أولاً: الإطار النظري

يُعنى الباحث في هذه المداخلة بالنّظر في المشروع الإصلاحي العربيّ. ويتركّز الاهتمامُ في تبيّن الشروط الحضاريّة والتّاريخيّة والآفاق المعرفيّة التي حفّت بلحظة تلقّي المدنيّة الغربيّة سبيـلاً إلى الوقوف على خصائص تأويل مفاهيم التمدّن الغربيّ وسائر نظمه وتدابيره السّياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة عبر أنموذج محدّد هو مفهوم الحرّيّة… وقد صدر البحث عن أطروحة مفادها أنّ تعثّر المشروع الإصلاحي يعود إلى أسباب عميقة موصولة بكيفيّة التلقّي والتّأويل. ويستند الباحث في هذه المقاربة إلى نظريّة التلقّي لا بوصفها منهجاً في قراءة النّصوص الأدبيّة كما بلورها أعلام النّقد الأدبي الألمان (هانس روبرت ياوس وهانز جورج غادامير، وفولفغانغ أيزر فضـلاً عن الشكلانيّين الروس… إلخ)، بل باعتبارها موقفاً في الفهم والتّفسير عامّة نظر فيه إلى حاصلة تداخل أفق القارئ، وهو في هذا المقام الفكر الإصلاحي ومرجعيّته العربيّة الإسلاميّة القديمة، مع أفق «النصّ»، ونعني به في هذا البحث مقوّمات التمدّن الأوروبيّ في القرن التّاسع عشر وقيمه.

وهكذا تنأى هذه المقاربة بنفسها، في ما نزعم، عمّا ذهبت إليه أغلب البحوث والدّراسات من ردّ فشل التّجربة الإصلاحيّة والخصائص التي تميّزت بها إلى أسباب خارجيّة فحسب، ومنها موقع أصحابها من السّلطة وضغط ذلك الموقع على حرّية فكره، والأطماع الأجنبيّة، والصّراع على السّلطة والنّفوذ بين الفئات الحاكمة في البلاد العريبّة، فضـلاً عن هشاشة الاقتصاد وتراكم الدّيون الخارجيّة وسوء التّصرّف المالي، وتقادم الهياكل الاجتماعيّة… إلخ، مهما تكن لتلك العوامل من تأثيرات لا ينكرها البحث الرّصين.

يكمن الفارق الأساسيّ بين تلك المقاربات وبين المقاربة التي نقترحها في الإجابة عن السّؤال الآتي: هل تُعدّ الشّروط المعدودةُ «خارجيّةً» مجرّدَ ضغوط على المصلح العربيّ حاول «مراوغتها» باتّباع المرحليّة، وتوخّي الخلط المقصود بين المفاهيم الحديثة وبين المفاهيم الفقهيّة القديمة طلباً لاستئناس المتلقّي التقليديّ واستمالته، أم أنّ الأمر يعود إلى ضغط هويّة القارئ الذي يقرأ «نصّاً» هو هنا مشروع التّمدّن الأوروبيّ بجميع مستوياته السّياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة …؟

إنّ مقاربة على هذا النّحو ستستحضر، بكلّ تأكيد، كلّ «الأسباب الخارجيّة» التي ذكرنا، ولكنّها ستكون ههنا جزءاً من السّياق الاجتماعيّ والأيديولوجي والثقافي… إلخ، الذي يفسّر (يفهم ويؤوّل) القارئ من خلاله النّصّ أو ما يسمّيه روّاد مدرسة كونستانس الألمانيّة ببنية الأفق الاجتماعيّ للتّجربة (أي ما يجلبه القارئ التّاريخي معه من عالمه الواقعيّ) بديـلاً من بنية أفق التّجربة المحتمل (أي ما يوحي به النّصّ ويستشرفه). فهل كان هذا الأفق الاجتماعيّ مساعداً على القراءة والفهم والتمثّل، أم أنّه شكّل عائقاً حجب «النص» ومنع من فهمه؟ إنّ الجواب على هذا التّساؤل هو ما سيحدّد ما إذا كان فشل الحركة الإصلاحيّة أصيلاً، لأنّه داخليّ نابع من تمثّل التمدّن الغربيّ تمثّلاً «تلفيقيّاً» مهما يكنْ من ضغط الأفق الثّقافيّ والمعرفيّ والاجتماعيّ والسّياسيّ، أم أنّه طارئ لأنّه خارجيّ متأتٍّ من الشّرط التّاريخي الظّرفيّ لـ «القراءة». وهو ما سيعمّق البحث عن أسباب استمرار سمة التّداخل بين المرجعيّتين الحديثة والتقليديّة لا عند مصلحي القرن التاسع عشر فحسب، بل كذلك في أطروحات بعض تيّارات الفكر العربيّ المعاصر اليوم، بالرغم من تغيّر الأسباب والشّروط التّاريخيّة التي حفّت بمشروع الإصلاح العربيّ.

فما المقصود بالتّأويل وما آلياته؟ وعلى أي نحو يمكن اعتبار التمدّن الغربيّ بمستوياته المتعدّدة نصّاً؟

1 – في معنى التّأويــل

من البداهة القولُ إنّ فعل القراءة، بما هو مضمار الجهد التّأويليّ وشرطُ إمكانه، هو حصيلة تلاقي أفقيْن تاريخيّين: أفق القارئ وموروثه وتوقّعاته… من جهة، وأفق النّصّ وإكراهاته التّاريخيّة واللّغويّة على النّحو الذي حدّده أعلام مدرسة التلقّي والقراءة والتأويل من جهة أخرى. فـ «في معرض تفسيره لهايدغر يتناول غادامير في الحقيقة والمنهج مسألة المعرفة المسبّقة في مواجهتنا مع النصوص. فيقول بأنّنا لا يمكن أن نقرأ النصّ إلا بتوقعات معيّنة، أي بإسقاط مسبّق، غير أن علينا أن نراجع إسقاطاتنا المسبّقة باستمرار في ضوء ما يَمْثُل هناك أمامنا. وبإمكان كل مراجعة لإسقاط مسبّق أن تصنع أمامها إسقاطاً جديداً من المعنى»‏[1]. ويؤكّد غادامير أنّ هذا الإسقاط المستمرّ للتوقّعات، وعمليّة تعديلها الدّائمة في ضوء عمليّة جدليّة مع النّصّ، هو ما يُسمّى الفهم والتأويل، ويدعو غادامير أحياناً هذا الفهم المسبّق بالتحيّز (Préjudice). وإذا كان هذا الجدل بين الفهم المسبّق (أو الخبرة) والنّصّ يُشْرِع نافذةً لتعدّد المعنى، فإنّ غادامير يشرّع للقول بلانهائيّته، إذ يرى أنّ المرء لا يمكنه أن يعرف العالم إلّا من خلال الفهم المسبّق والخبرة التّأويليّة المتراكمة، لكنّ هذه الخبرة وذاك الفهم لا يمكنهما أن يحيطا بالعالم الذي يتجاوز ترميزنا بحكم عينيّته، ومن ثمّ فإنّ هناك دائماً فائضاً من المعنى للوجود يراوغ شبكة اللغة، فتحاول محاصرته بالاستعارة والصّورة والسّرد والاشتراك اللّفظي… إلخ‏[2]. وينتهي غادامير من ذلك كلّه إلى التّأكيد أنّ الوجود الذي يمكن فهمه هو اللغة، وأنّ الهرمنيوطيقا هي اللّقاء بالوجود من خلال اللغة، إذ الواقع الإنسانيّ هو، تحديداً، واقع لغويّ، ومن هذا المنطلق يطرح أسئلته الإشكاليّة حول العلاقة بين كلّ من اللغة والفهم والتّاريخ والواقع. ونطرح نحن هنا سؤال العلاقة بين النّص اللّغوي وبين مفاهيم التمدّن الغربي ومؤسّساته التي تأثّر بها المصلحون العرب المسلمون. بعبارة أخرى: بأيّ معنى يمكن اعتبار التمدّن الأوروبي نصّاً أوّله المصلحون؟ وهل سعوا إلى مراجعة مسبّقاتهم من أجل تحقيق المعنى المتعدّد/اللّانهائيّ؟

2 – في أنّ المدنيّة الغربيّة نصّ(***)

تساءل هايدغر في كتابه الكينونة والزمن 1927: «ما الذي يسبق الآخر: الكينونة أم اللغة؟» و«هل نولد في الكينونة أم في اللغة؟» و«هل تسبق الكتابةُ الوجودَ أم العكس؟»‏[3]. وانتهى إلى القول إنّ اللغة هي وحدها التي تكشف عن الكينونة، وإنّ العالم في الحقيقة هو ما تشكّله اللغة لا ما هو في الحقيقة، ذلك أنّ اللغة هي البيت الذي نسكنه، هي بيت الكائن‏[4]. وبمتابعة الموقف الهايدغري إلى نهاياته، يتّضح أنّه لا يرى أسبقيّة اللغة على الكينونة والوجود فقط، بل يذهب أبعد من ذلك، فيعتبر أن وجود العالم هو تحديداً وجود لغويّ، وأنّه لا شيء خارجها. وقد تابعه البنيويون الفرنسيون المحدثون الذين وقعوا تحت تأثيره فاستنتجوا، بدورهم، أنّه «إذا كانت اللغة هي التي تقوم بتشكيل وصياغة ما نعرفه عن العالم، فإنه يمكن القول بأن اللغة تشكل معرفتنا بالعالم. ما نعرفه إذن ليس العالم كما هو في الواقع بل اللغة ذاتها»‏[5].

نخلص، إذاً، إلى أنْ لا شيء يحدث خارج اللغة، لذلك من البداهة القولُ إنّ الطبيعة نفسَها نصّ لأنّنا نتلقّاها في اللغة وباللغة. وقس على ذلك المدنيّة الغربية بمؤسّساتها السّياسيّة وتدابيرها الاجتماعيّة وممارساتها الثقافيّة فضلاً عن القيم والأفكار والمفاهيم التي هي أصـلاً صيغ لغويّة تجسّد بعضها في مؤسّسات وتدابير وممارسات بعينها… وتأسيساً على ذلك يصبح من المشروع الحديث عن تأويل ما باشره المصلح العربيّ الذي اطّلع على التمدّن الغربيّ، وقد تلقّاه نصوصاً لغويّة أيّاً تكن صيغتها الأصليّة، في لحظة شعور بتأخّر الأوضاع العربيّة، وتقدّم الغرب، فحاول الفهم والتمثّل، وإعادة النّظر في الموروث في ضوء ذاك الفهم وهذا التمثّل.

تجدر الإشارة إلى أنّ تأثّر المصلحين العرب بالفكر الغربي (ومنه التأثّر بمسألة الحرّيّة التي نُعنى بها في هذا البحث) قد كان على ضربين:

– التأثّر إلى حدّ الانبهار، والسّعي أحياناً إلى التّماهي مع الفكر الغربي في تصوّره لمسألة الحرّية التي تعنينا في هذا البحث، ويتجلّى ذلك في بعض مواقف أعلام التيّار التّحديثي: الليبرالي والاشتراكيّ (لطفي السيد، طه حسين، محمود عزمي، قاسم أمين، محمد حسين هيكل، شبلي الشّميل، فرح أنطون، سلامة موسى…)‏[6].

– محاولة التّوفيق بين المفاهيم والأفكار الوافدة من ناحية والمفاهيم التّراثيّة من ناحية أخرى، وقد تبنّى هذا الموقفَ أنصار التيّار السلفي الجديد (رفاعة رافع الطّهطاوي، جمال الدين الأفغاني، خير الدين التّونسيّ، محمد عبده، محمد رشيد رضا، حسن البنا، مالك بن نبي…)‏[7]. وهذه الفئة هي المقصودة أساساً بمصطلح «المصلح»، لتميّزها بالجمع بين الإحساس بضرورة التّغيير من جهة، وعجزها عن الانفكاك من الموروث من جهة أخرى. وهذا ما به يختلف عن المتغرّبين من ناحية، وعن الشّيوخ المحافظين من جهة أخرى.

ولا شكّ في أنّ ما يعنينا أساساً هو هذا التيّار الثّاني. على أنّ أعلام التيّارين جميعاً لم يسلموا في أحيان كثيرة من سوء فهم يعود إلى أسباب متنوّعة. ولا نستبعد أن يكون سوء الفهم هذا مقصوداً أحياناً من أجل التّمكين للمفاهيم الجديدة وضمان تقبّلها، وإن كان من الثّابت قصور الأفهام في أحيان أخرى عن تجاوز المدوّنة التراثية والبنى التراثيّة ومعانقة الفكر الغربي الحداثيّ ومؤسّساته. وقد أورد المفكّر المغربي عبد الله العروي في هذا المعنى الثاني نصّين في الموقف من مسألة الحرّيّة تحديداً، أحدُهما للمؤرّخ المغربي الشّهير أحمد الناصريّ يقول فيه: «واعلم أن هذه الحرّيّة التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعاً لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأساً…» والثاني لابن أبي الضّياف الذي لم يمنعه رفضه للحكم المطلق أي للاعتداء على الحرّيّة من التّهوين من أمر الرقّ تهويناً يلامس التقريظ في قوله: «ولا يخفى أن الرق في نفسه غير قادح في الفطرة الإنسانية ولا ينافي أخلاق الكمال والدين لأنه مصيبة نزلت بمن الحرّيّة فيه أصل»‏[8].

أمّا اختيارنا لمفهوم الحرّيّة دون غيره، فيعود أولاً إلى شيوع هذا المفهوم في التّراث العربيّ الإسلامي وإنْ بمعان تختلف عن المعاني العصريّة، وهو مثال نموذجيّ لما يمكن أن يقع فيه المصلح الحديث من وهم التطابق بينه وبين معاني هذا المفهوم الحديث، ويعود ثانياً إلى أنّ الحرّيّة مفهوم جامع يتجلّى في مجالات كثيرة، ويتّخذ فيها مدلولاتٍ متنوّعةً، فهو ديمقراطيّة ومجلس نيابيّ وحقوق مواطنة، وحرّية تعبير… في المجال السّياسيّ، ومساواة بين الرّجل والمرأة في المجال الاجتماعيّ، واستقلال وحقّ في تقرير المصير في مجال العلاقات الدّوليّة… إلخ.

وأيّاً ما كان الأمر، فإنّ سمة التلقّي الجامعة التي تولّدت منها سائر خصائص مفهوم الحرّيّة وتمثّلاته لدى المصلحين العرب هي، بعبارة جابريّة‏[9]، سمة التّداخل التّلفيقي بين مرجعيّتين: أولاهما غربيّة حديثة دنيويّة (حرّيّة، ديمقراطيّة، قانون، فصل بين السّلطات، نوّاب الشعب، مواطنة… إلخ)؛ وثانيتهما عربيّة إسلاميّة تقليديّة (شورى، شريعة، أهل الحلّ والعقد، وليّ الأمر/راع، رعيّة/عامّة… إلخ).

فكيف تمثّل الفكر الإصلاحيّ العربيّ مفهوم الحرّيّة؟ وما خصائص تأويله لذلك المفهوم؟

ثانياً: مفهوم الحرّيّة وخصائصه عند زعماء الإصلاح

يستدعي فهم مسألة الحرّيّة في المدوّنة الإصلاحيّة العربيّة الحديثة استحضارَ الأفق المعرفيّ الجديد الذي فرضته العصور الحديثة. ولعلّ من أهمّ خصائص هذا الأفق المعرفيّ الجديد معالجتَه قضيّة الحرّيّة في نطاق الدولة، وتحوّل النّظر فيها، تبعاً لذلك، من المدارات الميتافيزيقيّة الكلاميّة القديمة إلى مدارات اجتماعيّة وسياسيّة حديثة. ويعتبر المفكّر المغربيّ عبد الله العروي أحد أنصار هذا المذهب في التّحليل، إذ يرى أنّ كلمة الحرّيّة في مرحلة الإصلاح قد اكتسحت «الميادين التي كانت تعبِّر عنها من قبل رموز البداوة والتّقوى والتصوّف والولاء العشائريّ، لأن الدولة أصبحت محور الحياة الاجتماعيّة كلها بعد أن قضت جزئياً أو كلياً على البداوة والعشيرة والتصوف»‏[10]. ولعلّ هذا الوضع الحضاريّ الانتقاليّ الذي ظهر فيه الفكر الإصلاحيّ هو الذي يفسّر كثيراً من خصائص هذا الفكر، كما سنرى، ومن تلك الخصائص نذكر:

1 – التأويل الشعري لمفهوم الحرّيّة: مظاهر الاحتفاء والتّغنّي

اكتسب مفهوم الحرّيّة في المدوّنة الإصلاحيّة أهمّية لافتة تجلّت في تواتر معالجتها عند جميع الإصلاحيين تفريعاً وتأصيـلاً ودعوة إليها وانتصاراً لها. ومن أهمّ ما يستحق التوقّف هو تحوّل هذا المفهوم إلى موضوع للتّغنّي والتمجيد طلباً لعطف القلوب عليها، والتماساً لكسب الأنصار لها. فلا غرابة أن تتواتر في مؤلّفات زعماء الإصلاح صور بلاغيّة في تقريظ الحرّيّة والإشادة بها والتغنّي بسحرها، ومنه وصف أديب إسحاق لها بأنّها نور على نور، ومورد للظمآن، ومأمن للخائف، وسبيل للتّائه الحيران، وهي بعد ذلك كلّه فوق كلّ وصف، يقول إسحاق: «رآها نبهاء الناس نوراً على نور فرفعوا لها بينهم مناراً وأوقدوا من حولها ناراً، تهدي قوماً وتحرق آخرين (…) فهي المورد يراه الظّمآن، والمأمن يجده الخائف، والسبيل يلقاه التائه (…) [و] هي فوق ما يصف الواصفون وينعت العارفون، بل هي: الحرّيّة»‏[11]. ويتلطّف الحدّاد في تعريفها فيسميها البراءة، ويبرّئ الدّين من معرّة إنكارها، يقول الحدّاد داعياً إلى حرّية المرأة: «معاذ الله أن يناكد الإسلام هذه الحرّيّة البريئة [حريةُ أخذِ نصيبها من نور الشمس ونسامة الجو ورياضة الجسم، بدل لزوم البيت والأردية والحجب] بل هو قد أوسع في تقرير الحرّيّة إلى حدها الكامل»‏[12]. أمّا الكواكبي فيعتمد أسلوباً شعريّاً ينزّل الحرّيّة منزلة سامية، ويحدّد علاقتها بالقيم والنّاس. يقول الكواكبي: «المستبد عدو الحق، عدو الحرّيّة وقاتلهما، والحق أبو البشر، والحرّيّة أمّهم، والعوامّ صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئاً، والعلماء هم إخوتهم الراشدون»‏[13].

وبلغ الاحتفاء بالحرّيّة أن اعتبر الشّيخ الطّاهر بن عاشور الاعتداء عليها ضرباً من ضروب الظّلم. وتكشف هذه المماهاة بين الاعتداء على قيمة الحرّيّة والظّلم، عن رغبة في التنفير من معاداتها بالاستناد إلى منظومة القيم الدّينيّة التماساً للتّأثير، يقول ابن عاشور: «واعلم أن الاعتداء على الحرّيّة نوع من أنواع الظلم»‏[14]. واعتبر الباحث عزت قرني أن مسألة الحرّيّة كانت في قلب اهتمامات أديب إسحاق «وكان تمجيدها والدعوة إليها هي الرسالة التي وهب حياته لها»‏[15]، وهو حكم يصدق على أغلب المصلحين العرب بمختلف تيّاراتهم.

ومن مواقف الشّيخ ابن عاشور الإصلاحيّة التي يتجلّى فيها النّفس التّبشيري بالحرّيّة كذلك تعداده فوائدَها على الأمّة قاطبة متجاوزاً حدودها الفرديّة التّراثيّة. يقول الشيخ ابن عاشور: إنّ «أمة تنشأ على التطبع بالرأي الصحيح، والتخلّق بأخلاق الأخوة والمساواة وحب الحرّيّة وتوقير العدل لأمة خليقة بأن تعرف مزية الوحدة، فتكون متحدة الإحساس والعمل»‏[16]. أمّا الكواكبيّ فقد رأى في وجودها محرّكاً لسائر الأنشطة الإنسانيّة، مثلما أنّ غيابها مبطلٌ لها، فضلاً عن كون مدار كتابيه: طبائع الاستبداد وأم القرى كان على الحرّيّة تعريفاً وتمجيداً وبياناً لأهميتها في حياة الأفراد والشعوب، ومهاجمةً للاستبداد والمستبدّين: أعداء الحرّيّة. يقول الكواكبي: «لا شك أن الحرّيّة أعز شيء على الإنسان بعد حياته، وأن بفقدانها تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس، وتتعطل الشرائع، وتختل القوانين»‏[17]. وفي السّياق ذاته وسم قاسم أمين الحرّيّة بأنّها قاعدة الترقّي، ومعراج السعادة، وسرّ النجاح، وجعلها من أنفس حقوق الإنسان، ويتنزّل هذا التقريظ كلّه في نطاق النّفس التبشيري الدّعوي بمسألة الحرّيّة، والسّعي، كما أسلفنا، إلى غرسها في النّفوس والتبصير بأهمّيتها، يقول أمين: «الحرّيّة هي قاعدة ترقّي النّوع الإنساني ومعراجه إلى السّعادة، ولذلك عدّتها الأمم التي أدركت سرّ النجاح من أنفس حقوق الإنسان»‏[18]. وبلغ الاحتفاء بالحرّيّة وتقديسها عند فرح أنطون مبلغاً جعله لا يتردّد في: «الوقوف إزاء تمثال الحرّيّة في نيويورك وتوجيه التحية له»‏[19].

إنّ تمثّل الحرّيّة على هذا النّحو الشّاعريّ التّبشيري لمّا يكشف عن هيمنة الأسلوب البلاغيّ الموروث في النّظر والإدراك، من دون مراعاة طبيعة المسألة المعالجة وطبيعتها النّظريّة.

2 – التّأويل البراغماتي: غلبة الهاجس العمليّ على التّأصيل النّظريّ

بدت كلمة «الحرّيّة»، في المدوّنة الإصلاحيّة، صالحة للتّوظيف في نطاق كلّ نشاط اجتماعيّ يضغط على المجتمع أو مطلبٍ يتشوّف إليه. فلا عجب أن يتمّ توظيفها من أجل إلغاء قوانين أو محو عادات أو تغيير سلوك، أو تحرير المسلمين من الأوروبّيين أو الأتراك، أو بهدف التّحرّر من الاستبداد، أو لتحرير الوجدان من القوالب الموروثة في المجال الأدبيّ، أو للدّعوة إلى تحرير المرأة من التّقاليد الفاسدة، أو لتحرير العقول من الخرافات… إلخ. ولهذه الأسباب جميعها اكتسى مفهوم الحرّيّة صفة العمليّة على حساب البحث النّظري والفلسفيّ، باستثناء بعض التّعريفات ذات النّفس اللّيبرالي التي ساقها أصحابُها تأثّراً بالفكر الغربي دون تعمّق نظريّ أو تأصيل فلسفيّ. وقد جرت بهذه التّعريفات أقلام التّحديثيّين خاصّة، وفي مقدّمتهم قاسم أمين القائل إنّ «المقصود من الحرّيّة هنا هو استقلال الإنسان في فكره وإرادته وعمله متى كان واقفاً عند حدود الشرائع محافظاً على الآداب، وعدم خضوعه بعد ذلك في شيء لإرادة غيره»‏[20]، وأديب إسحاق الذي نادى بأنّ تكون الحرّيّة «لكل إنسان بمحض وجوده ولكل أمة بمحض الطبيعة»‏[21]… إلخ.

ولئن أبدى المصلحون رغبةً في تجاوز المفهوم التّراثي للحريّة، فإن حظّهم كان متفاوتاً في التّجديد. فظلّ التّقليديّون منهم منشدّين إلى الأفق التّراثيّ في تمثّل مفهوم الحرّيّة، ولا أدلّ على ذلك من وسمهم الحرّيّة، في غير تعمّق، بنعوت مبهمة مثل قولهم بأنّها ليست غريزيّة مستمدّة من طبيعية الإنسان المتناقضة، بل من فطرته التي هذّبها الوعي، والرّشد الدّيني الذي جاء به القرآن‏[22]. وهكذا ارتبط تعريف الحرّيّة بمصطلحات الفقه (تكليف، شهوة، إيمان، خير، صلاح… إلخ) دونما إضافة تذكر أو تطوير يستحق الذّكر، كما في قول الفاسي مثـلاً: «إن الحرّيّة لا تعني أن يفعل الإنسان ما يشاء ويترك ما يريد فذلك ما يتفق مع طبيعة شهوته ولا يتفق مع طبائع الوجود كما ركّب عليه، ولكنها تعني أن يفعل الإنسان ما يعتقد أنه مكلف به وما فيه الخير لصالح البشر أجمعين. وإيمان الإنسان بأنه مكلف هو أول خطوة في حريته»‏[23]. وهكذا فإنّ مؤدّى هذا القول هو أنّه لا حرّية إلّا في إطار الإيمان، ولا إيمان إلّا بتوفّر شروط التّكليف، فإذا استحضرنا أنّ الإيمان الحقّ هو الإيمان بالإسلام وحده، وأنّ للتكليف شروطاً لا تتوفّر في كثير من الفئات الاجتماعيّة، عرفنا كمّ الأفراد الذين سيحرمون من نعمة الحرّيّة لعدم الأهلية. ليس هذا فحسب، بل إنّ الدّارس ليجد علّال الفاسي في كثير من التعريفات قد ذهب بعيداً في تبنّي مرجعيّات مبسّطة من قبيل اعتبار الحرّيّة هبة إلهيّة، وهو قول يعفي قائله من كلّ بحث أو تمحيص، يقول الفاسي: «قال تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البيِّنة، رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة». والعجب أن المفسرين قاطبة لم يدركوا قيمة هذه الآية، لأنهم لم يهتدوا للمراد بالانفكاك فيها، مع أن أقرب دلالاته اللغوية هي التحرير. فلم يكن الكفار منفكين أي متحررين ممّا عبدهم لغير الله إلا بعد أن جاءتهم الحجة القاطعة التي ليست غير رسول الله»‏[24]. وحين حاول الفاسي تأكيد الطّابع الاكتسابيّ لا الغريزيّ للحرّية استند إلى ضرب من الحجاج قائمٍ على محاولة إفحام الخصم وتبكيته شأن المتكلّمين القدامى. يقول الفاسي: «إننا نرى أن الإنسان لم يخلق حراً بطبعه، وإنما خلق ليكون حراً بطبعه. الحرّيّة خلق وليس غريزة، ولو كانت غريزة لما استطاع أحد تفويتها»‏[25].

وبناء على ما تقدّم، فإنّه يمكن الرّكون في كثير من الاطمئنان إلى ما ذهب إليه المفكّر المغربي عبد الله العروي من أنّ المصلحين العرب لم يتمثّلوا مفهوم الحرّيّة الحديث تمثّلاً دقيقاً. يقول العروي: «أما علماء وفقهاء الإسلام، فإنهم كانوا لا يستعملون عادة الكلمة [يعني كلمة الحرّيّة] التي لم تعرف رواجاً إلا كترجمة إصطلاحية للكلمة الأوروبية، وكانوا كذلك لا يتمثلون بسهولة ودقة مفهوم الحرّيّة»‏[26].

إنّ خاصّية البراغماتية (العمليّة) وغياب البحث النّظري لا تعود أحياناً لنقص في الوعي أو لعجز عن التمثّل كما ذهب إلى ذلك كثيرون، بل تعود كذلك إلى تعقّد الشّروط الحضاريّة والثّقافيّة التي انبثق عنها الفكر الإصلاحيّ نفسه، ومن وجوه تعقّده تعدّدُ المستويات الحياتيّة التي تستدعي الدّعوة إلى الحرّيّة، وتراكم تأخّرها عبر قرون طويلة من الانحطاط العربيّ الإسلاميّ. فلا غرابة أن يرى العروي مثلا أنّ المصلحين قد سعوا إلى حشد كلّ الحجج والأدلّة، والاستناد إلى جلّ النظريّات والأفكار مهما كان تناقضها، وذلك من أجل الإقناع بأهمّية الحرّيّة وضرورتها. ذلك أنّ «من مميزات العهد الليبرالي في تاريخ العرب المعاصر أنه كان يوظف كل فكرة تعرض لتبرير الدعوة إلى الحرّيّة حتى الأفكار التي تبدو منحرفة عنها»‏[27].

3 – التّأويل الممزّق بين أفق النّصّ وأفق القارئ: التناقض ومحاولات التوفيق

التّناقض ومحاولات التّوفيق خاصّيتان متولّدتان عن الخاصّية السّابقة، إذْ ذهل دعاةُ الإصلاح (أو لم يلتفتوا إلى)، وهم يُسندون دعوتَهم ويسعَوْن إلى ترسيخها في المجتمعات العربية الإسلاميّة دون تعمّق ولا بحث حثيث، عن تناقض المرجعيّات التي نهلوا منها مفهوم الحرّيّة. من ذلك تعليقُ ابن عاشور منحَها وتعيينَ حدودها بالسّلطان شأن الطّرح التّراثي كما في قوله: «إن موقف تحديد الحرّيّة موقف صعب وحرج دقيق، فواجب ولاة الأمور التريث فيه وعدم التعجل»‏[28]. وتبنّيه، من جهة أخرى، مفهوماً للحرّيّة مطابقاً مطابقة تامّة لتعريف زعيم اللّيبرالية الحديثة، أعني الإنكليزي جون ستيوارت مِل (ت 1873)، إذ يرى ابن عاشور في أحد تعريفاته أنّ الحرّيّة «عمل الإنسان ما يقدر على عمله حسب مشيئته لا يصرفه عن عمله أمر غيره»‏[29]. ويلحظ الدّارس الخاصّية ذاتها في فكر خير الدّين التّونسيّ، فهو يحتفظ بالمفاهيم التراثيّة كأهل الحلّ والعقد، بدل الحديث عن نوّاب الشّعب رغم تأكيده على أهمّية القانون في الإدارة. يقول خير الدين: «وجب علينا أن نجزم بأن مشاركة أهل الحل والعقد للملوك في كليات السياسة، مع جعل المسؤولية في إدارة المملكة على الوزراء المباشرين لها، بمقتضى قوانين مضبوطة، مراعى فيها حال المملكة، أجلبُ لخيرها وأحفظُ له»‏[30]، وهذا بالرغم من أنّ مشاهداته في أوروبّا تختلف تمام الاختلاف عمّا ذهب إليه من تصوّرات لتحقيق الحرّيّة في مجال الحكم، بل نجده قد مال إلى ضرب من التوفيقيّة في المستويين: التّطبيقي كما رأينا، والنظريّ كما في مماثلته بين «الكونستيتوسيون» (الدستور) والتّنظيمات السّياسيّة. يقول خير الدين: «رأينا بالمشاهدة أن البلدان التي ارتقت إلى أعلى درجات العمران، هي التي تأسست بها عروق الحرّيّة والكونستيتوسيون المرادف للتنظيمات السّياسيّة».

وتبدو النّزعة التوفيقيّة جليّة في مدوّنة رائد المصلحين الذي يرى معلّقاً على الدّستور الفرنسي أنّ «ما يسمُّونه الحرّيّة ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف، وذلك لأنّ معنى الحكم بالحرّيّة هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين»‏[31].

ومن وجوه استدعاء المفاهيم التّراثية للتّعبير عن محتويات حديثة ما نجده عند أحد الرّوّاد من تأكيد على الطّابع التحريري للإسلام، ومن تعداد لبعض القيم التي يرى أنّها مساعدة على إقامة الحرّيّة، يقول الكواكبي: «الإسلامية مؤسسة على أصول الحرّيّة برفعها كل سيطرة وتحكّم، بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء، وبحضها على الإحسان والتحابب»‏[32].

وبالرغم من انخراط الفكر الإصلاحيّ بأقدار متفاوتة في الأفق التّحديثيّ، فإنّه لم ينفكّ عن ترديد التّعريفات التّراثية. وهو ضرب من التّناقض النّاشئ عن التمزّق بين الإحساس بضرورة التّحديث من جهة، والعجز عن الانفكاك عن التّراث من جهة أخرى، فقد خصّص الشّيخ الطّاهر بن عاشور صفحاتٍ طويلةً لعرض مفهوم الحرّيّة التّراثية، ومنه قوله: «جاء لفظ الحرّيّة في كلام العرب مطلقاً على معنيين، أحدهما ناشئ عن الآخر. المعنى الأول: ضد العبودية، وهي أن يكون تصرف الشخص العاقل في شؤونه بالأصالة تصرفاً غير متوقف على رضا أحد آخر (…). المعنى الثاني: ناشئ عن الأول بطريقة المجاز في الاستعمال. وهو تمكن الشخص من التصرف في نفسه وشؤونه كما يشاء دون معارض. ويقابل هذا المعنى الضرب على اليد أو اعتقال التصرف… إلخ»‏[33].

4 – التّأويل الانتقائيّ: التفاوت في التّركيز على مجالات من الحرّيّة دون غيرها

التّفاوت في وعي المصلحين بالمفهوم الحديث للحرّية خاصّية موصولة بالخصائص السّابقة، ونعني بها أنّ زعماء الإصلاح كانوا متفاوتين في استيعاب المفهوم الحديث للحرّية، فكان بعضهم أقربَ من بعض منه، وكان بعضُهم أقربَ من التّصوّر التراثيّ من بعضهم الآخر. ونقف عند المصلح الواحد (وأحياناً في المؤلَّف الواحد) على تعريفات ليست على المسافة نفسها من المفهومين التراثيّ والحديث، وإن كان من البداهة القولُ إنّ رواد النّزعة التّحديثيّة أقربُ في الغالب من المفهوم الحديث من روّاد السّلفية المحدثة منه.

وأيّاً ما كان الأمر، فإنّ مفهومَ الحرّيّة عند زعماء الإصلاح، وتفاوتَهم في التّركيز على الحرّيّة في مجال من مجالات الحياة دون (أو أكثر من) غيره إنّما يعود إلى بواعث ذاتيّة تتّصل بوعي المصلح وحدود أفقه المعرفيّ من جهة، وإلى بواعث موضوعيّة موصولة بالشّروط الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة… إلخ، وبموقعه من السّلطة، من جهة أخرى. ويذهب العروي بحقّ في هذا المعنى إلى القول: «هناك مفاهيم، مثل المساواة والتنمية والأصالة، تعبّر عن «الحرّيّة» كمنبع النشاط والتطور، تعني المساواة في الظروف الحالية، استقلال الفرد عن كل تبعية للغير، وتعني التنمية استقلال الدولة عن أي تأثير خارجي، وتعني الأصالة استقلال القومية وانفلاتها من الذوبان في ثقافات أخرى»‏[34].

على أنّ الأمر لا يخلو من ضرب من التّجوّز، ذلك أنّ بعض المصلحين قد عالجوا مسألة الحرّيّة في صورتها المطلقة الشّاملة، ومنه قولُ خير الدين معلّقاً في إثر مشاهداته الأوروبّيّة: «الحرّيّة هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأورباوية»‏[35]، أو قول فرح أنطون «أما غاية الحكم، فهي صيانة الحرّيّة البشرية في حدود الدستور»‏[36].

بناء على ما تقدّم، فستتّجه العناية إلى النّظر في المجالات الحياتيّة التي اعتنى بها هذا المصلح أو ذاك دون غيرها (أو أكثر من غيرها)، على أنّ معالجة مفهوم الحرّيّة في مجالات منفصلة لا يخلو من تعسّف تقتضية إكراهاتُ المنهج ومطلبُ الوضوح في العرض.

أ – الحرّيّة الشخصيّة

نعني بالحرّيّة الشخصية كلّ تصرّف أو سلوك واعتقاد يقع بمعزل عن الجماعة، وعن الدّولة. ولا نشكّ أن التّداخل كبير بين ما نسمّيه «حرية شخصيّة» وبين الحرّيات الاجتماعيّة والسّياسيّة… إلخ، ويعسر القول إنّ هذا المظهر أو ذاك هو حرّية شخصيّة صرف. وبالرّغم من هذا التّداخل، وبشيء من التّجوّز، نعتبر أنّ حرّية الّلباس وحرّية التّنقّل والسّفر واختيار مكان السّكنى والزّواج والطّلاق والإنجاب أو عدمه وحرّية المعتقد والرّأي والتّعبير… إلخ، إنّما هي حرّيات تقع في الدّائرة الشّخصيّة التي لا تعني أحداً غير صاحبها. وقد عبّر صاحب معجم المصطلحات والشّواهد الفلسفية عن هذه المعاني تعبيراً فلسفيّاً مجرّداً بقوله: إنّ «الحرّيّة هي خاصة الكائن الذي لا يخضع للجبر ويتصرف بدون قيود، وفقاً لما تمليه عليه إرادته وطبيعته (…) أما معنى الحرّيّة النفسي والأخلاقي، فمفاده حالة التفكير والتروّي التي تكون سابقة لدى الفرد لاختياره بين الأشياء ولتبنّيه موقفاً ما»‏[37].

لم يكن هذا المستوى من الحرّيّة غائباً عن وعي بعض زعماء الإصلاح، فقد تطرّق إليه بعضهم وإن بصورة محتشمة، من ذلك أنّ خير الدين التّونسيّ يقسّم الحرّيّة في أوروبا، بناء على مشاهداته، إلى ثلاثة أنواع، وفي مقدّمتها الحرّيّة الشّخصيّة وحرّية المطبعة (حرّية التّعبير)، وتعني الأولى عنده «إطلاق تصرف الإنسان في ذاته وكسبه، مع أمنه على نفسه وعرضه وماله ومساواته لأبناء جنسه لدى الحكم، بحيث إن الإنسان لا يخشى هضيمة في ذاته ولا في سائر حقوقه، ولا يحكم عليه بشيء لا تقتضيه قوانين البلاد المتقررة لدى المجالس»‏[38]. وتعني الثّانية (حرية المطبعة)، «أن لا يُمنع أحد منهم أن يكتب ما يظهر له من المصالح في الكتب، والجرنالات التي تطلع عليها العامة، أو يعرض ذلك على الدولة والمجالس ولو تضمن الاعتراض على سيرتها»‏[39]. والمُلاحظ في هذين التّعريفين أنّهما وردا في سياق تسجيل خير الدين لما شاهده في أوروبا، وقد يكون في تسجيله ترغيبٌ لأبناء جلدته في إرساء هذا الضّرب من الحرّيّة، غير أنّه لم يتجاوز التّلميح إلى التّصريح، ولم يظهر في دعوته إلحاحٌ عليها يضاهي إلحاحَه على مستوى آخر من مستويات الحرّيّة هو الحرّيّة السّياسيّة كما سنرى في حينه. وأشار الشّيخ ابن عاشور إلى حرّية التّعبير وإن أدرجها ضمن باب الحقوق العامّة التي ينبغي أن يتمتّع بها الإنسان دونما تفصيل أو توسّع، يقول ابن عاشور إنّ الحرّيّة هي: «أن يأخذ المرء بكل حقوقه وأن يفيَ بجميع حقوق غيره وأن يصدع بآرائه»‏[40].

وليس بعيداً ممّا تقدّم ما ذهب إليه المغربيّ علّال الفاسي من تفريع للحرّية إلى حرّية ذاتيّة وأخرى جسميّة، مع جعل الثّانية من نتائج الأولى وثمارها. يقول الفاسي: «الحرّيّة الذاتية، هي الأساس الأول للحرية التي نادى بها الإسلام وأقرّها. والحرّيّة في الإسلام تنظر إلى المعنى الأصيل في اللغة العربية للحرية. فالحر ضد الزائف (…) وليست حرية الجسم من سيطرة الغير إلا مظهراً له قيمته في ازدهار الشخصية وتفتحها. ولكنه ليس إلا ثمرة من ثمرة (كذا!) الحرّيّة الداخلية التي تجعل الإنسان مومناً بالحق ومكافحاً من أجل العدل والحرّيّة للجميع»‏[41]. ومن البيّن الواضح أنّ مرجعيّة هذا المصلح هي مرجعيّة تراثيّة، وأنّ هذا التّمييز الذي أقامه تغيب فيه حرارة الدّعوة التي تميّز بها خطابُه الإصلاحيّ في غير هذا المجال. ولا أخالنا نجانب الصّواب إذا ذهبنا إلى القول إنّ أنصار التحديث في الحركة الإصلاحيّة العربيّة (فرح أنطون، شبلي الشّميل، سلامة موسى…) هم أكثر اهتماماً بمفهوم الحرّيّة الشّخصيّة وأشدّ تأكيداً على بعض مظاهرها، ومنها حرّية الاعتقاد عبر الدّعوة إلى الفصل بين الدّينيّ والسّياسيّ (العلمانيّة). يقول فرح أنطون: «لا مدنية حقيقية ولا تساهل ولا عدل، ولا مساواة ولا أمن ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم في الداخل إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية»‏[42].

ب – الحرّيّة السّياسيّة

تتعلّق الحرّيّة السّياسيّة بجملة المكاسب التي يتمتّع بها الفرد في مواجهة الدّولة، وقد أفاض زعماء الإصلاح عامّة الحديثَ في هذا الضّرب من الحرّيّة، ونخصّ بالذّكر منهم صنفين: مصلحين كانوا جزءاً من السّلطة الحاكمة أو قريبين من أصحابها أمثال خير الدين التّونسيّ وابن أبي الضياف، وآخرين اكتوَوْا بنارها من موقع معارضتها. والحرّيّة السّياسيّة عند خير الدين هي الضّرب الثاني من الحرّيات (بعد الحرّيّة الشّخصية وقبل حرّية المطبعة)، ويعرّفها بقوله: «هي تطلّب الرعايا التداخل في السياسة الملكية، والمباحثة فيما هو الأصلح للمملكة على نحو ما أشير إليه بقول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب – رضي الله عنه: «من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقوّمه»»‏[43].

ولا مراء في أنّ منطلق الفكر الإصلاحيّ في معالجة قضيّة الحرّيّة عامّة هو البحث في أسباب تخلّف المسلمين وتقدّم غيرهم. وقد اعتبر بعض المصلحين أنّ من أهمّ تلك الأسباب هو الاستبداد السّياسيّ. وفي هذا السياق يفنّد الكواكبي قول القائلين بأنّ أصل الداء هو التّهاون في الدّين أو اختلاف الآراء أو الجهل… إلخ؛ ويقرّر، في المقابل، أنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسيّ، مضيفاً قوله: «إني قد تمحض عندي أن أصل هذا الداء هو الاستبداد السّياسيّ ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية»‏[44]. ويحمّل الكواكبي الاستبداد السّياسيّ (أي غياب الحرّيّة) مسؤولية إفساد جميع وجوه الحياة، ذلك أنّه: «يضغط على العقل فيفسده، ويلعب بالدين فيفسده، ويحارب العلم فيفسده»‏[45]. ويرى الكواكبي تلازماً بين الاستبداد الدّيني والاستبداد السّياسيّ: يوجدان معاً ويغيبان معاً. وهو رأي جريء في زمانه، ويتجاوز الدّعوة لإصلاح السّياسة إلى إصلاح الدّين وتنقيته من وجوه الإكراه والعسف والوصاية. يقول الكواكبي: «بين الاستبدادين السّياسيّ والديني مقارنة لا تنفك متى وجد أحدهما في أمة جرّ الآخر إليه، أو متى زال رفيقه، وإن صلح أي ضعف أحدهما، صلح أي ضعف الثاني»‏[46].

وقد لمس بعض المصلحين تمكّن أخلاق الطّاعة من النّفوس، وسيطرة الاستبداد السّياسيّ باسم الدّين قروناً طويلة إلى حدّ اعتبار السّلطان ظلّاً لله على الأرض، حتى وقع التّسليم بكونه فوق المحاسبة، ولاحظوا نظر المؤمنين إلى الخلافة بوصفها أسلوباً في الحكم إلهيّاً، فسعوا، أعني بعضَ المصلحين، تبعاً لذلك، إلى نزع القداسة عن الخلافة، والكشفِ عن طابعها البشريّ لتصبح قابلةً للنّقد أو الإلغاء. يقول علي عبد الرازق: «كانت ولاية محمد صلى الله عليه وسلم على المؤمنين ولاية الرسالة غير مشوبة بشيء من الحكم»‏[47].

ولمّا كانت الحرّيّة السّياسيّة متلوّنة بالظروف التي كان المصلح يعيشها، فإنّ قسماً من الفكر الإصلاحيّ يرى أنّ الحرّيّة السّياسيّة لا تعني فقط حقوقاً من قبيل المشاركة في إدارة الدّولة عن طريق المجالس النّيابيّة مهما كانت تسميتها، وإبداء الرأي بكل حرّية، وانتقاد الحاكم… إلخ، بل تعني كذلك، عند من عاشوا الاحتلال الأجنبي، استقلال الوطن وتحرّره من السّيطرة الخارجيّة. يقول بحقّ أحد الدّارسين لمفهوم الحرّيّة عند الأفغاني: «الواقع أن الحرّيّة التي كان يقصدها جمال الدين عادة، حين يستخدم هذه الكلمة، لم تكن الحرّيّة الشخصية، بل الحرّيّة «القومية» أي الاستقلال الوطني، سواء كان ذلك بإزاء المستبدين الشرقيين في داخل الوطن أو بإزاء الاستعمار الأوروبي»‏[48]. ويشير برنارد لويس في هذا السياق إلى أنّ مفهوم الحرّيّة قد اتّخذ تفسيراتٍ جديدةً تجاوزت حدود الفرد لتشمل الأمّة ولا سيّما بعد «انتشار الاستعمار وظهور القوميّة. ذلك أنّ الحرّيّة في استعمال الآخذين بالقومية مرادفة للاستقلال، أي سيادة الدولة لا تكبلها أية سلطة أجنبية أقوى منها. ويقال للأمة أمة حرة إذا تجردت من أي خضوع من هذا القبيل للأجانب، بصرف النظر عن الظروف السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصادية السائدة فيها»‏[49]. وهو أمر ينطبق على جلّ البلاد العربيّة عدا الأتراك الذين لم يفقدوا استقلالهم قطّ.

فهل كان التّركيز على الحرّيّة السّياسيّة عند المصلحين العرب عامـلاً مساعداً على نضج الرّؤى في ما طُرح من حلول وأفكار لإصلاح الحياة السّياسيّة؟

لا شكّ في أنّ خاصّية التناقض والتمزّق بين المرجعيّتين التّراثيّة/المحلّيّة والحديثة/الوافدة، ومحاولة التّوفيق بينهما قد فعلت فِعْلها في تصوّر الفكر الإصلاحيّ لمفهوم الحرّيّة. وقد تجلّى ذلك في محاولات التّقريب بين الجهازين المفاهيميّين: الحديث والتّراثي على ما بينهما من بون تاريخيّ وفلسفيّ، وفي مستوى تكييف مضامين تلك المفاهيم إلى حدّ التّشوية وإفراغ المفهوم من معناه كما في قول خير الدين على سبيل التّمثيل: «لما كان إعطاء الحرّيّة بهذا المعنى/لسائر الأهالي مظنة لتشتيت الآراء وحصول الهرج، عدل عنه إلى كون الأهالي ينتخبون طائفة من أهل المعرفة والمروءة وتسمى عند الأورباويين بمجلس نواب العامة، وعندنا بأهل الحل والعقد، وإن لم يكونوا منتخبين من الأهالي»‏[50].

ج – الحرّيّة الاقتصاديّة

يقصد بالحرّيّة الاقتصاديّة جملة ما يقع في نطاق الكسب واستثمار الأموال وحقّ الملكيّة وحرية الاتّجار في شتّى الميادين، وحفظ الأموال من الغصب والمصادرة… إلخ. ولعلّ من أكثر المصلحين تعرّضاً لمفهوم الحرّيّة الاقتصاديّة: الكواكبي وخير الدين التّونسيّ، فقد خصّص الأوّل لـ «الاستبداد والمال» فصـلاً مستقلّاً‏[51]. واعتبر الثّاني سلب الحرّيّة (الاستبداد) سبباً في انتشار الفقر والغلاء وضعف الهمّة إلى العمل… إلخ. يقول خير الدين: «وبالجملة فالحرّيّة إذا فقدت من المملكة تنعدم منها الراحة والغنى ويستولي على أهلها الفقر والغلاء ويضعف إدراكهم وهمتهم كما يشهد بذلك العقل والتجربة»‏[52]، وهو أمر يفصّل الكواكبي فيه القول، ويربط بين الاستبداد ونتائجه النّفسيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة المفضية جميعاً إلى كساد الأعمال وانتشار الفقر. يقول موضّحاً: «إن الاستبداد يجعل المال في أيدي الناس عرضة لسلب المستبد وأعوانه وعماله غصباً، أو بحجة باطلة، وعرضة أيضاً لسلب المعتدين من اللصوص والمحتالين الراتعين في ظل أمان الإرادة الاستبدادية، وحيث المال لا يحصل إلا بالمشقّة فلا تختار النفوس الإقدام على المتاعب مع عدم الأمن على الانتفاع بالثمرة»‏[53]. ولا مخرج، عند الكواكبي، من حالة الفقر والكساد تلك، والإقبال على الأعمال وتحصيل المكاسب إلّا بارتفاع عسف الحكومات وضمان الأمن على الأرزاق والأرواح، ويلخّص ذلك كلّه في قوله: «يبدأ الانقياد للعمل عند نهاية الخوف من الحكومة»‏[54]. وينتهي الكواكبي إلى القول إنّ الحكومات المستبدة تجعل من حفظ المال أصعب من كسبه، ذلك أنّ ظهور الغنى يجلب لصاحبه أنواعاً من البلاء، مؤكّداً ظاهرة مطّردة مفادها أنّ «حرص التموّل القبيح يشتدّ كثيراً في رؤوس الناس في عهد الحكومات المستبدّة حيث يسهل فيها تحصيل الثروة بالسرقة من بيت المال، وبالتعدي على الحقوق العامة، وبغصب ما في أيدي الضعفاء»‏[55].

نخلص ممّا تقدّم إلى أنّ معالجة مفهوم الحرّيّة الاقتصاديّة عند الكواكبي وخير الدين (وغيرهما من المصلحين) قد اتّصلت بوجه واحد هو علاقة الاستبداد بالكسب وحفظ المال وما يكون من غصبٍ وتضييقٍ فيهما من السلطان المستبدّ، ولم تتطرّق تلك المعالجة إلى أشكال الكسب، ولا إلى حدود تدخّل الدّولة على النّحو الذي نجده عند دعاة الليبرالية الاقتصادية أمثال ريكاردو وآدام سميث وغيرهما، بل إنّ الدّارس ليقف على قصور المدوّنة الإصلاحيّة حتى عن الطّرح الخلدوني من حيث عمق التّحليل والجرأة في التّشخيص. أمّا العمق فيتجلّى في الباب الذي وسمه بقوله: «في المعاش ووجوهه من الكسب والصنائع»‏[56]، وأمّا الجرأة ففي الفصل الذي عقده لـ «ضرر وفساد تجارة السلطان»‏[57].

د – الحرّيّة الاجتماعيّة

يقصد بالحرّيّة في المجال الاجتماعيّ ما ينبغي أن يتمتّع به الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع من حقوق لا تتوقّف على جنسه أو عرقه أو طبقته الاجتماعيّة… إلخ، كحرّية تكوين الجمعيات والانخراط فيها، والمطالبة بحرية فئات اجتماعية ما، أو رفع ظلم ما عنها كالفقر أو الدّونيّة أو الاستعباد أو الإهمال… إلخ. وقد اقتصر هذا الضرب من الحرّيّة على مظهر أساسيّ هو حرّية المرأة، واختصّ به مصلحان بصورة أساسيّة: الأوّل هو المصريّ ذو الأصول الكرديّة قاسم محمد أمين (ت 1908) والثّاني هو التّونسيّ الطّاهر الحدّاد (ت 1935). وللأول كتابان في تحرير المرأة هما: تحرير المرأة (1899) والمرأة الجديدة (1900). أمّا الثّاني فله كتاب وحيد في هذا الباب هو: امرأتنا في الشريعة والمجتمع (1929). وقد دعا كلا الرّجلين إلى تحرير المرأة من حياة الرقّ التي تعيشها، ومن سطوة الرّجل التي تمنعها من الخروج من البيت إلى فضاء الحياة العامّة، والمشاركة في شتّى الأعمال الاقتصاديّة والثقافيّة. واستند أمين والحدّاد، في سبيل تأثيل هذه الدّعوة، إلى حجج متنوّعة منها التّاريخيّ ومنها النّفسيّ الاجتماعيّ ومنها الدّينيّ. يقول الحدّاد معتمداً القرآن ذاته الذي يستند إليه المحافظون في تكبيل المرأة بشتّى القيود: «إن آي الكتاب الكريم ظاهرة في خطاب الرجل والمرأة سواء: في أحكامها وعامة مقرراتها إلّا ما كان نصّاً في خطاب الرّجال والنساء. وهي تقرر لهما هذه الحقوق المدنية تفرض عليهما الواجبات وكما تسوّي بينهما في العقوبات عند ارتكاب الجرائم»‏[58]. وذهب قاسم أمين إلى الوصل بين الوضع السّياسيّ والوضع العائليّ، وبين حرّية المرأة وحرّية الرجل، موّجهاً الأنظار إلى التلازم بين جميع الحرّيات، وهو مذهب في النّظر يقطع الطّريق على من يتوهّم أنّ المجتمع يمكن أن يكتفي بتحرّر فئة منه دون أخرى، أو أنّ الحرّيّة يمكن أن تتجزّأ. ولا مراء في أنّ ما انتهى إليه أمين في بحثه إنّما يعود الفضلُ فيه إلى استحضاره التّجربة الغربيّة. يقول أمين: «يهمّنا هنا أن نثبت (…) وجود التلازم بين الحالة السّياسيّة والحالة العائلية في كل بلد، ففي كل مكان حطّ الرجل من منزلة المرأة، وعاملها معاملة الرقيق، حَطّ نفسه وأفقدها وجدان الحرّيّة، وبالعكس في البلاد التي تتمتّع فيها النساء بحرّيتهنّ الشخصية يتمتّع الرِّجال بحرّيتهم السّياسيّة فالحالتان مرتبطتان ارتباطاً كليّاً»‏[59].

ولئن أغفل كثير من المصلحين حرّية المرأة، فإنّ بعضهم الآخر قد جاهر صراحة بمعاداته لتحريرها متذرّعاً بأسباب أخلاقيّة في الغالب. ومن الغريب حقّاً أن يكون من هؤلاء المعادين لحرية المرأة أحدُ أشهر المصلحين معاداةً للاستبداد، نعني عبد الرحمن الكواكبي الذي تحدّث عن آثار الاستبداديْن: السّياسيّ والدّيني، وبيّن آثارَهما في العلم والمجد والمال والأخلاق، وذهل عن تأثيره في استعباد نصف المجتمع. يقول الكواكبي: «ما أصدق بالمدنية الحاضرة في أوروبا أن تسمى المدنية النسائية لأن الرجال فيها صاروا أنعاماً للنساء»‏[60]. ولا ندري كيف يمكن لصاحب طبائع الاستبداد أن يقول: إنّ «أقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس، أنه يرغم حتى الأخيار منهم على إلفة الرياء والنفاق»‏[61]، ولا يفهم من الاستبداد سوى استبداد الرجال بالرجال والسلطان بالرعية، ولا يلتفت إلى استبداد الرجل بالمرأة وما ينجرّ عن هذا الاستبداد من إلف الرّياء والنّفاق إلا أن يرى أن المرأة ليست من «الناس» الذين تحدّث عنهم.

نتائج وآفاق

يخلص هذا البحث إلى عدد من النتائج ويفتح آفاقاً من البحث جديدة، ويمكن إجمالها على النّحو الآتي:

1 – إنّ الفكر الغربي وقيمه ومؤسّساته التي تجسّد فيها مفهوم الحرّيّة هي نصوص. واستندنا في هذا الاستنتاج إلى الموقف الهايدغريّ الذي يقدّم اللغة على الكينونة ويجعلها معبّرة عنها، وإلى تصوّر غادامير لعمليّة التلقّي والتّأويل، وانتهينا مع الأول إلى أن لا شيء خارج اللغة التي نتلقّى بها ومن خلالها العالم، ومع الثاني إلى أنّ قراءة نصّ ما وتأويله إنّما تتمّ عبر التقاء أفق النصّ بالتوقّعات المسبّقة للقارئ (التحيّزات). وكان هذا المنطلق مبرّراً لاعتبار تجليّات المدنيّة الغربيّة المادّيّة للمصلحين العرب نصوصاً سعَوْا إلى تأويلها، محمّلين بمسبّقاتهم المستمدّة قطعاً من معهودهم التّراثيّ.

2 – إنّ الأسباب العميقة لفشل تجربة الإصلاح العربيّة في القرن التاسع عشر تعود إلى التأويل المخصوص الذي باشره المصلحون، وهو تأويل كانت الغلبة فيه إلى أفق القارئ وانتظاراته على حساب أفق النصّ، وكان دور العوامل الخارجيّة في ذلك الفشل، على خلاف ما هو شائع، أدنى من العوامل الذاتيّة الدّاخليّة.

3 – إنّ التّأويلات التي عرفها مفهوم الحرّيّة والمؤسّسات والقيم المجسّدة له في شتّى المجالات (التّأويل الشعري/التّأويل البراغماتي/التّأويل الممزّق/التّأويل الانتقائي) قد كشفت جميعاً عن عدم قدرة على تجاوز الموروث. وتعود أسباب هذا العجز إلى عوامل مختلفة، ومنها ما ينمّ عن قصور في استيعاب مفهوم غريب عن معهود القارئ، ومنها ما هو مقصود طلباً لاستمالة المخاطبين التّقليديّين والقوى المحافظة، واتّقاءً لتهمة التّغريب والتبعيّة الفكريّة.

4 – إنّ الفكر العربيّ الإصلاحيّ قد عرف مفارقة مزدوجة في علاقته بالآخر وبالذّات، فقد تنازعه موقفا الانبهار والتوجّس في نظرته للآخر، وتردّد في علاقته بالذّات بين الرّضى والسّخط. ولم يستطع أن يتجاوز هذه المفارقة إلا نادراً، وهو ما يفسّر في نظرنا، تلك الخصائص التي ميّزت معالجته لا لمفهوم الحرّيّة وحدها، بل لسائر القضايا والمفاهيم التي واجهته. على أنّه من الإنصاف القول إن الشروط الموضوعية (التّاريخية والسّياسيّة والحضاريّة… إلخ) والشروط الذّاتيّة (الوعي والتّكوين والتّجربة الفرديّة والعامّة التي عاشها المصلح… إلخ) قد ساهمت بقدر كبير في توجيه هذا صوب المحافظة وذاك في اتّجاه التّحديث والمغامرة.

5 – إنّ ما يمكن اعتباره قصوراً في تأويل مسألة الحرّيّة في المدوّنة الإصلاحيّة العربيّة، هو نقائص يمكن تفهّمها في بدايات النّهوض الفكريّة والعمليّة في تاريخ الشّعوب والأمم. أمّا ما لا يمكن تفهّمُه ولا قبولُه فهو الجمود لاحقاً عند تلك الاجتهادات المشروطة بظروفها وإكراهاتها، أو الارتكاس إلى ما قبلها كفراً بالتّاريخ وعقوقاً للتّراكم المعرفيّ وتجاهـلاً لتغيّر الأحوال والأوضاع، وهو ما يلاحظ عند كثيرين من تيّارات الفكر العربيّ المعاصر لأسباب ودوافع مختلفة عن تلك التي كانت وراء تأويلات الأسلاف.

 

قد يهمكم أيضاً  حرية الرأي والتعبير والحراك الديمقراطي في الوطن العربي: جدلية العلاقة

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الحرية #مفهوم_الحرية #مفاهيم_النهضة_الغربية #دراسات