المصادر:
(*) تمثّل هذه الدراسة قراءة تحليلية نقدية في كتاب: ناصيف نصّار، منطق السلطة: مدخل إلى فلسفة الأمر، ط 3 (بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، 2018).
وقد نُشرت الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 475 في أيلول/سبتمبر 2018.
(**) عبد الواحد آيت الزين: باحث في الفلسفة – المغرب.
البريد الإلكتروني: ph_kh88@hotmail.fr
[1] نقصد من ذلك أَظْهَرَ كتب نصّار في التعبير عن فلسفته الخاصة، إذ وسمهما بـ: منطق السلطة، وباب الحرية، وحري بالذكر، أنهما ليسا الوحيدين في ذلك، فإلى جانبهما كَتَبَ ناصيف نصّار الذات والحضور، والنور والمعنى، وتعدّ هذه الرباعية من أرقى النصوص الفلسفية في الفكر العربي المعاصر، التي صاغ فيها فيلسوفنا نظريته في الوجود التاريخي، حيث رام فيها الممارسة الفعلية لما نعته في سبعينيات القرن الفائت بـ «الاستقلال الفلسفي». انظر في هذا الباب التآليف النصّارية التالية: طريق الاستقلال الفلسفي: سبيل الفكر العربي إلى الحرية والإبداع (بيروت: دار الطليعة، 1975)، منطق السلطة: مدخل إلى فلسفة الأمر، ط 3 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2018)؛ باب الحرية: انبثاق الوجود بالفعل، ط 2 (بيروت: دار الطليعة، 2013)؛ الذات والحضور: بحث في مبادئ الوجود التاريخي (بيروت: دار الطليعة، 2008)، والنور والمعنى: تأملات على ضفاف الأمل (بيروت: دار الطليعة، 2018).
[2] يميز ناصيف بين السلطة والسيطرة والسلطان والتسلط، ووجه التمييز بينها يتجلى في مدى ملاءمتها لمبادئ فلسفة الحق، وقيامها على قواعد العدل والعقل والحرية، ولأن السلطة كذلك فإن التربية عليها واجب فلسفي لطالما نادى به نصّار، من جهة ارتباطها بالتراضي المتبادل بين آمر ومأمور على الخدمة والقيادة، ويمثل التسلط تجاوزاً للسلطة وانتحال حق الأمر دون شرعية، مما يرمي به إلى عالم السيطرة، حتى إن نصّار يرادف بين «التسلط والسيطرة»، لاشتراكهما في الإحالة على عالم الإخضاع بالقوة، الذي قد يصل حدّ الاستعباد، وبمبررات شتى كالقصور الطبيعي للآخرين، أو وجود حالات طوارئ، أو الحفاظ على الأمن العام، وغالباً ما يلجأ إليها الحاكم المفتقد إلى سند شعبي يؤهله لـ «السلطة»، أما السلطان فتأثير في النفوس (كاريزما) وترسيخ لطقوس الهيبة والخوف وبخاصة لمّا يتحول السلطان إلى تسلطن. وحول العلاقة بين هذه المفاهيم فهي ليست بالثبات المطلق، لنزوع السيطرة إلى إضفاء الشرعية على نفسها والتحول إلى سلطة، ولجذبِ الرغبة في التسلط لصاحب السلطة، ولجاذبية «السلطان» لنفوس الجميع، غير أن شرعية الحكم تنفقد، كلما حادت عن مطلبَي الحرية والعدل، لأنهما الحامي المركزي للحق في الأمر، وواجب الطاعة (من ناحية الحاكم)، وللحق في خدمات جليلة، وواجب توفيرها (من ناحية المحكوم).
[3] في تحليله الدقيق لمفهوم المسؤولية، يؤكد ناصيف نصّار أن مستلزماتها البعدية لا تتوقف عند الفعل فقط، إنها تتعداها إلى اللافعل، فكما أن الحاكم مسؤول عما فعَلَهُ، فإنه مسؤول أيضاً عمّا لم يفعله لحظة اقتضاء الفعل. «فالمسؤولية عنصر مركزي في علاقة السلطة. وليس الحاكم مسؤولاً إلا لأن فوقه سائـلاً يسأله عما فعل بالأمانة التي تسلمها منه» (نصّار، منطق السلطة: مدخل إلى فلسفة الأمر، ص 261). لنُحِل في هذا السياق على قراءة ميلان كونديرا لتراجيديا أوديب في كائن لا تحتمل خفته، ترجمة ماري طوق، ط 3 (بيروت؛ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2013)، القسم الخامس الموسوم بـ «الخفة والثقل»، ويمكن الرجوع أيضاً إلى: محمد موهوب، ترجمان الفلسفة (مراكش: المطبعة والوراقة الوطنية، 2011)، ص 109 وما بعدها.
[4] نصّار، منطق السلطة: مدخل إلى فلسفة الأمر، ص 115 – 116.
[5] دعا ذلك نصّار إلى تخصيص المعارضة بوضع اعتباري، لأهميتها الحاسمة في تسييد منطق السلطة واستبعاد منطق السيطرة من جهة، ولأن الاختلاف بين أفراد المجتمع، يحتم وجود آلية لتدبير ذلك وتنظيمه خاصة على مستوى الآراء والاختيارات ذات الصلة بالسياسة والدين والأيديولوجيا، لهذا يعتبر نصّار «غياب المعارضة» دليـلاً على وجود خلل ما فيها، منتقداً العمل على «شرعنة المعارضة» وإظهارها بمظهر المتآمر والخائن، ومميزاً بينها وبين التمرد والعصيان، ويرى أن اللجوء إلى مثل هذه الأساليب لمحاربة المعارضين علامة على ضعف صاحب السلطة وعدم ثقته في شرعيته (منطق السلطة، ص 95 – 96).
[6] المصدر نفسه، ص 81.
[7] يقول نصّار بحزم: «إن أنا الدولة غير أنا الحاكم، والحاكم الذي يقول، من دون شعبه، أنا الدولة، يرتكب جريمة الاعتداء على سلطة الدولة» (المصدر نفسه، ص 93).
[8] المصدر نفسه، ص 77.
[9] المصدر نفسه، ص 83.
[10] نستحضر في هذا الباب شهادة محمد الشيخ في حق ناصيف نصّار، لما اعتبره فيلسوفاً حدِّياً، وهو محق في ذلك، فنصّار نفسه، ما فتئ يذكر أن دور الفلسفة الأساسي لا يخرج عن سياق «وضع الحدود»، يقول محمد الشيخ إن نصّار «ما كان من ضرب المفكرين الذين يرومون التأصيل – تأصيل المفاهيم – ما كان مفكراً «أصالياً» – بحسب عبارة رضوان السيد – وإنما هو مفكر «حدي»، أي مولع ومغرى برسم الحدود». انظر: محمد الشيخ، «في نقد التسامح،» ورقة قدمت إلى: ناصيف نصّار: من الاستقلال الفلسفي إلى فلسفة الحضور، تحرير عبد الإله بلقزيز (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2014)، ص 173. ويبدو أن قول الشيخ بشأن «حدود التأصيل المفهومي» لدى نصّار بحاجة إلى مساءلة أكيدة، في ضوء أعمال نصّار في مفاهيم الحرية والسلطة والزمان والتاريخ وغيرها.
[11] انظر: ناصيف نصار، في التربية والسياسة: متى يصبح الفرد في الدول العربية مواطناً؟، ط 2، مزيدة (بيروت: دار الطليعة، 2005). انظر أيضاً قوله بخصوص حدود تدخل الدولة في تحديد نظام التربية والتعليم، ورفضه لاحتكاره من طرفها، وذلك في كتابه: الديموقراطية والصراع العقائدي (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017)، ص 79.
[12] في محاضرة دقيقة، وسمها بـ «الديموقراطية وسياسة الحقيقة»، نقرأ لناصيف نصّار ما يلي: «تجتمع في سياسة الحقيقة فلسفة السياسة وفلسفة الحقيقة، ولكن من دون تأليف بينهما، لأن فيلسوف الحقيقة يرى إلى سياسة الحقيقة وعينه على المعرفة وفيلسوف السياسة يرى إلى سياسة الحقيقة وعينه على المصلحة» (ص 8)، ليستنتج أن التعالق الموجود بين الفلسفة والديمقراطية، يجعل هذه الأخيرة ضمانة أساسية لحماية «الحق في الحقيقة»، «ففي المنظور التاريخي المقارن، تبدو الديمقراطية حاضنة لانقلاب كبير في سياسة الحقيقة بالنسبة إلى ما سبقها من عصور الاستبداد بالحقيقة. وأصل هذا الانقلاب كامن في التناقض بين مبادئ النظام الديمقراطي ومبادئ النظام الاستبدادي» (ص 10). للتوسع، يرجى الرجوع إلى هذه المحاضرة القيمة: الديموقراطية وسياسة الحقيقة (جبيل: منشورات المركز الدولي لعلوم الإنسان – بيبلوس، 2014)، والتي تعود أهميتها – زيادة على العمق النظري لصاحبها – أنها أعقبت «الرّجات» التي شهدتها دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، المعروفة في «سوق الإعلام» بـ «الربيع العربي»، وقد كان واضحاً أن نصّار، وهو يدبج أفكاره، كان يضع نصب عينيه هذه المستجدات السياسية، التي استفتح نصّار محاضرته بالإشارة إليها، واصفاً إياها بـ «التحولات السياسية الصاخبة».
[13] وإن كان هناك من يظن أن بعض المآسي ترجع إلى الثقة الزائدة في العقل، لما يشده من علاقات بالعلم والتقنية الحديثة، والتي تجلت آخر فتوحاتها في تأثيراتها على البيئة، وما ينجم عن ذلك من تأثير على الحق في الحياة. لكن يمكن أن نعترض على هذه الأطروحة باعتراضات نصّار على سيد قطب، عندما بَيَّنَ الفرق بين الثقة في العقل وعبادة العقل، فالعقل يبقى متلازماً مع العدل والحرية فلا يحل محلهما، وإنما يعمل في تجاور معهما، وما لم يستوعبه سيد قطب هو إمكان الثقة في العقل دون تأليهه، فسلطة العقل لدى نصّار سلطة إنسانية مَرَامُها تيسير سبل العيش دون إلحاق الضرر بالآخرين، وهي سلطة نسبية مرنة منفتحة، والمحافظة على استقلاليتها شرط لقيامها بعملها، فنصّار يرى أن سبب «المآسي» التي يبدو للبعض أنها من فعال العقل، ليس إلا التوظيف السياسي والأيديولوجي له، خاصة في الحقبة الحديثة، «فالأغلال التي يمكنها أن تكبل العقل في الحياة الاجتماعية متعددة المصادر. ولكنها لا تفعل فعلها من دون توسط السلطة السياسية، الذي يمكنه أن يكون مجرد وسيلة كما يمكنه أن يكون التزاماً وتوجهاً واعياً» (منطق السلطة، ص 303).
إن تخصيص العقل بهذا التقدير، لا يقف أمامه إلا تقدير نصّار للحرية، وفي معرض مناقشته لكانط وجدل الإرادة والعقل، أوضح أن سلطة العقل لا تعني إخضاع الحرية إليها، أو التوحيد بينهما كما القول «الإرادة العاقلة»، وإنما يعني التمييز بينهما من جهة اختصاص العقل بالمعرفة والإرادة بالفعل، «فكما أن العقل يتمتع بقدرة على البدء من ذاته في ميدان المعرفة، كذلك تتمتع الإرادة بقدرة على البدء من ذاتها في ميدان الفعل» (باب الحرية: انبثاق الوجود بالفعل، ص 175). مع إمكان تضافر الاثنين أحياناً كما هو الشأن بالنسبة إلى «عقلنة الإرادة الغائية»، إذ «لا الإرادة الحرة تكتفي بذاتها في وضع الغاية والسعي إليها، مع أن فعل الوضع نفسه هو منها، وليس من غيرها، ولا تدخلَ العقل يضمن بصورة مطلقة بلوغ الغاية» (المصدر نفسه، ص 177). وبهذا الشكل يمكن الحديث عن التعاون الوظائفي بين العقل والإرادة دون رد أحدهما إلى الآخر.
[14] نصّار، منطق السلطة: مدخل إلى فلسفة الأمر، ص 354.
[15] المصدر نفسه، ص 315 – 316.
[16] المصدر نفسه، ص 318.
[17] المصدر نفسه، ص 319.
[18] ناصيف نصّار، الفكر الواقعي عند ابن خلدون: تفسير تحليلي وجدلي لفكر ابن خلدون في بنيته ومعناه، ط 4 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2016).
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.