مقدمة:

يعد كتاب دولة الرفاهية الاجتماعية (2005)، الذي أصدره مركز دراسات الوحدة العربية بتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية سنة 2005، أول عمل يتناول موضوع الرفاه الاجتماعي في البلدان العربية، وتلته بعد عشر سنوات، دراسة أحمد عز الدين محمد حول: «الرفاه الاجتماعي بمصر 1995 – 2005» (محمد، 2014: 53 – 66). وفي سنة 2015 صدرت ترجمة كتاب ماري دالي الموسوم بالرفاه (دالي، 2016). وتدفع مثل هذه الأعمال الباحثين، من تخصصات مختلفة، إلى الاهتمام بموضوع الرفاهية الاجتماعية في البلدان العربية‏[1].

لقد حاولت الدراسات المدرجة في الكتاب الأول أن تحلل مدى اقتراب أو تباعد مجموعة من الدول العربية النفطية وغير النفطية، وذات التجربة الاشتراكية، سابقاً، من نموذج دولة الرفاه، كما عرفته الدول الاسكندنافية وبعض الدول الأوروبية. وبالنظر إلى غياب أية إشارة إلى المغرب في هذا الكتاب، والدراسات التي تلته، ورغبتنا في المساهمة في البحث في هذا الموضوع، ارتأينا تقديم محاولة تصنيفية لنظام الرفاهية الاجتماعية بالمغرب، بالاعتماد في هذه المرحلة التمهيدية من هذه الدراسة، على معايير التصنيف الكلاسيكية نفسها، وبخاصة التصنيف الذي قدمه غوسطا إسبينع – أندرسون (Gosta Esping-Andersen) مع الأخذ بعين الاعتبار، في مرحلة متقدمة من التحليل، بعض النقد الذي وجهته دراسات النوع الاجتماعي لهذا التصنيف‏[2]، بهدف الكشف من جهة، عن مميزات نظام «الرفاه الاجتماعي المغربي»، وتطوير مقاربة النوع، من جهة أخرى.

وتؤطر عملنا الإشكالية التالية: كيف يمكن تصنيف نظام الرفاه الاجتماعي بالمغرب؟ ونفترض، اعتماداً على دراسات سابقة أنجزت على نظام الرفاه الاجتماعي في بلدان عربية، الواردة في الكتاب المشار إليه، ابتداء، على أن المغرب ينتمي لنظام رفاه هجين، غير مكتمل؛ تزايدت هشاشته في طور التحول إلى النمط الليبرالي، بالنظر إلى دينامية تراجع دور الدولة التي تعبر عنها إجراءات الخوصصة، وصعود دور القطاع الخاص، وسوق خدمات عناية اجتماعية مُسَلَّعَة يقصي الفئات الأكثر حاجة إلى الرفاه الاجتماعي من الخدمات التي توفرها.

ونهدف من خلال الإجابة عن هذه الإشكالية، من جهة، تحديد خصائص نظام الرفاه الاجتماعي المغربي‏[3]، على ضوء معايير التصنيف المعتمدة (تصنيف غوسطا إسبينغ أندرسون)، ثم إعادة تحليل هذا النظام، من جهة أخرى، باعتماد مقاربة النوع الاجتماعي. ويشكل التركيز على الجندر، الإضافة النوعية لهذا العمل، بحيث إن دراسة دولة الرفاه الاجتماعي، تعرضت لنقد عنيف من قبل الحركة النسائية التي اعتبرتها أبوية (Patriarcal)، وكاشفة، في الوقت نفسه، أن علاقات الهيمنة بين الرجل والمرأة تتحدد، في جانب منها، بطبيعة نظام الرفاه الاجتماعي السائد في كل دولة.

اعتمدنا في الدراسة منهجاً تحليلياً لعناصر نظام الرفاه الاجتماعي على ضوء مقاربات التصنيف السائدة، وتركيبياً لمجموعة من المعطيات التي تمكن من تصنيف أمثل للرفاه الاجتماعي بالمغرب. وتتمثل مصادر المعلومات المعتمدة في ما أصدرته المندوبية السامية للتخطيط بالمغرب، وله علاقة بموضوع الدراسة (HCP, 2007, 2013, 2017 (a, b).

وتستدعي منا هذه المحددات المنهجية عرضاً لمعايير تصنيف أنظمة الحماية الاجتماعية، في مرحلة أولى ثم التركيز على تطبيقات هذه الأنماط في مرحلة ثانية على دول عربية، (مصر خصوصاً) على أساس دراسة نموذج الرفاهية الاجتماعية بالمغرب، خلال مرحلة تبدأ من نهاية التسعينيات إلى سنة 2016 في مرحلة ثالثة من هذه الدراسة.

أولاً: تصنيف نظم الرفاه الاجتماعي وإشكالية النقد النسوي لدولة الرفاه

رغم اتفاق الكثير من الدراسات على أن صدور كتاب غوسطا إسبينغ – أندرسون (1990) كان بداية ظهور نماذج لتصنيف أنظمة (Letablier, 2009: 102‑109) الرفاه الاجتماعي في دول العالم، توجد استدراكات لهذه المسألة، ترى أن بداية التصنيف تعود إلى سنة 1974 مع ريتشارد تيتموس (Richard Titmus) ‏[4]، وإلى التصنيف الكلاسيكي الشهير الذي يميز النموذج البيفريدجي‏[5]، من النموذج البسماركي‏[6] في مجال الحماية الاجتماعية.

لقد اعتمدت أغلب الدراسات لتصنيف دولة الرفاهية الاجتماعية على «منظور ماكرواقتصادي، يستند إلى حزمة مؤشرات إحصائية (سواء السوسيواقتصايدية أو الديمغرافية أو المالية) لاقتراح «تصنيفات» محددة. عادة ما تؤخذ بعين الاعتبار في هذه النمذجة (Modélisation) عوامل من «طبيعة اقتصادية (تطوير وهيكلة السوق، وإعادة تنظيم الإنتاج وسوق الشغل، ومستويات وأنماط تمويل التحويلات الاجتماعية…)، ومؤسساتية (دور الإدارة وأجهزة الدولة)، وسياسية (الحركات الاجتماعية، ومواجهات الجماعات ذات المصالح، وبناء التوافقات السياسية بين مختلف الطبقات الاجتماعية)» (Martin, 2000: 113‑122). لقد صنف إسبينغ أندرسون أنماط الرفاهية الاجتماعية، استلهاماً من ريشارد تيتموس إلى:

– دولة الرفاه الاجتماعي «الليبرالية»: يؤدي فيها السوق دوراً أساسياً في توفير الخدمات الاجتماعية، بينما تتكفل الدولة، عبر سياسات استهدافية، بالاستجابة للحاجات الدنيا للفئات التي لا تستطيع الولوج لهذا السوق. ويطلق على هذا النوع كذلك، دولة الحد الأدنى الاجتماعي. ويسود هذا النظام في الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وأستراليا.

– دولة نظام رفاه اجتماعي محافظ: ترتبط فيها الاستفادة من الخدمات الاجتماعية باختلاف الطبقة، والوضع المهني؛ لذا تختلف الحقوق الممنوحة باختلاف الوضع المهني، وتتأتى الاستفادة من هذا النظام من طريق الشغل، الذي يتم في إطاره (تعاون أرباب العمل والعمال) تمويل نظام الرفاه الاجتماعي. ويسود هذا النموذج في ألمانيا، وفرنسا وباقي الدول الغربية.

– دولة نظام رفاه الديمقراطية الاجتماعية الشمولي: يقوم على أساس نزع صفة التسليع كلياً عن الحقوق الاجتماعية، التي تعتبر مضمونة بالنسبة إلى جميع المواطنين، والتي تتحمل الدولة تكاليفها، ويتم تمويلها من النظام الضريبي الوطني. وتعد الدول الاسكندنافية نموذجاً لهذا النوع من نظام الرفاه الاجتماعي.

يتبين أن المغرب ورث نظام الرفاه الاجتماعي المحافظ عن الاستعمار الفرنسي‏[7]؛ بحيث ترتهن الاستفادة من الخدمات الاجتماعية بولوج سوق الشغل، والانخراط في أحد أنظمة التأمين أو التقاعد أو التعاضد الفئوية. صحيح أن المغرب، تبنى سياسات اجتماعية في ميدانَي التعليم والصحة والتكوين، قائمة على شمولية الولوج، من دون أي اعتبار للوضع الطبقي، غير أن هذا الإرث الهش، بدأت تطبعه دينامية تسليع وخوصصة، منذ نهاية التسعينيات‏[8].

لقد تعرض تصنيف إسبينغ أندرسون لعدة انتقادات أهمها، في نظره، هي النقد النسوي؛ أي مدى مساهمة النساء في الحماية الاجتماعية، وفي دولة الرفاهية الاجتماعية. وتالياً، لا بد من مقارنة أنماط الرفاهية الاجتماعية بناء على معايير أخرى، مثل تقسيم الشغل بين الجنسين، ودفع مقابل للدور الإنتاجي للمرأة، والمساهمة الأبوية في الأسرة، ورخص الأبوة والأمومة. وقد اعترف أندرسون بهذا النقد قائلاً: «النقد الأكثر دقة (لكتابي) (Esping-Andersen, 1990) في صالح النسوية (…)، فحجتهم التي فحواها أن الأسرة تم تغييبها وعدم تطويرها بشكل جيد في تحاليل أنظمة الرفاه الاجتماعي دقيقة. والعائلة حاسمة في أية مقارنة للأنظمة الاجتماعية».

لذلك وضع أندرسون نموذجاً رابعاً لدول الرفاه الاجتماعي سماه دولة الرفاهية العائلية (Etat- providence Familialiste)، وتندرج ضمنه الدول التي تتحمل العائلات فيها عبئاً كبيراً في تقديم خدمات العناية الاجتماعية، وتالياً، تم إضافة معيار نزع صفة العائلية (La Défamiliarisation) لإعادة تصنيف دول الرفاهية الاجتماعية، وهو ما سيساعد بشكل أكبر على تصنيف نظام الرفاه الاجتماعي في الدول العربية بعامة، والمغرب بخاصة، والذي ما زالت تؤدي فيه الروابط العائلية دوراً كبيراً‏[9]. وبالنظر إلى أهمية مقترب النوع الاجتماعي، يمكن إعادة التفكير في نظام الرفاه الاجتماعي بالدول العربية من خلال الربط بين ثلاثية (الدولة – السوق – العائلة)، وهو الربط الغائب عن تحليل نظام الرفاه الاجتماعي في الدول العربية.

ثانياً: البعد الغائب في محاولات تصنيف نظام الرفاه الاجتماعي لبلدان عربية

مر أكثر من عقد على تقديم إطار تحليلي مقارن لأنماط الرفاهية الاجتماعية في الدول العربية (ندوة دولة الرفاهية الاجتماعية) قبل أن تبدأ محاولات تطبيقية (أحمد عز الدين محمد) لتجربة هذا النموذج على نظم الرفاه الاجتماعي في الدول العربية. لم تهتم أغلب الأوراق البحثية بإشكالية التصنيف، وإنما ركزت على أوضاع الأقطار النفطية (حافظ، 2005: 407 – 454)، وذات التجربة الاشتراكية سابقاً: سورية، ومصر، والعراق، والجزائر (دولة الرفاهية الاجتماعية، 2005: القسم السادس، 595 – 711)… كما تم الربط في هذه الدراسات بين موضوع الرفاهية الاجتماعية، والنفط، والتجارب الاشتراكية؛ أي علاقة الدولة بالاجتماعي في تقاطعه مع السياسي والاقتصادي. وأبرزت هذه الدراسات: «إن مضمون الخدمات العامة المعمول بها في الدول العربية لا يعكس بالضرورة مفهوم دولة الرفاهية أو الرعاية في الوطن العربي، كنتيجة لعقد اجتماعي أو لرؤية واضحة من قبل النخب الحاكمة لمجتمعاتنا المختلفة» (حافظ، 2005: 409). غير أن لما قدم أهمية كبيرة، كونه وضع الأسس النظرية لدولة الرفاهية الاجتماعية كما نشأت في الدول الاسكندنافية والغربية.

حاولت دراسة عز الدين محب، مثـلاً، اعتماداً على مقاربة إسبينغ أندرسون، إدراج مصر ضمن صنف من أصناف الرفاهية الاجتماعية (محمد، 2014)، معتمداً في ذلك على تحليل العلاقة بين الدولة والسوق والمجتمع، وهو ما يعتبر في نظري، نقطة قوة هذه الدراسة. وتوصل إلى أن: «أفضل توصيف لدولة الرفاه الحالية في مصر هو أنّها «محافِظة غير منظَّمة»، حيث الإعانات الاجتماعية محصورة بالعمل في القطاع المنظم، ما يجعل الأسرة والمؤسسات الدينية وشبكات المحسوبية تقوم بأدوار مهمة في تلبية الاحتياجات الاجتماعية للقطاع غير المنظّم ذي الحجم الكبير» (محمد، 2014).

كما بينت هذه الدراسة أن في مصر نمط حماية اجتماعية هجيناً أو مركباً حيث يتداخل النظام المصري مع النظام الأمريكي – اللاتيني، لجهة أن العمل يمهد الطريق للحصول على إعانات اجتماعية، ومع النظام الصيني، كالدعم الحكومي المنحاز لفئات اجتماعية محددة. وكشفت محاولة تطبيق نموذج أندرسون على مصر، محدودية هذا النموذج لتحليل نمط الرفاه الاجتماعي بالنسبة إلى الدول النامية. ودعا إلى إدخال خمسة عناصر جديدة، وتطبيق ذلك على دول نامية أخرى. وهذه العناصر هي:

– جودة الخدمات

– بعد النوع الاجتماعي

– تحليل القطاع غير المنظم

– إدراج مؤسسات الأمان الاجتماعي التقليدية

– أثر شبكات المحسوبية.

ننوه، ههنا، بمجهود هذا الباحث في تعديل الإطار النظري السائد، ودعوته إلى إدماج بعد النوع الاجتماعي في تصنيف نظم الرفاه الاجتماعي، وهو المنظور الذي سنعتمده، في تصنيف أنظمة الرفاه الاجتماعي في المغرب. أما باقي النقاط الأربع، التي اعتبرها الباحث إطاراً تعديلياً، فإنها، تحتاج، من وجهة نظري، إلى دراسات خاصة لن يكون في وسعنا إدماجها في هذا العمل.

لم تسترشد الدراسات المقدمة بمقترب النوع الاجتماعي، وقد حصل الأمر نفسه سابقاً، في الدول الغربية والاسكندنافية نفسها؛ بحيث لم يتم الربط بين الدولة والسوق والعائلة إلا في بداية الألفية الثالثة. وقد نتج من ذلك وضع تصنيفات جديدة لدولة الرفاهية الاجتماعية. ونقدم هنا، كيفية إعادة تصنيف نمط الرفاهية في الدول الأوروبية باعتماد مقاربة النوع.

تتمثل العناصر الأساسية المعتمدة في تحليل نظام الرفاه الاجتماعي، باعتماد منظور النوع الاجتماعي في: أولاً، مدى تقاسم التكفل بالأبناء بين الدولة والمجتمع. ثانياً، مصدر التحويلات المالية للعائلة. ثالثاً، الشغل والعائلة. رابعاً، مدى الاستفادة من الرخص (رخص الأمومة والأبوة) لتربية الأبناء. بناء على هذه العناصر نفسها، قام كل من أرلي هوتشيلد (Hochschild, 1995: 331‑346) وأنيلي أنتونين (Annelli Antonnen) وجورما سيبيلا (Jorma Sipilä) وكلود مارتن (Claude Martin) وبتصنيف الدول الأوروبية إلى أنماط مثالية كما يلي (Amerijckx, 2008: 14):

صنفت أرلي هوتشيلد دول الرفاه الاجتماعي إلى أربعة أنماط هي:

– نمط تقليدي: بقاء المرأة في المنزل وتكفلها بالأبناء.

– نمط ما بعد حداثي: عمل المرأة وتكفلها بالأبناء.

– نمط حداثي مؤسساتي: يمتاز بدور المؤسسات العمومية في التكفل بالأطفال المحتاجين إلى العناية.

– نمط حداثي مؤسساتي – أسري: تقاسم مسؤولية تقديم العناية بين العائلة والمؤسسات العمومية، كما يتقاسم الزوجان داخل العائلة مسؤولية العناية بالأطفال بشكل عادل.

أما تصنيف أنيلي أنتونين وجورما سيبيلا (Amerijckx, 2008; Antonnen and Sipilä, 1996: 87‑100) فقد اهتم بتحليل خدمات العناية الاجتماعية في أوروبا. وشملت الدراسة أربع عشرة دولة، هي: ألمانيا، وبلجيكا، والدانمارك، وإسبانيا، وفرنسا، وبريطانيا، واليونان، وفنلندا، وإيرلندا، وإيطاليا، والنرويج، والأراضي المنخفضة، والبرتغال والسويد. وتم التركيز على أربعة قضايا: أولاً، دراسة حجم خدمات العناية المقدمة. ثانياً، العلاقة بين عمل المرأة وخدمات العناية الاجتماعية. ثالثاً، دور الدولة في تقديم وتمويل خدمات العناية الاجتماعية. رابعاً، تقديم الأنظمة القانونية لخدمات العناية الاجتماعية (Amerijckx, 2008: 15). واعتماداً على نتائج دراسة هذه العناصر، تم تمييز نموذجين مهيمنين في تلك الدول، ونماذج غير واضحة المعالم، هي:

– النموذج الاسكندنافي: يشمل جميع الدول الاسكندنافية باستثناء النرويج. ويتميز بوجود سياسات عمومية في مجال تقديم خدمات العناية الاجتماعية، مقابل محدودية دور القطاع الخاص، وعرض خدمات عناية اجتماعية مرتفع لفائدة الأطفال والمسنين.

– نموذج التكفل العائلي بخدمات العناية الاجتماعية: يتصف بمحدودية العرض في مجال خدمات العناية الاجتماعية، والتكفل غير المهيكل وغير المتعادل بخدمات العناية الاجتماعية. وتمتاز دول جنوب أوروبا بهذا النموذج.

– النموذج البريطاني: حيت تتدخل الدولة حالما يلزم ذلك، لفائدة الفئات المعوزة. ويمتاز بهيمنة القطاع الخاص وهامشية تدخل الدولة.

ويشكل النموذج الاسكندنافي بالنسبة إلى الباحثين النموذج المثال، وعامل تحرر للمرأة. ويمتاز هذا النموذج‏[10]، بحسب ريان ماهون (Rianne Mahon) بالتعادلية؛ «حيث يشتغل المواطنون جميعاً من أجل كسب حياتهم، وينشغلون بخدمات العناية الاجتماعية، ويطورون مشاركتهم في حياة جماعاتية وسياسية. ويتم الوصول لهذا النظام عبر وضع نظام رخص أبوية بأثار تعادلية ما بين الجنسين، وتوفير عرض التربية غير الأبوية يمكن لجميع الأطفال الولوج إليه بصرف النظر عن مدى اشتغال أبويهم، وتوافر المشتغلين بخدمات العناية الاجتماعية على مستوى تكويني عالٍ، ومشاركة ديمقراطية للجميع في تدبير وتنظيم خدمات الرعاية الصحية» (Amerijckx, 2008: 23; Mahon, 2002: 349‑379).

نكتفي، ههنا، باعتماد مقاربة النوع لتصنيف نمط الرفاه الاجتماعي بالمغرب، من خلال استخراج تحليل تقابلي لنموذجين تصنيفيين: نعتمد في الأول، على مبادئ تصنيف إسبينغ أندرسون، وفي الثاني، على بُعد النوع الاجتماعي اعتماداً على دراسات المندوبية السامية للتخطيط المغربية التي لها علاقة بالموضوع . (HCP, 2007, 2013, 2017, (a,b))

 

ثالثاً: في نمط الرفاه الاجتماعي المغربي: كيف تغير مقاربة النوع التصنيفات السائدة

نعتمد في مرحلة أولى خطاطة إسبينغ أندرسون لتصنيف نظام الرفاه الاجتماعي بالمغرب، مع تعضيدها في مرحلة ثانية بالنقد الذي وجهته دراسات النوع لهذا التصنيف. كما سنركز، كذلك على تحليل العلاقة بين الدولة والسوق التي تعتبر أساسية في تصنيف أنظمة الرفاه الاجتماعي لدى إسبنغ أندرسون باعتماد مبدأ نزع صفة التسليع (La Démarchandisation).

يتضح من خلال تحليل خدمات الحماية الاجتماعية، خصوصاً أنظمة المعاشات، والتأمين والصحة، على أن القوانين المنظمة لها، تقتصر على العاملين في القطاعين العام والخاص (المنظم). فالشغل وحده هو الذي يسمح بالولوج إلى هذه الأنظمة. وبالفعل، تقتصر الاستفادة من التقاعد والصحة والتأمين على الموظفين في القطاع العام والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، والقطاع الخاص، وتستثنى فئات كبيرة (العاطلين من العمل، وأصحاب المهن الحرة بالتحديد)، التي تتاح أمامها، فقط، فرصة اللجوء إلى السوق للاستفادة من خدمات الرفاه الاجتماعي، بإداء اشتراكات؛ إما للقطاع البنكي، وإما للشركات المالية الخاصة. غير أن بنية سوق الشغل، لا تسمح، أبداً، بتبني منظور ليبرالي في المجال الاجتماعي، لأن ما يعادل ثلثي العاملين (3.093.000 شخصاً) لا يحصلون على عقد عمل ينظم علاقاتهم مع مشغلهم (المندوبية السامية للتخطيط (أ)، 2017)، كما أن ما يعادل: «8.344.000 نشيطاً مشتغـلاً (أي 78.4 بالمئة من مجموع النشيطين المشتغلين) على المستوى الوطني لا يتوفرون على تغطية صحية، مقابل 3.507.000 بالمدن (64.6 بالمئة) و4.838.000 بالقرى (92.8 بالمئة). وبلغت هذه النسبة 58.8 بالمئة في صفوف المستأجرين (أي 2.922.000 شخص) على المستوى الوطني، و50.3 بالمئة في الوسط الحضري (1.794.000 شخص) و80.5 بالمئة في الوسط القروي (1.128.000 شخص).

إن اعتماد مبدأ نزع صفة التسليع في مجال الحماية الاجتماعية يخص فئة العاملين في القطاع المنظم، الذين يتم تمويل خدماتهم الاجتماعية من خلال مساهمات المشغل والعمال (نظام الرفاهية المحافظ). أما سائر الفئات التي تقع خارج علاقات الإنتاج الدولتية غير المهيكلة أو الخاصة، فتخضع لمنطق ليبرالي؛ أي أنها مضطرة إلى اللجوء إلى السوق للاستفادة من الخدمات الاجتماعية، خصوصاً في مجال التأمين الصحي، والمعاشات، والصحة. وهو ما يفسر ضعف نسبة المنخرطين في أنظمة التقاعد بالمغرب، الذي لا يتجاوز في القطاع الخاص ثلاثة ملايين منخرط، بحسب إحصاءات وزارة التشغيل لسنة 2014. وقد عرفت أنظمة التقاعد، رغم ضعف النسبة التي تغطيها من الساكنة، والتي تكاد لا تبلغ سوى 30 بالمئة، أزمةً ماليةً بسبب الاختلال بين عدد المتقاعدين وعدد النشيطين المحتملين، ولن يعود «بالإمكان أداء فاتورتَي المعاشات والصحة وفق الشروط المحددة في العقد الاجتماعي»، في أفق عام 2030 (المندوبية السامية للتخطيط، 2007: 62)‏[11].

وبالنظر إلى الآثار السلبية للخوصصة، وضعت الدولة برامج استهدافية لفئات اجتماعية هشة، مثل: صندوق التكافل العائلي‏[12]، وصندوق دعم الأرامل؛ أي أنها أصبحت تسير نحو اعتماد نظام الخدمات الاجتماعية الدنيا Les Minima sociaux، كما نجده في الأنظمة الليبرالية مثل الولايات المتحدة الأمريكية‏[13]. غير أن تدابير معالجة المخاطر الاجتماعية هذه، التي اقترحتها المؤسسات الدولية على المغرب منذ أواسط 1990، لم تعمل إلا على بناء دولة اجتماعية هشة و«تعميق الهوة بين عالم الشغل المنظم الذي يؤمن الحماية الاجتماعية والقطاع غير المهيكل»، (Catusse [et al.], 2011: 121‑148). كما يبين ذلك تطور مؤشر التنمية البشرية على مدى عشر سنوات، فقد انتقل ترتيب المغرب وفق هذا المؤشر من المرتبة 117 سنة 1995 إلى 126 سنة 2015.

أما في ما يتعلق بالجانب الصحي، فقد اتجه المغرب نحو اعتماد، سياسة اجتماعية لصالح الفئات التي يصعب عليها شراء الخدمات الصحية بهدف التقليص من الأثار السلبية لإلغاء مجانية الولوج على الفئات الهشة، ويتعلق الأمر بنظام المساعدة الطبية الذي بدأ العمل به منذ سنة 2011، غير أنه يصطدم بضعف البنى الصحية، وقلة الموارد البشرية، وصعوبات الولوج بسبب تفشي الرشوة، ومن نتائج ذلك ارتفاع نسبة وفيات الأطفال في أعمار أقل من خمس سنوات في المغرب، والتي بلغت 30 حالة وفاة للألف سنة 2014 (Unicef, 2014)، وضعف مستوى ثقة الأُسَر‏[14] في القطاع الصحي، واستمرار الشعور بالتدهور، كما بينت نتائج بحث المندوبية السامية للتخطيط (ب) 2017: «خلال سنة 2016، اعتبرت 13.6 بالمئة من الأُسَر، أن خدمات الصحة قد تحسنت، في حين أقرت 56.6 بالمئة، أنها قد تدهورت. وبذلك تراجع رصيد هذا المؤشر بين سنتي 2015 و2016 منتقـلاً من ناقص 36.4 نقطة إلى ناقص 43.0 نقطة»‏[15].

ههنا، تتضح صعوبة تصنيف نظام الرفاه الاجتماعي بالمغرب، فهو نظام غير مكتمل في تكوينه، كون الدولة لم تجعل الحماية الاجتماعية ضمن أولوياتها، حيث يبدو ليبرالياً في أحد الجوانب، (الصحة) ومحافظاً في جوانب أخرى مثل نظام التقاعد، وديمقراطياً اجتماعياً في مجال التعليم، كون هذا الأخير يتأسس على مبدأ المجانية التي بدأ التخلي عنها منذ تبني الميثاق الوطني للتربية والتكوين سنة 1999، الذي ينص في المادة 173 على «إقرار رسوم التسجيل في التعليم العالي، وفي مرحلة لاحقة في التعليم الثانوي» (وزارة التربية الوطنية، 1999). غير أن ما يميز سياسات الرفاه الاجتماعي، هو تفاوت مستويات الانتقال من النمط الدولتي المحافظ إلى النمط الليبرالي الشامل. ونعني بالنمط الدولتي المحافظ استمرار تدخل الدولة في تلبية الخدمات الاجتماعية، كما في التعليم، ورغبتها المستمرة في الخوصصة. أما النمط الليبرالي الشامل، فنعني به تسليع الخدمة الاجتماعية التي تقدمها سابقاً المرافق العمومية عبر تحرير السوق الاجتماعي.

إذا كان قطاع التعليم، المجال الوحيد الذي يقوم على شمولية الاستهداف، فإن هذا المبدأ لم تكن له أية آثار بالنظر إلى ضعف تغطية العالم القروي بالبنى التعليمية، وعدم كفاية المتوافر منها في المجال الحضري، لذا يصعب تصنيف المغرب اعتماداً على هذا المجال، ضمن نظام رفاه اجتماعي قريب من النمط الديمقراطي – الاجتماعي، المرتكز على التضامن، لأن السياسة الاجتماعية، وإن كانت تقوم على مبدأ شمولية الاستهداف، تقصي بشكل غير مباشر فئات محرومة لأسباب جغرافية من الولوج للخدمات العمومية. وقد تعمق هذا الإقصاء بعد تشجيع خوصصة التعليم، وتفعيل المزايا التي يتضمنها الميثاق الوطني للتربية والتكوين في المادة 165 من قبيل منح الامتيازات الضريبية لمدة 20 سنة للمؤسسات التعلمية الخاصة، وتقديم منح الدعم المالي للبعض الأخر (ما يسميه هذا الميثاق المؤسسات الخاصة ذات الاستحقاق)، وتكوين أطر وجعلها رهن إشارة القطاع الخاص‏[16]، وإغلاق ما يعادل 200 مؤسسة مدرسية عمومية على المستوى الوطني ما بين 2008 – 2015‏[17]. ساهمت هذه التوجهات في تدهور قطاع التعليم، فـ: «خلال سنة 2016، لم تتجاوز نسبة الأسر التي رأت تحسناً في جودة خدمات التعليم 22,3 بالمئة، فيما بلغت نسبة الأسر التي أقرت بتدهورها 42,9 بالمئة. وهكذا سجل رصيد هذا المؤشر مستواه الأدنى؛ إذ بلغ ناقص 20.6 نقطة» (المندوبية السامية للتخطيط، 2017 (ب)).

ولم تتوقف دينامية تسليع الخدمات الاجتماعية، ومنح امتيازات كبيرة للقطاع الخاص للاستثمار في مجال التعليم والصحة، كما يشهد على ذلك انتشار التعليم الخصوصي، والمصحات الخاصة، وشركات التأمين وعروض الادخار للحصول على المعاشات. وترغب الدولة في أن تقتصر جهودها، فقط، على تنفيذ برامج استهدافية لصالح الفئات الفقيرة والهشة. وخلافاً للسياسات التي تبناها المغرب بعد الاستقلال، كانت أغلب السياسات الاجتماعية إلى حدود التسعينيات رغم محدوديتها، شاملة‏[18]، غير مشروطة، يمكن من حيث المبدأ فقط للجميع الاستفادة منها في مجال الصحة والتعليم والتكوين المهني، غير أن التوزيع غير المتكافئ لمنافع هذه السياسات في مختلف مناطق المغرب، وارتفاع الحاجيات، حدّ من تأثير هذه السياسات في إحداث التحول الاجتماعي المطلوب. فبقدر ما ارتفعت النفقات، تعمقت التفاوتات بين مختلف الفئات الاجتماعية، وهو ما يمنح «المشروعية» لإجراءات الدولة الاستهدافية، لدمج الفئات الاجتماعية المقصية في التنمية الاجتماعية؛ علماً أن الاتجاه، الضروري في كل بلد نامٍ، هو تعزيز دور الدولة في المجالين الاجتماعي والاقتصادي، وردف السياسات الشاملة بسياسات استهدافية.

بعد تحليل السياسات الاجتماعية بالمغرب، باعتماد مبادئ تصنيف إسبينغ أندرسون، اتضح لنا مدى إمكان الاسترشاد بهذا النموذج لتصنيف نمط هذا الرفاه الاجتماعي المغربي غير المكتمل، الذي يمكن أن يتم تبعاً لكل قطاع اجتماعي (الصحة، التعليم، المعاشات …). كما أمكن لنا أن نستنتج مدى تعايش جميع الأصناف (النمط الليبرالي، المحافظ، الديمقراطي الاجتماعي) في نموذج دولة الرفاهية الاجتماعية الهجين الخاص بالمغرب. وكان ذلك خطوة ضرورية، لتعميق البحث وإعادة تصنيف هذا الرفاه، باعتماد مقاربة النوع الاجتماعي، ومبدأ نزع الصفة العائلية عن الخدمات الاجتماعية. ونفترض أن مثل هذا العمل سوف يمكّننا من تصنيف أفضل لنمط الرفاه بالمغرب؛ وذلك بالنظر إلى مكانة العائلة، والعلاقات بين الجنسين التي لم تراوح مكانها، بسبب ثقل الموروث الديني الناظم للعلاقات الأسرية، غلى الرغم من تسجيل بعض التوافقات الجديدة بين الجنسين بسبب انتشار التعليم، وعمل المرأة خارج البيت.

إذاً، نعتمد مقاربة النوع الاجتماعي في تحليل السياسات الاجتماعية في المغرب، وذلك من خلال تحليل نظام خدمات العناية، ودور العائلة في هذا المجال، سواء تعلق الأمر بالعناية بالأبناء أو الأشخاص غير القادرين على العناية بأنفسهم، والأشخاص العاجزين.

عند هذا الحد، يمكن التفكير في إمكانية تصنيف نظام الرفاهية الاجتماعية بالمغرب، باعتماد أحد الأصناف التي أشرنا إليها في المحور الأول من هذه الورقة لكل من أرلي هوتشيلد وأنيلي أنتونين وجورما سيبيلا، ولتحقيق ذلك، يلزمنا بدل مجهود كبير، وصعب في الآن ذاته، للولوج إلى مصادر معلومات كمية ونوعية حول نظام تقديم خدمات العناية الاجتماعية بالمغرب، وعلاقة المرأة بالشغل، ودور الدولة في توفير خدمات العناية الاجتماعية. ارتأينا لتجاوز هذه الصعوبات، التي يزيد من تعقيدها غياب نظام الإحصاء الاجتماعي بالمغرب، التركيز على تحليل ومقارنة الإجراءات التي تدخل ضمن سياسات الأسرة بالمغرب. ولن يسعفنا في هذا المجال سوى العمل على الاستثمار الأقصى للإحصاءات التي توفرها المندوبية السامية للتخطيط بالمغرب. ونركز على ثلاثة عناصر:

– تمويل حاجات الأُسر.

– الانسجام بين العمل والأمومة.

– دور الدولة في التكفل بالأبناء.

في ما بتعلق بتمويل حاجات الأسَر، يشكل الشغل الذي يوفره القطاع الحكومي، والقطاع الخاص وغير المهيكل علاوة على صناديق المعاشات، أساس تمويل حاجات الأسَر. وتالياً، لا يمكن للأسَر تمويل حاجيتها من دون الولوج إلى سوق الشغل، باستثناء المستفيدين من نظام ريعي، كيفما كانت طبيعته. ولم تتدخل الدولة لتمويل حاجات الأسر بشكل مباشر، عدا ما يمنحه مؤخراً صندوق التضامن العائلي للنساء المطلقات، وصندوق دعم النساء الأرامل‏[19]. ويبين تحليل بنية سوق الشغل توسع مشاركة المرأة في العمل إلى جانب الرجل، حيت تحولت بذلك إلى ممول ثانٍ لحاجات العناية التي تحتاجها الأسر، علماً أن من الصعوبة بمكان الحصول على إحصائيات لعدد الأسر المغربية التي تتميز بالمشاركة الكاملة للزوجين في سوق الشغل. فأغلبية الأسر المغربية، ما زال الزوج فيها هو المعيل الوحيد (L’Homme Gagne-pain)، بينما تتكفل المرأة بالعمل المنزلي والعناية بالأبناء. لقد بين تحليل وضعية النساء في علاقتهن بالعمل المأجور ضعف مشاركة المرأة في النشاط الاقتصادي؛ فنسبة النساء النشيطات قياساً بحجم النساء في عمر الشغل، لا تمثل سوى 24.7 بالمئة، على الرغم من انتقال عدد النساء النشيطات، البالغات 15 سنة فما فوق من 2.74 إلى 3.04 مليون ما بين 2000 و2012. وهي نسبة أقل من نسبة الرجال التي تعادل سنة 2012 نسبة 73.7 بالمئة (HCP, 2013: 5). إن ضعف مشاركة المرأة في سوق الشغل يرهنها بالعمل المنزلي، وبتقديم خدمات العناية الاجتماعية للأبناء في إطار تقسيم للعمل على أساس جنسي. لقد انتقلت الأسرة المغربية من ممتدة إلى أسرة نووية؛ أصبحت تمثل 60.3 بالمئة من ضمن مجموع أصناف الأسر التي يعرفها المغرب (Centre d’etudes et de recherches démographiques, [s. d.]: 31). غير أن هذا التطور لا يوازيه تغير جذري في العلاقات بين الجنسين؛ فنسبة الأسر التي يكون فيها رب العائلة هو الرجل ما زال مهيمناً، بحيث لا تمثل نسبة النساء بمثابة رب العائلة (Centre d’etudes et de recherches démographiques, [s. d.]) سوى 15.6 بالمئة، علماً أن الأمر يتعلق في أغلبية هذه الحالات بنساء أرامل. ولم تنجز دراسات في ما إذا كانت هذه الوضعية تعكس تغييراً في العلاقات بين الرجل والمرأة. تفيدنا المعلومات المتعلقة بهذا المجال، أن المنحى العام في تمويل الأسر هو الرجل. ويؤدي مثل هذا الوضع بالمرأة إلى البقاء في البيت للعناية بالأبناء. ههنا، تعتبر الأسرة وحدة لتقديم خدمات العناية، مما يدرج المغرب، تلقائياً، ضمن نظام الرفاهية الاجتماعية العائلي أو التقليدي، بالنظر إلى مركزية العائلة والأم أو الزوجة في تقديم خدمات العناية.

يبين تحليل مدى الانسجام بين العمل والأمومة أن المرأة وحدها، هي من يتحمل تكاليف رعاية الأبناء من طريق منحها رخصة الأمومة، بينما لا وجود لاعتراف برخصة الأبوة في جداول الرخص الممنوحة في المغرب للعاملين. صحيح أنه لم يتم الاعتراف برخص الأبوة إلا في بداية الألفية الثالثة في دول أوروبية مثل فرنسا وبلجيكا 2002، والنرويج 2013. هكذا تعيد السياسات الاجتماعية، إذاً، المرأة إلى البيت لتقديم خدمات العناية الاجتماعية بالأبناء. كما يعتبر المجتمع تقديم العناية للأبناء من واجب الأسرة، التي يتولاها معيلها الذي تجب عليه النفقة، سواء في حالات استقرار الأسرة أو الطلاق. إن تحليل علاقة الشغل بالعمل، يبين مدى إعاقة الشغل المنزلي وتربية الأبناء لعمل المرأة خارج البيت ومساهمتها في الإنتاج، خصوصاً، في المغرب الذي لا يتوفر على دور حضانة دولتية، حيث تقع كل مسؤولية تقديم خدمات العناية الاجتماعية على الأسرة وحدها، من دون الدولة. ولم تطرح نقاشات حول نوع من القضايا الأساسية التي تبقي المرأة داخل دائرة العائلة، أو تعيدها إلى البيت حتى بعد الاندماج في سوق الشغل. وفي جانب آخر، بينت دراسة حول استعمال الوقت لدى المغاربة حجم التفاوتات في تدبير تكاليف تقديم العناية الاجتماعية بحيث؛ «تساهم 95 بالمئة من النساء في الأنشطة المنزلية وتخصص لها 5 ساعات يومياً (4 ساعات و38 دقيقة بالوسط الحضري و5 ساعات و33 دقيقة بالوسط القروي). وهو ما يفوق ما تخصصه المرأة الفرنسية بساعة و12 دقيقة وما يقل عما تخصصه المرأة التونسية بـ 29 دقيقة.

تشغل الأنشطة المنزلية المحضة (المطبخ، الغسيل، النظافة، الترتيب، …) 4 ساعات و33 دقيقة داخل البيت، في حين تشغل الأنشطة الملحقة بها خارج البيت (التسوق، أداء الفواتير، المصالح الإدارية، …) 27 دقيقة وتهم على الخصوص ربات الأسر.

من جهتهم، يخصص 45 بالمئة من الرجال 43 دقيقة يوميا للعمل المنزلي أي ما يمثل 3 مرات أقل مما يخصصه الرجل الفرنسي و10 دقائق أقل مقارنة مع الرجل التونسي. ويتغير هذا الزمن من 39 دقيقة بالوسط الحضري إلى 50 دقيقة بالوسط القروي. 13 بالمئة منهم يخصصون 11 دقيقة في المتوسط للأعمال المنزلية المحضة. ويتعلق الأمر على الخصوص بالرجال المطلقين (43 بالمئة) والأرامل (23 بالمئة). فيما يخصص ما تبقى من الزمن (32 دقيقة) للأنشطة المنزلية الملحقة والممارسة خارج البيت.

يؤدي تراكم الزمن المخصص للأنشطة المهنية والأنشطة المنزلية إلى الرفع من مدة العمل النسوي اليومي إلى 6 ساعات و21 دقيقة، 79 بالمئة منها مخصصة للعمل المنزلي. ويمثل هذا حوالى 40 بالمئة من الزمن المتبقي من عمرها خارج الزمن المخصص لقضاء حاجياتها الفيزيولوجية» (علمي، 2014).

وتبين دراسة التكفل بالأبناء، والعرض الذي توفره الدولة في هذا المجال من بين العناصر المعتمدة في تصنيف نظام الرفاه الاجتماعي، وفق مقاربة النوع. ويعد المغرب من بين الدول التي لا تتوفر على مؤسسات تديرها أجهزة حكومية، وبخاصة تقديم العناية للأطفال بشكل كلي، أو مشاركة الأسرة. كما نجد ذلك في الدول التي تندرج ضمن نمط الرفاهية المؤسساتي أو النمط المؤسساتي – الأسري الذي تتقاسم فيها الأسرة الأعباء مع الدولة ومؤسسات فاعلة في ميدان تقديم الرعاية للأبناء. لا يتوفر المغرب إلا على العرض الذي يقدمه القطاع الخاص في هذا المجال، أو ما توفره بعض المؤسسات الإنتاجية التي تعتمد مبدأ المسؤولية الاجتماعية للمقاولة. ويصعب تقدير حجم العرض الذي يوفره القطاع الخاص في هذا المجال، بالنظر إلى غياب الإحصاءات في هذا المجال. وما استطعنا الوصول إليه، في هذا الشأن، يتعلق بمراكز حماية الطفولة التي تُعنى بأطفال الشوارع، والأطفال المتخلّى عنهم. ولقد لامس البحث الوطني حول استعمال الوقت حجم مساهمة المؤسسات والفضاءات العمومية في العناية بالأطفال، الذي يمكن تقديره انطلاقاً من الوقت الذي يقضيه هؤلاء في أحد أو بعض هذه المؤسسات. مثـلاً «يقضي الأطفال (7 – 14 سنة) من أجل تربيتهم وتكييفهم مع الحياة الجماعية 60,6 بالمئة من حياتهم بالوسط العائلي و22 بالمئة منها بالأماكن العمومية» (علمي، 2014: 9)، وهو ما يبين الدور المركزي للعائلة.

خاتمة

لم تراوح جهود تحليل نظام الرفاه الاجتماعي بالدول العربية التي أطلقتها الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع المعهد السويدي بالإسكندرية مكانها، على الرغم من أهمية التحليلات التي قدمت في إطارها، حيت لم نعثر سوى على دراسة تطبيقية واحدة، خلال العشر سنوات التي تلت تلك الندوة، حاولت تحليل نظام الرفاه الاجتماعي بمصر. وإذا كان هدفنا هو استثمار المنجز في هذا الميدان للتفكير في المسألة الاجتماعية، فإن ما توصلنا إليه من نتائج، يقتضي إعادة تطوير ما قدم في هذا الجانب بإدماج مقترب النوع في تحليل نظام الرفاه الاجتماعي؛ بالنظر إلى علاقات النوع الاجتماعي المتخلفة التي تميز المجتمعات العربية، وهو ما يعني نقداً للأسس البطريركية للمسألة الاجتماعية.

ويمكن، كذلك، أن نستنتج من خلال تحليل نظام الرفاه الاجتماعي المغربي باعتماد عناصر تمويل الخدمات الاجتماعية، والتوفيق بين الشغل والأمومة، ودور المؤسسات العمومية في التكفل بحاجات الأبناء، بأن نزع صفة التكفل العائلي عن نظام العناية الاجتماعية، في السياق المغربي، التي تعني «التحمل المشترك لثقل ومسؤوليات العناية الاجتماعية العائلية، [أي] الشرط القبلي للنساء اللواتي يبحثن عن الانسجام بين العمل والأمومة» (Martin, 2000)، صعب للغاية. بل يمكن القول، إن غياب مؤسسات دولتية فاعلة في هذا الميدان يؤدي إلى تقوية صفة التكفل العائلي الشامل بخدمات العناية الاجتماعية. وتبعاً لهذا، والمعلومات السابقة التي بني عليها تحليلنا، يمكن القول إن نمط الرفاهية الاجتماعية بالمغرب نمط تقليدي غير مؤسساتي، وذلك للاعتبارات التالية:

– بقاء المرأة في المنزل للتكفل بالعائلة، أو عملها وتكفلها، في الوقت نفسه بتقديم خدمات العناية الاجتماعية.

– غياب دور المؤسسات العمومية في التكفل بخدمات العناية الاجتماعية، من شأنها أن تخلص المرأة من أعباء تربية الأولاد.

– غياب تقاسم للمسؤولية بين الأسرة والمؤسسات العمومية والرجل والمرأة في تحمل الأعباء.

ونصل إلى الاستنتاج نفسه، بعد تطبيق تصنيف وأنيلي أنتونين وجورما سيبيلا، حيث ينتمي المغرب إلى نموذج التكفل العائلي بخدمات العناية، المنتشر على نطاق واسع في الدول النامية ودول جنوب أوروبا، مع محدودية اللجوء إلى القطاع الخاص.

 

من المغرب أيضاً  مفارقات المشهد الديني المغربي: الملامح والمآلات

يمكنكم الحصول على كتاب دولة الرفاهية الاجتماعية الصادر عن المركز… عند الضغط على الرابط

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المغرب #الرفاهية_الاجتماعية_بالمغرب #الرفاه_الاجتماعي_في_المغرب #دراسات_إجتماعية