مقدمة:

حظي موضوع التعليم والشباب، على مستوى العمل المغاربي المشترك، بأهمية كبيرة منذ توقيع معاهدة مراكش سنة 1989، حيث وُقعت 8 اتفاقيات من جانب رؤساء الجمهوريات، واجتمع وزراء التربية بالبلدان المغاربية في شباط/فبراير 2001 بنواكشوط وعبَّروا عن ضرورة تأهيل هياكل التنمية البشرية، وأكد وزراء خارجية دول الاتحاد المغاربي الطابع الاستراتيجي للشباب وضرورة التكفل بحوائجه، ولا سيَّما التعليمية منها، وهو ما تجسد في القرار الذي اتخذوه في دورتهم الـ 27 سنة 2007 بجعل موضوع الشباب بنداً قارّاً في جدول أعمالهم، ووضعه في صدارة اهتمامات المجالس الوزارية القطاعية كافة. بناء على ذلك، أُنشئ العديد من الهياكل في مختلف مجالات التنمية البشرية، منها: اللجنة الوزارية المكلفة بتنمية الموارد البشرية، والمجلس الوزاري القطاعي للشباب والرياضة، والوكالة المغاربية لأنشطة الشباب، والاتحاد المغاربي للرياضة، واتحاد معاهد ومؤسسات تكوين أطر الشباب والرياضة، واللجنة المغاربية الدائمة للشباب، تمثلت فيها القطاعات الرسمية والجمعيات والمنظمات المدنية المعنية، تعمل على وضع تصور محدد لسياسات مغاربية بغية مزيد العناية باهتمامات الشباب، وتطوير منظومة التعليم والتعلم، وتوسيع قاعدة الحوار معه، ودمجه في الحياة العامة.

إلا أن هذه الإجراءات لم تُفعّل، فولدت المؤسسات معطلة بلا روح، ولم نلمس أثرها فعلياً في تكوين الموارد البشرية الشبابية، ولا في المؤسسات التعليمية والتربوية. بل لم تتشكل في إطار البلدان المغاربية أي مبادرة رسمية متكاملة للتفاعل أو الحوار بين المنظومات التعليمية، ولا توجد أي اتفاقيات واقعية في هذا المجال.

لهذا لم تتجاوز الأنساق التعليمية المغاربية دائرة الأزمة، فظلّت أنظمة مغلقة، تُكرس الأزمة المجتمعية القيمية على جميع الأصعدة؛ فهي نُظُم هشّة غير قادرة على التأثير الإيجابي في المجتمع، وضَخِّ «القيم الإيجابية» في الواقع الاجتماعي. ولعل الاستبداد والمناخ الخانق ما قبل الحراك السياسي أسهم بدرجات متفاوتة في ترسيخ آليات «الاجترار» والبقاء في مربع «الترقيعات» والإصلاحات الصغرى (Les Réformettes)؛ فالاستبداد ترِكته ثقيلة وأصلٌ لكل فساد، «فالمستبد يضغط على العقل فيفسده ويلعب بالدين فيفسده ويحارب العلم فيفسده»‏[1] كما عبر عن ذلك عبد الرحمن الكواكبي.

وبالرغم من ذلك، يُعَدُّ تاريخ المنظومة التربوية المغاربية تاريخ الإصلاحات والتعديلات والتغييرات بامتياز؛ إذ تتالت الإصلاحات في المغرب سنوات (1966 – 1957 – 1985 – 2000 – 2009)، وتعددت في الجزائر فترات (1964 – 1976 – 1998 – 2008)، كما أنجزت تونس العديد من الإصلاحات سنوات (1958 – 1991 – 2002 – 2016)، وهو ما شهدته موريتانيا سنوات (1967 – 1973 – 1979 – 1999)، وعاشته ليبيا سنوات (1970 – 1980 – 1993 – 2010). عانت كل هذه الإصلاحات صعوبات تنزيلها على أرض الواقع وإكراهات تجسيدها، ذلك أن هذه الإصلاحات المتعاقبة باءت بالتعثر أو الفشل بشكل صريح، نظراً إلى كونها لم تبلغ القصد من بلورتها ولا الهدف من إعدادها.

لا يزال إصلاح المنظومات التربوية المغاربية يمثل التحدي الأكبر والرهان الأساسي لبلوغ التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية المنشودة، كون أن إصلاح قطاع التربية والتعليم هو بالأساس استثمار في المعرفة وفي رأس المال البشري الذي يشكل الثروة الوطنية الاستراتيجية الأهم والأبقى. والأسئلة الأساسية المطروحة: ما الأسباب التي أدت إلى تعطل الإصلاحات التعليمية؟ وما مبررات غياب أثرها الإيجابي وعدم تحقق الأهداف المبرمجة ولا النتائج المرجوة؟ لماذا فشلت الإصلاحات التربوية؟

أولاً: أولوية التربية والتعليم وبهرجة المنحى الكمي

تتبوأ المدرسة مكانة محورية لدى كل فئات المجتمعات المغاربية، واعتُبر التعليم من بين الأولويات الوطنية لجُل البلدان في الفترات التاريخية المختلفة؛ ففي الجزائر، ورد في ديباجة «القانون التوجيهي للتربية الوطنية»‏[2] «إن الجزائر ومنذ فجر الاستقلال جعلت من تربية أبنائها مركزاً لاهتماماتها… واعتبرت أن قطاع التربية الوطنية ذا أولوية». وتضمنت المبادئ الأساسية «للميثاق الوطني للتربية والتكوين»‏[3] المغربي إعلان «قطاع التربية والتكوين أول أسبقية وطنية بعد الوحدة الترابية». ونص الفصل الأول من «القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي»‏[4] التونسي على أن «التربية أولوية وطنية مطلقة». وأشار القانون الموريتاني‏[5] إلى «أهمية التعليم في المجتمع، وضرورة إعلاء التربية ومنحها مكانة متميزة». ولم تشذ ليبيا كذلك عن هذا الخيار، حيث يشير الإطار التشريعي إلى «أن التعليم حق للجميع… كما تعمل الدولة على تشجيع التعليم الأهلي والتوسع فيه»‏[6]. يتبين من هذه المواقف أن المدرسة لا تزال تحتل مكانة مركزية في إنتاج المعاني والدلالات لدى مجموع المجتمعات المغاربية؛ إذ كان طوال العقود التي تلت الاستقلال ينظر إليها (المدرسة) باعتبارها الإمكانية الوحيدة للتحديث الاجتماعي وتجديد القيم، وعُدّت آلية الارتقاء الاجتماعي بامتياز لفئات عريضة من الشرائح الفقيرة، ومارست هذا الدور في بعض الأحيان أكثر من العائلة والقبيلة والمؤسسة العسكرية.

نشير بداية إلى انتشار التمدرس بنسب متفاوتة في أغلب البلدان المغاربية، فقد تطورت النسب العامة بعد الاستقلال، حيث بلغت في تونس نسبة 99.5 بالمئة للتلاميذ في عمر ست سنوات عام 2016، وتتراوح بنسبة 99.1 بالمئة لسن ما بين 6 و11 سنة، و81.2 بالمئة للفئة العمرية 12 – 18 سنة. وارتفعت نسبة التمدرس في الجزائر إلى 47,20 بالمئة سنة 1966، و83.05 بالمئة سنة 1998، و98 بالمئة سنة 2010. وفي المغرب تضاعف عدد التلاميذ في الابتدائي والثانوي قرابة 16 مرّة؛ ففي سنة 1956 كان العدد 365.712 تلميذ فارتفع إلى حدود 5.8 مليون سنة 2003 – 2004، وفي سنة 2015 بلغت نسبة التمدرس 96.9 بالمئة. أما في ليبيا فقد ارتقت أعداد المتمدرسين من 57402 طالب سنة 1954 – 1955، ليبلغ مجموع الطلاب في التعليم الأساسي 1003865 طالباً سنة 2012، منهم 495224 طالبة بنسبة 49.30 بالمئة، أما في التعليم الثانوي فقد بلغ عدد الطلاب 223623 منهم 126056 طالبة. إلا أن موريتانيا لم تشهد نفس الزخم، إذ لم تتجاوز أعداد المتمدرسين حدود 470753 تلميذاً في التعليم الأساسي سنة 2011، و59561 في التعليم الخصوصي، و90570 تلميذاً في التعليم الثانوي من بينهم 44.4 بالمئة إناث.

لن نتوقف عند المعطيات «الإحصائية» التي عرفت ارتفاع نسب تعميم التمدرس وشيْد المؤسسات التعليمية، ونسب النجاح في امتحانات البكالوريا، وتشجيع الفتيات على التمدرس، وتراجع نسب الأمية. فهذه المنجزات التي تستند إلى لغة الأرقام والإحصاءات، لا يمكن إنكارها، إلا أنها لا تلامس نجاعة المنظومات التربوية إلا من بعيد، انطلاقاً من أن هذه الإنجازات – على أهميتها – لا تكتسي طابعاً حاسماً في إصلاح أي منظومة تربوية تعاني إخلالات بنيوية.

هذه الأرقام قد تحجب عنا الإشكاليات العميقة، مثـلاً رغم مؤشرات التمدرس المرتفعة نسبياً فإن معركة الأمية لا تزال مستمرة، وبخاصة في المغرب؛ فالتقييمات الأخيرة لإحصاءات «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية» (OECD) كشفت نقائص في تعميم التعليم داخل المناطق الريفية والجبلية. وما زالت الأمية حاضرة في تونس من خلال مؤشرات التفاوت الجهوي؛ ففي مدينة القصرين تبلغ نسبة 39 بالمئة، بينما المعدل الوطني 27 بالمئة، إضافة إلى أن 44 بالمئة من المدارس الريفية لا تتوافر على مياه الشرب. وتبرز الفجوة والفوارق الدالة في نتائج البكالوريا بين المحافظات الساحلية والداخلية. والأمر كذلك في الجزائر؛ فنسبة التمدرس في مدينة سكيكدة (الشمال) مثـلاً بلغت 94.7 بالمئة، بينما في ولاية إليزي بالجنوب الشرقي لا تتعدى النسبة 56.5 بالمئة، ومن كل 100 طالب يدخلون المدرسة الابتدائية ينجح منهم 9 فقط في البكالوريا، ويحصل 5 طلاب على شهادة تعليم عالٍ‏[7]. إلا أن الأمر أخطر في كل من ليبيا التي تستنزف الصراعات طاقات الشباب وتدفعهم إلى مغادرة مقاعد الدراسة؛ وموريتانيا حيث لم تتجاوز الأمية سنة 2016 نسبة 47.9 بالمئة، وهو رقم مفزع. وذكر التقرير الاقليمي لليونسكو أن نظام التعليم في موريتانيا يواجه عقبات كبيرة، إذ تتجاوز نسب التمدرس المتوسط الإقليمي.

ورغم انتشار المدارس والتوسّع السريع في التعليم الأساسي في البلدان المغاربية، لا تزال المدارس تشهد ارتفاعاً في معدلات التسرّب والرّسوب، وتآكل المباني وازدحام الصفوف، ناهيك بأن المتخرّجين يفتقرون إلى ما يلزم من المهارات والمعارف للدخول إلى سوق الشغل أو متابعة الدراسة الجامعية. كما تركز المناهج في الدول المغاربية على التلقين والحفظ، ولا تسهم في تنمية التفكير النقدي والإبتكاري. وثمة نواقص أخرى، منها نقص عدد المدرِّسين المؤهّلين، وتدني مستويات التحصيل الدراسي، وضعف مكتسبات الطلاب، وغياب الحوكمة والشراكة والمساءلة العامة، وهو ما كشفته معظم التقييمات والتقارير العربية والإقليمية والدولية، التي سنشير إلى بعض نتائجها باقتضاب.

  • المنظومات التعليمية المغاربية في ميزان التقييمات الدولية

سنعتمد ثلاثة تقييمات أساسية:

أ – التقييم الأول

يصدر «المنتدى الاقتصادي العالمي» (World Economic Forum) مقره في جنيف تقريراً كل سنة حول التنافسية العامة (The Global Competitiveness Report)‏[8]، يعتمد ترتيب نمو البلدان وفق 114 مؤشراً (Global Competitiveness Index GCI) تقيم الوضع الاقتصادي للبلدان، من خلال عدّة محاور، من بينها البنية التحتية وقطاع الصّحة وقطاع التربية. وقد كشف تقرير 2015 – 2016 تدني ترتيب البلدان المغاربية في النتائج العامة، ومقارنة بالبلدان الأفريقية نجد جزيرة موريس في المرتبة 46 عالمياً، تليها أفريقيا الجنوبية (49)، ونجد المغرب في المرتبة 72 والجزائر 87 وتونس 92 وموريتانيا في المرتبة 138‏[9]. سنتناول أساساً المؤشرات ذات الصلة بالتربية في البلدان المغاربية، تقدم تقييماً للوضعية الإجمالية للأنظمة التربوية، وتعرض صورة فوتوغرافية لتقييم مستوى أداء المنظومات التعليمية المغاربية، التي لا تزال بعيدة عن المعايير الدولية.

الجدول الرقم (1)

نسبة التمدرس في المرحلة الابتدائية

الجدول الرقم (2)

ربط المؤسسات التربوية بشبكة الإنترنت

البلدانالنسب المئويةالترتيبالبلدانالعلامةالترتيب
تونس98.7010تونس3.4110
الجزائر97.3036الجزائر2.8128
المغرب98.3021المغرب3.5112
موريتانيا73.1133موريتانيا2.1137
الجدول الرقم (3)

مستوى التلاميذ في الرياضيات والعلوم

الجدول الرقم (4)

جودة إدارة المدارس

البلدانالعلامةالترتيبالبلدانالعلامةالترتيب
تونس4.453تونس4.272
الجزائر3.3105الجزائر3.4117
المغرب474المغرب4.169
موريتانيا2.9123موريتانيا2.5131

 

تدل الإحصاءات المتضمنة في الجداول ذوات الأرقام (2) و(3) و(4) و(5) على الترتيب المتأخر للبلدان المغاربية في المحاور المذكورة، كما تبين فوارق كبرى داخل البلدان المغاربية ذاتها، خاصة في مستوى نسب التمدرس واستيعاب مادتي الرياضيات والعلوم.

ب – التقييمان الثاني والثالث

مكنت التقييمات الدولية PIRLS (الدراسة الدولية لقياس مدى تقدم القراءة في العالم) و‍TIMSS (دراسة التوجهات الدولية في الرياضيات والعلوم) من تقييم جودة التعليم في مختلف مناطق العالم. شارك المغرب في التقييم الدولي PIRLS وكانت نتائجه متواضعة، وشاركت تونس في PISA (البرنامج الدولي لتقييم مكتسبات الطلاب) وهي مرتبة في ذيل السلم، وشاركت الجزائر في TIMSS ورتبتها متدنية. أظهرت نتائج «الدراسة الدولية لقياس مدى تقدم القراءة في العالم» PIRLS، احتلال تلاميذ الصف الرابع ابتدائي بالبلدان المغاربية مراتب متأخرة جداً في ما يتعلق بقياس تقدم القراءة وتقييم الاتجاهات في الرياضيات والعلوم؛ إذ يجد طلاب الصف الرابع ابتدائي صعوبة كبيرة في القراءة باللغة العربية. وهو أمر أكدته منظمة «اليونسكو» في تقرير (سنة 2014) صادم عن واقع التربية والتعليم بالبلدان المغاربية، أشار إلى إشكالات بنيوية جعلت النظم التربوية المغاربية تحتل مراتب متأخرة في أغلب المؤشرات التربوية‏[10]. لم تتم الإشارة إلى المعطيات الخاصة بكل من ليبيا وموريتانيا، لعدم مشاركتهما في أي تقييم دولي لأسباب غير معلومة.

تبرز الجداول التالية نماذج من النتائج المنشورة:

الجدول الرقم (5)

نتائج الدول المغاربية في تقييم
TIMSS في الرياضيات
(متوسط أداء طلاب الرابعة أساسي)

الجدول الرقم (6)

نتائج الدول المغاربية في تقييم
TIMSS في العلوم
(متوسط أداء طلاب الرابعة أساسي)

المنطقة      السنة200320072011المنطقة      السنة20032007
المتوسط الدولي467500500المتوسط الدولي474500
تونس410420425المتوسط العربي416424
الجزائر387تونس404445
المغرب387381371الجزائر408
المتوسط العربي392388المغرب396402
كوريا الجنوبية613

 

الجدول الرقم (7)

نتائج البرنامج الدولي لتقييم مكتسبات الطلاب (2015)

المجال

الدولة

المرتبةعلومرياضياتقرائيةالمتوسط الدولي لعام 2015 لمنظمة (OCDE)
سنغافورا1556564535علوم493
اليابان2538532516
أستونيا3534520519
تونس65386367361رياضيات490
الجزائر68376360350
لبنان64386396347
الإمارات العربية المتحدة45437427434قرائية490
قطر55418402402
الأردن60409380408

 

يبين كل من الجدولين الرقمين (5) و(6) نتائج طلاب الصف الرابع أساسي في البلدان المغاربية مقارنة بالمتوسط الدولي والمتوسط العربي، ويلخص الجدول الرقم (7) نتائج طلاب سن الخامسة عشرة للبلدان المغاربية مقارنة بالبلدان العربية المشاركة والبلدان المرتبة في رأس القائمة.

أين يكمن الخلل؟ في البرامج والمناهج المقررة؟ في المُدرّسين؟ في منهجية وطرق التدريس؟ في الامتحانات والتقويم الإشهادي؟ في الأسرة والمحيط؟ في كل هذه الأمور مجتمعة؟ هل مراجعة البرامج والمناهج كافية لتجاوز عطالة المنظومات التعليمية؟

ثانياً: مأزق الإصلاحات التربوية المغاربية

تشهد البلدان المغاربية حراكاً تربوياً من أجل إصلاح أنظمتها التعليمية، إلا أن عمليات الإصلاح لا تخضع لمنهجية دقيقة، أو تمشيات واضحة المعالم، ترتبط غالباً بالأشخاص وبطبيعة الحكومات المتعاقبة، وبمتغيرات السياسة الوطنية ولم تتحول إلى مشروع مجتمعي متكامل. سنشير إلى ثلاث نقاط رئيسية ساهمت في خنق الإصلاحات وأعاقت تنفيذها السليم.

1 – فلسفة الأهداف في الخطاب الإصلاحي

تشكل الأهداف التربوية في بنيتها وآليات اشتغالها ظاهرة مركبة تتكامل فيها الطموحات الفردية والمجتمعية في بلورة صورة الإنسان، وتتقاطع فيها الرهانات السياسية والتربوية والمعرفية والحضارية، وعادة ما تكون الأهداف التربوية إجابة عن أسئلة، مثل: ما صورة الإنسان الذي ترغب النظم في بنائه تربوياً؟ أي إنسان يريد المجتمع؟ ويتجلى الهدف التربوي في تصورات ذهنية تنزع إلى التحقق ضمن برامج وخطط في إطار مكاني وزماني محددين، يعرِّف جون ديوي الهدف التربوي بأنه الغاية المقصودة من رسم الخطط التربوية اللازمة لحياة المجتمع وتقدمه، والأهداف التربوية هي الضوابط التي توضح مسار التربية في المجتمع والمرامي التي تسعى التربية إلى بلوغها لفائدة المجتمع، ويحدّ الهدف أيضاً بأنه «وصف للتغير المتوقع حدوثه في سلوك المتعلم نتيجة تزويده بخبرات تعليمية وتفاعله مع المواقف التعليمية المحددة»‏[11].

تدرك الأهداف بوصفها ترجمة لغايات المجتمع التربوية، وتحدد أوجه النشاطات التربوية في مديين زمني ومكاني معينين، والأهداف إما أن تكون كمية مثل انتشار التعليم ما قبل المدرسي، وأما أن تكون نوعية مثل تعديل بعض الاتجاهات أو بناء القيم الإيجابية أو الإنصاف أو العدالة. على أهمية ضبط الأهداف وصياغة الخيارات الأساسية، يؤكد الخبراء أن الأهم ليس بلورة قيم وغايات المنظومات التربوية وقوانينها ومبادئها، وإنما التحدي الأكبر التمكن من ترجمتها في ممارسات وسلوكات ومواقف لدى الناشئة. ننطلق من تساؤل منهجي: هل تستوفي الأهداف التربوية المغاربية الشروط المنهجية الضرورية لصياغة الأهداف التربوية؟ هل يعاني خطاب الأهداف التربوية من عناصر ضعف وقصور؟ ما هي أبرز العيوب التي تعانيها بنية النصوص الخاصة بالأهداف التربوية؟

اطلعنا على مجموعة الوثائق والتقارير التربوية المرجعية للمنظومات التعليمية المغاربية، ممثلة بـ «الكتاب الأبيض»‏[12] و«القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي» بتونس، و«القانون التوجيهي للتربية الوطنية» بالجزائر، و«الميثاق الوطني للتربية والتكوين» و«البرنامج الاستعجالي 2009 – 2012» بالمغرب‏[13]، والقانون الرقم 99/012 الصادر بتاريخ 26 نيسان/أبريل 1999 في موريتانيا، والقانون الرقم 18 لسنة 2010 بليبيا. في قراءة هذه النصوص المرجعية، يشعر القارئ بالغبطة للأهداف النبيلة والفلسفة الإنسانية التي تقود المنظومات، إلا أن مقارنة متبصرة تشي بأن الجهود التربوية تواجه مشكلات جوهرية، وتعترضها معضلات حقيقية، فالأهداف على رفعتها وتميزها بقيت حبيسة الأوراق ولم يتم تجسيمها ميدانياً ولم تتجلَّ في مكتسبات الطلاب وتصرفاتهم، وتشهد انحساراً في التفكير النقدي وهيمنة لنزعات التشدد والغلو الديني. لا يمكننا استعراض كل الأهداف، سنقتصر على تقديم بعض النماذج لإبراز خصوصيات الأهداف وثغراتها، سنقتصر على ثلاثة نماذج مغاربية لاستنادها إلى سلسلة من المرجعيات المتكاملة، ومقارنتها مع الأهداف التربوية لولاية فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية.

يوضح الجدول الرقم (8) عينة من الأهداف التربوية:

الجدول الرقم (8)

عيِّنة من الأهداف التربوية

ولاية فلوريدا (8)المغرب (9)الجزائر (10)تونس (9)
مساعدة التلميذ على فهم ذاته1تكوين مواطن يتسم بالاستقامة والصلاح والاعتدال والتسامح1مركزية الفرد في العملية التعليمية1تحقيق مبدأ الانصاف وتكافؤ الفرص1
إكساب التلميذ المهارات الأساسية في الحديث والقراءة والكتابة والحساب2اكتساب القيم والمعارف والمهارات التي تؤهله للاندماج في الحياة2المعرفة الحديثة هي بذاتها قوة2مراجعة الخارطة المدرسية2
إكساب التلميذ مهارات الابتكار والقدرة على التفكير الناقد3نشر التعليم وربطه بالمحيط الاقتصادي3ليس هناك ثوابت في الواقع الاجتماعي للإنسان3تطوير كفايات الموارد البشرية3
تأكيد العادات الصحية الجيدة4إعادة هيكلة التعليم ونظام التقويم والامتحانات والتوجيه.4توفير التعليم للجميع4تطوير مكتسبات المتعلمين وتجويد تعلماتهم4
معرفة التلميذ لفرص العمل المتاحة وإعداده بما يناسب هذه الفرص5رفع جودة التربية والتكوين ومراجعة البرامج والمناهج.5تأكيد العمل المبدع5تطوير الحياة المدرسية5
تقدير الآخرين الذين يختلفون عنه ثقافياً6الاهتمام بالموارد البشرية وتحسين ظروف المتعلمين.6إثارة روح التحدي في الإنسان العربي6إعادة هيكلة التعليم الاعدادي والثانوي6
إكساب التلميذ الاتجاهات نحو المواطنة المسؤولة والملتزمة اجتماعياً7تحقيق اللامركزية وتحسين التدبير العام7تأمين حقوق المتعلم7التصدي للفشل المدرسي والانقطاع عن الدراسة7
تفهم وتذوق الفنون والموسيقا والآداب وذلك بغرض التمتع بالحياة واستغلال أوقات الفراغ8جعل المتعلم في قلب الاهتمام والتفكير والفعل خلال العملية التربوية التكوينية.8مساعدة التلاميذ على فهم أفضل لثقافتهم وإعدادهم لمجتمع عالمي.8توظيف تكنولوجيات الاتصال في التعليم والتعلم والتسيير8
تسعى المدرسة المغربية ان تكون مفعمة بالحياة ومفتوحة على محيطها.9اشتقاق غايات العمل التربوي من رؤى القرن الحادي والعشرين9تكريس مبادئ الحوكمة الرشيدة9
إكساب الطالب المرونة لمواجهة المستقبل10

 

تعد الأهداف التربوية محورية في عملية التخطيط التربوي وبناء السياسات التربوية، فهي المخطط المركزي الذي يعول عليه في تحديد مسارات الإصلاح التربوي وتطوير الأنظمة التربوية نحو آفاق مستقبلية تستجيب لتطلعات المجتمع بمختلف مكوناته. يرى البيداغوجي الفرنسي لويس لوغران (Louis Legrand) أن اللحظة الأولى للسياسة التربوية تبدأ في ضبط الأهداف، وإذا كانت الأهداف تعني معطيات قابلة للملاحظة مثل رفع نسبة النجاح، مساهمة إيجابية في المجتمع، نتائج متميزة في التقييمات… فإن ذلك التحديد لا يمكن له أن يتم إلا من خلال خيارات رئيسة أكثر عمقاً تتمثل ببلورة الغايات المعلنة سياسياً. وتتشكل الأهداف التربوية العامة مع مفهومَي الاستراتيجية والتخطيط، فالاستراتيجية هي الجهد المبذول لتحويل السياسة إلى مجموعة من القرارات، أما التخطيط فهو صياغة الأهداف التربوية في برنامج تنفيذي ورسم صورة واضحة للمستقبل. يمكننا مساءلة أهداف النظم التعليمية المغاربية التي تم عرضها على النحو التالي:

– هل تعكس الأهداف التربوية قيم المجتمع وحاجاته وطموحاته المستقبلية؟

– هل ترسم الأهداف التربوية محتويات المناهج التعليمية والتربوية لمختلف المراحل الدراسية؟

– هل تشكل معياراً أساسياً لاتخاذ القرارات التعليمية القابلة للتنفيذ والتقييم؟

توصلنا إلى تشخيص جملة من المعيقات الرئيسية في صياغة الأهداف التربوية:

  • عدم التمييز بين الغايات البيداغوجية (Les finalités pédagogiques) والأهداف التربوية (Les buts de l’éducation)‏[14].
  • تعاني صياغة الأهداف التربوية المغاربية ضعفاً منهجياً يغلب عليه التكرار والتعميم وغياب الإجرائية.
  • تهيمن على الأهداف اللغة الأدبية بما تختزنه من محسنات بيانية وسجع وطباق.
  • تتضمن شحنة مكثفة من الأحلام والتمنيات والطوبويات.
  • تخترق الأهداف عناصرُ متناقضة وحشوٌ في مختلف مستوياتها بصياغات لفظية مكررة.
  • تفتقر إلى الوضوح والبساطة والدّقة.
  • تطبع الأهداف العموميات وعدم ارتباطها بالخصوصيات المحلية.
  • غياب الخيط الناظم بين الأهداف، وهو ما يعني انعدام الرؤية والاستراتيجية.

يبدو أن أهداف المنظومات المغاربية تقتصر على المعلَن من الأهداف «الرئيسة»، من غير أن تتجسد واقعياً في الارتقاء بمكوناتها ومخرجاتها وآليات اشتغالها، نظراً إلى غياب الوعي القيمي والتربوي لدى القيادات السياسية والتربوية وضمور الإرادة الحقيقية لبناء منظومة مغاربية غايتها الإنسان والمصلحة العامة. أكدت الاستنتاجات أن بلورة الأهداف تقتصر على اللغة الجميلة والأهداف النبيلة، وتكتفي بمجرد صياغات إنشائية، ومراكمة الأمنيات والأحلام في أهداف فضفاضة، سرعان ما تتحول إلى ركام من المفردات والمفاهيم، تفتقر إلى الدلالة وعاجزة عن كل قدرة تأطيرية، فالعبارات الغامضة تعكس غموض الرؤية، والألفاظ العامة تفضي إلى التسطيح والعموميات. وتستغني عن بذل المجهود من أجل إخراجها إلى حيّز التنفيذ والتعقل، فمنظوماتنا التربوية تستعيض بها عن الفعل، أو كما يقول الجابري «إن العقل العربي يتعامل مع الألفاظ أكثر مما يتعامل مع المفاهيم»‏[15].

أنجزنا مقارنة مقتضبة في الجدول الرقم (8) بين الأهداف التربوية في أمريكا والأهداف التربوية لعيِّنة من البلدان المغاربية، لاحظنا فيها أن أهداف النظام التربوي في ولاية فلوريدا يبلغ عدد الكلمات الموظفة (80 كلمة)، بينما التجأنا في بناء الجدول إلى التقليص من الصياغات الإنشائية، وخصوصاً أن أحد الأهداف التربوية لأحد البلدان تجاوز 80 كلمة. كما بينت المقارنة أن الأهداف التربوية المغاربية تحتاج إلى التدقيق. إن أهداف النصوص المرجعية المطلع عليها لا تتبنى غايات إجرائية، لغياب الوضوح القيمي وانعدام الرؤية وغياب الرسالة.

 

2 – رائحة القطرية وغياب الفكرة المغاربية في الإصلاحات التربوية

أي إصلاح جاد في الأنظمة التعليمية المغاربية يجب أن يقف ملياً عند سؤال جوهري: من نحن؟ ماذا نريد؟ ما هي الشخصية التي نرغب أن يصوغها النظام التعليمي؟ ما هي المقومات الحضارية والثقافية الإيجابية التي ينبغي صيانتها؟ ما هي لغة التدريس؟ كيف يتم التعامل مع التنوع اللغوي لتحويله إلى عامل غنى ثقافي عوض أن يكون عامل صراع؟ اطلعنا على مختلف النصوص المرجعية، ورصدنا الخلاصات التالية:

لقد وضّح «القانون التوجيهي للتربية الوطنية» الجزائري في الفصلين الأول والثاني من العنوان الأوّل، وفي الفصول الثاني والثالث والرابع من العنوان الثّالث مهام المدرسة، والقيم الروحية والمواطنة التي تؤكد الشخصية الجزائرية، وتعزز وحدة شعبها بترقية القيم الخاصة بثلاثية الإسلام والعروبة والأمازيغية، والتفتّح على الحركات العالمية. أما البعد المغاربي فلا نجد إلا إشارات جزئية في الديباجة، «يتعين على المدرسة المساهمة في إدامة صورة الجزائر، باعتبارها أرض الإسلام وجزءاً لا يتجزأ من المغرب الكبير وبلداً مسلماً عربياً أمازيغياً ومتوسطياً وأفريقياً». وفي باب الاهتمام اللغوي «تضمن اللغة العربية النجاعة في التبليغ البيداغوجي، وتسمح بتلبية متطلبات تعليم ذي نوعية، قادر على التعبير عن عالمنا الجزائري والمغاربي والعربي والمتوسطي والأفريقي … والمساهمة في التقدم العلمي والتكنولوجي».

صمم المغرب وثيقة «الميثاق الوطني للتربية والتكوين» وفق قسمين كبيرين: الأول، يتناول المبادئ الأساسية والمرتكزات الثابتة والغايات الكبرى (تكوين مواطن ومنحه فرصة العمل)؛ وجاء القسم الثاني تحت عنوان «مجالات التجديد ودعامات التغيير»، ويتضمن خمسة مجالات وتسع عشرة دعامة. تتضمن المرتكزات الثابتة للنظام التعليمي مبادئ العقيدة الإسلامية والتمسك بالملكية الدستورية وتأصيل النظام التربوي في التراث الحضاري والثقافي للبلاد. وفي باب الغايات الكبرى ينص على أن المدرسة المغربية الوطنية الجديدة تسعى إلى الرفع من جودة التربية والتكوين. تتمحور مجمل المبادئ حول المراوحة بين البعدين المحلي والعالمي، ولا نعثر على البعد المغاربي إلا في الدعامة (9)، ترمي إلى تحسين تدريس اللغة العربية، مع الإشارة إلى الموقع الجغرافي الاستراتيجي للمغرب كملتقى للحضارات، وإلى روابط الجوار بأبعاده المغاربية والأفريقية والأوروبية.

يتكون الكتاب الأبيض التونسي من جزأين: اهتم الجزء الأول بتقديم الإطار التاريخي الوطني والدولي للإصلاح ومرجعياته، وضبط تحدياته ورهاناته، وألمح إلى توجهاته الاستراتيجية؛ أما الجزء الثاني فاحتوى على برامج الإصلاح ومشاريعه لتحويل الأهداف الاستراتيجية (9) من مبادئ وتوجهات إلى مشاريع تفصيلية فرعية. وحدد المرجعيات القانونية التي تشمل الدستور التونسي الجديد وقيم الثورة والمعاهدات الدولية، ثمّ أدبيات الإصلاح المتنوعة. والغريب أنه على امتداد صفحات كتاب الإصلاح الجديد، لا نجد أي إحالة للفكرة المغاربية. بينما إذا عدنا إلى قانون (2002) نلحظ في الفصل الثالث أن التربية تهدف إلى تنمية الشعور لدى الطلاب بالانتماء الحضاري في أبعاده الوطنية والمغاربية والعربية والإسلامية والأفريقية والمتوسطية. وأعلن قانون (1991) في الفصل الأول أن النظام التربوي يهدف إلى تعزيز الانتماء الحضاري لدى الناشئة وطنياً ومغاربياً وعربياً وإسلامياً، ودعم انفتاحها على الحداثة والحضارة الإنسانية.

تتكون الوثيقة المرجعية في ليبيا (القانون الرقم 18 لسنة 2010 بشأن التعليم)، من 100 مادة، تنص المادة الثانية، في العناصر (أ – د – ز) على إعداد مواطنين مخلصين للوطن والقضايا القومية والإنسانية، والاعتزاز باللغة العربية وتعميق الإيمان بقدرتها على استيعاب العلوم والمعارف، وتقتصر الإشارة إلى «الهوية الحضارية» للمجتمع الليبي) في المادة الثالثة (العنصر أ). ويتهيكل القانون الموريتاني (الرقم 99/012 لسنة 1999)‏[16] ضمن خمسة أبواب و18 فصـلاً، يتناول الفصل الثاني أن «العربية هي اللغة الوحيدة في التدريس في السنة الأولى لكافة الطلاب»، وفي تنصيص مختلف، يشير الفصل الثالث إلى أن تدريس المواد العلمية يتم باللغة الفرنسية، وخصص الفصل (12) لتطوير اللغات المحلية مثل ولوف (wolof) والبولار (Pular) وسونينك (soninke)، وبالنتيجة لا يحتوي هذا النص الإصلاحي على أية إشارة إلى الفكرة المغاربية أو الوحدة العربية، بل انشغل بتوحيد النظام التعليمي الموريتاني ومعالجة تفاصيل وجزئيات المنظومة التربوية.

تضعنا المرجعيات الإصلاحية المغاربية في مأزق كبير، فلم تعد مسألة الوحدة أو العروبة ولا حتى البعد المغاربي من رهانات المنظومات التربوية المغاربية في مستويات أهدافها، فانكمشت الإصلاحات على أبعادها القطرية واستدعت عمقها المحلي فقط. وحافظت على رعاية خصوصياتها؛ فهي «قلعة» منفصلة عن عمقها الجيوستراتيجي بجناحَيه العربي والمغاربي. تسود مرجعيات الإصلاح التعليمي المغاربي البعد الوطني المحلي، وتغلب عليها رائحة القطرية، وأن الإشارة إلى البعد المغاربي حاضرة في بعدها الجغرافي وليس الاستراتيجي، وفي سياقات الجيرة وليس الخيار المستقبلي، وهذا يدعم انغلاق المنظومات وعدم انفتاحها وكأنها مكتفية بذاتها وبأنساقها.

3 – الإصلاحات التربوية: الأسلوب العمودي ومركزية التسيير

تتساءل حنة أرنت – ونتساءل معها – «متى تحدث الأزمة؟»، تجيب: «تحدث الأزمة عندما يتشبث القديم ولا ينتصر الجديد؟» وتتساءل أيضاً «متى تتحول الأزمة إلى كارثة؟» تجيب «عندما نعالج قضايا الحاضر بحلول الماضي؟». وما نراه إلى حد الآن في المنظومات التربوية المغاربية معالجة قضايا الحاضر بحلول الماضي، ومواجهة التحديات الجديدة بأساليب بالية (الغايات – الوسائل – التمشي)؛ تجتر المدرسة المغاربية صعوباتها تعيد إنتاج مأزقها. إن استعادة نفس شروط الإصلاحات التعليمية بلا وعي تاريخي وبلا قيم راهنة يفرِّخ نفس الأزمات ويؤدي إلى المؤاخذات التالية:

أ – مآخذ في أسلوب الإصلاح

يمكن إجمال أسباب إخفاق أنظمة التعليم المغاربية من حيث الأسلوب الإصلاحي في الأسباب التالية:

- التعامل مع أزمة التعليم بشكل تقني، وغياب تصور شامل يضع المنظومة واختياراتها تحت المجهر ويحدد الأسباب الحقيقية لهذه الأزمة.

- هيمنة الشعارات «الإنشائية» على الإصلاح والانغماس في تفاصيل جزئية شكلية، وتجنب التطرق للقضايا الرئيسية.

- التعاطي مع أزمة التعليم بمعزل عن بقية القطاعات، مما يوحي وكأن الأزمة تهم قطاع التعليم دون غيره والحال أنها أزمة شاملة.

- انفراد هياكل الدول المغاربية في اتخاذ القرارات المصيرية، وتهميش قوى المجتمع ومختلف الهيئات التي لها علاقة بقطاعي التربية والتعليم.

ب – المدرسة – القلعة وضعف الشراكات

من الإشكاليات الرئيسية انغلاق المدرسة وتحولها إلى قلعة منفصلة عن محيطها المباشر، بينما تعلمنا التجارب في العديد من بلدان العالم انفتاح المدرسة وإنجازها شراكات مع المنظمات المحيطة. قدمت دانيال زاي‏[17] تحليـلاً يبرز أن مفهوم الانفتاح على المحيط أو الشراكة الأفقية يندرج في إطار التحولات التي عرفتها أدوار كل من المؤسسة التعليمية ومختلف المؤسسات الموجودة في محيطها، ويستدعي كل الفاعلين التربويين والاجتماعيين والمدنيين لأداء أدوار حيوية في المرافق العمومية للنظم التربوية؛ وأن الشراكات نشطت في المجال التربوي بفعل الأهمية المتعاظمة للأقاليم والمناطق والجهات والمدن والتجمعات السكنية، الأمر الذي أتاح إمكانات واسعة للمبادرة والاستقلال في اتخاذ القرار في المجالات كافة، بما فيها المؤسسات المدرسية التي أصبحت تبرم الاتفاقيات وتنسج علاقات تعاون مثمر مع محيطها.

لم يطرح مفهوم الشراكة التربوية في البلدان المغاربية إلا في بداية التسعينيات من القرن العشرين، حيث انفردت وزارة التربية المغربية بصياغة مفهومها عن الشراكة التربوية وترجمته من خلال مذكرتين وزاريتين أساسيتين‏[18]. ترى أن مشروع المؤسسة هو جوهر هذا المفهوم ومجاله الحيوي الذي لا ينبغي أن تخرج عنه أي شراكة مهما كانت صياغتها؛ من هنا يتضح التداخل الموجود بين مفهوم مشروع المؤسسة ومفهوم الشراكة التربوية. أما التجربة الموريتانية فأكدت في القانون المذكور الشراكة مع رابطات الأولياء في تطوير منظومة التعليم و«التهذيب الوطني» (الفصل 14)، إلا أن الطابع الاحتكاري للدّولة وعسكرتها أفقد الإصلاح كل عمق شعبي. في حين أحدثت التجربة التونسية‏[19] آليات، تهدف إلى إرساء ثقافة المشاركة والمساءلة، منها المجلس البيداغوجي للمدرّسين‏[20]، ومجلس المؤسّسة الذي أوكلتْ إليه مهمّةُ بلورة مشروع المؤسّسة وتنفيذه ومتابعته وتقييمه. لكنّ وعود التغيير في شراكة حقيقية في صلب النظام التعليمي التونسي شهدت إجهاضاً من جرّاءَ غياب ثقافة التقييم والمساءلة في جميع المجالات، الأمر الذي جعل المؤسسات المستحدثة خاوية على عروشها وبلا أثر فعلي في الوسط المدرسي. وراوح مفهوم الشراكة بين ضبابية المفهوم وانعدام تطبيقاته في التجربتين الجزائرية والليبية.

يستوجب الإصلاح السليم والفاعل القطع مع سياسة اللجان وفتح حوارات عمومية ووطنية شاملة حول قضية التربية والتعليم؛ فالتعليم يجب ألّا يكون مجالاً للمزايدات السياسوية بين من يحكم ومن يعارض، ينبغي أن تتم التعبئة المجتمعية بالشكل الكافي والمطلوب لضمان انخراط المتدخلين والفاعلين كافة في مجهودات الإصلاح. تأسيساً على ذلك، نستنتج أن «الميثاق الوطني للتربية والتكوين» والكتاب الابيض و«القانون التوجيهي للتربية الوطنية» و«قانون 99/012 لسنة 1999» و«قانون رقم 18 لسنة 2010»، لم تكن نصوصاً إصلاحية تشاركية، بل كانت جواباً سياسياً أكثر منه جواباً تربوياً وبيداغوجياً على إشكاليات التربية والتعليم، على اعتبار أن السياسات التعليمية كانت مرتبطة بالاختيارات السياسية التي كانت سائدة، وليست مشروعاً مجتمعياً جامعاً، حيث لا يمكننا أن نتكلم عن إصلاح تربوي ناجح في غياب توافق سياسي حقيقي لكل الحساسيات الوطنية، حول المرامي والوظائف والاختيارات الأساسية للمدرسة.

ج – مركزية التسيير وغياب الحوكمة

تعرف الحوكمة الرشيدة كمقاربة حديثة في إدارة المؤسسات بما فيها المدارس، وأداة توجيه للمخططات الاستراتيجية ومراقبتها، حيث تجسم حسن التنظيم وتوزيع المسؤوليات وتعزيز القدرات وتدعيم التواصل داخلياً وخارجياً. وتشمل مجموعة من المبادئ من بينها الشفافية، والحق في النفاذ إلى المعلومة، وضمان حقوق وواجبات كل الفاعلين في صناعة القرار، وربط المسؤولية بالمحاسبة والمساءلة. هذه الثقافة المعطوبة في طليعة المآخذ التي ساهمت بشكل مباشر في تعثر الإصلاحات التربوية، إذ تعاني إدارة النظم التربوية والتعليمية المغاربية من غياب ممارسة الحوكمة الرشيدة في إدارة النظم التربوية. نستطيع اختزال قصور الحوكمة في نقطتين:

- إخلالات في نمط القيادات التربوية، وعدم تطوير القدرات القيادية في طريقة الاشراف وإدارة النظم التعليمية.

- عدم تطبيق اللامركزية في إدارة المنظومات التربوية، يظهر ذلك جلياً في القرارات الاستراتيجية التي تتم في الوزارات، ولم يتم تفويضها للسلطة التربوية الجهوية (الأكاديميات أو المندوبيات أو الإدارات الجهوية).

تخضع النظم التربوية المغاربية لأوامر المركز الذي احتكر جل المهام من إشراف وتصميم وتقييم وتعديل، يحدّد التوجُّه العام بكل مكوناته، فعلى الصَّعيد البيداغوجي، يفرض المركز اعتماد البرامج الدّراسية نفسها والكتب المدرسيّة ذاتها، ونظام التقييم عينه، والزمن المدرسي، بصرْف النّظر عن البيئات وإيقاعات التعلّم المختلفة، ويُحْتَفى بالطاعة والانضباط، وتُسلط العقوبات على أدنى المبادرات. وهكذا، ظلت النظم التربوية المغاربية تدور في حلقة مفرغة، فهي، فرضياً، تشتغل لمصلحة المجتمع، ولكنها في الواقع تشتغل لتستمر دون أن تتقدم، وذلك في غياب مساهمة حقيقية للمستفيدين من خدماتها مثل العائلات والطلاب والجمعيات. إضافة إلى أن مفهوم المُساءلة مفهوم مستهجن لدى أغلب الفاعلين في النظم التعليمية، فجل المسؤولين في حل من أية مسؤولية، مما أفرز الإفلات من العقاب، فضلاً عن تورم النزعة الفئوية لدى مختلف الأسلاك التربوية، وكان ذلك سبباً في رفض كل مبادرات التجديد والتجويد الساعية إلى تجذير ثقافة الحوكمة وتحرير المدرسة من عطالتها.

ثالثاً: مدخل تأطيري للإصلاح التعليمي

أكد تقرير اليونسكو العالمي الجديد‏[21] مساهمة التعليم الفعّالة في دفع عجلة التقدّم، وفي تحقيق الأهداف الواردة في الخطّة العالمية للتنمية المستدامة لعام 2030، ويفيد أيضاً أنّ التعليم بحاجة إلى نقلة نوعيّة لتحقيق هذه الإمكانات ومواجهة التحديات التي تواجه الإنسانية. وأتاحت السّياقات الجديدة فرصاً لتجاوز تعثر الإصلاحات؛ إذ ينصّ الدّستور المغربي الجديد (2011) وكذلك الدستور التونسي (2014)، ومن المنتظر أن تنسج بقية البلدان المغاربية على هذا المنوال، على توسيع السلطة المحلية، بشكل لم يسبق أن عرفته البلدان المغاربية في أي وقت مضى، بإتاحة هامش واسع للهياكل الجهوية والمحلية لإنجاز المشاريع والمبادرات، عبر إرساء اللامركزيّة، وتشريك كل الفاعلين، وتطبيق الحوكمة الرشيدة، وهي مداخل أساسية لإصلاح المنظومات التربوية المغاربية.

1 – جدل الإصلاح في الفضاء العمومي

إن الأفق الذي ينطلق منه الإصلاح، أن المدرسة التقليدية قد انتهت وبات من الضروي تغيير النموذج والوجهة والضفة، فالإصلاحات المنجزة دون مستوى متطلبات العصر والتحوّلات البنيوية التي تعيشها المجتمعات. كل هذا يستوجب من الإصلاح الجذري مراجعة مبادئه واستراتيجياته في السياسات العمومية للتربية، والاستئناس بالمعارف والمقاربات التي أنتجتها البحوث، حتى يتم اللقاء بين ما هو معرفي ونظري وبين الجدل الاجتماعي والنقاش السياسي. فالعالم يتبدل بنسق سريع، يفرض على الاجتماع السياسي تنظيم حوارات متواترة حول قضايا التربية، وأن تخرج من بوتقة «الخبراء» لتعالج في رحابة الفضاء العام.

في هذا السياق يدافع المؤلفان فرنسوا دوبي وماري دوري – بللا عن الجدل العمومي، فدونه سيظل كل إصلاح تربوي دون نجاعة أو «مجرد رسالة ميتة»‏[22]. ويشدّد الكاتبان على أن مشكلات التربية وأسئلتها الأساسية هي «أسئلة المبادئ»‏[23]، وأن أولوية كل إصلاح إعادة بلورة فلسفة التربية وصوغ مبادئها قبل الوقائع والتفاصيل، فالتعديلات التفصيلية ليس لها معنى إلا متى أدرجت ضمن أفق مبادئ وغايات المدرسة. كما أن المدرسة ولئن لم تتخلَّ عن وظائفها العادية في نقل المعارف وتكوين المواطنين والإعداد للحياة الاجتماعية والمهنية، بات من الضروري التخلص من الفكرة التي تجعل من هذه المدرسة المصدر الوحيد للعلم والمعرفة والثقافة؛ إذ أحدثت الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي «ثورة كوبرنيكية» بإزاحتها من المركز جاعلة منها مجرد مجرة من بين مجرات معرفية عديدة. وفي مقابل المدرسة الخاضعة للقواعد البيروقراطية، من الحيوي التخلي عن فكرة الهيكل المغلق وإعادة تجديد فضاءاتها، وفتح أبوابها على محيطها، وتوسيع مساحات الجدل التربوي. فالجميع لديهم الحق في الحديث عن المدرسة، ولا ينبغي أن تختزل الاستشارات في الفاعلين داخل المنظومة فقط كما بينت تقارير الدارسين للشأن التربوي أمثال بروست وبورديو وماريو ودوبي وتيلوه وغيرهم.

ولا بد من التفكير في مناقشة المخاطر الجديدة المحدقة بالشّباب، والتساؤل باستمرار عن غايات التربية في مرحلة تتميز بهشاشة فئة الشباب وتأثره بالإشاعات ودعوات التطرف والعنف. فلا بُدّ من أن تطرح دينامية الإصلاح التعليمي المغاربي أسئلة من قبيل: ما الذي ينبغي تقديمه للشباب داخل «أسوار» المدرسة؟ ما الذي يمكن للمدرسة أن توفره للأجيال الجديدة؟ ما المعرفة المفيدة للطالب وللمجتمع؟ لأن معرفة تدرس ولا تفيد فلا جدوى منها. وتجدر الإشارة إلى أن العديد من البلدان لا تفكر في مشاريع الإصلاح التربوي إلا لمن في المدرسة؛ أي من هم داخلها، ولا تجهد نفسها في الإجابة عن أسئلة من قبيل: كيف يرغب المجتمع أن يعيش الشبان ويتصرفوا؟ كيف سيواجهون المستقبل الغامض؟ من واجبات الإصلاح الشامل النظر في إنقاذ الشباب من حالات التهميش والتبخيس، وتحديد موقعهم وأدوارهم في الحياة الاجتماعية.

2 – مدخل الحوكمة والتشاركية الحقيقية

إن إصلاح التعليم ورش مجتمعية مفتوحة، شرط تحييد قطاع التربية والتعليم وتحريره من التجاذبات الحزبية والسياسية، والارتقاء بالمشاريع لتكون منجزاً مجتمعياً، ذلك أن المشاركة ليست مجرد مسألة تواصل. يتعلق الأمر برؤية متكاملة لمكانة مختلف الفاعلين ودورهم في مشاريع إصلاح المدرسة المغاربية، عبر إنجاز تعبئة مجتمعية شاملة، وضمان انخراط ومساهمة كل المتدخلين في مجهود إعادة الثقة في المدرسة وإنجاح الإصلاح التربوي المنشود. ذلك أن الشراكة التربوية تعد شرطاً أساسياً للنهوض بالمؤسسات التعليمية، باعتبار أنها شأن مجتمعي خالص، يتطلب ذلك:

– اعتبار أن الشراكة ليست مسألة دعم مالي فقط، وإنما يجب دعم الجوانب التكوينية والبيداغوجية والمعرفية في إطار الجهود لإعداد المواطن الصالح والواعي.

– جعل الشراكة إطاراً تفاعلياً يتيح إشراك جميع الفاعلين، ولا سيَّما الطلبة كشركاء حقيقيين.

– ضرورة التعاون بين الوزارات والجمعيات والمنظمات غير الحكومية، والهياكل النقابية، إذ يوفر هذا التعاون شروط الإصلاح ومقومات استدامته في مختلف الأصعدة المحلية والجهوية والوطنية.

– إحداث شبكة للجمعيات التربوية لتبادل الخبرات وتفعيل مساهماتها ضمن منظور جديد للشراكة القائمة على القرب.

– مطالبة الأحزاب السياسية إيلاء الإصلاح أهمية قصوى في برامجها دون تسييس المسألة التربوية أو جعلها رهاناً انتخابياً.

– إرساء نظام التقييم المستمر وتفعيل التدقيق التربوي الذي يعتمد على آليات شفافة لرصد إدارة الأنظمة التربوية ومراقبة طرق تسييرها، ومدى تحقيقها النتائج المحددة في المخططات التربوية.

ترتكز ممارسة الحوكمة الرشيدة بالأساس على ثلاث نقاط أساسية:

– رؤية استراتيجية: تصاغ انطلاقاً من المعطيات السوسيو – اقتصادية والثقافية، واستناداً إلى تشخيص تشاركي يسهم فيه كل الفاعلين في الشأن التربوي محلياً وإقليمياً وجهوياً ووطنياً.

– حسن التسيير: اعتماد المقاربات العصرية في التسيير التشاركي، وترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة مع ربط المسؤولية بالمحاسبة.

– نجاعة التسيير: من خلال الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة مادية كانت أو مالية أو موارد بشرية من أجل تحقيق الأهداف المسطرة والنتائج المرجوة.

3 – مدخل الجودة والمعايير

طغى على إصلاح المدرسة المغاربية ومنظومتها التربوية والتكوينية نموذج المدخل القطاعي التجزيئي، في حين أن مداخل الإصلاح المزمع تنفيذها، تنحو نحو الاستفادة من مختلف المداخل على نحوٍ منظومي. لأن منظومة التربية والتكوين كل مركب لا يمكن تجزئته، حيث تشمل هذه المداخل الإصلاحية ضرورة الفلسفة التربوية والمبادئ والغايات الكبرى، والمشروع المجتمعي، وصناعة القرار التربوي. إلا أن التمشي الإصلاحي الملائم للنظم التربوية المغاربية، يستوجب – في نظرنا – الاستناد إلى مدخل المعايير‏[24] الذي سيحدث تغييراً حقيقياً في تصور سياسات التعليم، وفي إدارة عملياته، وفي الممارسات التعليمية – التعلمية التي يقتضيها؛ تغييراً يكون متسقاً مع الأهداف الأساسية المنشودة في إصلاح التعليم وفق متطلبات الواقع والحاجات الحقيقية للمجتمعات، بحيث يطوع المدخل/النموذج لمتطلبات المجتمعات ومطامحها وحاجاتها.

ظهر مدخل «المعايير في إصلاح التعليم» في الولايات المتحدة الأمريكية منذ ثمانينيات القرن الماضي، بعد بروز تقرير «أمة في خطر» (A Nation at Risk) حول واقع التعليم الذي قدم للرئيس الأمريكي رونالد ريغان سنة 1981. نتاجاً لذلك تبلور مفهوم إدارة الجودة الشاملة في قطاع التعليم كأداة للتنمية، فكان من المنهجي ضبط «معايير» اعتبرت مرجعيات أساسية في مجمل مكونات العملية التعليمية، وشكلت مؤشرات للحكم على مكتسبات الطلاب، وتقويم أداء المدارس المختلفة، ومراقبة الأداء التعليمي. تبنت مدارس كثيرة في العالم فلسفة إدارة الجودة الشاملة وحققت نتائج إيجابية، لذا بدأت الدول المصنعة في وضع توصيف دقيق، يضبط مؤشرات كل مجال من مجالات العملية التعليمية. وتعد هذه العبارات الوصفية بمثابة المستويات المعيارية التي تسعى النظم التعليمية الوصول إليها، لأنها محكّات يقاس في ضوئها مستوى التقدم الذي يحققه أي مجتمع في التعليم.

نقترح مدخل المعايير لضبط جودة التعليم في المنظومات المغاربية، ومن أهم الآليات تعزيز التقييم الذاتي في كل المستويات، مع اعتماد أسلوب التقييم الخارجي المحايد والموضوعي، الذي يعطي ثقة للفاعلين ويمدهم بالخبرات الضرورية. وبمقارنة عمليتَي التقويم الداخلي والخارجي، تستطيع المدرسة أن تحدد مدى تقدمها في تحقيق رؤيتها ورسالتها من دون أي اعتبارات عاطفية. من أهم المعايير والمؤشرات التي يمكن اعتمادها في قياس مستوى جودة التعليم العام نموذجين، إنشاء معايير التعليم العام وإنشاء معايير المناهج الدراسية.

أ – النموذج الأول: إنشاء معايير التعليم العام

تتآلف هذه العناصر فيما بينها لتنشئ دينامية بين عناصرها:

– معايير خاصة بالطلاب: القبول والانتقاء ونسبة عدد الطلاب إلى المعلمين، ومتوسط تكلفة الفرد والخدمات التي تقدم للطلاب، ودافعيتهم للتعلم.

– معايير خاصة بالمعلم: الثقافة المهنية لهيئة التدريس ومدى تواصلهم الإيجابي مع الطلاب، وطبيعة مساهمته في خدمة المجتمع.

– معايير خاصة بالمناهج الدراسية: أصالة البرامج، وجودة مضامينها، وأسلوب التدريس وارتباطه بالواقع، ومدى تعبيرها عن الخصوصيات الثقافية وتجسيمها لشبكة القيم.

– معايير خاصة بالبنية التحتية: قدرة الهندسة المدرسية على توفير بيئة تعليمية – تعلمية ملائمة.

– معايير خاصة بالإدارة التعليمية: التزام القيادة التربوية بالجودة، وإتاحة قدر أكبر من الحرية للمدرسة لتحقيق الإبداع في جميع مجالات العمل المدرسي، وتدريب إدارات المدرسة على الأساليب الحديثة في التخطيط الاستراتيجي، وتفعيل روح الديمقراطية في المجتمع المدرسي من خلال المجالس المدرسية ومجالس الأولياء.

ب – النموذج الثاني: إنشاء معايير المناهج التعليمية

نقترح مجموعة من المعايير لإصلاح المناهج التعليمية لكي تحقق الجودة المطلوبة، من أبرزها:

– على المناهج التعليمية تحقيق المخرجات التعليمية المرغوبة والمعلنة، بضبط مجموعة من المواصفات تتمثل بمخرجات معرفية (كفايات الفهم والإبداع والنقد…) ومهارية (مهارات حسية حركية وأدائية ومنهجية…) وقيم واتجاهات (اجتماعية، مواطنية ومدنية…).

– أن تحقق المناهج التعليمية نجاح المتعلم لمواصلة الدراسة أو الاستعداد للانخراط في سوق العمل، على أساس التعلم المستمر.

– تدعيم محتوى المناهج بالبحوث والدراسات، وأن تتميز المناهج بالمرونة ومواكبة التطورات المعرفية والعلمية التي يعرفها العالم.

– أن تعكس أهداف المناهج التعليمية التطلعات الوطنية والمغاربية والقومية، وترمي إلى تكوين الفرد وتدريبه ليكون مواطناً صالحاً، وإعداده لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

– ايلاء قيم المواطنة وخدمة المصلحة العامة ما تستحقه من عناية واهتمام، وصياغة ثقافة مدرسية تؤكد أولوية القيم المدنية وليس فقط المعارف والمهارات.

– استخدام التقنيات الحديثة وتطوير استراتيجيات التعلم والتعليم بحيث ترتكز على قيم التفكير المستقل ومهارات النقد الذاتي وحل المشكلات والبحث والابتكار، وربط ما يتعلمه الطالب بمشكلات الواقع والقضايا المستحدثة.

– ترقية آليات التقويم التربوي، لكي تهتم الامتحانات بقياس الجوانب المعرفية والمهارية والوجدانية والاجتماعية في شخصية الطالب.

خاتمة

نشير إلى ست ملاحظات تستدعي من المهتمين بالتربية في البلدان المغاربية أو المنطقة العربية التوقف عندها، والسعي إلى تجسيمها:

1 – أظهرت التجربة الحديثة في مجال التربية المساوئ الكبرى التي ينطوي عليها حصر الإصلاح في وثيقة واحدة وكلمة واحدة وفكر واحد. فمثل هذا النهج يختزل الإصلاحات في نصوص مكتوبة، بلا روح، على كل فعل إصلاحي أن يتغذى من الثقافة المحيطة ويتدعم بمشاركة الفاعلين. والعمل على نصوص أكثر مرونة تركز على المدى القصير، وفتح آفاق أكثر براغماتية تنبني على إمكانية التحقق، وتجعل من مقاربة التربية مقاربة أكثر إنسانية، ما يطلق عليه مفكرو التربية أنسنة المدرسة.

2 – من الواضح أن جهود الإصلاح، على الرغم من مزاعمها الشمولية، لم تنصب إلا على أبعاد جزئية، تكميلية وثانوية وعرضية أي كل ما يمكن أن نعتبره هامشياً. لذلك ينبغي تركيز جهود الإصلاح على البعد المنظومي، المتمثل بالاشتغال على البرامج، والمحتويات، والبرامج الدراسية، والعلاقة بين المدرسين والمتعلمين، والتسيير الإداري، والممارسات البيداغوجية داخل القسم، والكتب المدرسية…

3 – تتجلّى في البلدان المغاربية هوّةٌ كبيرة بين خطط الإصلاح التعليمي وبين واقع المدارس، ولا سيَّما في ما يتعلّق بالتربية المدنية والمواطنية. يتطلّب الإصلاح تطبيق خطوات جريئة في تأهيل الشباب المغاربي، وتنشئة مواطنين يجيدون استخدام مهارات القرن الحادي والعشرين في طرق تفكيرهم (الإبداع، التفكير النقدي، حلّ المشكلات، التعلّم مدى الحياة)، وفي وسائل عملهم (التواصل، التعاون)، وفي أدوات عملهم (الوعي المعلوماتي)، وفي ممارساتهم المدنية (المسؤولية الاجتماعية).

4 – تجاوز اختزال مهام المدرسة في مجرد «آلة توزيع الشهادات» وتصنيف الطلاب وترتيبهم على أساس معارفهم وقدرتهم على استيعاب المواد المدرسية، والتوافق على أنّها إعداد للحياة وتسليح للشباب لمواجهة التحديات الجديدة، لذا لا ينبغي أن تختزل مضامينها المعرفية في مواد يتم تقطيعها بصفة اعتباطية، وإنما إعطاء معنى للتعلّمات عبر بناء مشاريع عابرة للمواد والمعارف التخصصية، والاهتمام أكثر بالكفايات الأفقية والمنهجية.

5 – الحسم في مفارقات التعليم/التربية والكفايات/المعارف، وهو ما أوجد ضرباً من «الفصام النكد»، لذا وجب على المدرسة أن تسترجع دورها التربوي والتأطيري والاشتغال على تنمية شخصية المتعلّم، وفحص المعارف والكفايات التي يحتاجها للنجاح في الحياة، بما يوسع أفق الإصلاح باعتبار أن الحياة أكبر وأوسع من المواد الدراسية وأطرها المحدودة. ومن تحديات التربية تحديد ما هو ضروري للحياة المستقبلية للطلاب، وإيجاد التوازن بين التميّز المدرسي والمعرفة المشتركة، والتخلي عن فكرة تكوين الطلاب وفق نمط موحّد وفتح مساحات للمشاريع الشخصيّة، وإتاحة المجال شاسعاً للتفاعل مع المحيط.

6 – تجاوز التصوّر التقليدي للتعلّم الذي تسكنه المنافسة الشرسة في ارتباط بالأيديولوجيا الاستحقاقية (Méritocratique) للنجاح والتسابق على المراتب الأولى، وهو تصور مزعج لفعل التعلم ويسيء إلى المناخ الذي يفترض أن يكون ودياً بين الطلاب في علاقاتهم بعضهم ببعض وبينهم وبين المدرِّسين داخل فضاء المدرسة. فالطلاب يركضون من صفّ إلى آخر، والمدرِّس يركض لإتمام البرامج، والكل مثقل بالالتزامات والواجبات المدرسية، يستوجب هذا المشهد النمطي تقليص حجم البرامج المكثفة، وإتاحة هامش من الوقت للأنشطة الحرّة.

 

قد يهمكم أيضاً  حوار فكري شامل مع علي أسعد وطفة في قضايا التربية والمجتمع

عن المغرب أيضاً  تصنيف نمط الرفاه الاجتماعي المغربي باعتماد منظور النوع الاجتماعي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #التربية_في_المغرب_العربي #التعليم_في_المغرب_العربي #تربية #التربية_في_البلدان_المغاربية #دراسات