منذ انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رئيساً جديداً للولايات المتحدة الأمريكية، تجدد الحديث عن احتمال ضربة عسكرية توجهها إسرائيل إلى حزب الله في لبنان تؤدي إلى إزالة التهديد الذي يشكله ضد أمنها القومي، وتوجه ضربة إلى النفوذ الإيراني في المشرق العربي، وتضعف المقاومة الفلسطينية والفصائل المعارضة للهيمنة الأمريكية في المنطقة، وتعيد خلط الأوراق في لبنان لمصلحة النفوذ السعودي في هذا البلد. وقد قارن بعض المحللين بين الوضع الحالي، والوضع الذي كان سائداً قبيل الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وبالتالي فإن التوقعات تشير إلى احتمال حصول ضربة إسرائيلية كبيرة جداً ضد لبنان تهدف إلى التغلغل عميقاً في هذا البلد.

يعالج هذا البحث هذا الاحتمال مقارنة بما جرى خلال اجتياح إسرائيل للبنان قبل 34 عاماً مع بحث التطورات المحتملة بناء على المعطيات الراهنة.

أولاً: تقديرات الحرب الإسرائيلية المقبلة

في بداية شهر أيار/مايو 2017، أعلن رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري عن خشيته من احتمال قيام إسرائيل بعدوان جديد على لبنان. واعتبر الحريري في مقابلة مع قناة فرانس 24 الفرنسية أن إسرائيل قد تقوم بشن العدوان حتى إذا لم تتعرض لاستفزازات من حزب الله اللبناني‏[1]. وقد جاءت تصريحات الحريري بعدما قامت إسرائيل بنشر منظومة دفاع جديدة مضادة للصواريخ في قاعدة هاتزور الجوية وسط الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن المنظومة تستهدف «من يسعون لتدمير إسرائيل»‏[2]. كذلك حدث هذا في الوقت الذي صعَّدت إسرائيل من أعمالها العسكرية ضد سورية عبر القيام بعدة غارات ضدها‏[3]، وتهديد وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بتدمير منظومة الدفاع الجوي السورية التي استهدفت الطائرات الإسرائيلية المغيرة على سورية‏[4]. في الوقت نفسه فإن تقديرات المحللين السياسيين والعسكريين أفادت بأن إسرائيل تتحضر لحرب مقبلة على لبنان، إذ أفاد محللون عسكريون إسرائيليون عن مناورات يجريها الجيش الإسرائيلي داخل معسكرات تحاكي قرى لبنانية في إطار التحضيرات التي تجريها منذ انتهاء عدوانها الأخير على لبنان في عام 2006‏[5]. وقد أفاد قائد هذه التدريبات في الجيش الإسرائيلي العقيد كوبي فالير أن الهدف هو تحضير القوات الإسرائيلية للقتال في أجواء ومناخ الحرب المقبلة على لبنان‏[6]. ورغم أن إسرائيل تخشى من القدرات العسكرية المتزايدة لحزب الله، إلا أن ما قد يشجعها على العدوان الجديد هو انغماس حزب الله في الحرب في سورية‏[7].

والجدير ذكره أن هنالك جملة عوامل قد تمهِّد للعدوان الإسرائيلي على لبنان، أهمها الصراع الإقليمي الدائر بين السعودية من جهة وإيران من جهة أخرى على النفوذ في لبنان، ما يجعل السعودية أكثر استعداداً لدعم عدوان إسرائيلي على لبنان لتوجيه ضربة لحزب الله، وهو أهم حليف لإيران في المنطقة العربية، وخصوصاً بعدما أضحى حليف الحزب ميشال عون رئيساً للجمهورية اللبنانية، وهو ما رأت فيه السعودية تعزيزاً للنفوذ الإيراني في لبنان‏[8]. هذا يأتي في ظل تحسن كبير في العلاقة بين المملكة وإسرائيل، وهذا تجلى في زيارات علنية قام بها مسؤولون سعوديون للكيان العبري من ناحية وتداول الإعلام المرتبط بالسعودية من أن إسرائيل لم تعد عدواً وأن العدو الحقيقي هو إيران‏[9]. لكن قد يكون الأبرز في ذلك هو انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن السياسة الأمريكية كانت دائماً ثابتة في دعم إسرائيل منذ نشأتها، إلا أن ترامب يعتبر الأكثر دعماً للكيان العبري منذ الرئيس الأسبق رونالد ريغان (1981 – 1989)، الذي شهدت بداية عهده أكبر اجتياح إسرائيلي للبنان في عام 1982. وتعكس تصريحات ترامب حتى الآن دعماً لامحدوداً لإسرائيل قد يشكل أرضية صلبة تنطلق منها هذه الأخيرة للقيام بعدوان جديد على لبنان‏[10]. وقد يكون العدوان الإسرائيلي هذه المرة بحجم العدوان الذي قامت به الدولة العبرية في العام 1982 وأدى إلى تغيرات كبيرة في الموازين اللبنانية والإقليمية أيضاً. وقد يكون الدافع لإسرائيل هذه المرة القضاء على حركة وطنية فلسطينية جديدة تتشكل في الأرض المحتلة وقد ظهرت تجلياتها بعد استشهاد باسل الأعرج، إذ خرجت إلى الشارع حشود من خارج إطار اصطفافات فتح وحماس‏[11] كما ظهرت في إضراب الأسرى الفلسطينيين الذي انطلق في نيسان/أبريل 2017‏[12]. وبالتالي فقد يكون إضعاف حزب الله الذي يدعم المقاومة في فلسطين حافزاً قوياً للكيان العبري للقيام بعدوانه ضد لبنان.

ثانياً: ظروف اجتياح لبنان عام 1982

في عام 1981، انتخب رونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. وقد صعّد ريغان عقب توليه السلطة من المواجهة مع الاتحاد السوفياتي واستأنف سباق التسلح. وفّر هذا فرصة ملائمة لإسرائيل لاستباق قيام حركة وطنية فلسطينية في الأراضي المحتلة تطالب بالتحرر من الاحتلال عبر توجيه ضربة للمقاومة الفلسطينية في لبنان. إضافة إلى ذلك فقد كانت إسرائيل تريد تصعيد المواجهة مع سورية، التي كانت في حالة حرجة على المستوى الإقليمي دفعتها إلى توقيع اتفاقية صداقة مع الاتحاد السوفياتي في محاولة لنيل دعم يرقى إلى الحماية‏[13]. مع ذلك فإن السوفيات كانوا قلقين إزاء الأزمة في أفغانستان وبولندا ولا يريدون أن يدخلوا في صراع مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط‏[14]. وعلى الرغم من توقيع معاهدة الصداقة مع سورية وعلى الرغم من التهديد الإسرائيلي لسورية، كان السوفيات مترددين في مناقشة هذا الموضوع مع السوريين‏[15]. وفي هذه الظروف، تم تشكيل حكومة جديدة في إسرائيل عينت أرييل شارون وزيراً للدفاع، ما شكل مؤشراً على ارتفاع وشيك في حدة التوتر في الشرق الأوسط‏[16]. كانت إسرائيل تريد الاستفادة من هذا الوضع لاستكمال استراتيجيتها في فرض تسوية ملائمة لمصالحها على حساب العرب‏[17].

في عام 1982، بدا الوضع مناسباً لإسرائيل لاستكمال خططها الرامية إلى تعزيز هيمنتها في المنطقة عن طريق توقيع الدول العربية اتفاقات سلام منفردة معها، وبالتالي تعزيز مصالحها. إضافة إلى ذلك، فإن الإدارة الأمريكية الجديدة في ظل رونالد ريغان شجعت محاولات إسرائيل لقلب الأوضاع في المنطقة‏[18]. وكان الإسرائيليون آنذاك قلقين من حالة عدم الاستقرار في قطاع غزة الواقع تحت احتلالهم منذ عام 1967، وكانوا يعتقدون أنه، لتفادي اندلاع انتفاضة فلسطينية في الداخل، ينبغي القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان‏[19]. وكان الهدف الآخر فرض حليف لها على رأس السلطة في لبنان وفرض معاهدة سلام عليه لكسر العزلة العربية التي فرضت على مصر وتشجيع دول عربية صنفت بـ «المعتدلة» على تطبيع العلاقات مع إسرائيل وهو ما يضعف موقف سورية‏[20].

بدأ الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 6 حزيران/يونيو 1982. بعد ثلاثة أيام، هاجمت إسرائيل المواقع السورية. وفي خلال يومين، فقد السوريون أكثر من 80 قاذفة مقاتلة ونحو 25 صاروخ سام المضاد للطائرات‏[21]. بعد أسابيع قليلة تمكنت إسرائيل من تحقيق أهدافها بانسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت وانتخاب حليفها بشير الجميل رئيساً للجمهورية اللبنانية. لكن بعد أسبوعين أدى اغتيال بشير الجميل في الرابع عشر من أيلول/سبتمبر 1982 إلى توجيه ضربة قاسية للخطط الإسرائيلية، في وقت كانت المقاومة اللبنانية للاحتلال الإسرائيلي تتصاعد، ما جعل وضع حكومة مناحم بيغين حرجاً في مواجهة المعارضة الإسرائيلية‏[22]. وكانت مجزرة صبرا وشاتيلا قد أدت إلى استقالة وزير الدفاع الأمريكي، ألكسندر هيغ، الذي أيدّ الغزو الإسرائيلي منذ البداية، وهو ما دفع بالأمريكيين إلى إرسال قواتهم إلى لبنان مع غيرها من القوات الإيطالية والفرنسية والبريطانية (القوات المتعددة الجنسيات)‏[23]. وقد أدّى هذا إلى أن يبادر الأمريكيون للتدخل دون مشورة الإسرائيليين بعد أن اقترح ريغان خطة خاصة به لحل الأزمة في لبنان‏[24]. وقد قضت خطة ريغان بوضع لبنان تحت الوصاية الأمريكية المباشرة لينضم إلى مصر والسعودية والأردن في عملية عزل سورية وإنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي. شكلت هزيمة سورية في لبنان ضربة قاسية لها أثرت في الرقابة التي كانت تفرضها على ياسر عرفات. وشجع ضعف سورية منظمة التحرير الفلسطينية والأردن على قبول خطة ريغان، رغم أن الإسرائيليين والمنظمات الفلسطينية المتطرفة رفضوا هذه الخطة‏[25]. وكانت سورية على استعداد للتعاون مع الأمريكيين لتعويض بعض خسائرها. ومع ذلك، فإن الأمريكيين هم من رفضوا أن يأخذوا بالاعتبار المصالح السورية، لأنهم اعتقدوا أن دمشق أضحت ضعيفة بعد الغزو الإسرائيلي وأنه لم يكن بإمكانها أن تعرقل خطط الولايات المتحدة في المنطقة‏[26].

غير أن سورية أفادت من عدة عوامل من شأنها أن تصب في مصلحتها على الساحة اللبنانية لقلب الطاولة على الأمريكيين. فقد استفادت من علاقاتها مع حركة أمل الشيعية والحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي إضافة إلى الدعم السوفياتي والإيراني لشن هجوم مضاد أدى بالحصيلة إلى سيطرة حلفائها على معظم الأراضي اللبنانية وعلى إجبار الرئيس اللبناني أمين الجميل على تشكيل حكومة برئاسة رشيد كرامي، حليف سورية‏[27]. ولقد كان الدور الأبرز في انسحاب إسرائيل من معظم الأراضي اللبنانية يعود إلى المقاومة التي انطلقت بإسهام عدد كبير من الأحزاب اللبنانية اليسارية والقومية، لينحصر العمل المقاوم ضد إسرائيل في ما بعد بحزب الله، وخصوصاً بعد عام 1990.

ثالثاً: تطورات التسعينيات وبدايات الألفية الجديدة

عام 1985، حدث تغيير كبير في الاتحاد السوفياتي؛ إذ شكّل وصول ميخائيل غورباتشيف إلى السلطة في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية بداية تراجع نفوذ الاتحاد السوفياتي وصولاً إلى انهيار كتلته عام 1989 وانهياره هو بعد عامين (1991). مع غورباتشيف، لم يعد بإمكان الدول العربية الراديكالية تعويض المساعدات العسكرية والاقتصادية والسياسية من جانب الاتحاد السوفياتي السابق‏[28]، الأمر الذي جعل مواقفهم ضعيفة حيال إسرائيل. وكانت سورية البلد الأكثر تضرّراً جراء ذلك‏[29]. في نيسان/أبريل 1987، أبلغ غورباتشيف الرئيس السوري السابق حافظ الأسد أن الاتحاد السوفياتي لن يتمكّن من دعمه في تحقيق تكافؤ استراتيجي مع إسرائيل، الأمر الذي جعل خططه غير قابلة للتنفيذ، وخصوصاً أن سورية كانت تعوّل على هذه المساعدة العسكرية. إضافة إلى ذلك، بدأ غورباتشيف بإقامة علاقات مع دول عربية تُعتبر معتدلة مُضعفاً بذلك موقف سورية بوصفها حليفاً استراتيجياً للاتحاد السوفياتي‏[30]. زاد هذا الأمر من قوة إسرائيل، المدعومة من الأمريكيين، وزادت أيضاً هجرة اليهود الروس‏[31]. كان الاتحاد السوفياتي يعتقد أنه سيتمكّن من الاحتفاظ ببعض النفوذ في الشرق الأوسط من خلال القيام بدور شريك للولايات المتحدة، ولا سيَّما من خلال زيادة فرص مفاوضات السلام‏[32].

غير أن الولايات المتحدة التي كانت لها حسابات أكثر واقعية، استغلّت ذلك الوضع لفرض هيمنتها على الشرق الأوسط الغنيّ بالنفط‏[33]، والذي يشكّل 65 بالمئة من الاحتياطي العالمي‏[34]. كانت الولايات المتحدة تطمح إلى السيطرة على هذا النفط لتكون المزوّد الوحيد لأوروبا واليابان، وفي موقف أفضل يسمح لها بالتلاعب بسياسات هذه الأخيرة‏[35]. هكذا شعر العرب بخطر غياب قوة عالمية من شأنها التصدّي لمواجهة الأمريكيين، وهذا ما دفع صدّام حسين في قمة عمّان في تشرين الثاني/نوفمبر 1987 إلى الإعلان أن نهاية الحرب الباردة كانت كارثة على العرب لأنها زادت حرية الأمريكيين بالتحرّك في الشرق الأوسط‏[36]. وقد شكلت حرب الخليج ضد العراق عام 1991 مسعى أمريكياً للسيطرة على الشرق الأوسط في مواجهة احتمال صعود قوى منافسة لأمريكا مثل الصين وأوروبا وحتى روسيا بعد تجاوز أزمتها. وقد اختارت سورية عدم معارضة الأمريكيين في حربهم تلك، التي يخوضونها مدعومين من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي؛ بل قررت الاستفادة منهم. وكان الدعم الذي قدّمته للحلفاء، وإن كان رمزيّاً، يسمح لها بتحسين علاقاتها مع مصر ومع بلدان الخليج والبلدان العربيّة الأخرى ومع الولايات المتحدة. كانت سورية تأمل أن يسهم موقفها هذا في تثبيتها كشريك للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وشطبها عن اللائحة الأمريكية السوداء، الأمر الذي من شأنه أن يمكّنها من الحصول على مساعدات اقتصادية، ويسهّل نقل التكنولوجيا الأمريكية إليها. حصلت سورية على مبلغ قدره 2 مليار دولار من السعودية، وأقامت نوعاً من التحالف مع مصر ودول الخليج (إعلان دمشق). إضافة إلى ذلك، أقامت سورية سلطة لمصلحتها في لبنان‏[37]. كذلك تمكن السوريون من إطاحة الجنرال المتمرّد ميشال عون في لبنان – بعد موافقة ضمنيّة من واشنطن – وعززوا بذلك سيطرتهم على لبنان.

عام 1991 انطلقت مفاوضات للسلام بين العرب وإسرائيل في مدريد تواصلت حتى عام 1996. وقد أثمرت هذه المفاوضات تحقيق سلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993 وبين إسرائيل والأردن عام 1994، إلا أنها فشلت في تحقيق سلام بين إسرائيل وسورية، ما أدى إلى عدوانين إسرائيليين على لبنان في عام 1993 وعام 1996. خلال هاتين الحربين نجح حزب الله الذي أضحى الفصيل اللبناني الوحيد الذي يخوض كفاحاً مسلحاً ضد إسرائيل (بعد العام 1991) بتعزيز قدراته العسكرية بدعم من سورية وإيران. وقد مكنه هذا من إجبار إسرائيل على الانسحاب من لبنان من دون قيد أو شرط في أيار/مايو 2000 لأول مرة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي. وفي عام 2006 صمد حزب الله في مواجهة عدوان إسرائيلي كان الأكبر على لبنان، كما أنه كان أطول الحروب التي تخوضها إسرائيل. وقد فشل العدوان في تحقيق أي من أهدافه وخرج حزب الله منتصراً ليعمل على تطوير قدراته العسكرية والسياسية. وقد تجلى ذلك في ما بعد بقدرة الحزب على فرض هدنة طويلة في منطقة الجنوب اللبناني، كما تحول إلى قوة إقليمية عبر تدخله في الأزمة السورية داعماً النظام السوري والجيش في مواجهة الجماعات المسلحة التي تقاتله. كذلك ربط الحزب نفسه بشبكة من العلاقات مع فصائل المقاومة الفلسطينية وأنصار الله اليمنية وفصائل المعارضة البحرينية والسعودية وفصائل المقاومة العراقية والحشد الشعبي وغيرها، ما مكن أيضاً إيران من تعزيز علاقاتها في المنطقة العربية‏[38].

رابعاً: الشرق الأوسط الجديد والربيع العربي

مع حلول الألفية الجديدة، كان على الأمريكيين اتخاذ سلسلة من القرارات المصيرية بالنسبة إليهم، من شأنها حسم زعامة العالم لمصلحتهم. وشكلت الحرب على أفغانستان أواخر عام 2001 وبداية عام 2002 فرصة للولايات المتحدة لتحديد المدى الأقصى لهذا الشرق الأوسط الذي تريد السيطرة عليه. إضافة إلى ذلك شكلت الحرب على العراق فرصة لإعطاء عمق لهذا الشرق الأوسط الذي يجب أن يكون موالياً لها، إضافة إلى منحها فرصة للسيطرة على نفط المنطقة. وكانت الخطوة الأمريكية التالية هي العمل على إطاحة نظامي الحكم في كل من سورية وإيران حتى تتمكن من السيطرة بشكل كامل على الشرق الأوسط. وكان الهدف من الثورتين الملونتين في جورجيا عام 2003 ثم أوكرانيا عام 2004 تأمين الجناح الأيسر لهذا الشرق الأوسط الجديد (بالمنظور الأمريكي). وتجلت المحاولات الأمريكية في استهداف سورية عبر إصدار قرار مجلس الأمن 1559 الذي دعاها للانسحاب من لبنان. ولعب رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري دوراً محورياً في إصدار هذا القرار بالاستناد إلى حليفه الرئيس الفرنسي جاك شيراك‏[39].

واختار شيراك عدم مواجهة الولايات المتحدة بعد عام 2004؛ وذلك نتيجة العقاب الذي تعرض له على يد جورج بوش الابن بعد معارضته الغزو الأمريكي للعراق؛ آمـلاً أن يؤدي التقارب مع الولايات المتحدة إلى اعتراف أمريكي بالنفوذ الفرنسي في لبنان وسورية‏[40]. وكان شيراك دعم وصول بشار الأسد إلى السلطة في سورية عام 2000، آمـلاً في أن يسهم ذلك في إقناعه بالانسحاب من لبنان وقطع علاقاته مع إيران. لكن ذلك لم يحصل ما أصاب شيراك بخيبة أمل‏[41]. وردت سورية على القرار 1559 بالتمديد لرئيس الجمهورية إميل لحود لثلاث سنوات إضافية وبالدفع لاستقالة رفيق الحريري من رئاسة الحكومة اللبنانية الذي حل محله عمر كرامي. وفي 14 شباط/فبراير، اغتيل رفيق الحريري وألقى الغرب باللائمة على سورية.

لم يكن النصر الأمريكي في العراق وأفغانستان حاسماً، فواجه الجيش الأمريكي مقاومة شرسة في هذين البلدين، ودعمت سورية وإيران المقاومة العراقية، ما جعل الاحتلال الأمريكي مكلفاً جداً. كذلك دعمت روسيا انقلابات مضادة في أوكرانيا ومارست ضغوطاً على جورجيا لإحداث تغيير سياسي لمصلحتها. وبات الأمريكيون واعين لقصورهم مع وصول الرئيس باراك أوباما عام 2009. لذلك سعوا لفرض حل سياسي في العراق يمكن أن يخفف الضغط عنهم ما يجعلهم يركزون جهودهم لتشديد قبضتهم على أفغانستان. في المقابل استفاد العراقيون من تراجع القوة الأمريكية ليضغطوا باتجاه الانسحاب الأمريكي الكامل من العراق عام 2011. واستفادت إيران من ذلك أيضاً لتوسيع دائرة نفوذها في المنطقة وإحداث اختراقات باتجاه الوصول إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر عبر تحالفها مع سورية وحزب الله اللبناني ومع حماس في غزة ومع الحوثيين في اليمن.

شكل الربيع العربي الذي انطلق بداية عام 2011 النقطة التي انفجر فيها احتقان المجتمعات العربية بعد عقود من القمع وسوء الحكم. وبدا أن هذا الربيع العربي كان له أبعاده الإقليمية والدولية. فعبره حاولت الولايات المتحدة أن تحقق أهدافها الجيوسياسية بوسائل القوة الناعمة بعدما فشلت في تحقيقها عبر القوة العسكرية. وقد نجحت الولايات المتحدة وحلفاؤها بإطاحة الأنظمة في تونس وليبيا ومصر واليمن وحتى العراق إلا أنها عجزت عن ذلك في سورية حتى انتهاء ولاية الرئيس باراك أوباما (2009 – 2017)‏[42].

خامساً: ترامب والتطورات المحتملة دولياً وإقليمياً

في العشرين من كانون الثاني/يناير 2017 تولى دونالد ترامب منصب رئيس الولايات المتحدة. ولم تمض أسابيع قليلة على تسلمه مقاليد السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية حتى سارع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى زيارة واشنطن للقائه. وكان البارز خلال الزيارة المواقف التي أطلقها ترامب ونتنياهو خلال المؤتمر الصحافي الذي عقداه؛ إذ أعلن ترامب أنه يمكن حل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين وفقاً لمبدأ الدولة الواحدة‏[43]، وهو ما يشكل تراجعاً واضحاً عن تعهدات الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ التسعينيات من القرن الماضي وحتى العام 2016. وشدد على ضرورة تفاوض الطرفين مباشرة، ما يشكل تخلياً إضافياً من قبل الولايات المتحدة عن تعهداتها السابقة للفلسطينيين، مشيراً إلى رغبته في نقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس المحتلة‏[44]. أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فقد أشاد، من جهته، بالعلاقات التي تجمع إسرائيل بعدد كبير من البلدان العربية، واصفاً هذه الدول بأنها لم تعد تعتبر إسرائيل عدواً لها، وقال «إن فرصة كبيرة للتوصل إلى السلام يمثلها النهج الإقليمي وإدراج شركائنا العرب في المساعي الرامية إلى إقامة سلام أوسع، بما في ذلك السلام مع الفلسطينيين»‏[45]. وفي ما يتعلق بإيران كان لافتاً رفع النبرة من قبل ترامب في وجهها، إذ أكد عزم الولايات المتحدة على منع إيران من الحصول على السلاح النووي وأعرب عن قلقه من الخطر الذي تمثله الطموحات الإيرانية على إسرائيل، وأشار إلى أن واشنطن فرضت مزيداً من العقوبات على إيران. وهو ما لاقى ترحيباً من نتنياهو‏[46].

وفي تعليق سابق على القمة الأمريكية – الإسرائيلية، اعتبر روبرت ساتلوف، المدير التنفيذي لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى المعروف بدعمه إسرائيل، أن أهداف ترامب في ما يخص الشرق الأوسط تتلخص بالقضاء على «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)، وتبني موقف صارم جداً من إيران و«سلوكها السلبي في الشرق الأوسط»، وإشراك حلفاء الولايات المتحدة العرب وعلى رأسهم السعودية، في تحمّل الأعباء المالية العسكرية إضافة إلى تعزيز علاقة الصداقة مع إسرائيل‏[47]. أما في ما يخص نتنياهو فقد اعتبر ساتلوف أن لقاءه مع ترامب سيحدد «طابع العلاقة بينه وبين الرئيس الجديد ويضع القواعد الأساسية التي سترعى التنسيق الاستراتيجي/السياسي (والنزاعات التي لا مفر منها) في المراحل المقبلة من العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل»‏[48]. واعتبر ساتلوف أنه سيكون على نتنياهو تنبيه ترامب من الخطر الإيراني في الشرق الأوسط إضافة إلى إقناع ترامب بتبني وجهة النظر الإسرائيلية للحل مع الفلسطينيين‏[49].

جاءت هذه المواقف في سياق ما أعلنه ترامب خلال حملته الانتخابية وبعد فوزه بالرئاسة في الولايات المتحدة عن عزمه التقارب مع روسيا في الوقت الذي رفع نبرته تجاه كل من الصين وإيران. وتشكل هذه المواقف صدى لأفكار طرحها المستشار السابق للأمن القومي الأمريكي زبغنيو بريجنسكي في كتابه رؤية استراتيجية الذي نُشر عام 2011 وفيه يرى أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة لوحدها على قيادة العالم وأن عليها أن تقيم غرباً أكبر يكون بقيادتها ويضم أوروبا وروسيا وتركيا، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة أخطأت بغزو العراق ما أدى إلى الأزمة المالية في الولايات المتحدة بين عامي 2008 و2009، وأن هذه الأزمة «هزت الثقة العالمية في قدرة الولايات المتحدة»‏[50].

كذلك يرى بريجنسكي أن الصين ليست مستعدة لتولي دور قيادي في الشؤون العالمية نظراً إلى موقعها، وتطويقها بجيران معادين لها، ونظراً إلى قضاياها المتعلقة بعدد السكان والتنمية الاقتصادية‏[51]. وفقاً لبريجنسكي فإن جيران «الصين الطموحة»‏[52]، روسيا واليابان والهند، ليسوا على استعداد لقبول دور قيادي صيني، وربما يتحالف هؤلاء مع الولايات المتحدة لعرقلة صعود الصين إلى الساحة‏[53]. ويعتقد بريجنسكي أن «شرق آسيا وجنوب آسيا ستصبحان المنطقتين الأكثر عرضة للنزاعات الدولية في عالم ما بعد أمريكا». وقد تستفيد الصين من تراجع الدور الأمريكي لتعزيز علاقاتها مع البرازيل، وبالتالي الدخول إلى الفناء الخلفي لأمريكا‏[54]؛ وبرأيه أيضاً «أن التهديد السياسي الخارجي الأكثر إلحاحاً لموقع أمريكا في العالم والتحدي الذي يواجهه الاستقرار الجيوسياسي العالمي على المدى الطويل منشؤه القارة الآسيوية». ويقع التهديد المباشر في منطقة شرق قناة السويس في مصر، غرب مقاطعة شينجيانغ، في القوقاز جنوب حدود روسيا السوفياتية سابقاً ومع الدول الجديدة في آسيا الوسطى»‏[55].

بناء على ذلك فإن الإدارة الأمريكية الجديدة ستدفع إلى التقارب مع روسيا في الوقت الذي ستركز اهتمامها على محاصرة الصين بطوق من الأزمات وبمنعها من الخروج إلى طرق المواصلات البحرية عبر سلسلة تحالفات عقدتها الولايات المتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والفيليبين وإندونيسيا وماليزيا‏[56]. وهنا كان لافتاً الاجتماع الثلاثي الذي عقد بين رؤساء أركان الجيوش الروسية والتركية والأمريكية في أنطاليا لتنسيق العمليات العسكرية في سورية والعراق، فيما لم تتم دعوة إيران إلى المؤتمر‏[57]. وقد أعلن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم أن اجتماع الأركان الثلاثة الأمريكي جوزيف دانفورد والروسي فاليري غيراسيموف والتركي خلوصي آكار يهدف إلى التنسيق في مجال مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط معتبراً أن هنالك ضرورة للتنسيق الكامل في سورية لتجنب أي صدام بين القوات العسكرية للبلدان الثلاثة‏[58]. وأوردت وسائل الإعلام أن جدول الأعمال يتضمن البحث في إنشاء منطقة حظر جوي في شمال سورية‏[59] .

سادساً: استهداف إيران عبر ضرب حزب الله!

بما أن إيران شكلت تاريخياً صلة الوصل بين شرق آسيا وشرق المتوسط، فإن استكمال حصار الصين يكون بإبعاد الصين عن إيران أو توجيه ضربة لهذه الأخيرة ‏[60]. وبما أن ضربة عسكرية مباشرة لإيران قد تكون مكلفة، لذا فإن الاحتمال الأكبر أن يتم توجيه ضربات إلى حلفاء إيران في الشرق الأوسط (مثل حزب الله في لبنان وحماس في غزة وأنصار الله في اليمن)، والذريعة حاضرة وهي مواجهة الإرهاب والتطرف الإسلامي. هذا ما جعل الأمين العام لحزب الله يعلن في خطابه في ذكرى الاحتفال بيوم القادة الشهداء عن استعداد الحزب للحرب مع إسرائيل وإطلاقه سلسلة تهديدات للكيان العبري. وقال السيد نصر الله إن البيئة الاستراتيجية تفيد بملاءمة الوضع لإسرائيل لشن عدوان على لبنان وأن حزب الله وإيران والمقاومة الفلسطينية وضعوا في رأس قائمة الاستهداف الإسرائيلي‏[61]. وأعلن أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد يأذن لإسرائيل بشن حرب على لبنان، وقال «الظروف السياسية عند إسرائيل موجودة دائماً لشن حرب على لبنان والغطاء الأمريكي متوفر ومثله الغطاء العربي»‏[62]، وشدد على قدرة المقاومة الإسلامية على الصمود وإيلام إسرائيل وإفشال مشاريعها‏[63].

وبعد أسابيع قليلة، وأثناء انعقاد اجتماعات جامعة الدول العربية، وفي ما يعزز هواجس السيد نصر الله من إمكان دعم دول عربية لضربة إسرائيلية لحزب الله، تحفظت السعودية، مدعومة من الإمارات العربية المتحدة والبحرين، عن البند المتعلق بدعم لبنان في مواجهة إسرائيل في البيان الختامي للقمة العربية، مبررين ذلك بتصريحات الرئيس اللبناني ميشال عون الداعمة لحزب الله‏[64]. ونقلت جريدة الأخبار اللبنانية أن وزارة الخارجية الإماراتية استدعت السفير اللبناني في أبو ظبي وأبلغته احتجاجها الشديد على تصريحات الرئيس اللبناني وأبلغته تجميدها البحث في الزيارة التي كان مزمعاً للرئيس عون القيام بها لدولة الإمارات‏[65]. وقد ترافق هذا مع تصريح لوزير الأمن الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست اعتبر فيه أن الجيش اللبناني ما هو إلا إحدى الوحدات العسكرية الملحقة بحزب الله وأنه سيتم استهدافه في أي حرب مقبلة على لبنان‏[66]. وقال ليبرمان حرفياً: «في بداية عام 2017 أعلن الرئيس اللبناني ميشال عون أن دولة لبنان والجيش اللبناني وحزب الله، جميعهم منظومة واحدة موجهة ضد إسرائيل. وسمعنا نصر الله يوجه تهديدات إلى إسرائيل، ورأينا التظاهرة التي نظّمت من قبل حزب الله تصل إلى حدود إسرائيل من دون أن تمنعها القوات الأمنية اللبنانية» (في إشارة منه إلى احتجاج أهالي بلدة ميس الجبل على خروق إسرائيلية على الحدود)… «إن المسألة الأكثر إثارة للقلق، في لبنان وقطاع غزة، هي تهريب الأسلحة الكاسرة للتوازن من سورية إلى لبنان، وكذلك إنتاج الأسلحة الكاسرة للتوازن، وخصوصاً الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة ووسائل (قتالية) أخرى، سواء في لبنان أو غزة. وكل شيء يجري بتكنولوجيا وتدريب وتمويل إيراني»‏[67].

وكان اللافت للنظر تنويه ليبرمان بالموقف السعودي في مؤتمر ميونيخ الذي هاجم إيران، فيما أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، أن إسرائيل تعارض بشدة وحزم تزوّد حزب الله بأسلحة خطيرة، مشيراً إلى أن الخطوط الحمر الإسرائيلية عريضة وواضحة، وأن الإسرائيليين لن يترددوا بالعمل على تطبيقها‏[68].

وكان اللافت للنظر أيضاً زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو موسكو في آذار/مارس 2017 لمطالبة القيادة الروسية بالعمل على منع وجود إيران مستقبـلاً في سورية ومنع حزب الله من التمدد باتجاه الجولان السوري المحتل‏[69]. ورغم اعتراف نتنياهو بأنه لم يلقَ أذناً صاغية لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي دعاه إلى عدم إسقاط أساطير الماضي على التصورات السياسية في الزمن الحاضر، إلا أن نتنياهو اعتبر أن رسالته وصلت إلى القيادة الروسية «وأنه قد تم استيعابها»‏[70]. وأشارت جريدة الأخبار اللبنانية إلى أن «معظم اللقاء مع بوتين تمحور حول التهديد الذي تشكله إيران على إسرائيل عبر الساحة السورية، كاشفاً عن مخاوف إسرائيل من «نقطة التحول» التي تمر بها سورية و«احتمال الانتقال من القتال إلى التسوية». وشدد على أنه أوضح لبوتين «معارضة إسرائيل الشديدة لتمركز إيران وحلفائها في سورية». وركز في حديثه على ما قال إنه محاولة إيرانية لبناء ميناء بحري لها على الشواطئ السورية، «وهو ما يتعارض مع مصالحنا»، بل ترى إسرائيل أن ذلك «يتعارض مع إمكان إنجاز تسوية»‏[71].

ويتوقع قادة المقاومة اللبنانية أن يأتي الهجوم الإسرائيلي عبر البقاع الغربي في لبنان، إذ تسعى إسرائيل للفصل بين منطقة البقاع والجنوب اللبناني، وبين المقاومة وخطوط إمدادها في سورية. لذلك عمدت المقاومة إلى البحث في مد خط المواجهة مع إسرائيل إلى الجولان السوري المحتل. وقد سقط لها عدد من القادة أثناء قيامها بتنفيذ خطتها وكان من بينهم قادة في الحرس الثوري الإيراني. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2015 تم تسجيل مقتل عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني في القتال الدائر في سورية. وسبق ذلك استهداف طائرات إسرائيلية في 18 كانون الثاني/يناير 2015 موكباً لقادة من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله أدى إلى مقتل الجنرال في الحرس الثوري علي الله دادي وجهاد مغنية ابن القيادي السابق في حزب الله عماد مغنية وعدد من القادة في حزب الله‏[72]. بعد مرور عدة أشهر على ذلك تم استهداف الأسير السابق في سجون الاحتلال الإسرائيلي والقيادي في المقاومة سمير القنطار بصاروخ أدى إلى مصرعه، وقد دلت أصابع الاتهام إلى إسرائيل وخصوصاً أن القنطار كان يتولى التخطيط لإقامة شبكات ومجموعات للمقاومة في الجولان السوري المحتل ضد إسرائيل‏[73].

سابعاً: الوضع في لبنان

منذ عام 1990 حكم لبنان وفقاً لاتفاق الطائف الذي استبدل الثنائية المسيحية بقيادة مارونية والإسلامية بقيادة سنية بثلاثية سنية – شيعية – مسيحية مع وضع مميز للدروز. وقد شكل هذا أيضاً انعكاساً لتوزع النفوذ في لبنان بين سورية والسعودية والولايات المتحدة الأمريكية‏[74]. ولقد شعر المسيحيون، وعلى رأسهم التيار الوطني الحر بقيادة الجنرال ميشال عون، بتراجع دورهم نتيجة الطائف إذ حلت رباعية طائفية مكان الثنائية التي كانت تعطي الأولوية للدور المسيحي في النظام الطائفي اللبناني‏[75]. وقد ترافق انتخاب عون مع انتشار مقولة عودة الرئيس القوي وتفعيل دور الرئاسة وما إلى ذلك من شعارات، فيما أعربت قيادات مسيحية عن شعورها بالثقة لأن وضع المسيحيين بعد انتخاب العماد ميشال عون «أفضل من وضعهم قبله، فالرجل يمثّل قاعدة شعبية وازنة، ويدعمه فريق يمثّل قاعدة أخرى هو القوات اللبنانية، ويحظى بغطاء القيادة الروحية للموارنة»‏[76]. وأكدت أن «تجربة إيصال عون إلى رئاسة الجمهورية، بعد صراع دام نحو ثلاثة عقود، لا يجوز إهدارها بالقول إنها مجرّد انتصار للمحور الإيراني»‏[77]. ودعت مسيحيّي لبنان «لكي يقتنعوا بأنهم ما زالوا قادرين على إحداث التوازن الكامل في المعادلة، بمجرّد توافقهم وتفاهمهم على الأساسيات. والدليل هو معجزة إيصال أبرز ممثليهم إلى الحكم، بعدما كان هذا الأمر صعباً حتى في أكثر المراحل ازدهاراً للدور المسيحي ولسلطة الرئيس، قبل الطائف»‏[78].

وبعد أشهر قليلة وصف رئيس أساقفة بيروت للطائفة المارونية المطران بولس مطر، خلال ترؤسه القداس لمناسبة عيد مار مارون، وصولَ العماد ميشال عون إلى سدة الرئاسة بأنه يعيد الأمل إلى المسيحيين وقال مخاطباً عون الذي حضر القداس:

«إن الرئيس عون لم يأتِ إلى موقع الرئاسة إلا لخدمة لبنان وما نذرتم العمر إلا للحفاظ على لبنان وأوضحتم في خطاب القسم أن لبنان هو لبنان القوي الموحد لكل أبنائه، لبنان الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال والازدهار والميثاق والرسالة»‏[79].

ورأى أن «العهد الجديد هو الفرصة الثالثة لإرساء الدولة على أسس راسخة لأن تطبيق الاتفاقات المعقودة أصبحت بين اللبنانيين وعلى مسؤوليتهم، ولأن الشراكة التي أصابها وهن أصبحت قادرة على الفعل، ولأن المصالحات لاقت ارتياحاً والحوارات للسلم تستكمل بجدي»‏[80].

في المقابل فإن أركان نظام لبنان الطائف، وهم رئيس مجلس النواب نبيه بري والزعيم الدرزي وليد جنبلاط ورئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة إضافة إلى أركان ائتلاف الرابع عشر من آذار كانوا من المتضررين من وصول ميشال عون إلى سدة الرئاسة‏[81]. وقد أحاط «هؤلاء أنفسهم بشبكة واسعة من رجال الأعمال والضباط والقضاة والإعلاميين والأحزاب اليمينية واليسارية والقومية والعروبية ورجال الدين والسياسيين التقليديين. وفي كل مفصل»‏[82]. وقد اعتبر ميشال عون النقيض للبنان الطائف‏[83]، رغم أنه اعترف بمقررات هذا الاتفاق عندما توصل إلى اتفاق مع الرئيس سعد الحريري يوافق فيه الأخير على انتخاب عون رئيساً في مقابل تسميته هو رئيساً للحكومة. ولقد كان الحريري مضطراً إلى التوصل إلى تسوية تعيده إلى سدة رئاسة الحكومة، وخصوصاً أنه كان قد بدأ بفقدان دعم السعودية له الذي أثر في استثماراته في المملكة‏[84].

وقد تحدث الكثيرون عن أن التسوية بين عون والحريري كانت نتيجة تسوية أمريكية – إيرانية قبيل انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ولم تكن ذات أبعاد محلية لبنانية، وأن السعودية قبلت بالتسوية للحد من خسائرها على الصعيد الإقليمي‏[85]. وفيما أمل الكثيرون في أن يؤدي وصول عون إلى كرسي الرئاسة لإبعاده عن حزب الله، إلا أن التصريحات التي أدلى بها للتلفزيون المصري خلال زيارته لمصر دحضت هذه الأقاويل، إذ شدد «على أهميةِ سلاحِ المقاومة مكمِّلاً لسلاحِ الجيشِ في مواجهةِ العدوِ الإسرائيلي»‏[86]. وقد أدى هذا إلى ردود فعل سلبية من قبل الكثيرين المرتبطين بائتلاف الرابع عشر من آذار.

خلاصة

بناء على ما تقدم، قد تجد إسرائيل أن من مصلحتها شن هجوم على حزب الله يساعدها على القضاء على قوته الرادعة ضدها في جنوب لبنان وفي الجولان السوري المحتل، ما يجعل تلك المنطقتين تقعان تحت دائرة التأثير الإسرائيلي. كذلك فإن ضرب حزب الله يمنح الفرصة لإسرائيل بمنع الدعم عن فصائل المقاومة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، وخصوصاً بعد إفلاس عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين المتمثلة باتفاق أوسلو. أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة فإن ضرب حزب الله يوجه ضربة لفصيل قوي يدعم النظام في سورية ويمنح إيران فرصة ليكون لها نفوذ في سورية، ما يجعل الرئيس السوري يعتمد بالكامل على الدعم الروسي وبالتالي فإن أي صفقة أمريكية مع الروس من دون الإيرانيين، تكون تكاليفها أقل كثيراً بالنسبة إلى الأمريكيين وحلفائهم. كذلك فإن ضرب حزب الله سيحرم إيران من حليف قوي أتاح لها أيضاً نسج علاقات مع عدد كبير من الفصائل الفلسطينية والعراقية والعربية المعارضة للولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط. وقد تجد الضربة رضى سعودياً وخصوصاً أنها ستحرم أنصار الله اليمنيين والمعارضة السعودية والبحرينية من حليف قوي. وقد يؤدي ذلك أيضاً إلى إعادة التوازنات في لبنان لجهة إضعاف محور حزب الله – التيار الوطني الحر المعارض للهيمنة السعودية، لمصلحة المحور المؤيد للسعودية في لبنان. وما يعزز هذا الاحتمال هو النزوع الأمريكي في ظل ترامب نحو التصعيد العسكري في مناطق النزاعات كالشرق الأوسط وأفغانستان وكوريا الشمالية. وقد وصل الأمر بواشنطن إلى حد توجيه ضربة عسكرية إلى مطار الشعيرات في سورية بذريعة استخدام الجيش السوري أسلحة كيميائية في غارة على خان شيخون في شمال سورية ضد المتمردين‏[87]، وهو ما لم يثبته أي تحقيق دولي مستقل. كذلك ما يعزز هذه النزعة هو الحشود العسكرية الأمريكية التي تجمعها واشنطن في الأردن في إطار السعي لإقامة منطقة أمنية تابعة لها في جنوب سورية‏[88].

إلا أن احتمالات الضربة الإسرائيلية لحزب الله قد تضعف، أو أنها قد تفشل إذا فشلت المناورات الأمريكية لإبعاد روسيا من إيران، أو إذا أدت الضربة، وفق المخاوف الأوروبية، إلى موجة نزوح جديدة للاجئين السوريين وحتى اللبنانيين إلى أوروبا، أو إذا نجح حزب الله في الصمود أمام الضربة الإسرائيلية، وهو ما ستكون له نتائج عكسية تقلب الموازين ليس في لبنان فقط بل على الصعيد الإقليمي أيضاً. وما يمكن أن يشكل رادعاً إضافياً لإسرائيل يمنعها من القيام بعدوانها هو الموقف الروسي الحازم الذي يمكن أن تتخذه موسكو وقد ظهرت بوادره في الإدانة الشديدة التي وجهتها لإسرائيل عقب إحدى غاراتها ضد سورية واستدعاء الخارجية الروسية للسفير الإسرائيلي في موسكو لتوجيه رسالة شديدة اللهجة لإسرائيل‏[89]. كذلك يمكن أن يشكل الدعم الروسي اللامحدود لدمشق وحلفائها رادعاً آخر لإسرائيل يجعلها تعيد حساباتها في ما يتعلق بهجوم جديد ضد لبنان.