– 1 –

سؤال السلطة ليس سؤالاً هيِّناً، لنتأمل حجم الجدل الفلسفي بصدده. لقد ظل هاجساً فلسفيّاً؛ التفكير فيه ملازم للتفكير في قضية الإنسان، فهو، علاوة على ما يطرحه من استعصاءات كمفهوم نظري، له جانب عملي جليّ، وبالأخص من حيث مستتبعات القول به في علوم معيارية من قبيل: السياسة والأخلاق، طالما أمكن اعتباره أحد مستوجبات تدبير الحياة المشتركة بين الأفراد.

يبدو أن ناصيف نصّار، انتبه لمسيسِ حاجةِ السياق الفكري العربي والإسلامي إلى «فلسفة سلطة»، حتى لا يبقى رهين استهلاك ما أنتجه القدامى والمحدثون من ناحية، وحتى يحوِّل قوله بـ «الاستقلال الفلسفي» من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل من ناحية ثانية، وخصوصاً أن «الوجود بالفعل»، أو قل «فلسفة الفعل»، قد استغرقت مساحة نظرية واسعة من التفكير النصّاري، للرابط الوثيق الذي يشدّها إلى استنهاض النهضة العربية الثانية: أملُ نصّار في استئناف بدءٍ تعطّل منذ زمن غير يسير.

منطق السلطة سابق على باب الحرية‏[1] زمنياً، لكن، سؤال السلطة رفيقٌ لسؤال الحرية نهضوياً؛ إنه وجه من أوجه «نظرية الحرية» التي أورد نصّار أسسها في باب الحرية، بيد أن المقصود بالسلطة لدى نصّار، مختلف تماماً عمّا ألفه بادئ الرأي – العامي والفلسفي على حد سواء – من منطوقها.

يتخذ نصّار من ثنائية «السلطة والسيطرة» دليـلاً له في التمييز بين الأشكال «الصحيحة» للممارسة السياسية والأشكال «الفاسدة» لها. السلطة متلازمة مع العدل والحرية صوناً لمصلحة الأفراد والمجتمع، فكلمّا انزاحت عن هذه الموجهات انقلبت سيطرةً وتسلطاً‏[2]، لتتلازم هذه الأخيرة – وعلى عكس الأولى – مع مفاهيم الاستبداد والاستعباد والظلم. سؤال مشروعية السلطة، بالنسبة إلى نصّار، لا معنى له، فكل سلطة هي شرعية بالضرورة، وفقدان شرعيتها لا يكون إلا حين إخلالها بمنطق «فلسفة الأمر»، القائم بين آمر ومأمور.

كما للآمر حقوق وواجبات، فللمأمور كذلك نصيبه منها، للأول الحق في «الأمر»، واتخاذ قرارات – بشروط – تهم مصلحة الجماعة التي هو مؤتمرٌ عليها، وعليه واجب أداء خدمات تهم الأمن والنظام والتدبير وتحمل مسؤولية المحكومين‏[3] من المناحي كافة. هذا في ما يختص بالآمر، أما المأمور، فعليه واجب الإذعان والامتثال، وله حق العيش الكريم والمراقبة والضغط والمحاسبة، من خلال سلطة «الشعب»، التي كشف نصّار الالتباس عنها في معرض وقوفه على مفارقة «كيف يكون المأمور آمراً في الوقت عينه، وكيف يكون الحاكم الآمر خادماً»؟

– 2 –

باستجلاب نصار مفهوم السيادة، في ارتباطه بثنائية القيادة والخدمة، يكون قد أفلح إلى حد بعيد، في رفع تلك المفارقة، حيث كل تغليب لطرف على الآخر هو إخلال بالتوازن المفترض لاستيعاب جدوى السلطة السياسية، بما هي سلطة خدمة وقيادة، دون أي امتيازات مخصوصة؛ بل إن السيادة نفسها، ليست سيادة مجزأة بين الحاكم والشعب. «وهكذا عندما يؤكد الحاكم نفسه قائداً وسيِّداً، لا يكون الشعب فاقداً للسيادة، بل يمارسها على سبيل الانفعال والتلقي، والمراقبة والمحاسبة، ويمارسها أيضاً على سبيل الفعل والمبادرة، حينما يقتضي نظام الحكم ذلك أو عند الضرورة الطارئة»‏[4]. ممارسة السلطة ليست تسلطاً، كما تفهمُها بعض الأدبيات السلطوية، وإنما هي محكومة بأهداف وترتيبات تقرن الطاعة بالخدمة، والقيادة بتلبية الحاجات الضرورية للمنقاد، بهذا «التقليد الجديد» في فهم السلطة، يروم نصّار تحرير العقل والمخيال السياسيين من إرث جدل العبد والسيد والراعي والرعية والإله والعباد. وما في الأمر من عَجَب، فأمام انسحاب مقولات التبعية والطاعة والخضوع من «المتاح التبريري» للعقل الوسيط، لم يعد بالإمكان سوى إبداع نظرية في السلطة، تتجاوز «القاموس القديم» بقاموس يعتمد كلمات مفتاحية رئيسة تتعلق بالحرية والمساواة والعدل. لكن، أوَليس هذا الجهد بمسبوق؟ ما القول بالنسبة إلى الإرث الأنواري؛ السياسي منه على وجه أخص؟ هناك أسماء أثثت هذا الفضاء، وهي أشهر من أن يذكَّر بها؟

في سياق إعادة صوغ نصّار لمرتكزات نظرية السلطة، وابتداره إلى الخوض في منطقها، نجد أنفسنا بين نصوص كثيفة لهذه الأسماء (الفارابي، وابن خلدون، وروسو، وجون لوك، ورولز…)، وهي نصوص متقاربة حيناً ومتباعدة أحياناً؛ وهو إضافة إلى بنائه لنظراته باستيعابها استيعاباً نقدياً، فهو لم يبق حبيسَ قواميسها، بل تجاوزها إلى إبداع نظرة خاصة به في الفكر السياسي، تجلت بعض عناصرها في تعقيباته على مسألة مصادر السلطة، وتمييزه لسلطة الحاكم عن سلطة الدولة، ودراسته للسلطة السياسية والتباس علاقاتها بالسلطة الدينية والسلطة الأيديولوجية، مع الانفتاح على سلطة العقل والعدل والتاريخ، مغلِّباً في خلاصاته منطق التعاون والاجتماع على نداءات التصارع والفردانية، ومشيّداً لشروط البناء السليم لمجتمع «العيش معاً»، الذي يستند قيامه إلى رسم الحدود بين السلط المشار إليها آنفاً.

– 3 –

تتفاوت خلاصات ناصيف نصّار بشأن مسألة الحدود، فهو وإنِ انتقد كل تحالف أو اندماج أو استبعاد بين الديني والسياسي، مفضـلاً الشكل الاستقلالي لفصل المقال بينهما، فإنه يجعل من الانفتاح على «سلطة العقل» و«مبدأ العدل» – حتى وإن صرّح نصّار بضرورة الاحترام المتبادل بين السلطتين، حتى لا يتم تسييس العقل، وإن رحّب بعقلنة السياسي – ضرورة ملحّة للسلطة السياسية، لما يمكن أن يقدمانه من أسباب نجاحٍ لها، أما الأيديولوجية، ونظراً إلى تأثيرها في النفوس، وهيبة وقعها على الأذهان، فإنه يتحدث عنها كـ «سلطان» – لا كسلطة – منتقداً الهيمنة الأيديولوجية الأحادية التصور، مبيناً أفضال التعدد الأيديولوجي في الدولة، وداعياً إلى حياد الحاكم في قراراته الوظيفية، من حيث عدم تأثير أيديولوجيته الخاصة فيها، فهو حاكم الجميع، وليس حاكمَ جماعته فقط‏[5]، ولربما كان هذا من جملة الدوافع التي دعت نصّار إلى تمييز سلطته عن سلطة الدولة.

«تتقدم سلطة الدولة على سلطة الحاكم في الحق وفي الوجود. فهي الأصل أو الجوهر، وسلطة الحاكم الفرع أو المظهر»‏[6]. تتراجع مقولة «الدولة أنا»‏[7] لتفسح في المجال للمؤسسات الشرعية الحديثة، لا يقبل نصّار بأن تصير «ممارسة الحكم» تابعة للهوى والاستفراد مهما كان شكلُها بيعةً أو ملكاً، أو غيرهما. ولاستخلاص هذه الخلاصة، فقد عرَّج على نظريتي الماوردي والفارابي، منتقداً نتائج إرجاعهما سلطة الحاكم إلى الطبيعة والله، وما ينتج من ذلك من ظلم واستبداد. فالماوردي هو الشكل الإسلامي للنظرية الثيوقراطية. حالُ الله في عبادِه، أن جعل البعض حاكماً والبعض محكوماً، وبه وجب الإيمان والاسترشاد، هو حال لسان الماوردي في آدابه السلطانية، ويلاحظ نصّار وجود بعض عناصر «المذهب الطبيعي» و«المذهب التعاقدي» في كتاب نصيحة الملوك، بيد أن أُفُقَه مختلف عنهما تماماً، لأن الغاية عنده لا تخرج عن سياقات تبرير «التفويض الإلهي» للحاكم؛ بحجة «تفاضل الموجودات وطبيعانية التراتب».

أما أبو نصر الفارابي، فإن نصّار يقر بنجاعة تمييزه بين السلطة الحقيقية والسلطة السافرة، ومحل الأولى هو المدينة الفاضلة، التي يأخذها أبو نصر نموذجاً لدراسة السلطة السياسية، مماثـلاً بينها وبين البدن، مستنتجاً أن الفيض الطبيعي هو مصدر السلطة، وهو نفسه الأصل في «التراتب العادل» بين الناس. وإن استرشدت هذه النظرية الفارابية بنور العقل، فإنها ضحّت بالحرية، يلاحظ نصّار بدءاً. وبناءً عليه، فإن المماثلة بين السياسة والميتافيزيقا لا تتيح حل مشكلة ماهية السلطة السياسية تالياً، لأن السياسة فضاء لتدبير الممكن (حرية)، والميتافيزيقا، كما هو حالها مع «الفيض الطبيعي» مجال للقول بضرورة الفيوضات. ثم إن السياسة محايثة للوجود الاجتماعي الدنيوي للإنسان، ومن شأن النظر إليه بعيون الميتافيزيقا السقوط في أوطوقراطية مطلقة يرى نصّار ثالثاً.

– 4 –

وبمثل رفض نصّار لطبيعانية سلطة الحاكم، فإنه يرفض كذلك تعاقديته، والتعاقد المقصود لديه ليس هو التعاقد الذي نجم عنه تأسيس المجتمع؛ كما نظَّر له فلاسفة العقد الاجتماعي، وإنما يقصد به التعاقد بين الحاكم والشعب، ليشير إلى التهافت الشكلي لهذا التعاقد، لاستلزامه طرفين مستقلَّين قائمَي الذات، أما بالنسبة للحاكم والشعب، فإنهما ليسا كذلك، ما دام الحاكم ليس إلا فرداً من الشعب متجرداً من أي أفضلية ما لم يصرْ حاكماً، وحتى عندما يصير كذلك، فإنه بالنسبة إلى نصّار، يقوم بوظيفة اجتماعية لا غير، فمن أين تتأتى للحاكم سلطته، والطبيعة زيادة على التعاقد ليسا بمصدرها؟

لا يَمْنَح السلطة إلا من كان لها صاحباً، وأول سلطة على سبيل المثال – التي لا يمكن إنكارها حسب نصّار – هي سلطة الفرد على نفسه، ومنها تنبثق سلطة المجتمع على نفسه، التي ستشكل أساساً لاشتقاق «سيادة الشعب»، فضـلاً عن سلطة الدولة، باعتبارها أسمى سلطة تجسد وحدة المجتمع السياسي قبل أن ينقسم إلى حاكم ومحكوم. وما دامت سلطة الفرد والمجتمع على نفسيهما سلطة طبيعية، فإن الأمر نفسه ينسحب على الدولة. ويستدعي نصّار المفهوم الروسّوي «الإرادة الجماعية» للتعبير عن ذلك الشعور الذي يجنح بـ «إرادات حرة»، لتغليب العيش المشترك على العزلة، شعور يقول عنه بأنه: «يخترق الوجودات الفردية، دون أن يلغيها»، وبقدر تغلغلها في كل فرد، فهي متعارضة مع نزوعاته الفردانية، إنها بتعبير ناصيف نصّار «إرادة تواصل مستمر، وإرادة عيش مشترك، وإرادة توحيد عميق، وإرادة استقلال، وإرادة مصير واحد»‏[8].

الإرادة الجماعية هي الضمانة الأساسية لاستمرار المؤسسات، وبخاصة مؤسسة الدولة وإنْ زال القيِّمون عليها. لكن تحققها العيني، بحاجة إلى تجسيد، بحاجة لمن يقوم مقامها في الفعل، «فالدولة كدولة تتمتع بسلطة طبيعية على نفسها، ولكنها في الممارسة اليومية لهذه السلطة تحتاج إلى تسليمها إلى فرد أو إلى جملة أفراد يقومون بها، لضرورات إجرائية محضة. وليس من الممكن اجتماعياً تجاوز هذه الضرورات. وإذا أمكن تجاوزها بطلت الحاجة إلى الحاكم»‏[9].

الحاكم دونَ الدولة، غير أن الدولة لا أسس متينة لها دونهُ. سلطتها طبيعية، وهي ليست من نفس جنس سلطته – فقد ذكَّرنا سلفاً بإنكار نصّار أن تكون ذات مصدرية طبيعية – وما دامت الدولة هي صاحبة السلطة الحقيقية طبيعياً كما تقدم، فإنها هي من يفوض للحاكم «الحق في الأمر»، فماذا لو انقلب الحاكم على الدولة، واحتكر لنفسه سلطتها؟

– 5 –

نصّار فيلسوفٌ مسكونٌ بالتفاصيل، وما فاته أن يتطرق إلى هذا التفصيل الدقيق، حيث نبَّه إلى أن التفويض لا يعني التنازل عن سلطة الدولة، ففي ذلك هدمٌ لكيانها. ومن أشكال التنازل عن هذا الحق الجوهري التفويضُ المطلق له، لهذا لا بد من ضبط شكل التفويض من المناحي كافة، وهو ما يصمت عنه نصّار لاختصاص التطبيقي من الفلسفة السياسية به. بيد أننا نجد لديه بعض عناصر المباح والمحظور تفويضه، حتى تُحكم العلاقة بين سلطة الدولة وسلطة الحاكم، للتدبير الأمثل للمشترك المجتمعي أولاً، ولكي لا تتعطل المصالح ثانياً. هكذا، فإن الخيارات الاستراتيجية الكبرى تحتكر الدولةُ أمرَ تصريفها، لكن وظائف سواها من قبيل التشريع والتدبير والتنظيم وغيرها من الخدمات السياسية، التي أفاض نصّار الحديث عنها في «منطق سلطته»، تستوجب بعض المرونة من ناحية عدم مركزتها في سلطة الدولة والانفتاح على أنماط أخرى لتدبّر أمرها.

ينجم عن السابق ذكره، مبادئ خمسة، على شكل لاءات حقانية (لا يحق…)؛ رسمها نصّار كحدود للسلطة السياسية، على رأسها عدم المماهاة بين السلطتين (الدولة والحاكم)، وعدم استفراد الحاكم بـ «النشاط السياسي» تالياً، علاوة على عدم انتهاك الحقوق الطبيعية للأفراد، وعدم انتهاك حقوق باقي الدول والحقوق الضامنة لاستقرار الإنسانية بعامة ثالثاً ورابعاً، أما خامسة اللاءات، فتتعلق بعدم وجوب تدخل الدولة في «النشاطات غير السياسية».

دفعت هذه اللاءات فيلسوفنا إلى البحث في «شيطان التفاصيل ذات الصلة بحدود السلطة السياسية»، مستثمراً المبادئ السابقة الذكر، فَتَنَاول استثناءات اختصار الحاكم للحدود بين سلطته وسلطة الدولة، ومسؤوليته عن تدبير الاختلاف داخل المجتمع من خلال ضمان حق المعارضة في الوجود، معرِّجاً على ما عرفه العالم من تصاعد للنبرة الحقوقية في خطاباته، فضـلاً عن طرْقه موضوع حركية الحدود بين الدول وصعوبة تعيينها وانعكاس ذلك على مفهوم «السيادة»، وبالأخص من جهة تشكل فرضية إمكان توحيد العالم تحت وطن واحد. وقد أسهب نصّار في شرح التباسات ذلك واستعصاءاته، للتعدد الذي تتأسس عليه السلطة كونياً، وهي السمة نفسها التي تتسم بها السلطة في المجتمع الواحد. فإضافة إلى ما أشرنا إليه من سلط (الدين، والعقل، والأيديولوجيا…)، يشير نصّار إلى السلطة الوالدية والسلطة المعرفية والسلطة المهنية، معتبراً إياها سلطاً قائمة بنفسها، إرجاعُها إلى السلطة السياسية تعسفٌ وخروجٌ من منطق السلطة إلى منطق السيطرة والتسلط.

– 6 –

ما اختصرْنا الحديث عنه في الفقرة السابقة، يستوجب منا التوقف عند رهاناته، ولنبدأ بالإلحاح، على فكرةٍ لازمتنا في عديد استدلالاتنا السابقة، أقصد هوس ناصيف نصّار برسم الحدود‏[10]. كل الفلاسفة الكبار، اعتنوا بمسألة الحدود، وتعبوا في تفاصيلها، لم يكن كانط آخرهم ولا أولهم، وإن كان أشهرهم وأبدعهم لاختياره الخوض في حدّ سيّد الحدود (العقل)، بالقول في ما ينبغي له الخوض فيه، وما هو ممتنع من ذلك.

لا يسعفنا المقام لتفصيل المقال بهذا الشأن، لكن إشارتنا العابرة مردّها إلى الميسم الاجتماعي للحدود عند نصّار، بالزج بها في مجال يتعذر فيه ضبطها. وهو نفسه واع بذلك تمام الوعي، فقد أكدّ مرات عديدة، على ما تتأسس عليه السلطة السياسية من انفتاح على «انفلات الممكن» و«فجائية المغامرة» و«مباغتة التاريخ»، غير أن ذلك لم يمنعه من التصدي لها، مبرزاً استعصاء تحديدها مجالياً في الزمن المعاصر، مستحضراً مثال الأنهار التي تخترق دولاً متعددة، مستخلصاً وهم القول بـ «الحدود المطلقة» بين الدول، وهذا يستدعي ضرورةً الحرص على احترام الدول الأخرى.

وعلى الرغم مما بذله ناصيف نصّار من جهد حميد، لفصل المقال بين السلطة السياسية وباقي السلط من اتصال وانفصال، فإن عمله ذلك، يرتدُّ إليه من باب النتائج المستخلصة ذات الصلة بسلطان الأيديولوجيا خصوصاً؛ وما تطرحه من تحديات من جهة إمكان القول بالتحرر منها، وبالأخص لمّا يتعلق الأمر بميدان التربية، الذي يراهن عليه نصّار للخروج من «منطق السيطرة» إلى «منطق السلطة».

إن التربية على السلطة هي الرهان النصّاري المعوّل عليه، لتكوين المواطن الذي بمُكنته حفظ الحدود بين السياسة وما يدور في حلقتها من مطبات، وقد شكلت بالنسبة إليه مدخلاً للتنبيه إلى الخروقات التي قد تشكل تهديداً «لفلسفة السلطة» بما هي فلسفة للحدود سواء بين الدولة والعائلة أو بين الدولة والعائلة والدين، أو بين الثلاثة والأيديولوجيا، ولنغير الترتييب كما شئنا، فما يهم هو عدم السقوط في رحى السيطرة. أوَ تسمح لنا الأيديولوجيا بتكوين مواطني، يرفعنا إلى جلل «الحدود»؟ أليس ما تعرّض له نصّار من «تنازع أيديولوجي» حول حقل التربية في لبنان بعامة، وتدريس الفلسفة بخاصة‏[11] دليل على رسوب حساباته في «امتحان الحدود»؟ ألم تكشف الأدبيات المعاصرة، عن أشكال أخرى – غير واعية في معظم الأحيان – لتسرب «الأيديولوجي» غير المرغوب في تشويشه على التربية وغير التربية؟ ذاك كان دافعنا لتقرير حدود إقرار الحدود بين السلطة السياسية وسلطان الأيديولوجيا، أو على الأقل عدم خلوّ الأمر من صعوبات نظرية وعملية جمة.

– 7 –

قد يعترض معترض، فيقول إن نصّار ما كان يهمه واقع الحال، قدر اهتمامه بحسن المآل، وهو وإن كان محقاً في اعتراضه، ففي كتابات ناصيف نفسه ما يزكي ذلك، فإنه مع ذلك، ليس بوسعه الاعتراض على التلازم الذي نلحظه عند فيلسوفنا بين التاريخ والأمل، بين التشخيص والتأسيس، بل إننا لنشعر معه أحياناً بـ «التمزق» الذي يحياه وهو يتناول أمراض السياسة ومفارقاتها، لذلك غالباً ما يلجأ إلى الحفر في دلالات مفاهيمه؛ وإمعان النظر فيها حدّ الإحكام، حتى يستقيم له الاستخلاص والاستنتاج والمحافظة على انسجام الاستدلال.

لقد رام نصّار رسم الحدود، اقتناعاً منه بنجاعة الاعتراف بتعدد السلط بدءاً، ولِمَا تقتضيه «واقعيته الجدلية» من جدل بين التعدد والوحدة تالياً. و«واقعُ الحالِ» إنْ مَرْكَزَ السلط واستجمعها في يد واحدةٍ فهو مدانٌ، و«حسن المآل» منبنٍ لدى ناصيف بالتسليم بأهمية السلطة السياسية، دون أن تتجاوز حدودها إلى انتهاج آليات الإخضاع والاستبعاد والإقصاء، فضـلاً عن الاعتراف بالسلطة الأخرى، والمحافظة على علاقات التعاون والتنسيق معها، مع معْيَرتها وفق مقتضيات فلسفة الحق، التي تضمن عدم انزياح «الإرادة السياسية» إلى إغراء السيطرة والهيمنة. وقد دفع هذا الأمر نصّار إلى بناء تصور للسلطة، يمتح أسسه من تعالُقِ الحق بالواجب، كشرط لازم للخوض الفلسفي في الفعل السياسي، الذي من جملة مقتضياته أيضاً، تحديد شكل تدخل سلط أخرى في السلطة السياسية، ولعل أظهرها سلطة العقل، التي نص نصّار في مجمل تآليفه على الاعتناء بفحصها بغيةَ توطينها على نحو عادلٍ.

في معرض نقده لمجاز الأب والراعي، الذي طغى على الأدب السياسي القروسطي، نبَّهنا نصّار إلى دنوِّ مجاز الربان والطبيب والمعلم من التعريف الصحيح للسلطة – وإن لم يُحصِّلها كفاية، للاختلاف البيّن بين السفينة والعيادة والفصل من جهة والدولة من جهة ثانية – السبب الرئيس في ذلك، يرجع بالأساس إلى عامل المعرفة الشديد الارتباط بفتوحات العقل وقيادته الإنسانية إلى شطآن الأمان قيادةَ الربان لفُلكه من ناحية أولى، بالإضافة إلى أن حيازة المعرفة تمكن صاحبها من حسن حماية الدولة من أمراض الإدارة حماية الطبيبِ لصحة الجسم من ناحية ثانية، علاوة على الشبَه بين مسؤولية المعلم وواجب اهتمامه بتلامذته بمسؤولية الحاكم على شعبه من ناحية ثالثة.

وعلى الرغم من أهمية هذه الصور في تقريب إدراك مفهوم الحاكم ومصدر شرعيته، فإن انطواءها – كأي استعارة – على «لعبة الكشف والحجب» تجعل فيلسوفنا غير مقتصر عليها كلية، مستعيضاً عنها بصرامة التحليل المفهومي لمفاهيمه كما سبق أن أشرنا إلى بعض عناصره. وبالمثل، فإن إشادته بما حققه العقلُ للبشرية، ثناؤه على حيازة المعرفة وأولويتها في بناء المجتمعات الحديثة، لم يحُل دونه وبيان سداد ربط كل ذلك بأخلاقيات العدل.

ففي إشارة غير عابرة بكتاب الذات والحضور، لاحظ نصّار أن قيمة العدل اجتماعياً، تضاهي قيمة الحقيقة بالنسبة إلى أنظمة الفكر، وإذا ما استبينّا ما للعدل من أهمية لدى ناصيف نصّار، فإننا سنستنتج لا محالة حرصه على «تعيين الحدود» بين سلطة السياسة وسلطة العقل حرصاً على قيمة الحقيقة وحفظاً لجوهرية العدل‏[12].

لقد حرَّرَ العقلُ الحديثُ المعرفةَ من هيمنة اللاهوت، وتزامنَ ذلك مع حقبة «تصفية الحساب» بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، وإذا ما لجأت الثانية إلى «الغيب» سلاحاً، فإن الأولى ارتكنت إلى «العلم» ملاذاً، مقاومةً للسدّة البابوية. بعبارة أخرى استخدمت السياسةُ العقلَ في قذارة الحرب مع الدين، غير أن ذلك، لا يعبر عن حقيقة السلطة العقلية كسلطة مستقلة، لا آمر لها غير طلبها للحقيقة، سلطتها نابعة من جدل السؤال والجواب وله تابعة. ولأن لا سلطة مطلقة في أبحاث نصّار، فإن الأجدر أن تعكس سلطة العقل قيم التواضع والمرونة والانفتاح تجاه إلحاح السؤال. وما دام الأمر كذلك، فإن العقلَ بعيد من منطق المراقبة والمعاقبة والسيطرة والهيمنة‏[13]، زيادة على تقوُّم سلطته بذاتها، فلا هي تابعة إلى صلاحيات رجل الدين، ولا هي راجعة إلى استعمالات رجل السياسة، ولا هي متماهية مع زعيم الأيديولوجيا.

بناء عليه، يدعو نصّار إلى حرية الفكر ورعاية العقل بتعزيز نشاطاته ومحاربة من يعمل على تقويضها، مع تشديده على ما يتطلبه الأمر من حرص قانوني ودستوري على استقلاله ومأسسته، إضافة إلى توجيه بحوثه ناحية إنتاج المعرفة بكل حرية، مشيراً أن العقل سيد نفسه لارتداده إلى ذاته بواسطة النقد، وأن مواجهة العقل، لا تكون إلا بالعقل، وهو ما ينعكس إيجاباً على الحركية المعرفية والثقافية للمجتمعات، ويزكي نسبية الحقائق والحاجة إلى تضافر القوى الإنسانية الأخرى (خيال، حواس، رغبات،..) في سياق البحث عن الحقيقة.

– 8 –

نعلِّق تحليلنا بشأن «فلسفة العقل والحقيقة» عند نصّار، لأننا نعد بالتوقف عند أسسها ومرتكزاتها في عملٍ لاحقٍ، ونستعيد تفكير ناصيف نصّار في تجليات التفاعل الإيجابي بين السلطة العقلية والسلطة السياسية، ما دمنا قد أشرنا سابقاً إلى أنه رغم حرص نصّار على استقلال – بالأحرى ضمان استقلال العقل عن توجيهات السياسي – فإنه لا يقول بالانفصال المطلق بينهما. للاستقلال معنى خاص لديه، وقد أوضحه حينما تحدث عن «سلطة التراث»، ناظراً إليه من خلال مفاهيم المسافة، والاعتراف، والاحترام، وهي نفسها العناصر المشكلة للاستقلالية المرجوّة بين العقل والسياسة، فلا يمكننا القول بأية حال، بعدم تبادل الخدمات والفوائد، وإلا حَرَمْنا السياسة من شرط لازم لقيامها وهو شرط المعرفة، حرمانَ العقل من شرط لازم لسيادته وهو الحماية. إن ما يرفضه نصّار هو «التوجيه والتحكم»، بما يُفقد سلطةً ما حريتها واختياراتها، فيتعذر قيامها بواجبها لعدم تحصيل حقها، فلا شيء يسمو في «الواقعية الجدلية» عن محاسن جدل الحق والواجب، فما موطن التفاعل – والحال هذه – بين سلطة العقل (المعرفة) وسلطة السياسة (الحكم)؟

لا سلطة بدون قدرة، فهي موجبٌ إخراجها من الإمكان إلى العيان حسب ناصيف نصّار، ولمّا كان ذلك كذلك، فإنه كلمّا ارتبطت القدرة بالإرادة السياسية للحاكم، إلا وانعكس ذلك على قيمتها، فتصير «جذابة ومخيفة، عالية وغير مستقرة، مسببة للارتياح والرضا ومثيرة للانزعاج والنقمة. إنها قيمة ساحرة بما تمنحه وما تأخذه»‏[14]، وخصوصاً، لمّا تَحلُّ الرغبة في توسيع القدرة الفردية محلّ الشرعية الجماعية لها، مما قد يجعلنا نعاين «تخبطاً لاعقلانياً» في الحياة السياسية، وقد احتفظ لنا التاريخ ببعض الحكايا من هذا القبيل، ولربما كتاب ريجيس دوبري في نقد العقل السياسي، قد حاول المنافحة على الأطروحة ذاتها، أعني – وكما بين نصّار – اختراق اللاعقل للحياة السياسية: «لقد أراد دوبريه، في ضوء تجربة سياسية ثورية فاشلة، تصفية الحساب مع وعيه الإيديولوجي الماركسي، فأخضع الإيديولوجية لنقد جذري أوصله إلى طرح السؤال عن طبيعة الحياة السياسية في ذاتها، لا كما تُصورُها الإيديولوجية، وبالأخص الإيديولوجية الماركسية الشيوعية»‏[15]. تحليلات ريجيس دوبريه بالنسبة إلى نصّار، وإن صحّت على الأيديولوجية الماركسية، فإن تعميمها على كل النظريات إجراء غير فلسفي، فليس العقل السياسي الماركسي هو الوحيد على أرض التحليل الفلسفي للظاهرة السياسية، ثم إن صحة محكومية «لعبة السياسة» واقعياً باللاوعي، لا يعني انطباق الأمر نفسه على المستوى النظري، «وهذا يعني أنه ينبغي التمييز بين العقل في الحياة السياسية الفعلية الذي هو ماهيتها ومنطقها، وبين العقل في الفكر السياسي، ثم بين العقل عند الفاعل السياسي وبين العقل عند الباحث في السياسة»‏[16].

بادٍ أن العقل السياسي يستوجب التعقل المعرفي للظاهرة السياسية؛ حتى لو حكمتها مختلف أشكال الهوى والعبث. قد لا يُنتِجُ السياسيُ المعرفةَ، لكن من متطلبات الحكم الدراية والمراس بمختلف ضروب العلم. السياسي بحاجة إلى كل ما يمت لـ «علوم الدولة» بصلة، لقد نادى «سقراطُ أفلاطون» يوماً، أن حكّمُوا عليكم الفلاسفة، أو فليتعلَّمِ الحكامُ الفلسفة، والفلسفة عنده ليست إلا الكل في الكل. وللأمر ما يبرره حقيقةً، فغير خافٍ أن لا علم إلا ومطلوب الإلمام به، أو على الأقل الاطلاع على بعضه، طالما أن الحاكم حاكم على الكل: علماء وفلاسفة وفنانين وأدباء ومخترعين… إلخ. قوسٌ نفتحه لنغلقه: لقد ولّى زمان سعي الحاكم إلى تعلم مختلف ضروب المعرفة، مع تغلغل «علم الإدارة الوصفاتي» إلى تكوين الساسة.

– 9 –

يبدو أن استحالة إحاطة الحكام بصروح المعرفة والعلم، دفعت «ندماء الحكام» و«خبراء الحكم»، إلى اكتشاف مخرجِ هيئات الاستشارة، سواء وَجدت تعبيرها في أفرادٍ مقرّبين من الحاكم، أو في مؤسسات محكومة بقوانين خاصة، تفوض لها سلطة اتخاذ القرارات في ميدان خاص بعينه. وفي مجمل هذه الحالات، يمسي «الإنصات لصوت العقل»، واجباً من واجبات المتدخل في السياسة. فكما أن «العقل الطبي» لا يباشر عمله إلا إذا خبر علوم الطب والصحة، فإن «العقل السياسي مضطر [بدوره] إلى التوسع لكي يتعامل مع هذه الموضوعات بما يلزم للإحاطة بالظاهرة السياسية إحاطة شاملة، وهو مضطر إلى ذلك بدرجة أشد عندما يكون فاعـلاً سياسياً في موقع السلطة»‏[17]. على العقل السياسي، كما يفهمه نصّار أن يزاوج بين صلابة التكوين النظري، وحنكة الفعل العملي. لاستخلاص الجوهري، عليه أن يصف مترصداً العابر في السياسة بمجهر العالم، وأن يعمق ملاحظاته ناظراً فيها بتأني الفيلسوف. وهذا يعني تداخل ثلاث وظائف في العقل السياسي: التفسير أولاً؛ والمعيرة ثانياً؛ والتيسير ثالثاً؛ فإذا غلب «التوجيه العلمي» على وظيفة التفسير والتيسير لصلته بدراسة الواقع السياسي، فإن المعيرة تقتضي «التقدير الفلسفي» لتعلقه بسياسة القيم والغايات المثلى. تجدر الإشارة أن السابق ذكره، لا يعني اختصاص كل عقلٍ بشقٍّ دون الآخر، بقدر ما يتعلق الأمر بسلَّمِ أولويات لا غير، وهو ما يظهر أكثر في حالة «العقل الوسائلي»، حيث تضافرهما معاً (العلمي والفلسفي) لمعرفة الملائم ضمن المتاح.

– 10 –

لا يقتصر نصّار على البحث النظري في التفاعل بين السلطة السياسية والسلطة العقلية، وإنما يتجاوزها للتفكير في بعض الحالات التي يستفيد فيها السياسي من المعرفي، وبالأخص حينما يرتبط ذلك بمجتمع متعيّن في المكان والزمان، إذ يستدعي مقولة «الخبير» لشرح ذلك، باعتباره تجلياً «للتعاون الميداني» بين العقل والسياسة من ناحية، وهو الذي يحوز «المعرفة الملائمة» في مجال اختصاصه للقيام بمعالجة المشكلات التي تصادفها الدولة من ناحية ثانية.

أضحى الخبير سلطة قائمة لوحده في السياسات المعاصرة: هذا خبير في العلاقات الدولية، وذاك في الشؤون الأفريقية، وآخر في الأمن والعسكر وغيره كثير، الخبير كاختصاص معرفي نموذج من نماذج رغبة السلطة السياسية في الاستفادة من خدمات العقل، لدرجة لجوء بعض الدول إلى الاستعانة بـ «خبراء» لتدبير شؤون العامة، من خلال ما يعرف في «إعلام السياسة» بـ «التكنوقراط». أخذ الخبير مكان الجميع، وتسيَّد منصات الإعلام، سفسطائي – بعين أفلاطونية – جديد: قد يموّه، ويغالط، لكن حلوله السحرية تجذب النظارة من مختلف البقاع السيارة…

يحمل التكنوقراطي رؤية تقنية – وربما تقنوية – للحكم. إنه وريثٌ للرغبة الحديثة في المماثلة بين «الطبيعيات» و«الإنسانيات»، يضع ثقته الكاملة في رموز «العلم بالعمل» ووسائلهم الناجعة. مختص في إدارة الأزمات، وعملي في تشخيص المشكلات، وكَفْءٌ على مستوى الإنتاج والتنظيم. ولعل الرأسمالية قد أجادت ترجمة الجهود التكنوقراطية لاختصار المسافة بين «الفعالية والإنتاجية»، شعارها في شكلها الحالي، تحقيق أكبر ربح في أقصر مدة وبجهد وتكلفة أقل، أيعني هذا اختصار المسافات في الحكم كذلك، وتولي «الخبير» لمهمة إدارة أمور الدولة؟

لفصل القول في سابق سؤالنا، يعتمد نصّار عنصر «الثقة»، مستعيداً مجاز «الطبيب» مرة أخرى. فالثقة بين المريض والطبيب مقتضى مركزي في مباشرة عملية العلاج والتطبيب، والشيء نفسه يصدق على العمل السياسي. للخبير الحق في الحكم شريطة الحصول على تفويض مجتمعي من طرف الإرادة الجماعية، آنئذٍ لا حرج في الحديث عن «حكم الخبراء»، فهل يعني ذلك القول بأفضليته؟

– 11 –

قلنا إن نصّار فيلسوف الحدود بامتياز، ومن جماليات تفلسفه أنه يعرض الفكرة ويقلِّبها من جوانبها، ويبينُ حجج القائلين بها قبل الانتقال إلى نقدها والتوسع في ممكنات الاعتراض عليها. فبعد عرضه مزايا الحكم التكنوقراطي، سينقلنا إلى ما يمكن أن نعيبه عليه، من جهة كونه يماثِل بين «هندسة النفوس» و«هندسة الإدارة»، بين الشعب والماكينات. بين ذوات يُفترض أن تكون لها كرامة، وبين رغبة مستعرة في الربح. المماثلة بين الاثنين، لا يمكن إلا أن تؤدي إلى ما يشهده العالم من رعب: موت الآلاف مقابل أرطال من البترول، قد يبدو معادلة عادلة لتكنوقراطيٍّ مهجوسٍ بمراكمة الأرباح؛ ولو حقق ذلك على حساب الأرواح.

التكنوقراطي سليلُ رؤية تقنوية للعالم. لا يحظى فيها الإنسان بكبير أهمية، إلا بوصفه «حيواناً آلياً» مُفَبْركاً للأدوات بلغة نصّار، مما يسائل وضعه ككائن يتميز بالحرية والوعي والكرامة، وبالأخص حينما يحصر النظر إليه في ثنائية «الإنتاجية والاستهلاكية»، وهو ما لا حَظَّ له في النظرية الواقعية الجدلية، مثله في ذلك مثل تبرمها من استبداد الأيديولوجيا واجتياحها لعواطف الحاكم. التكنوقراط والعقائديات بمختلف أشكالها تشويش على عقلنة القرار السياسي، وهو ما ينجم عنه اعتلال «فلسفة السلطة» وتقوية «سياسة السيطرة»، وخصوصاً حينما توازيها عمليات «تسييس النشاط العقلي» إن بالتخويف، أو التزييف، أو الاستمالة، أو التضليل، أو الاستبعاد، أو التهميش، فإذا وقع ذلك، فإنه على الفلسفة أن تضطلع بأدوار النقد، والإدانة والتنبيه إلى مخاطر مس حرية الفكر واستقلالية العقل.

لم يندفع ناصيف نصّار في فلسفته حول السلطة إلى «انسيابية الأحداث» من حوله، والصخب الإعلامي المواكب لها، لكنه وفي الآن ذاته، لم يبق مرتهنا لـ «عزلة الفيلسوف»، فاصطنع لنفسه منهج «الواقعية الجدلية»، لمقاربة سؤال السلطة ومواصلة توسيع فلسفته في الفعل. مترفعاً عن «الواقعية الساذجة»، ومنفلتاً من عقال ثنائيات إما… وإما…، وقد بدا لنا، من خلال مطالعة أعماله، أن المنزع الواقعي الجدلي في فلسفة نصّار، كان متساكناً مع «عقلانيته النقدية»، فأفاده ذلك في «التلقي النقدي» لمختلف الاجتهادات، التي تدور في مدار ما سكنه من أسئلة وإشكالات، مؤسساً استيعابه لها في ضوء تحديات العصر، وناظراً إليها انطلاقاً من مشكلات الحضارة التي يحسب عليها، حتى يتاح له التأسيس المفهومي لمشروع النهضة العربية الثانية، وفي الوقت نفسه تقديم نظريته كعربون وفاء لوعده بالحق في ادعاء القدرة على «الإبداع العربي الفلسفي»، حتى لو اتصل المبحث المراد التفلسف في رحابه بتقاطعات السياسي والأخلاقي، وما يستتبعهما من مطالب التدقيق والتمحيص والتؤدة وعدم الاستعجال، كما هو حال «منطق السلطة».

– 12 –

صفوةُ القولِ، إنّ فَرادَة ناصيف نصّار تتمثل بالأساس في بناء متنه الفلسفي متجاوزاً «سجالات» عصره حول «النّحن» و«الهُم»، وعنايته بالإسهام الفلسفي في مختلف القضايا، التي رأى في الكتابة حولها مدخـلاً من مداخل التفلسف، وعلى رأسها سبُل شَيد نظرية في الدولة والتاريخ؛ كما وعد في مفتتح أول مؤلفاته، التي اهتم فيها بابن خلدون‏[18]، ليَفيَ بما قطعه من وعود، مستقصياً حقيقة العلاقة بين التربيع المفاهيمي القائم على: العقل والسلطة والحرية والعدل، وذلك غايةُ ما رُمْنا بيانَه في هذه المقالة.

 

قد يهمكم أيضاً  الإبداع الريادي في فلسفة الأمل عند ناصيف نصار قراءة في كتاب «النور والمعنى»

للمزيد حول ناصيف نصار  الذاتية والوعي الفلسفي بالوجود في نظرات ناصيف نصار

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #ناصيف_نصار #السلطة #فلسفة #منطق_السلطة #فلسفة_السلطة #دراسات