مقدمة:

يمثل الجمهور أو الشعب – بحسب اختلاف التسمية من نظام إلى آخر – الوحدة المركزية في أي معادلة سياسية ضمن الممارسات الديمقراطية، وهذا ما جعل الباحثين في المجالات التي لها حلقة وصل مع الدراسات السوسيولوجية والسياسية يتجهون نحو البحث عن ميكانزمات تكون ضمن مؤهلات العمل الديمقراطي للأفراد. وهنا يكون ضمن سيرورة هذا التوجه الديمقراطي التطرق إلى طبيعة التشكيلات (النقابات، الأحزاب، الجمعيات،…) التي تشكل بالأساس صوراً مصغّرة لنمط سياسي، جعلها بالضرورة تحتفظ بمركزها ضمن الهندسة التنموية الشاملة. هذا إذا ما تم الأخذ جلياً في مدى فاعلية هذه التشكيلات المكوّنة لكيان الدولة بمفهومها الشاسع، فالوحدة الديمقراطية هنا تصبح رمزاً من رموز النظام السياسي بوصفه المثالي.

ولا يفوتنا القول إننا نؤسس بعضاً من دراستنا انطلاقاً مما تطرق إليه المفكر ألفن توفلر في كتابه الموجة الثالثة عن البنية النخبوية[1]، إذ أفرد جانباً محورياً أراد من خلاله الحديث أكثر حول العبء السياسي، نظراً إلى أن الفهم العام للديمقراطية في الفضاء السياسي يحتّم على جميع التشكيلات جملة من القرارات السياسية حتى تمارس دورها المنوط بها. وعليه، فكل مجتمع يتميز عن الآخر ببيئة قرارية تؤثر في العملية الديمقراطية، إذ إن الديمقراطية بمعناها الواسع تساهم لا محالة في تحمُّل جزء مهم من هذا العبء. كما أن الحاجة إلى مؤسسات جديدة أو متجددة بوصفها فاعلاً في أي معادلة، يمثل بالدرجة الأولى البحث عن قاعدة صلبة يمكن الانطلاق الفعلي منها.

ومن نافلة القول أن المنطقة العربية، كغيرها من مناطق العالم، شهدت جملة من التذبذبات السياسية والأمنية، كان لها أثر كبير في واقع المشاركة السياسية للجمهور، الأمر الذي أدى إلى بروز نوع من العزوف وثقافة اللامبالاة من جراء التغييب الحتمي للفرد، أو لامبالاته، في كل مراحل العملية السياسية ضمن المنظومة المكوّنة للدولة.

على هذا الأساس ستسلط دراستنا الضوء على إحدى أبرز الآليات (الوعي السياسي) التي يمكن من خلالها تجاوز أزمة الاغتراب السياسي من خلال البحث في السؤال التالي: ما هي أبرز الآليات التي يمكن الوقوف عليها والتي تشكل مفتاحاً لنشر الوعي السياسي لدى المواطن العربي؟

وكما تقتضيه منهجية التحليل السياسي، سنتحدث أكثر في هذه الدراسة عن أبرز الآليات التي تؤسس لوعي سياسي، والتي تمثل في الوقت نفسه منطلقاً لها، وهو ما ينعكس بالأساس على واقع المشاركة السياسية لدى الفرد، الذي لا بد من أن يكون فاعلاً أساسياً في العملية السياسية؛ كما سينصبّ الحديث على مجمل الآليات التي يجب على الدول العربية اتباعها، والتي يمكن من خلالها نشر الوعي السياسي وتحسين المشاركة السياسية، التي تعد بدورها آلية من آليات تجاوز الاغتراب السياسي، كل هذا في ظل تداعيات الميراث الاستعماري على مسار بناء الدولة الوطنية الذي حتّم تبني ميزات للمجتمعات العربية قائمة على القومية والبدوقراطية.

أولاً: أهم الميكانزمات التي يقوم عليها الوعي السياسي

بادئ ذي بدء، وفي صلب الحديث عن الآليات الحركية التي تكرس مبادئ الوعي السياسي، ينبغي أن نبدأ بالتطرّق إلى الإحاطة أكثر بمفاهيم المجتمع المدني، الذي يعني في الأدبيات المعرفية أنه أبرز الأدوات ذات الطبيعة الإنسانية التي تأرخت في السابق أوروبياً في أواسط القرن الثامن عشر، فهو الذي أسس بالضرورة نطاقَ عملٍ يمكن من خلاله التحول من الأنظمة الاستبدادية إلى الأنظمة الديمقراطية. لكن هذا المفهوم ما فتئ أن تلاشى صيته في القرن التاسع عشر ليظهر بعد الحرب العالمية الأولى برؤى جديدة مع إسهامات المفكر غرامشي[2].

لكن في الأدبيات الأيديولوجية، لا يتخذ المصطلح، مهما كان توجهه، معنىً واحداً فقط، بل يتعدد معناه بحسب وجهة نظر كل أيديولوجيا. فلو أخذنا المنظور الليبرالي الذي قدم عدة معانيٍ لمفهوم المجتمع المدني لوجدناه مختلفاً عن المنظور الاشتراكي أو عن المنظور الديمقراطي أو الإسلامي، وهو ما يعطي أولوية للتفكير والنظر في اختلاف الأنساق السياسية التي يتولّد فيها وفق جينات النظام السياسي، فهو ليس مرتبطاً بالنظام السياسي بل هو لصيق به، ويأخذ مأخذ الجد في عوامل الرقابة والتوجهات الرئيسية للوحدة السياسية[3].

إذا كان الأمر كذلك، فإن كل التشكيلات السياسية للأنظمة على اختلافها، تتأثر وتتفاعل بعوامل رئيسية في الوحدة المركزية التي تتولد فيها تلك التشكيلات، سواء كانت مفتوحة أو منغلقة؛ فمركز المجتمع المدني يتحدد بالضرورة بموقع المشاركة السياسية من الحلقات المحورية للعملية السياسية، وبأخذ منطلقات الحرية داخل فلك الكيان السياسي، فهما بذلك مُفعِّلان للأدوار المركزية في المنظومة الشاملة وداخل المعادلة الاجتماعية بالأخص.

هنا يكمن موقع المجتمع المدني من مسارات الحياة السياسية الفاعلة ضمن الأدوار الأساسية التي أُوكلت إليه في سياقه التنظيمي والتأسيسي، إذ إن أنشطته الفاعلة التي يجب أن يكون عليها لا تأخذ البعد والسياق الوطنيين فقط، بل تتعداهما لتشمل المستويين الإقليمي والدولي في إطار المجتمع المدني العالمي الذي يتفاعل مع الأنساق السياسية في ظل تداعيات العولمة التي أسست لأدواره المتجددة في حماية المواطنين وحفظ الحريات.

كما أن المشاركة السياسية تقع على مسؤولية المجتمع المدني، الذي يكرس مبادئها بدوره وفق الأسس التي أُوجد من أجلها، فهو يأخذ مداخل متعددة متناسقة تتفاعل فيها التشكيلات الاجتماعية المنبثقة منه؛ كما يعمل على محاربة الفساد، وهو أمر يعدّ من أبرز أولوياته التي يُرسي من خلالها معالم الثقة بين المواطن ونظامه السياسي، وهو الأمر نفسه الذي يمثل بيئة حيوية أو أرضاً خصبة يتولد فيها وفقاً لمنطلقات الديمقراطية والركائز الوطنية، القائمة على ضمان حقوق الفئات والتشكيلات ضمن الخريطة السياسية[4].

لنرجع إلى مسلّمات غرامشي التي انطلق منها في خضم حديثه عن وقائع المجتمع المدني، إذ أكد أن الدولة ومجتمعها المدني يشكلان تناسقاً معقداً ومتشابكاً في أغلب الأحيان، في واقع يتسم غالباً بنماذج الصراع والتكامل بحسب موقع المجتمع من المعادلة السياسية للدولة، وهنا تقاس قوته بقوة الدولة وشرعيتها ضمن المجال الحيوي، ومن ثم التشديد بجد على ترابطهما في كل الحالات الصراعية والتعاونية، بحيث يمثّلان نسقاً متوافقاً لأيديولوجيا المجتمع والدولة.

والضلال الذي نقع فيه هو أن أدوار المجتمع المدني لم تَخلُ من عدة عقبات أثرت في طبيعة عمله. فهي تحديات أصبح لازماً التعامل الإيجابي معها، كونها تحول دون تحقيق مجتمع سليم، وبخاصة في المنطقة العربية. هنا يمكن الحديث عما يتعلق بالمنظومة التربوية التي تفرز نظاماً للقيم وقواعد للتربية والأخلاق قد تؤسس بدورها لمفاهيم جديدة لمسارات التبعية في أحد أوجهها.

ومن اليسير أن نبلغ الدقة في القول إنه لا بد من التأسيس المتجدد ورسكلة المكونات الأساسية للمجتمع المدني، وبخاصةٍ أنه من الضروري أن نُؤسس لمجتمع مدني قوي خالٍ من كل صور التبعية. لذا أصبح من الأهمية بمكان هنا تكريس المبادئ الأبجدية التي يقوم المجتمع المدني عليها في ظل دولة القانون والحق التي تقوم على الاستقلالية القانونية، كما لا يمكن التمييز بين الكوادر والأعضاء المؤسسين والمنخرطين ضمن تشكيلاته، وهو الذي يفرز لنا – إذا أُحسن تسييره – مجتمعاً عقلانياً قائماً على المساواة والتفاعل الإيجابي ضمن ألوان الطيف السياسي[5].

ولعل المنطلقات الإبستيمولوجية التي تأسس عليها المجتمع المدني هي في طبيعتها مطّاطة وليّنة، وهي بذلك تمثّل أبرز التحديات التي تقف في وجه الدارس لخصوصياته وتوافقياته وصراعاته مع الكيان الذي ينضوي في نسقه. وهنا يصبح توجهه متشابكاً بين المصلحية المتأتية من تشكيله والطبيعة السلطوية التي يوجد فيها، إذ لا بد من الأخذ في استقلالية المجتمع المدني في سياقه القانوني ووفق إطاره التنظيمي الذي يخدم مبادئ العمل الديمقراطي[6].

أما من جهة الوجهة التي أخذنا الحديث منها فيمكن القول إن لخصوصيات المجتمع المدني تموقعات مهمة ضمن خصائص النظام السياسي، فأهمية المجتمع المدني تكمن في زاوية محورية من موضوعاته المطروحة، وهو الذي يكرّس تشكيلاته للحفاظ على مبادئ الحريات الفردية للمواطن؛ هذا إذا أخذنا موقعه المؤسَس على وعي الأفراد الآخذين في تطلعاته نحو الأفضل، وهو ما قد يعمل على بناء مركز تفاعلي داخل البيئة السياسية.

ولو سلّمنا بهذه المكانة التي يتطلع المجتمع المدني إلى بلوغها فإنه يجب الأخذ في مبادئ الحيطة، وبخاصةٍ أن أغلب الأنظمة العربية قائمة على أسس تغييبية حيال كل التشكيلات، لذلك لا بد من العمل على إنقاذ المجتمع المدني من خطر الاندثار بفعل تأثير التهديدات بكل ضروبها على الساحة العالمية، التي تضعه في وجه العاصفة[7].

ويستوي القول هنا إن المجتمع المدني هو في الأصل إيجابي التطلع، كونه فاعلاً مهماً ومؤسسة فعّالة في المنظومة السياسية والمعادلة المكوِّنة لأسس دولة الحق والقانون، إذ هو أعرق الفواعل المؤسسية التي تدخل ضمن المؤسسات الفاعلة في عملية بناء الدولة ضمن الأقطار العربية. تجدر الإشارة هنا إلى أن المجتمع المدني في الأنظمة العربية يعد حلقة ضعيفة بفعل الطبيعة الاستبدادية الراسخة في هذه الأنظمة الهشة البعيدة من كل أوجه الأنظمة الديمقراطية، وهو ما يحتم إعادة النظر بجدٍّ في هذه التشكيلات الفعَّالة في المعادلة البنائية التي يكون لها أثر كبير في هندسة إعادة البناء.

على هذه الصيغة من الطرح، ووفق ما تم التطرق إليه مسبقاً، أصبح من الجدير التذكير بمحورية القانون في علاقة الدولة بمجتمعها المدني، الذي يجعل من الالتزام ضرورة أساسية لكل القواعد القانونية المنظمة لتشكيلات المجتمع المدني، وكذا مؤسسات الدولة، التي يعدّ المجتمع المدني أبرز مؤسساتها، فمدى استخدام القانون أو العمل بمقتضياته سيؤسس لا محالة مجدداً وضمنياً لعلاقة إيجابية قائمة على المصلحة الوطنية المتأتية من الضوابط التي تُكرِّس مبادئ قوة الدولة في مجالها الجغرافي[8].

ومن الوجهة التي لم نتحدث عنها، التي تأخذ من البراغماتية منطلقاً لفاعليتها، فإن للمجتمع المدني جانباً نفعياً يكرس في عدة مرات المبادئ المصلحية لتحقيق أغراض نفعية من وراء الأخذ فيه، وقد أطنب وايت في الحديث فيه، على أن أصحاب النظريات التنموية وخبراء الاقتصاد يدعمون مقولة الدور الحسن والفعّال للمنظمات غير الحكومية على مستوى القاعدة الشعبية، على عكس الاشتراكيين الذين يركزون على شدة الدور السياسي لهذه التشكيلات الاجتماعية التي تأخذ في وقتنا الحالي عدة أبعاد متأتية من تعقيدات السياسة العالمية وتشابكاتها.

وفي سياق هذا التصور، فإن هذه المعادلة أدت إلى احتدام المناقشات النظرية والحوارات العملية في الساحة العالمية، كون المجتمع المدني بكل تكويناته يؤدي أبرز الأدوار المؤسسية الفاعلة والمحورية ضمن النهج الديمقراطي الذي يعزز تطلعات التأسيس الدولتي، على عكس رأي هابرماس الذي يرى بالضرورة أن مجال المجتمع المدني هو خارج الدولة، وهو يشمل بذلك التنظيمات والاتحادات التي تقوم على أساس طوعي[9].

ثانياً: محورية التركة الاستعمارية والبدوقراطية ضمن مسارات الدولة العربية

يجدر بنا الذكر في سياق البحث عن الآليات الواجب اتباعها والعمل وفق منظوراتها، التي يُرجى منها نشر الثقافة السياسية، ألّا نغفل نقطة جوهرية قائمة على ضرورة الانطلاق من مسلَّمة أن الدولة العربية الحديثة في تكويناتها ومنطلقاتها الجديدة وُلِدت في رحم القوى الاستعمارية، وهو الأمر نفسه الذي يُؤسِس لتَتَبع نهج غربي، آخذاً في خصوصيات الميراث الاستعماري على مسارات الدولة، الذي أصبح ملازماً لها في كل مراحل تطورها إن حدث هذا التطور.

وهكذا فإن هذه التركة خلّفت سمات سلبية بارزة على الدولة تُؤسِس لنماذج تبعية، مُكرِسةً أوجُهاً استعمارية جديدة. فهي من هذا المنطلق يُؤخذ فيها على أنها محدد لطبيعة الدولة وسياقاتها التفاعلية في فلك الحيّز المغلق الذي أصبح ملازماً لعمليات إعادة بناء الدولة في الأقطار العربية. وما يبرز جلياً هنا هو سلاسل التشوهات الجينية للدولة التي نشأت في رحم الاستعمار والتي أصبحت عويصة الحل ويصعب جذرياً التعامل معها[10].

من هذه النقطة عمل المستعمر على دحر كل الركائز الحضارية للمستعمرات مستخدماً بذلك كل أوجه القوة، وبخاصة الصلبة منها، فدحر وجودها كلياً، كما هي حال شعوب المنطقة المغاربية التي شهدت في حقبة من الزمن الماضي واقع تجربة استعمارية إدماجية أنكر فيها المستعمر مصدر قيمتها بين الشعوب وشرعية وجودها على أراضيها، كما عمل على تفكيك قواعد هويتها من خلال حرب مدمرة على عدة واجهات (الواجهة الدينية والعرقية والثقافية اللغوية وواجهة انتهاك الأرض)[11].

على هذا الأساس، فإن هذا العامل يمثل محدداً رئيسياً وموجّهاً محورياً لمسارات بناء الدولة الوطنية، وبخاصةٍ إذا ما تعلق الأمر بتوظيف المقومات الأساسية الوطنية لأغراض قد تُؤسِس لمرحلة تبعية جديدة ضمن سياقات ومسارات التأسيس الدولاتي، وهو الأمر نفسه الذي حتّم بالضرورة الأخذ في الحسبان حساسية ووجوبية التطلعات الوطنية وفق مسار وطني خام يأخذ بالمقومات الوطنية مرتكزاً حقيقياً له.

ولعلنا هنا نسير في فلك تفاعلي تتداخل فيه التحديات والمتطلبات مع الغايات، التي تم العمل على الوصول إلى مبتغاها. فسوسيولوجياً تعد الدولة لصيقة إسهامات المفكر العربي الكبير ابن خلدون الذي أطنب في الحديث عنها في عدد من مؤلفاته القيمة التي انتشرت في كل أنحاء المعمورة، نظراً إلى محوريتها في دراسة ظاهرة الدولة، وبخاصة أنه أخذ جانباً مهماً في كرونولوجيا الدولة العربية وسيرورتها ضمن السياقات المتزامنة مع الحملات الاستعمارية.

وما يحتاج إلى التأكيد غير مرة في دراسات ابن خلدون هو حديثه عما تُبنى عليه الدولة العربية، أي ما هو كائن، الذي قصد من خلاله الخصائص اللصيقة بظاهرة الدولة والملازمة لكل مراحل تطورها، إذ إن الدولة العربية الحديثة والقديمة ككل بُنيَت على أسس عصبية وقبلية أخذ فيها البعد القبلي وجهاً كاملاً في تكوينات الدولة وتفاعلاتها، مع نفسها ومع محيطها الخارجي، وهو ما مثل أبرز النقاط التي لا بد من الأخذ فيها بجِد، إذا ما أردنا نهج البعد الحضاري التنموي في التطلعات الجديدة للدولة.

هذا الطرح الذي جاء به ابن خلدون يتفرع في تصنيفه الدولة وفق أسسها والغايات التي تعمل لتحقيقها والمرتكزات التي تقوم عليها. وعليه فإن الدولة من الناحية العمودية تصنف إلى قسمين: دولة شخصية وهي حكم شخص واحد على القبيلة؛ ودولة كلية وهي مجموعة الدول الشخصية. أما من الناحية الأفقية فيمكن تصنيفها إلى دولة خاصة قائمة على حكم العصبية في إقليم معين ودولة عامة وهي مجموع الدول الخاصة[12].

وغير بعيد من ذلك، وفي الفلك نفسه، تحدث المفكر العربي غسان خالد في كتابه البدوقراطية: قراءة سوسيولوجية في الديمقراطيات العربية عن الطبيعة العربية للدولة وأهم ما يميز الديمقراطية التي تسير في المجال العربي، إذ تناول الدولة بمقاربة اجتماعية حاول من خلالها التمركز أكثر حول سمات الدولة في الأقطار العربية، التي تحدث فيها عن مصطلح البدوقراطية، الذي يعني فيه المزج بين الديمقراطية والبداوة، أي أن الممارسة السياسية تكون وفق الذهنية القبلية[13].

ثالثاً: الآليات التي يجب اتباعها والتي يمكن من خلالها نشر الوعي السياسي

لا يفوتنا هنا أن نؤُكِد أنّ المؤسسات تعد مرتكزاً أساسياً من مرتكزات عملية بناء الدولة وإعادة بنائها، إذ إنها تعمل على تزويد الدولة بطابع الديمومة وتمكِّنها من أداء مختلف وظائفها. ولا يمكن الحديث عن دولة مستقرة من دون مؤسسات فاعلة ورشيدة تحظى بقدر معتبر من الشرعية تمكنها من كسب دعـم المواطنين وتأييدهم لسياساتها. ولما كانت للمؤسسات أهمية فرضت نفسها على دارسي العلوم الاجتماعية، فقد كان لزاماً على الباحث الحديثُ أكثر عن أهم هاته المؤسسات التي تخدم دراستنا هذه، والتي كان لها الدور الحاسم في عملية بناء الدولة العربية.

وفي هذا الطرح يتمحور مستوى فاعلية الأدوار المؤسسية أساساً على تشكيلاتها التي تؤثر لا محالة في شكل النظام السياسي داخل الدولة المرتبط بها بوثاقة؛ فمستوى المؤسسات داخل الدولة يتحدد بما يجب أن يكون عليه موقعه المحوري الذي وُجدت المؤسسات من أجله، إذ إن درجة التماسك يعكسها مدى تماسك المؤسسة في حد ذاتها والأفراد المنضوين تحت رايتها، التي تعمل على كسب درجة كبيرة من التكيّف داخل كيان الدولة.

ولا يفوتنا القول هنا إن هذه المؤسسات في منطلقاتها الأساسية تأخذ من الاستقلالية منطلقاً لها في القرارات والحرية في إبداء الآراء التي تخدم كيان الدولة والتي تتأسس على المصلحة الوطنية بالضرورة. وهو الأمر نفسه الذي يُكسِب هذه المؤسسات قدرة تنظيمية تزداد تكيفاً مع زيادة التحديات، إضافة إلى البنية الوظيفية في الأدوار الرئيسية المنوطة بهذه التشكيلات، التي من خلالها يتم التأسيس لقاعدة صلبة وركيزة قوية قادرة على النهوض بالدولة ومواجهة الرهانات داخل المسرح العالمي[14].

وفي سياق مترابط ومتجانس مع الدور الفعّال والوظيفي للفواعل المؤسسية البارزة داخل كيان الدولة، فإن دور الثقافة السياسية داخل أي تشكيلة يبرز جلياً في المجال التنظيمي والتوجيهي لمعالم الدولة الوطنية. ولا يمكننا التجرؤ والحديث عن الثقافة السياسية من دون أن نتطرق إلى إسهامات أبرز المفكرين في السياسات المقارنة، وهو المفكر غابريال ألموند، الذي ربط الثقافة السياسية بالمواقف السياسية، فهي بهذا التموج الإمبيريقي تُعد دافعاً داخلياً للرد بطريقة خاصة.

وهذا ما يقود المتتبع لمسارات المواقف السياسية إلى إدراك مدى التوجه الذي جاء به ألموند وبوويل في خضم حديثهما عن الموقف السياسي، ومن منطلق التصور الذي جاءا به والذي يعكس موقع هذين المفكرين في الدراسات المقارنة، فإنهما تحدثا عن أن المواقف السياسية تتمحور في ثلاثة أوجه أساسية؛ فهي بذلك إدراكية بحسب التراكمات السابقة، وعاطفية من حيث التعاطف مع الفاعل السياسي، وتقويمية قائمة على إعطاء الوقائع والحقائق سواء بالسلب أو الإيجاب.

إذاً، من هذا المنطلق، ووفقاً لهذه المسلّمات التي يمكن من خلالها التمييز بين ثلاثة نماذج رئيسية للثقافة السياسية: أولها الثقافة الهامشية، وهي عدم الاهتمام كلياً أو جزئياً بالنظام السياسي، وهو سلبي وجوباً؛ وثانيها ثقافة الخضوع، وهي تلك التي تتأسس على معرفة الأفراد لسلوكيات وردود فعل السلطة، وهو سلبي أساساً؛ وثالث هذه النماذج ثقافة المشاركة، وهي تلك التي تتأسس على فاعلية الجمهور في كل مراحل العملية السياسية[15].

وبقصر القول فإن المشاركة داخل البيئة التي يوجد فيها المواطن لهي الأساس الذي يكرس مبادئ التشاركية والتوافقية، المرتكزة على منطلقات الدَمقرطة والحكم الراشد في بيئة أصبح لزاماً معها جس النبض تجاه ما يتم التلاعب به داخل فلك النظام السياسي. فلا يمكن الحديث عن فاعلية للثقافة السياسية في ظل نظام منغلق، في حين أن الأنظمة التي تتأسس على أسس ديمقراطية بحتة لهي الأرض الخصبة التي تنمو فيها ثقافة الأفراد وتزدهر، بما قد ينعكس على واقع المشاركة السياسية للأفراد في كل مراحل العملية السياسية.

ومن المفيد أن نذكّر هنا أن للرقابة دوراً أساسياً داخل الدولة، إذ هي تُؤسِس لدولة ديمقراطية قائمة على يقظة الأفراد وإدراكهم مدى فاعلية مشاركتهم في العملية السياسية، وهو الأمر الذي أطنب المفكر كارل بوبر في الحديث عنه في كتابه المجتمع المفتوح وأعداؤه حين تطرّق إلى القول إن العامل الرقابي لا بد من أن يكون فاعلاً محورياً ملازماً لكل مراحل الهندسة السياسية التأسيسية والتنظيمية للدولة، وهو ما يأخذ في الحسبان – وفقه – مكانه المركزي على الجماعة أو النخبة التي تمتلك دواليب السلطة.

فإذا كان الأمر كذلك، أمكن العمل بالأساس وفق المبادئ الرئيسية التي لا بد من أن يرتكز العمل السياسي عليها، القائمة على مبادئ الإصلاح، مع الأخذ في شروط الإصلاح الحقيقي، في ظل المساواة التي تتأتى بفعل عوامل تَسَاوي الأفراد في العمل السياسي بحسب الكفاءات والنخب الثقافية القادرة على النهوض بالبناء الوطني، والمصاحبة بطبيعة الحال لكل مراحل المعادلة السياسية التي يُرجى منها تحقيق مكانة مهمة لدولة الحق والقانون في المجال الداخلي، وحتى الخارجي.

وهذا ما يقودنا إلى أن الارتكاز على مبادئ الإصلاح الحقيقي لا بد من أن يُكرِس جهوده في كل مراحل العملية السياسية لمحاربة كل ضروب الفساد باختلاف أوجهه وبتنوع سياقاته التي يتولد منها وفيها، فالإصلاح الحقيقي يكرس جلياً لمحورية الدولة التي تلتزم بالحرية الاقتصادية القائمة على مسلَّمات أن الاقتصاد محرك محوري لكل عمليات التنمية الشاملة، بما يؤسس لدولة قوية بمنطلقات فعالة قائمة على تطلعات متينة تُكوِّن بذلك نظاماً سياسياً واجتماعياً وحتى اقتصادياً يتسم بالفاعلية والمساواة بين الأفراد[16].

ومن المفيد الإشارة إلى أن الوعي السياسي داخل البيئة الاجتماعية لهو الأساس الذي بنينا عليه بعضاً مهماً من دراستنا، إذ إن الطبيعة السوسيولوجية للمجتمعات العربية تأخذ أبعاداً ومميزات غير تلك الموجودة في غيرها من المجتمعات الغربية، ولعل المكوِّن الأساسي، سواء في المجتمعات الغربية أو في المجتمعات العربية، هو العائلة التي تمثل النواة الأولية لأي نظام اجتماعي؛ فمن جهة هي الركيزة التي من دونها لا يمكن الحديث أصلاً عن وجود المجتمع، ومن جهة أخرى هي أبرز الحلقات التي لا بد من اعتمادها كمركز مهم لنشر الوعي السياسي لدى المواطن.

من هذه النقطة، يمثل هذا المكوِّن الحيوي – العائلة – حجر الأساس لأي تشكيل وأي عملية شاملة. ولعل من جملة ما يميِّز العائلة العربية أنها وحدة اجتماعية تقوم على التعاون والاحترام المتبادل، تتميز بالنظام الأبوي، وهو النمط الغالب على عدد من المجتمعات العربية. وتشكل العائلة بذلك نمطاً هرمياً يحتل الأب رأس الهرم وباقي التقسيم يأخذ بالحسبان الجنس والعمر كما تطرق إليها المفكر العربي هشام شرابي في الكثير من مؤلفاته[17].

نقول هنا، إن العائلة، بوضعها الحيوي ضمن التشكيلة الاجتماعية، تمثل مؤسسة رئيسية وفاعلاً أساسياً ضمن الهندسة المؤسسية للدولة ككل، وهو ما يمكن القول من خلاله إن للعائلة ارتباطاً وثيقاً بالنظام السياسي، فهذه العلاقة قائمة على درجة من التماسك أو التفكك، وهنا نبقى في حلقات البناء الوطني والوعي السياسي للمواطن الذي تُعَد العائلة فيه حلقة لا بد من وجودها ضمن المحاور الأساسية، فهو من هذا المنطلق يدفع علماء الاجتماع إلى إعادة بعث نماذج مثالية للأسرة التي تمثل نقطة تحول لبقية الأنساق والفواعل المؤسسية الأخرى.

ويستوي القول بأن هذا النموذج المثالي للأسرة يشكل بدوره نموذجاً مصغراً للديمقراطية. فمع تماسك مكوناته وتعاون أفراده يُرجى منه تحقيق معادلة إيجابية جديّة لبناء ديمقراطي بامتياز سينعكس لا محالة على النظام السياسي ككل، وهو ما يعزز إمكان توفير البيئة الخصبة والمقومات الحيوية التي يقوم عليها الوعي السياسي، والتي لا بد من التأسيس الجيد لمكوناتها الرئيسية.

لكن لا يمكن تَبَني هذا النموذج إلا إذا تم الأخذ في كل المقومات المركزية، وبخاصة الاجتماعية والاقتصادية منها، القائمة بطبيعة الحال على مبادئ مؤَسَسة على احترام الحقوق والحريات، وهو مطلب ديمقراطي محوري في دولة الحق والقانون. ولا يستطيع الدارس التموقع الجيد من الدراسة إلا إذا أسَّس منطلقاته المبدئية على هذه على الأعمدة التي يُبنى عليها البناء الاجتماعي سواء المصغر – الأسرة – أو المتكامل – المجتمع – ومن خلال إدراك كل أطراف المعادلة في هذه الأبنية مدى حيوية هاته الميكانزمات ضمن الهندسة التأسيسية للبناء الدولتي، وهو ما يجعلنا أمام معادلة ناجحة إذا تم الأخذ في كل هاته المتغيرات[18].

لن نذهب بعيداً، فإذا تناولنا العائلة العربية بإطناب أمكن القول إن كيفية إحداث تغيير ضمن المنظومة العربية إنما يُكوِّن شكلاً مترابطاً؛ فلا يمكن تغيير المجتمع إلا بتغيير العائلة ولا يمكن تغيير العائلة إلا بتغير المجتمع. فهما بذلك يشكلان كُلاً مترابطاً إلى حد كبير، وهو ما يُبرِز جلياً محورية العلاقة بين المجتمع والعائلة؛ سواء بوجهها الإيجابي، أي المثالية، أو حتى بالظواهر السلبية للعائلة العربية التي تضم كل الأسس التقليدية التي أُسِست عليها في السابق ولا يزال صداها قائماً في تموجات الدولة في فضائها الداخلي وحتى في مجالها الجغرافي والاستراتيجي الخارجي.

هنا نبقى أمام حتمية تقوم على تساؤل: هل يمكن الاقتداء والقبول بالنموذج الغربي؟ وهو السؤال نفسه الذي يشكل عائقاً لكل دراسات الدولة العربية الحديثة إذا تم الأخذ في محدداتها الأساسية التقليدية، إذ نجد هنا أن المفكر هشام شرابي يرى عدم إمكان الأخذ فيه في كثير من الأحيان. فهو – وفقه – نموذج لثقافات واعتقادات ليس لها أي ارتباط، أو أي علاقة بالمجتمع العربي – الإسلامي.

وهكذا فإن هذا النَّقل الحضاري وفق منظورات الغرب يتم بنقل الغرب لعدائه إلى الدول النامية، الذي أوجب بصورة جلية إعادة النظر في النماذج الغربية الموجودة ملامحها في المنطقة العربية كلياً أو جزئياً، وهو ما يحيل دارس هذه الظواهر إلى عدم إغفال أبرز الضوابط الرئيسية في سياقات الانتقال الحضاري وفي مقدمها التعليم، هذا إذا تم الاعتقاد والأخذ في مثالية نماذج التعليم وتطويرها بعيداً من كل أوجه النقل السلبي للثقافات الغربية[19].

والضلال الذي نقع فيه عند التأكيد أن السبب الرئيسي لقيام نظام قومي وقطري قوي هو بضرورة الحال البحث عن مداخل جديدة متجددة قائمة على تحقيق القوة العربية الشاملة على صعيدَيْها الداخلي والخارجي، وهذا بالحفاظ على مقومات القوة التي تؤسس لنظام عربي قوي. لذا وجب تحقيق فرص التعايش الإيجابي في ظل مجتمع تحكمه مبادئ العدل والمساواة والمصلحة الجماعية المتأتية من طبيعة التشكيلات المكوِّنة لهذا النسق، وهو ما يكرِّس لبناء قوة ذاتية سياسية واقتصادية وعسكرية.

من هذه النقطة وجب الأخذ في الحسبان موقع المقومات الجيوحيوية ضمن الهندسة التأسيسية والتكوينية والتوجيهية وحتى الرقابية للأنظمة العربية. ولا يعني التركيز على هذه المقومات إهمال بقية العناصر؛ بل وجب الحفاظ عليها لأنها ستشكل حتماً نقلة نوعية مؤسسة على استغلال كل المقومات المتوافرة. وغير بعيد من ذلك، فإن هذه العناصر سيكون لها تأثير في المجتمع يختلف من مجتمع إلى آخر، مع الأخذ في الحسبان مميزات كل بناء اجتماعي وسماته.

وبوجه عام، إن إيجاد حل لهذه المعضلات الملازمة للدولة والمجتمع – التي تطرقنا إليها في صلب البحث عن الآليات والميكانزمات التي تؤسس لوعي سياسي لدى المواطن العربي – يكمن بالأساس في توجه جديد سيؤسس حتماً لانطلاقة عربية نوعية في كل المجالات، وهو ما ينعكس على وزن الدولة العربية وموقعها من المعادلات السياسية العالمية، كما أن هذا التوجه يرجى منه دعم العمل العربي المشترك بصفة حقيقية والتأسيس من خلاله لنموذج قوي، وبخاصة في ظل المقومات الجيوسياسية المهمة التي تزخر بها الأقاليم العربية، التي تشكل بدورها عاملاً أساسياً في الوزن الإقليمي والدولي[20].

ولو سلمنا بموقع المواطن في المعادلة السياسية فإنه وجب بالضرورة الأخذ في المكانة المحورية لكل تشكيلات المجتمع المدني باختلاف أوزانها ومواقعها الاجتماعية، وهو ما سيؤثر بالإيجاب في الهندسة البنائية للدولة، المنادية بضرورة نشر الوعي السياسي لدى المواطن. من هذا المنطلق، تغدو مؤسسة المجتمع المدني لاعباً محورياً في معادلة البناء الوطني، شأنه شأنٌ مشترك لا يقتصر على الحاكم أو الدولة فقط. وهو ما يؤكد مرة أخرى ضرورة المشاركة الشعبية في تدبير شؤون البلاد.

ناحية أخرى لم نتحدث عنها جلياً في ما سبق، هي أن تشكيلات المجتمع المدني يكون لها وزن فعّال في إرجاع التوازن داخل بيئة القرار السياسي، بحيث يعمل المجتمع المدني الفعّال على منع أي سيطرة لأي مكوِّن كان على بقية المكوِّنات، مهما كانت صفته ووزنه في معادلة الدولة. لذا وجب التعامل بمفاهيم التعدد ومنطلقات التوافق واحترام الاختلاف والنقد بعيداً من الأنانية العنيفة. وإذا كان الأمر كذلك فهو يكرِّس مبادئ الحوكمة والرشادة ويعطي للمواطن حضوراً فعّالاً في أمور الدولة، وعليه لا يمكن أن يقوم المجتمع المدني بأدواره إلا بوجود دولة قوية تتسم بمبادئ الشرعية[21].

وفي خصوص إشراك كل ألوان الطيف السياسي، يتبادر إلى العيان أن المعارضة لاعب أساسي، وهي تعد أبرز المكوِّنات في الحياة السياسية، سواء الغربية أو العربية، إذ هي بذلك تُؤسِس لوجودها في الأنظمة الديمقراطية بمدى ارتكازها على الأسس السليمة والضوابط القانونية التي تكرِّس موقعها ضمن المعادلة السياسية. فلا يمكن الحديث عن هندسة سياسية في غياب المعارضة، ولا يمكن الحديث عن معارضة حقيقية في غياب المرتكزات الأساسية التي وجب السير وفقها.

إذا كان الأمر كذلك، فلو تطرقنا إلى المعارضة في الوطن العربي للاحظ المتتبع لمساراتها ضمن بناء الدولة العربية، في أي مجال جغرافي كان، أنها تسير وفق منحنيين أساسيين: سياسة من دون مشروع، أو تغييب حتمي من طرف السلطة. فلو تم الإقرار بأحقية المنحنى الأول، وهو أن المعارضة في أغلب أنظمة الدول النامية قائمة على موروث شكلي يأخذ – بصفة سرية – توجهات صورية فلا مشروع محدداً ولا منطلقات محورية، أي تحقيق البراغماتية من وراء تكريس مكانتها في المعادلة السياسية.

هكذا إذاً، لو تم الأخذ في المنحنى الثاني المؤسس على خصوصية الأنظمة العربية القائمة في أغلبها على الاستبدادية والتسلطية وتمركز السلطة في يد فئة معينة، للوحظ أن معظم هذه الأشكال السياسية التي لا يرقى بعضها لوزن النظام السياسي، وهي أنظمة فاقدة لشرعيتها كلياً أو جزئياً في شق مهم منها، وهو ما يعد تحدياً حقيقياً يستوجب إعادة النظر من جديد في المكونات الأساسية للدولة[22].

لكن لا يمكن أن نغفل أن بعض التشكيلات السياسية، وبخاصة الفعّالة منها، قائمة بدرجات أولية على استغلال التعاطف الشعبي مع برامجها – الشكلية في أغلب الأحيان – ، أي يتم توظيف المصلحة الذاتية في كل الأمور التي تم تسطير جوانبها والتي ستؤول إليها هاته التشكيلات؛ فهي بذلك توظف كل المشاعر الوطنية لمصلحة تشكيلاتها المشكوك في صدقيتها والمُناوِرة بأساليبها والمستغلة لمشاعر الغاضبين من النظام وشكوكهم.

وبقصر القول، فإن هذا التوظيف يهدف بالأساس إلى التعجيل في إسقاط السلطة، وهو الأمر الذي مثّل ولا يزال يمثّل تحدياً محورياً لعمليات إعادة بناء الدولة، ورهاناً حقيقياً للنظام السياسي ككل، وعاملاً مهماً في تغييب الوعي السياسي لدى المواطن، الأمر الذي ينجرّ عنه منع السلطة السياسية من ممارسة عملها بحرية؛ وهو ما قد ينتج منه تغييب كل الحلول العقلانية، التي يراد منها الوصول إلى مبدأ الإيجابية في التعامل مع الطرف الآخر وتبني الرؤى والسياسات التعليمية الضرورية، كل هذا في ظل البيئة المتوترة المليئة بالأزمات التي يتخبط فيها الوطن العربي[23].

خاتمة

ختاماً لما كنا قد بدأنا فيه، أمكنَ القول إن تزايد الحركات الاحتجاجية في المنطقة العربية خلَّف جملة من التداعيات المحورية على عملية إعادة بناء الدولة في شقيها الإيجابي كحالة تونس والسلبي في المجال الأمني، كما حدث ويحدث في ليبيا في ظل الأزمة الأمنية التي استدعت تدخلات خارجية براغماتية لحماية المصالح الغربية داخل البيئة الليبية المتشبعة بكل ضروب التطرف العنيف، وهنا يظهر جلياً أن هذه الحركات الاجتماعية مع تباين سياساتها، وجدت لنفسها مكانة مهمة في تعبئة الجماهير بالإيجاب أو بالسلب.

وفي هذا الشأن، فإن الدور الذي حظيت به هذه الحركات الاجتماعية أدى تلقائياً إلى إضعاف حلقة مهمة من حلقات النظام السياسي، وهي الأحزاب التي تراجعت مراتبها، وبخاصة إذا أخذنا حالة بلدان الحراك الاجتماعي، التي شهدت موجة تحركات برز من خلالها خلوّ الأحزاب بتوجهاتها المختلفة – كلياً أو جزئياً – من أي ركائز ديمقراطية، ميزتها الصراعات الداخلية فقط، التي أوجدت مكانة لها ضمن الهشاشة السياسية، متخذة من الانتماءات القبلية والطائفية محركاً لها، ومؤسِسَة بذلك لعصر هش من عصور الدولة العربية الحديثة[24].

وهو كما تحدث عنه المفكر هشام شرابي في كتابه النقد الحضاري للمجتمع العربي في نهاية القرن العشرين، الذي تطرّق فيه إلى النقد البنّاء للمجتمعات العربية، حين رأى أن هذه الأخيرة ما زالت تلهث بحثاً عن الحداثة، في حين كان الغرب قد تعدى هاته المسألة إلى فكر ما بعد الحداثة القائم على مبدأ رفض الشمولية على اختلاف أنساقها، مؤكداً ضرورة التشكيك الدائم للأفكار بعيداً من اليقين، وهو ما قد يحدد بصفة دورية على خطاب الحوار؛ فهو بذلك يمثّل مسألة حضارية تؤدي إلى تكريس البناء الجيِّد والفعّال للدولة العربية[25].

وهذا ما يقود الباحث في الشأن العربي، سواء الاجتماعي أو حتى السياسي والاقتصادي، إلى التعامل مع هذه المسألة بوصفها إشكالية حضارية تستوجب سعة النظر، إذ تتسم بنوع من الإيجابية المتأتية من إحدى أهم المنهجيات الفلسفية التي لا بد من توظيفها في الشؤون الاجتماعية وتداعياتها السياسية، وهي منهجية التفكيك للفيلسوف جاك دريدا، أي حتى نفهم الظاهرة المراد البحث فيها لا بد من تفكيكها ومن ثم استكشاف خباياها آخذاً ذلك النهج التركيبي ختاماً محورياً لها.

فإذا كان الأمر كذلك، فإنه وجب في الأساس على القائم بهذه الأدوار المحورية ذات الفاعلية (الدولة والمجتمع المدني) ضرورة البحث في الديناميات الكفيلة بجعل الطبيعة السوسيوثقافية الواعية للجمهور العربي منطلقاً حيوياً، تدرك من خلاله المخرجات المرجوّة من عملية إعادة بناء الدولة العربية ما بعد الحراك الاجتماعي ولما بعد التحولات الدولية الراهنة. كما أن لمستوى الثقافة الجماهيرية ومستويات التكوين والتعليم والتربية مكانة أساسية جداً في المعادلة البنائية للدولة العربية الحديثة المبنية على المنطلقات الأساسية للوعي السياسي لدى المواطن العربي.

وحتى نسير على الدرب السليم وجب التشديد على حُسن استغلال جميع المقومات الحيوية والأخذ في درجة تفاعلها داخل البيئة ومع ماجريات السياسة العالمية وتطلعاتها، كل هذا في ظل المسرح الإقليمي الذي يشكل – نوعاً ما – إحدى بؤر التوتر، إضافة إلى المحيط العالمي القائم على الرؤى الواقعية بعيداً من المثالية التي تغنَّى البعض بها في القرن الحالي، والتي لم تجد لنفسها مكاناً، أو لم يجدوا لها مكاناً، في واقعنا الحالي القائم على القوة وضرورة المصلحة في خضم ماجريات السياسة الدولية؛ الأمر الذي يحتم إعادة النظر في التطلعات والأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي والسياسي العربي، والذي سيؤثر بطريقة تفاعلية في بقية الأنساق والمجالات الأخرى.

 

قد يهمكم أيضاً  الثقافة السياسية الحضرية في الوطن العربي: العلاقة بين الاتجاه نحو الديمقراطية والاحتجاج السياسي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #السياسة_في_الوطن_العربي #الوعي_السياسي #التوعية_السياسية #المواطنة #دراسات