 1995 عبر اغتيال إسحق رابين، وتميزت هذه المرحلة بنمو أكبر لتيارات ما سمي «أرض إسرائيل الكاملة»  القائمة منذ عام 1967، سواء ذات الرداء العلماني منها، أو ذات التوجه الديني والديني القومي، وهنا شهدنا أيضًا اتساع نطاق الأطروحات العنصرية، وتعزز صوت الأحزاب التي تدعو إلى طرد الفلسطينيين داخل بلادهم وخارجها. خلال هذه الحقبة حاول التيار الذي هزم في الانتخابات عام 1977 لأول مرة منذ قيام دولة الكيان التوصل بعد نجاحه الظرفي في انتخابات 1992 إلى صيغة حل وسط إقليمي مع منظمة التحرير الفلسطينية، كان قد سعى سابقًا للاتفاق عليها مع الأردن، ولكن هذا التيار لم يقدم صيغة الحل الوسط الإقليمي التي تلبي الحد الادنى المقبول فلسطينيًا، لذا فشلت محاولاته ودفع رابين حياته على أيدي صهيوني متطرف ثمنًا لهذه المحاولة. خلال هذه المرحلة توسع الاستيطان الاستعماري في فلسطين المحتلة عام 1967 بصورة مضطردة، ونشأت مدن وحواضر استيطانية استعمارية في الضفة، وتم لاحقًا إخلاء قطاع غزة من المستعمرات عام 2005 من أجل تعزيز هذه الحواضر ديمغرافيًا. هذا كله في وقت كان الاستيطان الاستعماري قبل 1977 مرتكزًا على إنشاء مستعمرات زراعية صغيرة ولا سيما في غور الأردن والسفوح الشرقية للضفة الغربية والمناطق الساحلية لقطاع غزة، بينما تم ضم القدس الشرقية بأكملها أرضًا من دون سكانها إلى الكيان في 28 حزيران/يونيو من عام 1967.

مع 2009 بدأت المرحلة الثالثة (مرحلة نتنياهو كما تسمى) وهي تتميز بالانتقال من أطروحات الضم الفعلي لفلسطين المحتلة عام 1967 (De facto Annexation) الذي كان جاريًا على قدم وساق إلى التمهيد لإعلان الضم الرسمي (De Jure Annexation) عام 2020، ثم تجميده مؤقتًا في إطار الاتفاقيات الإبراهيمية مع دولة الإمارات والبحرين، ولا تزال هذه المرحلة مستمرة، إذ اكتنفتها عثرات في الطريق أدت إلى خروج نتنياهو من السلطة لمدة عام ونصف العام وهو يعود عام 2023 بعد أن نجح في إنشاء ائتلاف حكومي من أجل استكمال مشروعه. خلال هذه الحقبة ساد الاضطراب الساحة السياسية الإسرائيلية أيضًا، حيث أُجريت خمس دورات انتخابية خلال 3 سنوات بين 2019 وحتى 2022. لم يعبِّر هذا الاضطراب عن تفكك وبداية انهيار الحقل السياسي والمجتمع الصهيوني كما جاء ويجيء في الكتابات التفاؤلية الفلسطينية والعربية، وإنما عبّر عن مرحلة مخاض سيطر عليها الصراع بين التوجه اليميني الذي يريد إبقاء الفلسطينيين في بلادهم مع ممارسة سياسات الأبارتايد العنصرية عليهم وطردهم داخليًا (بينيت وليبرمان وساعر وحلفاؤهم في حين يسمى تيار الوسط غانتس ولبيد)، وبين التيار الإبادي الترحيلي الأكثر عنصرية داخل البلاد وإلى خارجها أيضًا (ليكود نتنياهو بتحولاته، والصهيونية الدينية كما تسمى، والاتجاه الديني الذي شهد عملية صهينة متسارعة: شاس ويهدوت هتوراة). وبعد 3 سنوات من الصراع استقر الوضع بحسمه لمصلحة التيار الإبادي الترحيلي ولو عبر فوز انتخابي محدود كان يمكن أن لا يتحقق لو اجتازت ميرتس والتجمع الوطني الديمقراطي نسبة الحسم. وأدى نجاح التيار الإبادي الترحيلي إلى انكفاء التيار الأبارتايدي وكلاهما عنصريان مع تفاوت في الدرجة. فهل يكون ذلك عبارة عن تغيير مؤقت إلى حين تعود الكرة لاحقًا لمصلحة التيار الأبارتايدي؟

خلال المرحلة التي بدأت منذ عام 2009 وما زالت مستمرة، تقومنت الاتجاهات الدينية، وتديّن الاتجاه القومي المعلمن للدين وذلك من خلال تعزيز التوجهات الدينية داخل حزب الليكود نفسه، الذي يصف نفسه في أدبياته كحزب علماني ليبرالي، وأصبح هنالك تطابق تام بين الدين والقومية عبّر عنه نشوء «الحردليم» أي التيار القومي – الديني الذي تعبر عنه الأحزاب الدينية، وكذلك قطاعات واسعة من الليكود التي أصبحت متدينة. مع هذه التحولات وصلت المرحلة التي بدأت عام 2009 إلى ذروة جديدة بلغت التكافؤ في الوزن الانتخابي بين الليكود شبه المعلمن وبين التيارات الدينية على مختلف تلاوينها كما سيتبين أدناه، وهنا بدأت مسيرة الصراع بين حفظ مؤسسات الدولة المعلمنة وبين تديينها، وهو صراع يتم داخل تركيبة الحكومة الصهيونية المؤلفة بعد انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2022، وليس متوقعًا أن يحسم فورًا وبضربة واحدة، ولكن سيكون له إسقاطات فاشية في الوقت نفسه على مجتمع الكيان، وإسقاطات عنصرية واقتلاعية إحلالية إضافية على الشعب الفلسطيني، يظل مدى النجاح في تطبيقها مرهونًا لا بعوامل صهيونية داخلية وحسب، بل أيضًا بمدى وطبيعة مقاومة الشعب الفلسطيني، والعوامل العربية والدولية الدافعة والكابحة أيضًا.

ثانيًا: المشروع الصهيوني: تراكم التحولات نحو انزياحات انتخابات نهاية 2022

نفذ المشروع الصهيوني الاستحواذ على جزء من فلسطين عام 1948، ولكنه لم يستكمل الاستحواذ الكامل عليها إلا بعد حرب عام 1967مطبقًا بذلك ما جاء به تصريح بلفور لعام 1917 بكليته. وبعد هذا «الإنجاز» بدا وكأن الصهيونية باتت مستعدة لتقاسم فلسطين مع غيرها من موقع القوة. وفي هذا الإطار طرح التيار الحاكم في الكيان آنذاك الذي أطلق على اسم «اليسار الصهيوني» ممثلًا بحزب الماباي أن الحفاظ على الأغلبية الديمغرافية اليهودية يتطلب تقاسم الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. كان الطرح في البداية أن يتم هذا التقاسم مع الأردن وذلك في سبعينيات القرن الماضي، امتدادًا لنفس فكرة التقاسم التي كانت مطروحة مع الأردن في ثلاثينيات القرن الماضي وأجريت مفاوضات في شأنها مع الأمير عبد الله في حينه. لاحقًا انتقلت فكرة التقاسم للتفاوض في شأنها مع منظمة التحرير الفلسطينية منذ انطلاق مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، وذلك عبر إبداء الرغبة الصهيونية بالتنازل الجغرافي عن الأراضي ذات الكثافة السكانية الفلسطينية العالية، وضم الباقي إلى إسرائيل، ولكن هذه الرغبة الظاهرية لم تكن تعبّر عن حقيقة اليسار الصهيوني المذكور، إذ إن شراهة هذا التيار لضم مساحات واسعة من فلسطين المحتلة عام 1967 بذريعة «الحفاظ على أمن إسرائيل» ووفق خطة إيغال آلون التي نصت ضمن بنود أخرى على ضم السفوح الشرقية من الضفة الفلسطينية وغور الأردن إلى «إسرائيل»، جعلت طرح هذا التيار للتسوية الإقليمية طرحًا خادعًا ولا يلبّي حتى الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية. عوضًا من ذلك كان هذا التيار في الواقع العملي هو الأب المؤسس لتوسع المشروع الاستعماري الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد عام 1967.

في المقابل، رأى تيار ما يطلق عليه اسم «اليمين الإسرائيلي»، بأن خداع العرب والفلسطينيين بأطروحات تسوية غير قابلة للتطبيق كما يطرح التيار أعلاه هو مضيعة للوقت والجهد، لذلك طرح هذا التيار بسفور فكرة ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وزعم أن هذا الضم لا يسبب أي ضرر للأغلبية الديمغرافية الصهيونية كما ادعى التيار السابق. وهناك توجهان داخل هذا التيار في هذا الخصوص يرى أولهما أنه يمكن حصر الفلسطينيين في مدن وقرى مكتظة بالسكان، مع سرقة الأراضي المحيطة بهذه المدن والقرى واستغلالهم كأيدٍ عاملة رخيصة، وعدم منحهم المواطنة الإسرائيلية والتمييز ضدهم في الحقوق كافة، وهو ما يبقيهم خارج التعداد الديمغرافي الصهيوني (ويمكن تسمية هذا التيار كما بين الكاتب[2] في مقال سابق بالتيار الذي يمزج بين التوجه الاستيطاني الاستعماري وبين الأبارتايد. ويمثل الليكود القديم قبل نتنياهو هذا التيار أفضل تمثيل. أما التيار الثاني فهو تيار استيطاني استعماري اقتلاعي إحلالي بحت يرى أنه يجب تخيير الفلسطينيين بين البقاء موالين كلية للحكم الصهيوني، أو مغادرة البلاد أو الطرد منها لمن يرفض الولاء، وعلى من يختار المقاومة كبديل ثالث أن يتوقع أن مصيره هو القتل. وقد صرَّح بتسلئيل سموتريتش بهذه الخيارات مرارًا وتكرارًا في إطار ما سمّاه «خطة الحسم»[3]، ويتعدّاه في شأنها إيتمار بن غفير الذي يطرح مواقف تنحو نحو الإبادة على غرار شعار «الموت للعرب». بين هذين الاتجاهين كان هناك اتجاه ثالث محدود (تيار نفتالي بينيت وإييلت شكيد ويؤيدهما قلة من الليكود كان منهم رئيس الدولة السابق رؤوبين ريفلين)، رأى أنه يمكن التخلص من العبء الديمغرافي لغزة عبر الخروج منها وإبقاء حصارها من الخارج، وفي المقابل فرض الجنسية الإسرائيلية على فلسطينيي المنطقة (ج) من الضفة والبالغ عددهم بين 200 و300 ألف، وهو ما لن يمثل مشكلة للأغلبية الديمغرافية الصهيونية، ودعا بعض من هذا الاتجاه، مثل الصحافية كارولين غليك[4]، إلى فرض الجنسية على كل فلسطينيي الضفة والقدس الشرقية مع إبقاء قطاع غزة فقط خارج التجنيس، ويعني هذا الاتجاه انتقال السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين من الاقتلاع والترحيل إلى الأبارتايد، وذلك بتكريس الاعتماد على الأيدي العاملة الفلسطينية بدلًا من طردها كما يدعو الاتجاه السابق. وقد تراجع هذا الاتجاه الأخير في انتخابات أول تشرين الثاني/نوفمبر 2022، كما تراجع الاتجاه الأول الداعي إلى الحل الوسط الإقليمي لمصلحة الاتجاه الرافض لفرض المواطنة الصهيونية على الفلسطينيين، وهو ما أبقى الفلسطينيين من وجهة نظر صهيونية فقط أمام خيارات البقاء في بلادهم كموالين للصهيونية وهو ما لن يقبلوه، أو مغادرة البلاد، أو المقاومة التي يترتب عنها القتل أو الطرد.

ولأن هذا الاتجاه الأخير هو اتجاه أيديولوجي قومي ديني، فإن له أجندته الداخلية أيضًا التي يسعى من خلالها إلى فرض وقائع على المجتمع الإسرائيلي، ويتضمن ذلك فرض العطلة التامة ووقف المواصلات يوم السبت، والتدخل في تحديد وتعريف من هو اليهودي، والفصل بين النساء والرجال في الصلاة والمواصلات العامة، ومنع زواج اليهود بالأجانب، وتديين الحيز العام، ومنع المثلية الجنسية وزواج المثليين، والسيطرة على مفاصل الدولة من خلال تقليص صلاحيات القضاء وتديينه، وحصر حرية الإعلام وتقييد حرية الرأي وتجريم وجهات النظر المناوئة، وتعزيز التعليم الديني الرسمي وغير الرسمي وتطهير جهاز التعليم من المعلمين والمعلمات اليساريين، وفرض قيادات من النوع المقبول عليه في الجيش، وزيادة احتمالات اغتيال شخصيات كبيرة ولا سيما من قيادات المعارضة لتوجهات هذا التيار، بالاختلاف عن اغتيال رئيس الوزراء إسحق رابين عام 1995 بينما كان في الحكم واتهم بالتنازل بمجرد توقيعه اتفاق أوسلو مع الجانب الفلسطيني.

أدت هذه الأطروحات إلى إثارة الذعر في صفوف «اليسار الصهيوني» وتيار الوسط العلماني الذي يفصل بين المعركة من أجل الديمقراطية الخاصة بحرياته وبين المعركة لإنهاء استعمار شعب آخر، حيث هو اليسار والوسط المفتونان بالحرية الشخصية، بينما مارست حكوماتهما السابقة الجرائم بحق الشعب الفلسطيني. لذا يكتفي اليسار والوسط بأن يرفعا عقيرتهما محذرين من نشوء الفاشية التي تقيد هذه الحريات، ويدعيان إضافة إلى ذلك بأنها ستعزل إسرائيل دوليًا، ويعبران عن قلقهما أن هذه العزلة قد تؤدي إلى إيقاع عقوبات دولية على إسرائيل، وبخاصة أن ما كان اليسار والوسط الصهيونيان يمارسانه من جرائم ضد الشعب الفلسطيني ضمن غلاف من العلاقات الدولية والادعاء الظاهري بالاستعداد للسلام، سيمارس من جانب الحكومة الفاشية من دون إبداء الاستعداد المذكور وطرح عكسه، وهو الضم الرسمي للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، التي كان هذا اليسار الصهيوني قد ضمها فعلًا. يظهر هذا اليسار نفسه وكأنه قد صحا لمصلحة حقوق الشعب الفلسطيني، ولكن بعضه لا يفعل أكثر من استخدام هذه الحقوق كشمّاعة للمطالبة بحرياته داخل الكيان، بينما يستمر في التنكر لفلسطين والفلسطينيين بالممارسة وارتكاب وقبول الجرائم الممارسة ضدهم، كما يستمر في اتهام الفلسطينيين بأنهم المسؤولون عن نمو التيار اليميني المتطرف بسبب «رفضهم مشاريع السلام التي طرحها عليهم اليسار الصهيوني في الماضي». عدا هؤلاء، هنالك قلة من اليهود المعادين للصهيونية الذين تتهمهم قوى الصهيونية كلها بيمينها ويسارها بالخيانة وعدم الولاء بسبب تضامنهم مع الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار، وقد تعرض هؤلاء للاعتداءات من القوى الصهيونية أثناء تضامنهم مع الفلسطينيين، ويبدو أنهم سيتعرضون لاعتداءات أخرى أشد في المستقبل. ولكن الأمر لا يعدو مقتصرًا على هؤلاء الأخيرين فقط وخصوصًا بعد دورة الانتخابات الإسرائيلية التي عقدت في أول تشرين الثاني/نوفمبر 2022.

أسفرت هذه الانتخابات عن حصول حزب الليكود وحلفائه من أحزاب القوى الدينية على عدد متساو من المقاعد بواقع 32 مقعدًا لكل منهما (32 لليكود و32 للقوى الدينية بواقع 14 للصهيونية الدينية و11 لحركة شاس و7 ليهدوت هتوراة). وانحسر اليسار الصهيوني إلى أربعة مقاعد فقط ذهبت إلى حزب العمل، ولم تجتز حركة ميرتس اليسارية نسبة الحسم أول مرة منذ عام 1992 وبقيت خارج الكنيست. هذا في حين حصل ما يسمى معسكر الوسط على 36 مقعدًا هي أقل من ذلك في الواقع، إذ إن 24 مقعدًا منها ذهبت لحزب يوجد مستقبل و 12 مقعدًا ذهبت لحزب المعسكر الرسمي الذي يقوده الجنرال السابق بيني غانتس، الذي هو عبارة عن تحالف يضم حزب أزرق أبيض الوسطي الذي يقوده بيني غانتس، ومعه حزب أمل جديد اليميني المنشق عن الليكود الذي يقوده جدعون ساعر، وعضو حزب يمينا السابق ماتان كهانا، والجنرال غادي أيزنكوت، وبالتالي فإن حزب المعسكر الرسمي هو حزب خليط بين الوسط واليمين، بما يجعل عدد مقاعد معسكر الوسط أقل من 36. أعطت النتائج أيضًا ستة مقاعد للحزب اليميني إسرائيل بيتنا العلماني الذي صار يرفض الائتلاف مع الأحزاب الدينية في حكومة واحدة كما لا يثق بنتنياهو، بينما يدعو إلى ترحيل فلسطينيي منطقة المثلث. وحصل حزبان عربيان هما القائمة العربية الموحدة والجبهة العربية للتغيير، على 10 مقاعد بواقع 5 لكل منهما. خسرت ميرتس والتجمع الوطني الديمقراطي الانتخابات بفوارق بسيطة، ولو نجحا فإن ذلك كان سيؤدي إلى إحدى نتيجتين: الأولى، هي الذهاب إلى انتخابات سادسة، أو تمكن يائير لابيد من ترؤس حكومة جديدة بمشاركة بعض أطراف اليمين تشبه في تركيبتها تلك الأكثر إجرامية ضد الشعب الفلسطيني التي قادها إلى حين انتقال الحكم إلى ائتلاف أحزاب اليمين برئاسة بنيامين نتنياهو. الأمر الأخير هنا أن حزب يمينا الممثل لحزب المفدال التاريخي قد فشل في اجتياز نسبة الحسم حيث لم يحصل إلا على نسبة محدودة من الأصوات، بينما كان قد حصل بقيادة نفتالي بينيت على 7 مقاعد في انتخابات عام 2021 ذهبت في انتخابات 2022 إلى الصهيونية الدينية التي كانت قد حصلت على ستة مقاعد فقط في انتخابات عام 2021.

تعكس هذه النتائج عددًا من المتغيرات الجديدة الواجبة الرصد، وذلك رغمًا عن أن الوزن النسبي للتيار الديني والدين القومي لم تطرأ عليه تغييرات كبيرة منذ نشوء دولة الكيان كما أشارت إلى ذلك دراسة موثقة لأشرف بدر[5]:

أول هذه المتغيرات أن اليمين الديني الصهيوني الداعي إلى ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وقتل وطرد فلسطينييها تدريجًا هو الذي حقق الفوز (الصهيونية الدينية والليكود بتحولاته الجديدة)، أما اليمين الديني الذي كان يدعو إلى الضم ولكن مع منح الجنسية الإسرائيلية لمن يتم ضمهم وفرض نظام الأبارتايد عليهم بدلًا من الطرد (نفتالي بينيت وأييلت شاكيد)، فقد خسر المعركة، وقد تكون هذه الخسارة نهائية لعدم حصوله إلا على أصوات محدودة ولتغير اتجاه أغلبية المستوطنين نحو طرد الفلسطينيين لا تجنيسهم. أما ثانيها فهو أن الأحزاب الدينية غير الصهيونية سابقًا (شاس ويهدوت هتوراة) تتجه أكثر فأكثر إلى التوافق مع الصهيونية في السنوات الأخيرة، وذلك نظرًا إلى مشاركة أعضائها الواسعة في عملية الاستيطان الاستعماري في فلسطين المحتلة عام 1967، وهو ما يجعلها جزءًا من المعسكر الداعي والقابل بعملية الضم للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، هذا مع بقاء اعتراضها على اقتحامات الصهيونية الدينية للمسجد الأقصى من وجهة نظر دينية يهودية، وهي اعتراضات لن تسبب تناقضًا جديًا في الحكومة بين يهدوت هتوراة والصهيونية الدينية. وثالثها، ما يتعلق بالائتلاف الحكومي الجديد، فنسبة التمثيل بين الليكود والأحزاب الدينية والدينية القومية التي حصلت على عددٍ مساو لمقاعد الليكود هي نسبة لمصلحة الأحزاب الدينية هذه المرة أكبر مما كان عليه هذا الأمر في الماضي، وذلك لسببين يعود أولهما إلى أن عددًا من أعضاء الليكود نفسه قد تدينوا أكثر في السنوات الأخيرة مما يجعل عدد مقاعد التيار الصهيوني الديني أكبر من 32. وثانيهما أن بنيامين نتنياهو بات يحتاج إلى هذه الأحزاب لدعم توجهاته الأيديولوجية التي تصب في الخانة نفسها، ولا سيما الضم لما يسميه «يهودا والسامرة» التي تعود تاريخيًا إلى «شعب إسرائيل» كما يسميه، ووصفه الشعب الفلسطيني بأنه مجرد طوائف وأفراد طارئين وفدوا إلى فلسطين ولكنهم لا يمثلون شعبها الأصلي كما ادعى في كتابه مكان تحت الشمس. كما أن نتنياهو يحتاج إلى هذه الأحزاب لتحقيق رؤيته الخاصة في شأن الدولة القوية كما يراها، التي يسيطر فيها «ممثلو الشعب المنتخبون» على حق تعيين القضاة والسيطرة على وسائل الإعلام، والجيش والشرطة، وفي إطار تحقيق هذه الرؤية الأيديولوجية سيكون لنتنياهو أن يتخلص من ملاحقة الشرطة وجهاز القضاء له على خلفية ملفات جنائية يتهم بها.

مع نتائج هذه الدورة من الانتخابات الإسرائيلية يكون الأمر المتعلق بالصراع بين تيار فرض الأبارتايد وتيار الإبادة والترحيل الذي دارت حوله دورات الانتخابات الخمس السابقة التي أجريت خلال ثلاث سنوات قد قضي، حيث حقق اليمين الداعي إلى الإبادة والترحيل كتلة ذات أغلبية بعد تلك المدة من الاهتزازات. في إطار ذلك ظهرت تحليلات بأن اليمين المتطرف في إسرائيل يعتدل بعد تسلّمه السلطة، وأن بيغن الليكودي هو من صنع السلام مع مصر، ونتنياهو من هذا الحزب هو من صنع السلام مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان، وأن بن غفير قد غير شعاره السابق «الموت للعرب» إلى شعار جديد هو «الموت للمخربين» فقط كدليل على اعتداله[6]، وروّج بن غفير لذلك بنفسه ولا سيما لاعتداله تجاه اليسار الصهيوني كما ورد في رسالة منه لهذا اليسار نشرتها جريدة يسرائيل هيوم[7]. تحاول هذه التحليلات التقليل من عمق التحول الذي حملته الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة ولا سيما في المواجهة مع الشعب الفلسطيني وتوفير مبررات لتسويغ التعامل مع الحكومة الصهيونية الجديدة.

هل فوز حزب بن غفير الكبير في الانتخابات الأخيرة هو «تذكرة لمرة واحدة» ناتج من الأصابع الماهرة لنتنياهو في تحريك قوى اليمين المتطرف من اتجاه إلى آخر وفق حاجاته في كل مرحلة؟ هنا يتم تصوير الأمر لا على أنه نتاج لتغيرات تاريخية تنحفر عميقًا في المجتمع الإسرائيلي، بل على أنه نتاج لفعل ساحر فرد هو نتنياهو الذي استطاع إسقاط نفتالي بينيت القائد السابق للصهيونية الدينية ورفع سموتريتش وبن غفير إلى مكانه كعقاب للأول. يشابه ذلك تفسير سعي نتنياهو لترؤس حكومة يمينية على أنه يعود فقط لرغبته في سن قوانين تؤدي إلى طي الملفات القضائية المفتوحة بحقه. هنا يتم إحلال العرضي والظرفي والشخصي محل العمليات التاريخية، كما يتم تجاوز المكوّن الرئيس للتحليل المتعلق بطبيعة الديمقراطية الاستيطانية الاستعمارية وكيف تقوم هذه بانتخاب من يناسب لاستمرار المشروع الصهيوني في كل دورة انتخابية وهو ما حلله الباحث في دراسة سابقة[8].

في هذا الإطار يبين تاريخ الكيان الصهيوني أن اندثار التيارات داخله هو أمر ممكن، وذلك وفق مصالح توسع هذا الكيان، فها هو التيار المعلمن الذي نجح في إنشاء الدولة وقيادتها على مدى 29 عامًا بعد إنشائها حتى عام 1977 يفقد سيطرته على الدولة عام 1977 لمصلحة الليكود الذي رأى فيه الجمهور الصهيوني أنه الأقدر على الاستمرار في المشروع الصهيوني وتوسيعه أكثر مما حققه التيار المعلمن. ووفق هذين المثالين فإن الليكود نفسه قد يفقد أغلبيته تدريجًا في الانتخابات المتتالية القادمة لمصلحة تيارات أكثر تطرفًا بعد أن وصل إلى المساواة العددية معها في انتخابات 2022. أدى توسع قوة المستوطنين في الضفة والقدس إلى الانقلاب الليكودي عام 1977، وربما أن حاجة المشروع الاستيطاني الاستعماري في الضفة والقدس إلى الحسم سيؤدي إلى الانقلاب الثاني، وهذه المرة ضد الليكود لمصلحة قوى أكثر حسمًا في اتجاه الضم والإبادة وطرد الفلسطينيين. وسيحتاج هذا الانقلاب الثاني إلى عقود ربما لكي يتحقق، وهو أمر محتمل الحدوث إذا لم تنشأ عوامل فلسطينية وعربية ودولية كابحة.

إذا عمّرت حكومة نتنياهو دورة كاملة من أربع سنوات أو أقل، فإن السؤال يبقى عمّا سيفضي إليه التناقض الداخلي الذي سينشأ بين اليسار والوسط الصهيونيين من جهة واليمين الصهيوني من جهة ثانية على الأجندة الداخلية ونمط الحياة في الكيان الصهيوني، بمعزل عن موقف كل منهما العنصري المشترك ضد الشعب الفلسطيني؟

ترى بعض الأطروحات المتفائلة أن هذا التناقض يمكن أن يؤدي لوحده إلى تفكك الكيان الصهيوني من الداخل، كما تطرح بعض الكتابات الصحافية الفلسطينية. ويتم هنا الاستشهاد بتجارب الممالك اليهودية القديمة وإمكان تكرارها، وكذلك بتصريحات صهيونية من نتنياهو وغيره تعبّر عن القلق بأن الدولة الحالية قد يكون مصيرها كمصير دولة الحشمونائيم التي لم تستمر حتى العام الثمانين حيث نهشتها وأنهتها التناقضات الداخلية.

في الواقع قامت دولة الحشمونائيم (وتسمى أيضًا الدولة المكابية) في القرن الثاني قبل الميلاد كمملكة داخلية ضمن الحكم اليوناني، وتحالفت تياراتها المختلفة مع الأطراف الخارجية المتصارعة من الرومان واليونانيين، وفي الوقت نفسه سادت داخل الدولة صراعات بين تيارات مختلفة تتعلق بتفسيرات مختلفة لعلاقة الدين بالدولة، ولكن الدولة قد انفرطت بعد العهد اليوناني بسيطرة الرومان عليها، الذين عينوا حكمًا يهوديًا جديدًا تابعًا لهم غير ذاك الذي كان تابعًا لليونانيين، واستمر ذلك الحكم ما بعد الحشمونائي إلى حين قيام تيتوس الروماني بتدمير الهيكل وطرد اليهود من فلسطين عام 70 ميلادية[9]، وهو ما تؤكده منشورات صهيونية أيضًا[10].

يعني ما تقدم أن الممالك اليهودية القديمة لم تكن مستقلة أولًا، كما أن تفككها لم يترتب عن عوامل داخلية وحسب، بل ساهمت عوامل خارجية في خلق وتأجيج التناقضات الداخلية. فما الذي تشير إليه تجربة «إسرائيل» الحالية، وهل هي على وشك الاندثار بفعل عوامل داخلية أججتها عوامل خارجية حالها في ذلك كحال دولة الحشمونائيم؟ لننظر أولًا إلى حال العوامل الداخلية، على أن نتطرق إلى العوامل الفلسطينية والعربية والدولية الدافعة والكابحة في الأقسام اللاحقة.

تشير تجربة الاستعمار الاستيطاني في فلسطين إلى أن القوى التي قامت باستكماله بعد احتلال بقية فلسطين عام 1967، وفي مقدمها حركة غوش إيمونيم، قد وضعت على رأس جدول اهتماماتها استمالة الشارع الصهيوني و«كسب القلوب» لدعم استكمال المشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين المحتلة عام 1967 [11]، ووجه هذا التوجه في حينه من بعض أقطاب اليسار الصهيوني بتكتيكين: الأول ادعى أن الإنفاق على بناء المستعمرات الجديدة سيكون على حساب إفقار المستعمرات القديمة المقامة داخل إسرائيل في حدود عام 1948. بهذا الادعاء أراد أقطاب اليسار الحفاظ على امتيازاتهم ورغد العيش الذي حصلوا عليه من جرّاء نهب مناطق 1948 بعد إجلاء الشعب الفلسطيني عنها. أما التكتيك الثاني الذي لجأ إليه اليسار الذي قام على الادعاء أن المستوطنين المستعمرين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 يرمون إلى خلق ما أطلق عليه اسم «دولة يهودا والسامرة» المنفصلة عن إسرائيل، وتم اتهام المستوطنين من جانب اليسار بأنهم يجهزون الميليشيات العسكرية (وقد كان بعض المستوطنين يقومون بذلك فعلًا) من أجل الدخول في حرب مع الجيش الإسرائيلي من أجل استقلال دولة يهودا عن دولة إسرائيل، وذلك على غرار قتال الحركة الصهيونية ضد بريطانيا في أربعينيات القرن الماضي[12].

ينطوي هذا الادعاء الثاني على تناقضين مركزيين: أولهما أنه يضفي شرعية كاملة على دولة إسرائيل في حدود عام 1948 التي يطالب اليسار الصهيوني الفلسطينيين بالتنازل عن أي مطالب في شأنها مثل التعويض عن النكبة وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. والثاني أنه يصف المستوطنين كشواذ يمثلون استثناءً ولم ينشأوا من القاعدة نفسها التي انبثقت منها دولة إسرائيل عام 1948، وهي قاعدة الانتفاع والتمتع بامتيازات من جراء نهب فلسطين والاستيلاء عليها. وفي الواقع فإن هذه القاعدة تمثل ما يجمع هؤلاء مع دولتهم، لذا لا غرابة في أن ينتهجوا سبيل الاندماج فيها والسعي لكسب القلوب والدعم من أولئك الصهاينة الذين سبقوهم في نهب الأراصي الفلسطينية عام 1948. وقد فعلت هذه السياسة فعلها بحيث بات المستوطنون المستعمرون يملكون وزنًا قويًا داخل المجتمع الإسرائيلي وفي الكنيست والحكومة، ولا غرابة في ذلك بعدما وصل عددهم إلى زهاء 750 ألفًا، وهو يساوي ما نسبته 17 بالمئة من سكان الضفة المحتلة عام 1967، ومن المخطط أن يرتفع هذا الرقم إلى مليون مستعمر خلال السنوات القليلة المقبلة. وعليه، يتضح أن إسرائيل قد باتت «محتلة» بفكر المستوطنين ودعمهم كما أن ميليشياتهم قد أصبحت واقعًا يقوم بالاعتداءات اليومية على الفلسطينيين من دون أن يحرك ذلك الجيش لردعهم، هذا عوضًا من أن جنودًا قد رُصدوا وهم يشاركون في هجمات للمستوطنين على الفلسطينيين، وتكونت وحدة المستوطنين داخل الجيش الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. مع هذه التطورات لم يعد هنالك أي سبب لانشقاق المستوطنين عن دولة إسرائيل، وإن حصلت مناوشات هنا وهناك بين بعض غُلاتهم وبين بعض عناصر الجيش فإن هذه المناوشات سرعان ما يتم تطويقها. أما اليسار فلا يبدو أنه سيكافح المستوطنين لمصلحة الفلسطينيين والتوقف عن قتلهم ونهب أراضيهم وبلادهم، وإنما سيكافحهم في شأن قضايا داخلية تتعلق بالحريات الفردية والعامة التي ذكرت أعلاه وستأخذ الاحتجاجات طابع التظاهرات الكثيرة العدد وقطع مفترقات الطرق والدعوات إلى العصيان المدني والاحتجاجات من الإعلام والقضاء وقادة الجيش ومؤسسات المجتمع، كما يتم بالممارسة على هيئة دعوات منذ الآن. وسترد الحكومة بقمع التظاهرات وتوجيه الاتهامات لقيادة المعارضة بما في ذلك اتهامها بالخيانة والدعوة إلى اعتقال قيادات المعارضة بسبب ذلك، وتنفيذ اعتداءات من النشطاء المؤيدين للحكومة على المتظاهرين ضدها، وربما تحدث أعمال قتل قليلة واضطرابات وتوترات وهكذا. فهل سيؤدي الاصطدام في شأن هذه القضايا إلى درجة أن يتفكك المجتمع الإسرائيلي ذاتيًا؟

يوجد بين صهيونيي الكيان بأجمعهم من جهة عوامل مشتركة متعددة، أولها هو انتفاعهم جميعًا من نهب أرض فلسطين، وثانيها هو التوحد في مواجهة مقاومة الشعب الفلسطيني. وقد ظهر ذلك آخر مرة في حكومة بينيت – لبيد التي ضمت أحزابًا يمينية (يمينا وإسرائيل بيتنا) ووسط (حزب يوجد مستقبل)، ويسار (حزبا العمل وميرتس) وحزب عربي (القائمة الموحدة)، حيث إن برنامج هذه الحكومة لم يتضمن أية فقرة حول القضية الفلسطينية بل حذفها تمامًا من نصوصه[13]، كما أنها في الممارسة كانت الحكومة التي قتلت أكبر عدد من الفلسطينيين منذ سنوات طويلة.

بناءً على ما تقدم فإن تعزيز التناقضات داخل الكيان الصهيوني من الداخل يتطلب تراكم الكفاح الفلسطيني والانفجار الكامل لفلسطينيي الداخل ضد الكيان بحيث يمثلون تهديدًا له من داخل عقر داره. أي أن التغيير وانفراط عقد الكيان لن يأتي من تناقضاته الداخلية من دون أن تؤججها عوامل من خارج المجتمع الصهيوني.

عرف الكيان عبر تاريخه صراعات على هوية الدولة بين المتدينين والعلمانيين وبين اليسار واليمين، وصراعًا بين تجمعاته غير المتجانسة من الغربيين والشرقيين والروس والفلاشا الإثيوبيين، وتهربًا من المتدينين والشباب من الخدمة العسكرية، وحالات فساد متسلسلة بدأت من عهد بن غوريون مرورًا برابين في سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، وانعكست هذه الصراعات ونقاط الخلل في العقود الأخيرة على الجيش الذي بات يخاف أكثر فأكثر من المواجهات البرية وما يترتب عنها من خسائر بشرية، وهو الأمر الذي يجعل الاتجاه الصهيوني الديني المتنامي داخله يرفع عقيرته بنقد ضعف الجيش، ويدعوه إلى تكييف سياساته وممارساته أكثر فأكثر مع توجهات الاتجاه المذكور، ومع الميليشيات المسلحة التي أنشأها هذا الاتجاه كمجموعات شباب التلال «الجريئة» وغيرها. عوضًا من ذلك شهد – ويشهد – الكيان صراعًا بين أغلبيته اليهودية مع الجزء الباقي من الشعب الفلسطيني داخله. وإذ لم تنشأ سياسات فلسطينية وعربية للاستفادة من هذه التناقضات والشروخ ومظاهر التفكك، فإن الكيان قد استمر في توسعه رغمًا عن ضعفه المتولد عن هذه الظواهر.

مع ما سبق، استطاع الكيان منذ إنشائه استيعاب التناقضات والشروخ ومظاهر التفكك المذكورة، ولكن تناقضين قد تفاقما في العقد الأخير إلى درجة تنذر بصعوبة التحكم فيهما. أولًا يتسع التناقض مع الفلسطينيين الباقين داخل الكيان، وثانيًا يتسع التناقض بين بنية الجيش وقوى الأمن الحالية وبين البنية التي يطمح التيار الصهيوني الديني إليها لهذا الجيش والقوى الأمنية. وهذان التناقضان متداخلان وكل منهما يؤثر في الآخر. يسعى التيار الصهيوني الديني المتنامي إلى معالجة التناقض الأول عبر زيادة وتيرة القمع والتخويف والقتل والتهديد بالترحيل، وفي هذا الإطار سيحتاج التيار الصهيوني الديني إلى الجيش والقوى الأمنية لتنفيذ هذه المهمات، وسيجدون من قوى القمع هذه من سيقدمون على تنفيذ هذه المهمات بفعالية، كما سيدمجون عبر الوزارات التي سيسيطرون عليها ميليشياتهم في الجيش وقوى الأمن ليزداد نفوذهم فيها. بهذا سيتحول الجيش وأجهزة الأمن إلى أدوات طيّعة بيد الاتجاه الصهيوني الديني بذريعة التصدي للخطر العربي سواءٌ من داخل الكيان أو في الضفة والقطاع، يساعد في ذلك استمرار التخويف من الخطر الإيراني ومن صواريخ حماس وحزب الله، ومن عواقب التصعيد ضد الاستعمار في الضفة المحتلة عام 1967. أما التناقضات الأخرى عدا عن هذين التناقضين فإن التيار الصهيوني الديني سيتمكن على ما يبدو من تمرير القوانين التي تقلص دور القضاء وتعزز التعليم الديني والتعريف المحافظ لمن هو يهودي وتحديد حرية الإعلام، وغير ذلك من القوانين المحافظة[14]. سيرد اليسار وما يسمّى الوسط والقضاة والإعلاميون باستعمال وسائل قانونية وتظاهرات سلمية بما في ذلك من ما سمي «منتدى الكفاح من أجل طابع الدولة» الذي أسسه رئيس تكتل المعسكر الرسمي بيني غانتس، كونه مسكونًا بروح الحفاظ على الكيان ضد التهديدات الفلسطينية والإقليمية، لذا سيكتفي بالوسائل السلمية للاعتراض، ولن يمارس العنف. في المقابل سيصعد التيار الصهيوني الديني من هجماته على «اليسار» ومن الاتهامات لهم بعدم الولاء، ولكن بعض اليسار سيرد بأساليب «ديمقراطية» حفاظًا على «وحدة الأخوة» والدم اليهودي، وبعض آخر قليل العدد سيمارس العنف الجسدي، ولكن عددًا غير قليل من اليسار سيحزم حقائبه ويغادر دولة إسرائيل «الثيوقراطية، العالمثالثية الشرقية الدينية المتزمتة»، كما يسميها هؤلاء اليساريون المسكونون بالتوق إلى رغد العيش. سيؤدي ذلك كله إلى المزيد من اندثار اليسار، وتعزيز التيار الداعي إلى الانتصار التام على الشعب الفلسطيني وسرقة كل فلسطين وترحيل من تبقى من أهلها (وهو اتجاه يضم أيضًا تيار ما يسمى الوسط). تحليل العوامل الأخرى أدناه سيظهر إذا ما كان هذا السيناريو هو سيناريو حتمي لا رجعة عنه.

ثالثًا: العوامل الدافعة والعوامل الكابحة

أدّت العوامل العربية والدولية دورًا مهمًا في تحديد حاصل الصراع بين الشعب الفلسطيني وبين الصهيونية، فثورة 1936 مثلًا كادت تحقق الانتصار لولا تدخل الحكام العرب الذين دعوا إلى وقفها، ولولا بطش الانتداب البريطاني للفلسطينيين في أي مكان كانوا يحققون فيه دحرًا للقوات الصهيونية، كما فشلت الجيوش العربية في منع قيام دولة إسرائيل عام 1948.

في العامل الذاتي الفلسطيني ليس سرًا أن انتفاضة 1987 قد أوقفها قبل أن تؤتي ثمارها التفاوض مع إسرائيل على اتفاق أوسلو. كما أن الانقسام الفلسطيني منذ عام 2007 وحتى اليوم يمثل عاملًا أساسيًا يكبح تطوير استراتيجية موحدة لتحرير فلسطين.

مع كل ما تقدم، فإن حاصل الصراع حتى الآن لا يزال يقف عند حالة أن أيًا من الطرفين لم ينتصر، كما أن أيًا منهما لم ينهزم. وبالنسبة إلى الشعب الفلسطيني فهو لم ينهزم من جهة، ولكنه فوق ذلك لا يزال يقاوم، بما في ذلك من خلال الوحدة الميدانية لأجنحة الفصائل على قاعدة «اللقاء على أرض المعركة» رغم انقسام قياداتها من جهة أخرى، كما أن الشعب الفلسطيني بات يمثل في السنوات الأخيرة أغلبية ديمغرافية تزيد على عدد اليهود في فلسطين التاريخية بمئتي ألف، وذلك رغم عدم عودة أي لاجئ فلسطيني إلى أرض وطنه. ويمثل استمرار صمود فلسطينيي الداخل في وطنهم عقبة لا تزال مستمرة أمام الصهيونية أجبرتها على توظيف مستعمري الضفة والقدس في العقد الأخير في إنشاء نويات توراتية ومستعمرات إضافية في اللد والرملة وعكا ويافا، وفي النقب وهو ما يؤشر إلى فشل الدولة في تهويد هذه المدن والمواقع بعد ما يناهز 75 عامًا على نشوئها، عوضًا من ذلك لا تزال منطقة المثلث عربية فلسطينية، ولا يزال في الجليل أغلبية عربية فلسطينية، ويكرر وزير الأمر الوطني أيتمار بن غفير في مطلع عام 2023 الدعوات إلى فرض سيادة الكيان المفقودة على هذه المواقع والمدن بعد فشل عملية استكمال احتلالها على مدى السنوات الخمس والسبعين الماضية.

وفي محاولاة لهزيمة الشعب الفلسطيني، مارست إسرائيل المذابح والتطهير المكاني والعرقي، وبعد عام 1967 سعت في البداية إلى حل يقوم على إنشاء دولة استيطانية استعمارية مقلصة كما سماها الباحث في ورقة أخرى[15] تضم الكيان بحدود عام 1948 إضافة إلى الأجزاء التي يريد ضمها من الضفة المحتلة عام 1967، مع تحويل ما تبقى إلى الأردن كما كان عليه الطرح الإسرائيلي في سبعينيات القرن الماضي، ثم منظمة التحرير الفلسطينية كما أصبح عليه الطرح نفسه في تسعينيات القرن الماضي. ومع فشل هذا الحل في مفاوضات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، وقبل ذلك مع الأردن، انتقل الكيان من فكرة حل النزاع إلى فكرة إدارته، من خلال إبقاء الفلسطينيين تحت السيطرة الإسرائيلية من دون أي حقوق سياسية، والاكتفاء بتقديم خدمات مدنية إليهم، بداية من خلال مشروع التقاسم الوظيفي للمسؤوليات مع الأردن كما طرح في ثمانينيات القرن الماضي من جانب حزب الليكود، أو عبر مشاريع شبيهة أطلق عليها اسم «السلام الاقتصادي» من جانب نتنياهو، ولاحقًا اسم «تقليص الصراع» من جانب الأكاديمي ميخا غودمان[16]، وهو ما تبنته حكومة نفتالي بينيت – يائير لبيد 2021- 2022. جاءت أطروحة تقليص الصراع لتقول بتعزيز الحكم الذاتي للفلسطينيين مع عدم انسحاب الجيش الإسرائيلي وبقاء سيطرته على الأرض، واستمرار تشغيل العمال الفلسطينيين في الاقتصاد الإسرائيلي، والتعامل مع قطاع غزة كبانتوستان معزول تتحكم إسرائيل تحكمًا كاملًا في ما يخرج منه ويدخل إليه واستمرار التعامل مع أراضي الـ 67 كسوق للمنتجات الإسرائيلية، وهذه كلها ممارسات أبارتايد. ولكن هذه الممارسات اقترنت في المقابل بالاستمرار في التوسع الاستيطاني الاستعماري، واتساع شهيته لمزيد من السيطرة بما في ذلك لتحويل المسجد الأقصى إلى هيكل لليهود، والمشاريع المختلفة لزيادة عدد المستعمرين في الضفة إلى مليون وحتى مليونين خلال السنوات والعقود القليلة المقبلة، وهذا ما جعل المشروع الاستيطاني الاستعماري يصطدم بالتوجه الأبارتايدي القاضي ببقاء الشعب الفلسطيني في بلاده، بل وتزايد عددهم ديمغرافيًا أكثر من اليهود رغم كل إجراءات التقييد الديمغرافي. هنا باتت حاجة المستعمرات إلى التوسع تصطدم بالكتل البشرية الفلسطينية التي بات من الضروري إزاحتها من أجل توسيع المشروع الاستيطاني الاستعماري، وهنا بدأت عمليات تشريع وإنشاء المزيد من البؤر الاستيطانية الاستعمارية على أراض فلسطينية خاصة، وطرحت مشاريع اقتلاعية لمجموعات بشرية فلسطينية كاملة من قرى مسافر يطا الثلاثة عشر قرب مدينة الخليل، والخان الأحمر على طريق مدينة أريحا، وبلدة الشيخ جراح في مدينة القدس. عنى ذلك أن متطلبات توسع المشروع الاستيطاني الاستعماري قد باتت تتناقض شيئًا فشيئًا مع المشروع الأبارتايدي لإبقاء الشعب الفلسطيني في معازل. وهنا بدأت عملية الإعداد المتدرج لنكبة ثانية جديدة كما سميت[17].

ساعد على الوصول إلى هذه الحصيلة أن النتيجة المؤملة لتنفيذ المشروع الأبارتايدي تحت أغطية السلام الاقتصادي وإدارة وتقليص الصراع في تطويع الشعب الفلسطيني لم تتحقق، حيث استمر الشعب الفلسطيني في المقاومة على هيئة هبّات سنوية في الضفة والقدس منذ عام 2014 وحتى اليوم، ترافقت معها حروب مع غزة. ومع عام 2021 لم تعد الهبّات حالة موسمية بل تحولت لتصبح نمط حياة يوميًا في مقاومة الاستيطان الاستعماري في فلسطين، كما تواصل التزايد الديمغرافي الفلسطيني بحيث أصبح يمثل الأغلبية في كل البلاد.

استخدمت الصهيونية وكيانها مختلف أوجه القوة الخشنة، وكذلك القوة الناعمة من أجل تطويع الشعب الفلسطيني، إلا أن هذه الأدوات لم تفلح. لذلك توصلت الصهيونية إلى استنتاج بضرورة العودة إلى لحظة 1948 مجددًا لتحقيق نكبة ثانية للشعب الفلسطيني. بدأ التفكير بهذا الأمر من الولايات المتحدة عبر أطروحات أفنجليكانية لتحقيق النصر التام على الفلسطينيين عبّر عنها مقالات لدانييل بايبس عام 2017 [18]، وتشكيل تكتلين في كل من الكونغرس الأمريكي والكنيست الإسرائيلي لدعم الفكرة، ثم جاء قانون القومية الذي أقرّه الكنيست عام 2018 ليعيد صوغ بنود تصريح بلفور نفسها بعد 101 عام على صدوره حيث نص القانون أن «أرض إسرائيل» من البحر إلى النهر كما سماها، هي مُلك لما يسمى الشعب اليهودي وحسب، أما الباقون فليس لهم من حقوق سوى تلك الفردية والطائفية. وجاءت صفقة القرن عام 2020 لتؤكد المنحى نفسه، وهو ما حدا بنتنياهو حينها إلى إعلان أن الضم سيتم في العام نفسه، وهو ما علقه مؤقتا الاتفاق مع الإمارات، ثم حكومة بينيت – لبيد 2021- 2022. مثل ذلك وقتًا مستقطعًا قبلت خلاله الإمارات العربية المتحدة بتطبيع علاقاتها مع الكيان في ظل استمراره ممارسة الأبارتايد والتوسع الاستيطاني الاستعماري اليومي واقتحام الأقصى وتهويد القدس تهويدًا فعليًا على أن لا يتم ترسيم ذلك من خلال قرار ضم معلن.

رابعًا: إلى أين من هنا؟

هل ستتمكن الدولة الاستيطانية الاستعمارية من استكمال حرب صناعة وجودها المستمرة منذ فجر الصهيونية وحتى اليوم؟ لا يبدو ذلك ممكنًا بواقع عام 2023. ولكن المعركة في المقابل لا تزال في حالة كرّ وفرّ بين الصهيونية والشعب الفلسطيني، وفي إطار ذلك تحقق الصهيونية تقدمًا بالنقاط لا بالضربة القاضية، كما تحقق تراجعات في عملية من التجربة والخطأ كما هو عليه اسم الكتاب الشهير لأحد زعمائها الأوائل حاييم وايزمان. تراجعت الصهيونية عن شرق الأردن من خلال صك الانتداب عام 1922، وانسحبت من سيناء عام 1982، ومن جنوب لبنان عام 2000، وبالنسبة إلى فلسطين فقد انسحبت من قطاع غزة عام 2005 ولكنها أبقت على احتلالها له من الخارج ومنع دخول وخروج أي شيء منه من دون إرادتها، وفي العام نفسه فككت المستعمرات في جنين وأبقت احتلالها لها ولكنها قد تعيد بناء تلك المستعمرات ضمن حكومة 2023 كما تنص عليها الاتفاقيات الائتلافية لهذه الحكومة.

يعني ما سبق أن الكيان قد اضطر إلى التراجع عن المناطق العربية التي «منحها» إياه تصريح بلفور (ما عدا هضبة الجولان التي لا يزال يتمسك بها بل ضمها إليه في ثمانينيات القرن الماضي)، في حين لا يزال متمسكًا في المقابل بكل فلسطين التي منحها له تصريح بلفور، لذلك يعود إلى جنين هذا العام بعد أن أخلى مستعمراته منها، ويخطط لإخلاء قطاع غزة تدريجًا من سكانه من خلال الضغط الاقتصادي وسجن أهله داخل مساحته الضيقة، والطلب من دول مختلفة فتح الباب أمام استقبال الغزّيين للهجرة إليها كما طرح نتنياهو أثناء زيارته إلى أوكرانيا عام 2019، كما يسعى لحل السلطة الفلسطينية بصورة متدرجة وهكذا. ورغمًا عن ذلك فإن الصهيونية ليست كلية القدرة، فقطاع غزة باق وصامد، والبلدة القديمة من القدس جوهرة الصهيونية الغالية كما تدعيها لا يزال سكانها اليهود لا يتعدّون الـ 3500 مقابل أكثر من 33000 فلسطيني يقطنون فيها، أي ما لا يزيد على 9 إلى 10 بالمئة من سكانها، وفلسطينيو الداخل يسيرون نحو عودة الاندماج الكامل مع عموم الشعب الفلسطيني رغم كل عمليات الأسرلة، كما لا تزال الناصرة عربية وكذلك المثلث وأغلبية الجليل والنقب وأقسام من اللد والرملة ويافا وحيفا وعكا، وقضية اللاجئين الفلسطينيين لا تزال حية. يعني ذلك أن الكرّ والفر لا يزال مستمرًا، وأن الصهيونية لم تصل بعد إلى مرحلة الحسم، ولكنها في المقابل لم تنهزم بعد ولم تصل إلى مرحلة التفكك المتمناة، بل لا تزال تواصل السعي بإصرار لتحقيق أهدافها عبر التجربة والخطأ والمحاولة وتكرار المحاولة. يماثلها في ذلك الشعب الفلسطيني الذي لم ينهزم ولا يزال يواصل المقاومة والصمود وتثبيت الوجود جيلًا بعد جيل.

في إطار سعي الليكود لاستكمال حسم معركة وجوده، تطرح الاتفاقيات الائتلافية بينه وأحزاب تكتل الصهيونية المتدينة، وضع المستعمرات المقامة في الضفة الغربية تحت السيادة الإسرائيلية المباشرة هي وكل المنطقة (ج) التي تمثل ثلثي الضفة الفلسطينية، وبالتالي منع الفلسطينيين من البناء في المنطقة كليًا وتوسيع المستعمرات فيها بوصفها «أرض إسرائيل» التي «للشعب اليهودي حق حصري لا جدال فيه فيها»[19]،  ووفق الاتفاقيات الائتلافية أنيطت هذه الصلاحيات لبتسلئيل سموتريتش من خلال تعيينه كوزير في وزارة الدفاع. بهذه الطريقة يتم ضم المنطقة (ج) قانونيًا إلى إسرائيل وذلك عبر ضم المستعمرات المقامة فيها ومناطق توسعها المستقبلي إلى إسرائيل، وهي صيغة لضم المنطقة (ج) المقامة عليها هذه المستوطنات وتأكيد حق الكيان في فلسطين كلها؛ وهي صيغة يفترض أن تؤرق الإمارات وكل الدول المطبّعة بوصفها خطوة إضافية نحو إعلان الضم الكامل رسميًا، كما أنها يفترض أن تؤرق أية دولة عربية جديدة يتم السعي الصهيوني لضمها للتطبيع كليًا أو جزئيًا مع إسرائيل. على الرغم من ذلك لن تتوقف حكومة نتنياهو عن ضم المستعمرات فقط، بل ستتم أيضًا العودة عن تفكيك المستعمرات التي كانت قائمة في محافظة جنين الذي نفذ وفق خطة أرئيل شارون لفك الارتباط عام 2005، كما سيتم تشريع كل «المواقع الاستيطانية العشوائية» كما تسمى.

وفي ما يتعلق باقتحامات المسجد الأقصى المبارك فلم يجد المرء موقفًا عربيًا صارمًا في شأن ذلك عدا موقف الأردن، ويبدو أنه لن يكون في ضوء الاستقبال المبكر للسفير الإماراتي في تل أبيب لكل من بن غفير وسموتريتش. وفي ضوء عقد مؤتمر النقب الثاني في أبو ظبي بمشاركة من دول التطبيع الإبراهيمي ومصر في مطلع عام 2023، وذلك في وقت لا يزال يتمنع حتى السفير الأمريكي والسفراء الأوروبيون في إسرائيل عن استقبالهما. مع ذلك فإن احتمال انفجار كل الاتفاقيات الإبراهيمية مع دولة الإمارات والبحرين، ولاحقًا مع المغرب والسودان، ستكون عرضة للسقوط في حال حدوث أمر جلل في المسجد الأقصى، هذا ناهيك بالعلاقات مع الأردن ومصر.

لا يبدو أن دول التطبيع الجديدة في صدد اتخاذ مواقف حازمة حتى الآن، وفي المقابل تنتهج مصر أساليب الضغط الدبلوماسي، وتتخذ الأردن مواقف أكثر صرامة في موضوع الأقصى بما في ذلك إعلان الملك الأردني الاستعداد للمواجهة مع الكيان إن أراد الكيان ذلك. وتعلن أوروبا أيضًا مواقف دبلوماسية، في حين تتخذ الولايات المتحدة موقفًا مراوغًا، يقضي «بالتعامل مع أعضاء الحكومة الإسرائيلية وفق أعمالهم، وليس وفق أقوالهم»، كما قال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في حديثه أمام منظمة جي ستريت اليهودية – الأمريكية مطلع كانون الأول/ديسمبر 2022، حيث عاد أيضًا لتأكيد دعم أمن إسرائيل وبقاءها ومكافحة محاولات مقاطعتها وإصدار قرارات إدانة في الأمم المتحدة ضدها. في هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن المنظمات اليهودية الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية، مثل الآيباك، والاتحاد اليهودي في أمريكا الشمالية، والمجلس الأمريكي اليهودي، قد أعربت عن تطلعها إلى العمل مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وصرفت آيباك ملايين الدولارات لدعم مرشحين مؤيدين لإسرائيل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في انتخابات الكونغرس الأخيرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2022. من جهة أخرى عبرت اللجنة اليهودية – الأمريكية عن بعض نقاط القلق من التوجهات الجديدة للحكومة الإسرائيلية، إلا أنها قالت بأنها ستستمر في «دعم أمن إسرائيل ومكانتها في العالم وتعزيز العلاقة الوثيقة بينها وبين يهود العالم»[20]. وحدهما المنظمتان الصغيرتان جي ستريت، والصوت اليهودي من أجل السلام، عبّرتا عن صوت نقدي لتوجهات الحكومة الجديدة الضارة بديمقراطية إسرائيل ومكانتها الدولية كما قالا، وقدَّمتا طلبات محددة لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تقضي بمنع الضم الإسرائيلي للضفة الغربية، والحؤول دون تغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى المبارك (جبل الهيكل كما يسمونه)، وعدم التعامل مع بن غفير وسموتريتش إذا توجها إلى ضم الضفة الغربية أو أجزاء منها وتنفيذ سياسات عنصرية، ووقف تزويد إسرائيل بأسلحة هجومية للاستخدام في القدس والضفة، ووردت الأفكار نفسها في مقال مشترك كتبه آرون دايفيد ميلر ودانيال كيرتزر نشرته صحيفة الواشنطن بوست[21]. مع ذلك يتسع نقد إسرائيل في الأوساط اليسارية من الحزب الديمقراطي الأمريكي، وكذلك بين الشباب الأمريكان واليهود، وقد أشار استطلاع أجري بين اليهود في أمريكا بواسطة معهد الناخبين اليهودي إلى أن 25 بالمئة منهم يعدون إسرائيل على أنها دولة أبارتايد، و38 يرون أن معاملة إسرائيل للفلسطينيين تتسم بالعنصرية[22].  في المقابل هنالك المنظمات الأفنجليكانية التي ترسل متطوعين ومتطوعات للعمل في المستعمرات الصهيونية، وتشجع اليهود الأمريكان هي والرئيس السابق دونالد ترامب على الهجرة إلى إسرائيل، وتتهم اليساريين ومؤيدي الحزب الديمقراطي منهم على أنهم يهود يكرهون أنفسهم ويفتقرون إلى الولاء الكافي لدولة إسرائيل. وتشير دراسة صدرت من جامعة هارفرد عام 2017 إلى أن 15 بالمئة من سكان المستعمرات الصهيونية في الضفة هم يهود أمريكان[23].

ما سبق من تحليل يتعلق بالعوامل الدافعة والكابحة على المستوى السياسي، ولكن هنالك عوامل أخرى ديمغرافية وقانونية واقتصادية، وكفاحية ميدانية.

في ما يتعلق بالعوامل الديمغرافية لا تبدو الزيادة العددية الفلسطينية عنصرًا كابحًا كلية، حيث استطاعت الصهيونية إيجاد بعض الحلول لها عبر إخراج قطاع غزة ومناطق (أ) من الضفة من تحت الحكم الإسرائيلي المباشر، كما أن الأغلبية في المنطقة (ج) التي تمثل ثلثي مساحة الضفة فهي للمستعمرين اليهود الذين يبلغ عددهم هناك زهاء نصف مليون نسمة يقابله 200 إلى 300 ألف فلسطيني. في المقابل بلغ الجشع الاستيطاني الاستعماري عتبة أصبح معها يفكر في إزاحة مجتمعات محلية فلسطينية بأسرها يعدّها تقف في طريقه.

ربما تتوافر العوامل الكابحة بصورة أفضل على المستوى القانوني، والحملات المرتبطة به مثل حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، ورفع قضايا أمام المحاكم الأممية والدولية لتجريم الاحتلال، وإصدار قرارات دولية جديدة من الأمم المتحدة، مع أن هذه الأخيرة لا تغير الشيء الكثير بالنسبة إلى فلسطين حيث إنها لا تجد طريقها للتطبيق.

أما على المستوى الاقتصادي، فإن الكيان قد يضطر إلى الاستمرار في تشغيل الأيدي العاملة الفلسطينية الأرخص، وسيستمر قطاعه الصحي في الاعتماد على الفلسطينيين الذين يمثلون 25 بالمئة من طواقم هذا القطاع. ولكن ذلك، ولا سيما في قطاع العمالة، سيتم في إطار علاقة السيد بخدمه. وقد عرف شافير هذه العلاقة ليضعها ضمن نموذج اقتصادي خاص أطلق عليه اسم «التنمية الاثنية المنفصلة» التي تمنع نشوء أية علاقات تضامن أو كفاح طبقي مشترك بين العاملين الفلسطينيين واليهود[24].  وعليه لا يبدو عامل الحاجة إلى الأيدي العاملة الفلسطينية كابحًا أمام تطور المشروع الاستيطاني الاستعماري، كما أن إمكانات الاستغناء عن الأيدى العاملة الفلسطينية هو أمر وارد وبوشر في تطبيقه جزئيًا.

أخيرًا وليس آخرًا، يبدو العامل الكفاحي الميداني الفلسطيني وصمود الشعب الفلسطيني على أرضه هو الأكثر تأثيرًا في تغيير مسار الأمور، ولا سيما إذا ما اقترن بالاتفاق على وحدة الهدف ووحدة الفعل، وخطَّط للبناء ومراكمة الإنجازات ضمن خطوات متسلسلة ومدروسة ينبني إنجاز أحدها على سابقاتها ويهيئ لما سيتلوها.

لا يبدو إذًا أن الحكومة الإسرائيلية الجديدة وبرامجها ستؤدي إلى تغيير فوري في مواقف دول العالم الغربي، وهو ما يلقي بمسؤولية كبرى على عاتق الدبلوماسية الفلسطينية والعربية لتوضيح الحقائق، كما هنالك الدور المهم الذي تقوم به في هذا الصدد الجوالي الفلسطينية والعربية في شتى أرجاء العالم للتأثير في المواقف الشعبية الأمريكية وفي السياسة الامريكية الرسمية على المدى الأبعد نسبيًا، وهو الأمر غير الممكن حدوثه لوحده من دون بذل جهود فلسطينية وعربية داعمة لدور الجوالي بهذا الاتجاه.

خلاصة

اكتست الصهيونية منذ بداياتها الأولى طابعًا نازيًا، حيث لم تكن أولًا إلا حركة عرقية قامت على أساس الادعاء بأن العرق اليهودي قد استمر منذ نشأة اليهودية قبل ثلاثة آلاف عام وحتى اليوم. وقالت ثانيًا إن هذا العرق هو شعب الله المختار الذي يجب أن يكون الأغيار (الغوييم) في خدمته. حملت الحركة الصهيونية منذ نشأتها طابعًا فاشيًا مضادًا لليهود الذين اختلفوا معها وسعوا للاندماج في مجتمعاتهم التي نشأوا وتربّوا فيها. وفي هذا الإطار تحالفت الصهيونية مع النازية لكي تهجر اليهود من ألمانيا إلى فلسطين عبر اتفاقية الهعفاراه عام  [25]1933، ودبرت الاعتداءات بالمتفجرات على اليهود في العراق لدفعهم إلى الهجرة إلى فلسطين[26]، واليوم تتحالف مع الأفنجليكانية المعادية لليهود من أجل تشجيع هجرة أكبر كتلة يهودية لا تزال موجودة في العالم وهي يهود الولايات المتحدة. هذه الحقائق كلها معروفة وأشبعتها الدراسات بحثًا.

بعد نشوء دولة إسرائيل عام 1948 حاول التيار الصهيوني المعلمن للدين التفاع زي التحضر في تعامله مع اليهود داخل الكيان، من هنا تراجعت الفاشية، أما السلوك النازي ضد الأغيار فقد استمر، يذكر بذلك مجازر قبية عام 1952، واقتلاع بدو النقب من ديارهم بعد قيام الدولة، ومجازر غزة وخانيونس بالذات عام 1956- 1957، وإزالة قرى يالو وعمواس وبيت نوبا من الوجود بعد حرب حزيران/يونيو من عام 1967، وتهجير مخيم عقبة جبر أثناء الحرب، وتشغيل باصات من باب العامود في القدس لنقل فلسطينييها نحو جسر الأردن في الحقبة نفسها[27]، وهكذا.

بعد احتلال عام 1967، عادت الفاشية لتضرب مجتمع الكيان نفسه، وكان أن حذر الحاخام يشعياهو ليبوفيتش والبروفسور يتسحاك شاحاك منذ وقت مبكر منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي أن جرائم الاحتلال في الأراضي المحتلة عام 1967، ستنعكس على المجتمع الإسرائيلي عنفًا داخليًا ضد النساء والفقراء وغيرهم. واستمر البروفيسور زئيف شتيرنهيل على الخط نفسه في الثمانينيات والتسعينيات. واليوم يكتمل ما حذر منه ليبوفيتش وشاحاك وشتيرنهيل، إذ يتسلّم الفاشيون ضد اليهود المختلفين السلطة ويغيرون القوانين على هواهم. أما النازية فقد انتقلت إلى طور جديد قوامه التحضير لضم الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 رسميًا إلى إسرائيل، والإشهار عن الخطط التي كانت كامنة لطرد من تبقى من الشعب الفلسطيني من بلاده، وإخضاع من يبقون بعد ذلك لسلطة الأسياد. تكتسي النازية هنا طابعًا اقتلاعيًا إحلاليًا ممزوجًا بالتوجه الإبادي. فهل تتحقق هذه المخططات الإجرامية؟

الإجابة عن هذا السؤال مرهونة بمدى المقاومة التي ستواجه هذه المخططات. لذلك فإن دحرها ليس أمرًا مضمونًا ومقولات الحتمية التاريخية حول انتصار الشعوب المستضعفة لا تفيد؛ فقد عرف التاريخ عدة نماذج إبادة، منها، أولًا إبادة الهنود الحمر في الأمريكتين الشمالية والجنوبية، وأبيد الشعب الأصلي في أستراليا. وثانيًا هناك مصائر أخرى عرفتها المشاريع الاستيطانية في الجزائر وغيرها، حيث تم دحر هذه المشاريع. وشهدت جنوب أفريقيا نموذجًا ثالثًا قام على المصالحة بين الشعب الأصلي وبين المستوطنين المستعمرين. أما النموذج الرابع فهو أيرلندا الشمالية حيث لم يتحقق النصر للمستعمرين ولا للشعب الأصلي، لذا تم إيجاد صيغة حكم مشترك لإدارة النزاع وتجميده إلى حين نشوء ظروف جديدة. في فلسطين (النموذج الخامس) القائم على الاقتلاع والإحلال الممزوج بالمجازر، فإن هذا النموذج لا يزال يشهد حالة الكرّ والفرّ، فهل يستمر كذلك بحيث يحقق الشعب الفلسطيني النصر؟ الجواب بالإيجاب ليس مضمونًا، فلا نزال على بعد 125 عامًا منذ مؤتمر بازل الذي أقام الحركة الصهيونية، بينما استمر الصراع في جنوب أفريقيا من 1652 إلى 1994، أي نحو 350 عامًا، واستمر الصراع على السيطرة على أمريكا من جانب المستوطنين المستعمرين منذ نهاية القرن الخامس عشر حين اكتشفها كولومبوس عام 1492 حتى عام 1924 حين ألقى آخر هندي أحمر سلاحه، أي بعد نحو 430 عامًا. أما أيرلندا فقد غزا بلادها أول مستعمر إنكليزي عام 1167 ولم تتحرر أغلبية مقاطعاتها لتشكل جمهورية أيرلندا إلا عام 1921 أي بعد نحو ما يزيد على 750 عامًا. أما مقاطعاتها الست التي سميت أيرلندا الشمالية فلا تزال خارج حالة الحسم. لا توجد إذًا وصفة جاهزة كيف سينتهي عليه الأمر في فلسطين ووفق أي نموذج؟ ومتى؟  كما يبين تاريخ فلسطين المديد فإن العامل الذاتي الفلسطيني بتفاعله مع العوامل العربية والدولية هو من سيحدد الجواب في حالة فلسطين، وليس العامل الفلسطيني لوحده. وكما يبدو أن الصراع لا يزال بحاجة إلى مزيد من الزمن، إذ لن تطبق الصهيونية توجهاتها الإبادية الاقتلاعية دفعة واحدة بل بتدرج وعلى زمن طويل تبعًا للخوف من الارتدادات التي ستسببها لجهة اتساع العوامل الكابحة، لذا يكون مناسبًا تفعيل هذه العوامل فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا ونقلها بالتدريج من الكبح إلى تغيير المسار بوسائل ست: كفاحية ميدانية، واقتصادية تنموية، وقانونية، وسياسية ودبلوماسية، وإعلامية، ومعرفية يكون العالم كله هو ساحتها.

كتب ذات صلة:

في معنى المكان: وحي من دروس المقاومة المقدسية

الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة