في الأول من أيار/مايو 2017 أصدرت حماس ما أسمتها «وثيقة المبادئ والسياسات العامة»‏[1] بعد تكهنات استمرت سنوات بأن الحركة تعكف إما على تغيير ميثاقها الأصلي الذي أصدرته عام 1988، وإما على صوغ وثيقة سياسية جديدة تعيد الحركة من خلالها تقديم نفسها وفكرها في ضوء خبرتها المتراكمة ونضج تجربتها. الوثيقة التي بين أيدينا تقدم مؤشراً مهماً على الشوط الذي قطعته حماس في مسيرتها السياسية، إن لجهة الفكر والنظرية أو لجهة الممارسة العملية، وتعيد التشديد على مواقف الحركة القديمة والثابتة إلى جانب طرح بعض المواقف الجديدة. ويحيلنا التأمل في توقيت إصدار هذه الوثيقة، إضافة إلى التدقيق في مضامينها المهمة وإمكانات تطبيقها؛ إلى اعتبار هذه الوثيقة بمنزلة ميثاق جديد لحماس، ذلك بأنها تفصّل رؤية الحركة للنضال ضد «المشروع الصهيوني» وإسرائيل، كما تحدد خطوط استراتيجيتها العامة في مواجهة ذلك المشروع. وفي ضوء جدة كهذه، وتجدد لميثاق حماس، تهدف هذه الدراسة إلى طرح تحليل، نأمل أن يكون دقيقاً وموضوعياً، يتناول جوهر الوثيقة الجديدة ومضامينها ومحاولة تخطيها إشكاليات فكرية وسياسية ظلت تواجه حماس في السنوات الماضية، كما تتعرض الدراسة لما قد يترتب على إصدار الوثيقة من فرص ومخاطر محتملة. وسوف يُستهلّ النقاش هنا بتسليط الضوء على تلك الجوانب من الوثيقة التي يمكن عدّها مغايرة لما جاء في ميثاق حماس الأصلي الصادر في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، والتي تشير إلى تغيّر في خطاب الحركة، إن لجهة الصياغة أو لجهة المضمون. يلي ذلك تقديم تحليل سياقيّ يستكشف الدوافع الإقليمية، والدولية، والداخلية وراء إصدار هذه الوثيقة. وأخيراً، يُختم النقاش باختبار ما للوثيقة من نتائج محتملة على الحركة نفسها، وكذلك على الفلسطينيين وعلى الصراع مع إسرائيل.

ابتداءً، ثمة ملاحظة أولية تخصّ النبرة واللغة العامة ومجمل الصياغة اللفظية للوثيقة. وهنا يمكن القول إن لغة الوثيقة تتسم بصياغات مباشرة تغلب عليها الصياغات السياسية البراغماتية. وهذه اللغة تأتي على النقيض من لغة النصوص التأسيسية الأولى للحركة، مثل ميثاق حماس الأول وغيره من الوثائق التي هيمنت عليها لغة خطابية دينية فضفاضة وتعبيرات طوباوية مربكة. تعبر وثيقة حماس الجديدة عن مواقف الحركة من القضايا الجوهرية للصراع العربي – الإسرائيلي في ديباجة واثنتين وأربعين فقرة مرقمة ومصاغة بعناية ومن دون رطانة لغوية فائضة. وفي حين تؤكد الوثيقة التزام الحركة بمبادئها الأساسية، فهي تبدي قسطاً وافراً من المرونة عبر ترك مساحات رمادية تمكّن حماس من المناورة السياسية في المستقبل. لكن هذه المحاولة الحذرة من المقاربة والتسديد تتناقض، عملياً، مع ما تحاول الوثيقة والحركة تحقيقه في الوقت نفسه، من إرضاء توقعات واشتراطات متنافرة لأطراف متعددة من الفرقاء، وأهمهم: القاعدة الحركية الأساسية لحماس ودوائر مؤيديها الأوسع داخل فلسطين وخارجها، وحلفاؤها الإسلاميون في المنطقة وخارجها (وتحديداً المنظمات المرتبطة بالإخوان المسلمين)، ثم الحكومات العربية وغير العربية في المنطقة (وبخاصة إيران وتركيا)، وأخيراً ساسة القرار الغربي والإسرائيلي. وليس من السهل بطبيعة الحال تدبيج وثيقة سياسية أو اجتراح خطاب سياسي يتمكن من إرضاء هذه الأطراف مجتمعة. لهذا، ما إن تمّ الإعلان عن الوثيقة حتى صدرت انتقادات بحقها من أطراف متنوعة تعددت بتعدد دوائر من تخاطبهم. كما تباينت حدة تلك الانتقادات باختلاف الأطراف ومواقعها، فكان هناك الاستخفاف بالوثيقة وبحماس لجهة عدم طرح ما هو جديد، وكان هناك في المقابل الاتهام بالتنازل عن الكثير بلا مبرر ودونما مقابل. وكان الرد الإسرائيلي الرسمي استعلائياً واحتقارياً للإثنتين، الوثيقة وحماس، واتصف بالجلافة، وبخاصة مع تمزيق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نسخة من الوثيقة أمام الكاميرات التلفزيونية‏[2]. أما المنظمات الإسلامية الشقيقة لحماس، مثل الجهاد الإسلامي في فلسطين، فقد انتقدت الوثيقة بسبب ما رأته من إعادة إنتاج للبرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي أدخل الفلسطينيين في متاهة‏[3]. أما الردود الأمريكية والأوروبية فبدت باردة في العلن، وإن كانت في ما يبدو قد أولت الوثيقة اهتماماً شديداً «من خلف الستار».

أولاً: الوثيقة: مضامين جديدة؟

في الديباجة والمقدمة تطرح الوثيقة تعريفاً لافتاً للنظر يبتعد من التعريفات الدينية السابقة لفلسطين التي درجت الحركة على اعتمادها. ينص التعريف الجديد على التالي: «فلسطين أرض الشعب الفلسطيني العربي، منها نبت، وعليها ثبت، ولها انتمى، وبها امتدّ واتّصل». تختلف هذه الصياغة اللفظية إلى حد بعيد عن نظيرتها في ميثاق عام 1988 التي تصف فلسطين بـأنها «وقف إسلامي» وملك للأمة الإسلامية جمعاء. لكن في الوقت نفسه، وبهدف المحافظة على قدر من «إسلامية» الخطاب ورطانته، تشير الوثيقة الجديدة إلى البعد الإسلامي وإن كان مُخففاً من ناحية سياسية، وتؤكد بعبارات عامة أن «فلسطين روح الأمة، وقضيتها المركزية، وروح الإنسانية، وضميرها الحي». رغم ذلك، يظل زخم الديباجة متركزاً في فلسطين حصرياً، خلافاً لديباجة الميثاق الأول التي تحيل القضية إلى مواجهة كونية بين «قوى الحق والباطل» وتموقع الصراع ضمن إطار حرب أبدية بين المسلمين وغير المسلمين.

استتباعاً لذلك، وتحت العنوان الفرعي «أرض فلسطين»، تحدد الوثيقة أرض فلسطين جغرافياً بأنها تلك الممتدة «من نهر الأردن شرقاً وإلى البحر المتوسط غرباً، ومن رأس الناقورة شمالاً إلى أم الرشراش جنوباً»، ثم يؤكد هذا الجزء من الوثيقة أن فلسطين «وحدة إقليمية لا تتجزّأ، وهي أرض الشعب الفلسطيني ووطنه»، ويتبع هذا التحديد الوطني الجغرافي الواضح، إشارة إسلامية عامة تنص على أن «فلسطين أرض عربية إسلامية. وهي أرض مباركة مقدّسة، لها مكانتها الخاصة في قلب كل عربي ومسلم». ومن اللافت للنظر أيضاً أن الوثيقة تستعير من ميثاق منظمة التحرير (المُنقح) لعام 1968 تعريفاً محدداً لـ «شعب فلسطين» ينص على ما يلي: «الفلسطينيون هم المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون في فلسطين حتّى سنة 1947، سواء من أخرج منها أم بقي فيها؛ وكل مَنْ ولد من أب عربي فلسطيني بعد هذا التاريخ، داخل فلسطين أو خارجها، هو فلسطيني. … الشخصية الفلسطينية صفة أصيلة، لازمة، لا تزول، وهي تنتقل من الآباء إلى الأبناء». تقدم هذه الاستعارة الواضحة والواعية من الميثاق الفلسطيني رسالة مهمة ومثيرة من جانب حماس، وتدلل على تواصل منحنى «الفلسطنة» داخل فكر الحركة ومنظورها وسياستها على حساب «الأسلمة» التي عُرفت بها الحركة.

وعلى هذا المنوال «الفلسطيني» يأتي توصيف حماس لنفسها تحت الجزء المعنوَن بـ «الحركة» المُصاغ بلغة شديدة البعد عما يقابلها في ميثاق عام 1988. فالوثيقة هنا، وخلال عرض الغرض من وجود حماس، تشدد على أهمية الأبعاد الوطنية والمقاومية أكثر كثيراً من الأبعاد الدينية والوحدة الإسلامية وسوى ذلك، أو ارتباطها بحركة «الإخوان المسلمين» وإعلان نفسها ذراعاً لتلك الحركة في فلسطين. فهنا تعرِّف الحركة نفسها كما يلي: «حركة المقاومة الإسلامية «حماس» هي حركة تحرّر ومقاومة وطنية فلسطينيَّة إسلامية، هدفها تحرير فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، مرجعيَّتها الإسلام في منطلقاتها وأهدافها ووسائلها». وتأتي الصفة الفلسطينية الوطنية في هذا التعريف سابقة للصفة الإسلامية الدينية، وهو ترتيب لا يمكن النظر إليه بعفوية ولم يأخذ هذا الشكل بطريقة اعتباطية.

لا تقتصر الجِدةَ في تعريف الصراع وتحديده بصيغ لفظية ومفردات وطنية في وثيقة 2017 على كونها مجرد شكل لغوي، بل هي أيضاً أمر يجري تأكيده مراراً ويعبّر عنه بصورة واضحة تحاول تفادي اللبس. وفي هذا توكيد للافتراق عن منطوق الميثاق الأول الذي يصور الصراع ضد إسرائيل كصراع ديني. فهنا تؤكد حماس في الوثيقة الجديدة وبجلاء أن «الصراع مع المشروع الصهيوني ليس صراعاً مع اليهود بسبب ديانتهم؛ وحماس لا تخوض صراعاً ضد اليهود لكونهم يهوداً، وإنّما تخوض صراعاً ضد الصهاينة المحتلين المعتدين؛ بينما قادة الاحتلال هم من يقومون باستخدام شعارات اليهود واليهودية في الصراع، ووصف كيانهم الغاصب بها». ومن باب الإنصاف، تنبغي الإشارة هنا إلى أن حماس وقيادتها لطالما عبرت عن هذا الفارق بين الصهيونية واليهودية منذ أوائل التسعينيات، حيث تكرر هذا الموقف في كثير من التصريحات والبيانات منذ ذلك الحين. لكن رغم كل ما صدر عن حماس طوال عقود من تفريق واضح بين الصهيونية واليهودية، إلا أن كفة تصريحاتها أخفقت في أن ترجَح على كفة ميثاقها لعام 1988 وما يحمله من نبرة عداء للسامية، وبكونه الوثيقة الرسمية الأهم المُعبرة عن الحركة. والآن تطرح الوثيقة الجديدة إطاراً ومنظوراً للصراع ضد الصهيونية وإسرائيل من منطلق وطني ولا يموضع الصراع من منظور ديني.

في «الموقف من الاحتلال والحلول السلمية» تعبر الوثيقة عن موقف يعكس إجماع الحركة داخلياً على حل الدولتين، بمعنى تأسيس دولة فلسطينية ضمن حدود 1967. ورغم أن هذا الموقف ليس جديداً أو غير مسبوق، إلا أن تضمينه رسمياً إلى ما يمكن اعتباره ميثاق حماس الجديد بحكم الأمر الواقع له أهمية بالغة. ذلك بأن الموقف المستبطن هنا هو أن حماس تقبل بحل سلمي قد يفضي إلى قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. وتؤكد حماس أن قبولها بهذا المبدأ يأتي لأجل توثيق لحمة «الإجماع الوطني» وتدعيمها. وتنص الفقرة ذات الصلة على ما يلي: «لا تنازل عن أي جزء من أرض فلسطين، مهما كانت الأسباب والظروف والضغوط، ومهما طال الاحتلال. وترفض حماس أي بديل من تحرير فلسطين تحريراً كامـلاً، من نهرها إلى بحرها. ومع ذلك وبما لا يعني إطلاقاً الاعتراف بالكيان الصهيوني، ولا التنازل عن أيٍّ من الحقوق الفلسطينية فإن حماس تعتبر أن قيام دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة».

تتناول الوثيقة أيضاً اتفاق أوسلو تحت العنوان الفرعي نفسه أعلاه. والعنصر الجديد واللافت للنظر هنا هو موضعة موقف حماس الرافض لأوسلو ضمن إطار السجال السياسي ومبادئ القانون الدولي بدلاً من الركون إلى المسوغات الدينية. ميثاق عام 1988 هاجم الحلول السلمية كما هاجمت وثائق حماس الأخرى اتفاق أوسلو وغيره من «اتفاقيات التنازل» بسبب تفريطها بأرض الإسلام. أما في الوثيقة الجديدة فيأتي تبرير رفض أوسلو مختلفاً كثيراً حيث: «تؤكد حركة حماس على أن اتفاقات أوسلو وملحقاتها تخالف قواعد القانون الدولي الآمرة من حيث إنها رتبت التزامات تخالف حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، ولذلك فإن الحركة ترفض هذه الاتفاقات، وما ترتب عليها من التزامات تضر بمصالح شعبنا، وخاصة التنسيق (التعاون) الأمني».

القسم الخاص بـ «المقاومة والتحرير» من الوثيقة الجديدة يتباين أيضاً وإلى حد كبير، في لغته وصياغته، مع ميثاق 1988 وغيره من الوثائق السابقة، إذ تؤكد الوثيقة وبوضوح الحق في النضال التحرري الوطني الذي ينطلق أساساً من القانون الدولي: «إن مقاومة الاحتلال، بالوسائل والأساليب كافة، حقّ مشروع كفلته الشرائع السماوية والأعراف والقوانين الدولية، وفي القلب منها المقاومة المسلحة التي تعدُّ الخيارَ الاستراتيجي لحماية الثوابت واسترداد حقوق الشعب الفلسطيني». على أن الأمر الأهم هنا هو ما يرد في هذا الجزء من توسيع لتعريف المقاومة كي يشمل فكرة «إدارة المقاومة» بصورة تتيح الجمع بين تكتيكات التصعيد والتهدئة مع غيرها من «الطرق والوسائل المتنوعة»، وهذا يشير إلى إمكان تجميد المقاومة و«إدارة» درجات ونوعية ممارستها. بناء على ذلك، وبالتوازي معه: «ترفض حماس المساس بالمقاومة وسلاحها، وتؤكد على حق شعبنا في تطوير وسائل المقاومة وآلياتها. وإنَّ إدارة المقاومة من حيثُ التصعيدُ أو التهدئة، أو من حيث تنوّعُ الوسائل والأساليب، يندرج كلّه ضمن عملية إدارة الصراع، وليس على حساب مبدأ المقاومة».

وفي جزء معنوَن بـ «النظام السياسي الفلسطيني» تتوجه الوثيقة بصياغتها اللغوية ووجهات نظرها إلى الشعب الفلسطيني والساحة السياسية الفلسطينية. وهنا يمتاز الخطاب بنبرة تصالحية واضحة تهوّن من أمر التباينات، وتبرز نقاط التشابه، وتعلي من شأن الشراكة الوطنية. أما على صعيد الطرح الفكري، فيتم التشديد على الأفكار المتعلقة بالسياسة والممارسة الديمقراطية. وفي هذا الإطار فإن المقارنة مع الميثاق القديم تبرز جِدة اللغة المستخدمة في الوثيقة الجديدة التي تقول: «تؤمن حماس وتتمسك بإدارة علاقاتها الفلسطينية على قاعدة التعددية والخيار الديموقراطي والشراكة الوطنية وقبول الآخر واعتماد الحوار، بما يعزّز وحدة الصف والعمل المشترك، من أجل تحقيق الأهداف الوطنية وتطلعات الشعب الفلسطيني».

بعد ذلك تتجه الوثيقة لتناول قضية شائكة طالما واجهتها حماس، وهي الموقف من منظمة التحرير الفلسطينية وصفتها التمثيلية. قدَّرت حماس دائماً أن أي اعتراف بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني يحرم الحركة فرصة طرح نفسها كبديل. رغم ذلك، تجنبت الحركة أي رفض علني وصريح لتلك الصفة التمثيلية للمنظمة، لأنها تدرك الكلفة الباهظة لأي رفض من هذا النوع على شعبيتها وسط الأغلبية الفلسطينية التي تعتبر المنظمة مظلتها الوطنية السياسية. لكن حماس برفضها الانضمام إلى الفصائل السياسية الفلسطينية الأخرى تحت تلك المظلة، أثارت الشكوك دوماً حول مكانة المنظمة كـ «ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني». في الميثاق القديم، اشترطت حماس على المنظمة التخلي عن «أيديولوجيتها العلمانية» مقابل الانضمام إليها، وهو موقف لم يكن سوى مناورة بلاغية ولفظية تكفل للحركة تجنُّب الاعتراف بالصفة التمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية. في الوثيقة الجديدة تقر حماس بأن منظمة التحرير هي «إطار عمل وطني» للفلسطينيين وتدعو إلى إصلاحه وإعادة هيكلته لتصبح المنظمة إطاراً جامعاً بحق وبما يمهد طريق انضمام حماس إلى صفوفها. وحسب تعبيرات الوثيقة الجديدة، فإن «منظمة التحرير الفلسطينية إطار وطني للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج يجب المحافظة عليه، مع ضرورة العمل على تطويرها وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية، تضمن مشاركة جميع مكونات وقوى الشعب الفلسطيني، وبما يحافظ على الحقوق الفلسطينية». كما يلمح هذا الجزء من الوثيقة أيضاً إلى ضرورة بناء المؤسسات الديمقراطية لتكون أساساً للشراكة الوطنية؛ ويشدد على أن دور السلطة الفلسطينية «يجب أن يكون في خدمة الشعب الفلسطيني وحماية أمنه وحقوقه ومشروعه الوطني».

وأخيراً، تسلط الوثيقة الضوء على دور النساء في المجتمع الفلسطيني، وهو الدور الذي تعتبره الوثيقة «أساسياً» في «بناء الحاضر والمستقبل، كما كان دوماً كذلك في صناعة التاريخ الفلسطيني، ومحورياً في مشروع المقاومة والتحرير وبناء النظام السياسي». في ميثاق 1988، لم يتم النظر إلى دور النساء إلا من منظور ديني حيث تقول حماس إن «الأعداء» أدركوا أهمية دور المرأة وهم يحسبون أنهم إن تمكنوا من «توجيهها وتنشئتها النشأة التي يريدون، بعيداً عن الإسلام فقد ربحوا المعركة»، وعليه فإن من واجب حماس إعادة النساء المسلمات الفلسطينيات العلمانيات إلى الإسلام وتدريبهن لإرشاد وتعليم الأجيال.

آخر جزأين من الوثيقة، يحملان عنوانين فرعيين، هما «الأمة العربية والإسلامية» و«الجانب الإنساني والدولي»، ويتناولان معاً رؤية الحركة لعلاقاتها مع الدول والحكومات إقليمياً ودولياً. ما يهم حماس هنا، وبحسب ما تعبر عنه الوثيقة، أمران: أولهما، التشديد على سياسة الحركة في عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، حيث توجه الحركة هنا رسالة واضحة خاصة إلى مصر كما غيرها من حكومات ما بعد حقبة الربيع العربي بأن حماس لن تصطف إلى جانب أي طرف في النزاعات الداخلية والإقليمية: «حماس… ترفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول. كما ترفض الدخول في النزاعات والصراعات التي تجري بينها» – وثانيهما، تشديد الحركة على حصر صراعها في محاربة إسرائيل و«المشروع الصهيوني». وهنا من اللافت للنظر إمساك الحركة عن تسمية الولايات المتحدة والدول الغربية لدى الإشارة إلى ما تحظى به إسرائيل من دعم وتأييد من جانب هذه الدول، والاكتفاء بالتلميح: «تدين [حماس] دعم أي جهة أو طرف للكيان الصهيوني أو التغطية على جرائمه وعدوانه على الفلسطينيين».

ثانياً: أهمية الوثيقة وخلفياتها

القراءة المتعجلة لوثيقة حماس الجديدة قد تخلص إلى الاستنتاج المتسرع بأن ليس فيها جديد سوى القليل، إن كان لجهة ما عبرت عنه من أفكار ومواقف بعينها أو مجمل الوثيقة ككل. لكن التحليل المتأني يكشف عن جِدّة في الطرح والتناول، ويستكشف تلاوين من الفروق الدقيقة في المواقف والسياسات، وعن استعداد لترك ثغر وغموض في الصياغة تحقيقاً لهدفين في آن واحد: تبديد التصور القاضي بجمود حماس السياسي من ناحية، والإبقاء على تماسك موقفي وفكري وسياسي تعبِّر عنه الوثيقة من خلال سياسات رسمية جديدة تتحدث باسم الحركة جمعاء. وعند النظر إلى الوثيقة كأجزاء منفصلة، يتضح أن بعض المواقف المنصوص عليها ما هي إلا سياسات عبّرت عنها حماس خلال السنوات الماضية، إن عبر تصريحات قادة الحركة أو عبر بياناتها الرسمية. لكن حزمة المواقف السياسية المتباينة أو المبعثرة تلك لُملمت الآن وجُمعت على نحوٍ مترابط ورسمي في وثيقة واحدة، إلى جانب عدد آخر قليل وجديد من المواقف التي دمغت جميعاً بختم الحركة الرسمي. ورغم حقيقة أن العديد من هذه المواقف كان قد عبَّر عنها الناطقون الرسميون للحركة في الماضي، إلا أنها قوبلت أحياناً بالتشكيك انطلاقاً من أن من صرَّح بها أفراد لا يمثلون الحركة جمعاء، أو أنهم ينطقون بمواقف خاصة بهم. مثل تلك المحاججات كانت تساق بالأخص حيال قبول حماس بإنشاء دولة فلسطينية على حدود 1967، ذلك بأن أحد أهداف الحركة الأولى والأرسخ والمعلن عنها دوماً هو تحرير كامل فلسطين التاريخية.

بعض المواقف الواردة في الوثيقة الجديدة، التي عبرت عنها شخصيات من الحركة في أوقات مختلفة في الماضي، كانت تتهم بأنها غير جدية بل ذات طبيعة تكتيكية أو ظرفيّة مناوراتية صادرة تحت ضغط آني. ثم هناك الشكوك التي كانت تُستقبل بها آراء ومواقف محددة تصدر عن فروع حماس المختلفة (في قطاع غزة، الضفة الغربية، أو خارج فلسطين) وتثير التساؤلات حيال تمثيلها عموم الحركة أم لا. تنطوي هذه النقطة الأخيرة على أهمية خاصة تستوجب بعض الاستطراد. فهنا ثمة تصور شائع، ولكنه مضلل، عن حماس يقوم على تقسيم الحركة إلى فروع ثلاثة تكاد تكون منفصلة ولكل منها ملامح وصفات محددة: حماس قطاع غزة، وحماس الضفة الغربية، وحماس الخارج. ووفقاً لهذا التصور، فإن حماس غزة هي الجناح الأكثر «راديكالية»، أما حماس الضفة فهي الأكثر «اعتدالاً» في حين تقع حماس الخارج في منزلة بين المنزلتين، أو هي الفرع «الوسيط». على أن واقع حماس الداخلي من هذه الزاوية كان دوماً أشد تعقيداً. فراديكالية واعتدال ووسطية الآراء والقادة أمر موجود في صفوف الحركة المختلفة من دون شك، لكنها لا ترتبط وعلى نحو قاطع بموقع جغرافي دون الآخر. أي أن تطرف واعتدال أو وسطية المواقف والقيادات توجد في الجغرافيات الثلاث من دون أي تصنيف يربط نوع الموقف بالمكان. مع ذلك، وبناء على تلك الثلاثية الجغرافية المفترضة، فإن تصريحاً يقول به مسؤول في حماس الضفة، مثـلاً، قد يُرفض انطلاقاً من أنه غير ممثل للحركة جمعاء. من هنا تأتي وثيقة أيار/مايو الجديدة بهدف تبديد أي شكوك ما زالت ماثلة حيال المواقف التي يعتمدها قادة حماس ومجاميعها المتعددة، وهي المواقف التي تم تسطيرها رسمياً في الوثيقة الآن. وهكذا فإن الوثيقة، من هذه الزاوية، تحاول توحيد خطاب تلك الفروع الثلاثة حيال أشد القضايا الملحة التي غالباً ما تكون عرضة للخلاف والتباين. خلاصة الأمر، إن الوثيقة الجديدة لا تطور وتؤكد مواقف الحركة المختلفة فحسب، بل توحد أيضاً تصورات وخطاب ولغة الحركة السياسية بصفة رسمية ومؤسسية تمنع إثارة الجدل حولها.

1 – توقيت الوثيقة: لماذا الآن؟

ما الذي حمل حماس على الإعلان عن رؤيتها السياسية المعدّلة في هذا الوقت بالذات؟ هل هناك عوامل محددة وواضحة وراء إصدار الوثيقة، إنْ لجهة التوقيت والسياق، و/أو لجهة الإحساس بضرورة استهداف جمهور مباشر أو أطراف معينة من خلال هذه الوثيقة؟ يصعب تقديم أجوبة قاطعة عن هذه الأسئلة؛ بيد أنه من الممكن استنباط بعض المؤشرات عبر تفحص سياق إصدار الوثيقة وموضعته ضمن مشهد أوسع.

من أجل فهم سياق إصدار الوثيقة الجديدة من المفيد فحص أبعاد الضغط المتزايد على حماس منذ استيلائها على السلطة في قطاع غزة عام 2007، ثم تبدل عناصر أساسية في ذلك السياق تحديداً منذ اندلاع ما يعرف بالربيع العربي سنة 2011. صدرت الوثيقة مع حلول الذكرى العاشرة لتسلُّم حماس الحكم في قطاع غزة، وخلال السنوات العشر الماضية واجهت الحركة تضييقاً متصاعداً على خياراتها السياسية سواء على صعيد فلسطيني أم على صعيد إقليمي. وعملياً فقد بدأت حماس مواجهة التحديات التي نراها الآن وقد تراكمت في وجه الحركة مباشرة بعيد تسلّمها السلطة، عبر فرض حصار فوري على قطاع غزة بوجه عام، وعلى حماس بوجه خاص، من جانب إسرائيل بصفة رسمية ومباشرة ومن جانب مصر بصفة غير رسمية وغير مباشرة، وبقبول من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. منذ ذلك الحين، وورطة حماس تتمحور حول أربعة مسارات (خيارات) أساسية، لكل منها عنوانه الرسمي المحدد، الذي على حماس أن تطرقه وتقدم له حزمة تنازلات إن أرادت أن تفك الحصار الذي ضرب عليها وعلى قطاع غزة بمجمله‏[4].

المسار الأول تمثل بتركيز الجهد على إنهاء الحصار، والعنوان الرئيس والرسمي الذي كان على حماس أن تتوجه إليه في هذه الحالة هو القاهرة التي تمسك عملياً بمعبر رفح، وهو بوابة القطاع إلى العالم الخارجي. هنا كان على حماس أن تقبل فكرة تقديم تنازلات جدية لمصر على أكثر من صعيد لتواصل إدارة ذلك المعبر وفك الحصار. وربما كان الصعيد الأهم الذي يُرضي المصريين هو التعاون الأمني على طول حدود قطاع غزة مع سيناء ضد المجموعات الإرهابية العاملة ضد النظام المصري. لم يكن سهـلاً على حماس الانخراط في مثل هذا التعاون الأمني مع نظام رآه الإسلاميون الإخوانيون انقلابياً على الرئيس الإخواني محمد مرسي. المسار الثاني المحتمل الاندراج فيه بهدف فك الحصار كان داخلياً وتلخص بالاتجاه نحو المصالحة الفلسطينية، وعنوانه الرسمي الرئيس هو فتح والسلطة الفلسطينية، وهنا كان على حماس تقديم تنازلات للرئيس الفلسطيني يمكن أن تصل إلى التخلي عن كامل السيطرة على غزة. ومرة أخرى لم تكن حماس في وارد تقديم هذا التنازل، أو لم تكن الضغوط عليها قد تراكمت إلى درجة إجبارها عليه. المسار الثالث كان في القبول بهدنة طويلة الأمد مع إسرائيل مقابل تخفيف الحصار (رغم تردد مصر)، والعنوان الرئيس لهذا المسار كان بالطبع تل أبيب، وانطوى دوماً على مجازفة كبيرة قد تُلحق بحماس وصورتها، وبما تحظى به من تأييد كحركة مقاومة، أضراراً كبيرة. المسار أو الخيار الرابع تمثل بالكمون والمراهنة على عامل الزمن، أو ما يمكن وصفه بالانتظار والترقب، بأمل أن تأتي رياح التطورات والتغييرات الإقليمية بما يخدم مصالح الحركة، وهو ما لم يحدث أيضاً في المجمل. ظلت حماس، طوال المدة الممتدة بين 2007 و2010، تجس نبض المسارات الثلاثة الأولى، وتعاود اكتشاف أن تكلفة كل منها فادحة ولا يمكن تحملها، الأمر الذي دفعها إلى اللجوء إلى الخيار الأسلم والأقل تكلفة والمتمثل بالتمسك بالوضع القائم والكمون والترقب. بيد أن ثمن هذا الخيار الأخير كان باهظاً بالنسبة إلى اقتصاد القطاع وسكانه للظروف المعيشية القاسية التي تعرض لها بسبب الحصار والحروب الإسرائيلية المتعاقبة (2009 – 2008 و2012 و2014)، وهي الظروف التي بحسب تقارير الأمم المتحدة تحوِّل قطاع غزة إلى منطقة غير صالحة لسكنى البشر بحلول عام 2020‏[5]. كل تلك المدة وحماس تسدد التكلفة المترتبة على ذلك من شعبيتها وتأييد الناس لها.

2 – السياق الإقليمي والدولي

خيار حماس الرابع أي الاستناد إلى معطيات الأمر الواقع، أو مسار الكمون والترقب، بدا واعداً عقب الانتفاضات العربية التي اندلعت بين عامي 2010 و2011 وأدت تحديداً إلى السقوط السريع لنظام حسني مبارك في مصر وما ترتب عليه من صعود الإخوان المسلمين إلى السلطة هناك. لبرهة من الوقت، بدت الأمور لحماس وكأنها تتغير على نحو استثنائي، وبخاصة أن مصر رفعت حصارها بالكامل عن غزة. وخلال عامي 2011 – و2012، حظيت حماس بحليف بدا وكأنه تنزل عليها من السماء، تمثل بالقاهرة وانتخاب القيادي الإخواني محمد مرسي رئيساً لمصر، وهو ما دعم مكانة الحركة في غمضة عين. كما أن نجاحات الإسلاميين في هبّات الربيع العربي في البلدان العربية الأخرى، في تونس وليبيا واليمن، خلال تينك السنتين عززت الإحساس بالإفلات من الحصار لدى حماس. لكن نجاحات الإسلاميين تلك وتسارع الأحداث أوقعت الحركة في مطب الثقة المفرطة. ذلك بأن الفوز بتأييد مصر (الإخوانية) ودعمها أغرى الحركة بالمقامرة والتخلي عن دعم سورية وإيران في عام 2012، وذلك بعد تأييد الحركة العلني للانتفاضة السورية. آنذاك، خلصت حسابات حماس إلى ترجيح غنيمة الظفر بالقاهرة (مع أنقرة والدوحة) على خسارة دمشق وطهران، وافترضت تخمينات الحركة استبدالاً سريعاً للنظام في سورية بآخر ذي ميول إسلامية صديقة في نهاية المطاف.

لم يمر وقت طويل حتى تبدى أن رهانات حماس خلال الربيع العربي كانت خاسرة، فمصر لم ترتدّ إلى سياسة ما قبل ثورة كانون الثاني/يناير 2011 فحسب، بل إن من استولى على السلطة فيها في تموز/يوليو 2013، رجل العسكر المتنفذ عبد الفتاح السيسي، وهو الذي اعتبر فور تسلُّمه زمام الأمور، أن الإخوان المسلمين وحلفاءهم، بمن فيهم حماس، ألدّ أعدائه. هكذا، لم يتجدد وحسب الحصار المصري مرة أخرى على غزة، بل عادت القاهرة عملياً إلى المعسكر المضاد لحماس، ولم يجلب مسار الكمون والترقب للحركة في نهاية المطاف إلا القليل. وتفاقم الوضع سوءاً بعد انتخاب دونالد طرمب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، بتبنّيه موقفاً معادياً وسافراً ضد الإسلاميين ومؤيداً حتى النخاع لإسرائيل‏[6].

أخذاً في الحسبان بعض العناصر الأساسية في السياق الإقليمي العريض كما أشير أعلاه، يمكن تأمل بعض الاعتبارات العامة التي أمعنت حماس النظر فيها لدى إصدارها وثيقتها الجديدة. في المقام الأول، يبدو أن حماس أرادت طرح إطار سياسي ودبلوماسي أكثر مرونة واعتدالاً قد يشجع اللاعبين المتعددين على مراجعة سياسة الحصار وتخفيفه عن القطاع وسكانه المليونَي فلسطيني. هذا الاعتدال الذي يفترض أن تعكسه الوثيقة مرتبط بالمسوّغ الأساسي لفرض الحصار الذي انطلق من سيطرة حماس على القطاع واعتبارها «منظمة إرهابية» من جانب إسرائيل وحلفائها الغربيين. وقد ترجم هذا المسوّغ إلى لغة سياسية اتخذت منحى شروط ثلاثة فرضتها اللجنة الرباعية للشرق الأوسط (المؤلفة من الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة وروسيا). وكانت تلك الشروط التي أُعلنت وفرضت على الحركة فور فوزها في الانتخابات العامة الفلسطينية عام 2006 كالتالي: التخلي عن «الإرهاب»، الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، والتعهد بالالتزام بكل الاتفاقيات الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل (أوسلو بالأساس). ودُفعت حماس إلى الاقتناع بأن لا مناص لها من القبول بتلك الشروط إن كانت راغبة في أن تُعامل كطرف سياسي مقبول. رداً على ذلك، وفي محاولة ترمي إلى تحدي تلك الإملاءات وفي آن واحد تجنُّب دمغها بصفة «منظمة إرهابية»، عمدت حماس إلى طرح صورة مغايرة عن نفسها: كشريك سياسي يتحلى بالمسؤولية، تمكنت قيادته من الفوز بانتخابات حرة ونزيهة، وقادر على التحدث بلغة السياسة والمقاومة معاً وبطريقته وأسلوبه الخاص ودونما إذعان إلى أي ضغط خارجي، وهو ما تأمل الوثيقة الجديدة في تعزيزه والصورة المختلفة عن الحركة التي تأمل في عكسها.

كما يمكن قراءة الوثيقة كمحاولة لإعادة ترتيب مواقف حماس الأساسية، وكإجراء قد يحسِّن قدرتها على ممارسة أحد الخيارات (المسارات) الثلاثة آنفة الذكر. على مسار الحصار المصري، تقدم حماس عبر الوثيقة صورة عن نفسها كحزب سياسي رصين لا صلة له من قريب أو بعيد بمجموعات إرهابية مثل القاعدة والدولة الإسلامية في سيناء، ومستقل أيضاً عن الإخوان المسلمين، الذين لم تُشر الوثيقة إلى علاقة حماس بهم. وترمي الحركة من وراء ذلك إلى فتح قنوات الحوار مع القاهرة مع تغييب شبح الإخوان المسلمين من فوق رأسها. والرسالة ذاتها موجهة أيضاً إلى البلدان العربية الأخرى، وبالأخص الأردن ودول الخليج. ذلك بأن عدداً من تلك الدول، بقيادة مصر ودولة الإمارات العربية، وبدرجة أقل من جانب السعودية والأردن والبحرين، منخرطة في ما يمكن اعتباره حرباً إقليمية واسعة ضد الإخوان المسلمين. وكان قد تنامى على مر السنوات الماضية شعور لدى حماس بأن الارتباط باسم الإخوان المسلمين صار يمثل عبئاً ثقيـلاً فوق كاهلها، رغم أن ذلك الارتباط لا يعدو أن يكون مجرد حقيقة تاريخية ينص عليها ميثاق 1988. ويبدو أن حماس أدركت مؤخراً أن صلتها القديمة وارتباطها التاريخي بالإخوان المسلمين صار يضر بمكانة الحركة أكثر مما ينفعها. وهكذا، وفي ظل الأجواء الراهنة المعادية لـ «الإخوان»، بدا للحركة، وهو ما تعكسه الوثيقة، أن التخلي عن اسم الإخوان المسلمين وإظهار الاستقلال التام عن المنظمات العابرة للحدود سياسة حكيمة تسمح لحماس بطمأنة الدول التي تنتابها الهواجس من الإخوان المسلمين.

يتصل بتلك المخاوف الإقليمية أيضاً محاولة حماس الدؤوبة توسيع إطار علاقاتها في المنطقة وكسر عزلتها الراهنة. فقد انتهى الحال بحماس سجينة في قطاع غزة لا بسبب الحصار وعداء مصر أو الملاحقات القاسية للحركة في الضفة الغربية من جانب السلطة (وإسرائيل) فحسب، بل بسبب اختزال قاعدة التأييد للحركة في قطر وتركيا، كذلك، الدولتين الوحيدتين اللتين تفتحان أبواب الإقامة والسفر لقيادة الحركة الخارجية.

من جهة أخرى، يبدو أن أحد الاعتبارات الإقليمية الممكنة والكامنة خلف توقيت إصدار الوثيقة الجديدة هو تصاعد حدة الإسلاموفوبيا في الأجواء الدولية، وانتعاشها في ظل إدارة طرمب التي تعمل بنشاط على تحريكها، وما يجره ذلك من تبعات على المنطقة. فهنا يتربع على رأس أجندة طرمب هدف قتال داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام) وما يسمى بـ «الإرهاب الإسلامي،» وما يتضمنه ذلك من فرض ضغط والتزامات على القوى الإقليمية لحملها على تبني سياسات تضر بحليفي حماس الأساسيين، قطر وتركيا. وفي هذا السياق، ينتاب حماس قلق مُضاعف لجهة احتمالات حشرها في مربع «الإرهاب الإسلامي»، لهذا فهي تحاول تمييز نفسها عن تلك المنظمات التي تُستهدف كما يبدو بمواجهة جماعية تلوح نذرها في المنطقة. وانطلاقاً من هذا المنظور، ربما أمكن اعتبار الوثيقة الجديدة بمنزلة إجراء استباقي يعمل على إحباط أو تلطيف التأثير العدائي للسياسات الأمريكية والإقليمية المتوقعة التي قد تشمل حماس في ما تشمله.

ثالثاً: سياق حماس التنظيمي والعوامل الداخلية

أشير أعلاه إلى أن إصدار وثيقة جديدة من جانب حماس تترك خلفها ميثاق 1988 وغيره من الوثائق التي لم تعد ملائمة أو مواكبة لتطور الحركة، صعد إلى العلن بعد أن كان محل نقاش داخلي طوال سنوات. لهذا، يمكن التخمين أو الزعم بأن تلك النقاشات الداخلية، وببساطة، بلغت حد النضج في الوقت الراهن. مع ذلك، لا بد من توخي الحذر هنا وعدم إغفال الدوافع والتطورات الداخلية الأخرى كتفسير محتمل لإصدار الوثيقة الجديدة. وأحد التطورات الداخلية الأهم التي تحيط بإصدار الوثيقة هو تزامنها مع ترك زعيم حماس خالد مشعل لمنصبه، بعدما ظل يدير دفة حماس قرابة العشرين سنة. يبدو أن مشعل، إبان رئاسته للمكتب السياسي لحماس، كان بمنزلة مهندس هذه الوثيقة أو أحد أهم مهندسيها، وقد يعتبرها جزءاً مهماً من إرثه السياسي في الحركة. ترافق مع ذلك تطور مهم آخر تمثل بصعود القادة العسكريين إلى مواقع الحركة المهمة في إثر انتخابات الحركة الداخلية التي جرت في شباط/فبراير 2017. على ذلك، يمكن القول بأن القيادة الراحلة، ممثلة بمشعل، أرادت تحقيق إجماع صلب وقوي إزاء مواقف حماس المعلنة كافة، وإلزام القيادة الجديدة بهذه المواقف حتى وإن كان لبعض أفرادها ميول مغايرة أو متشددة. وكما في الماضي، وانطلاقاً من خبرة الحركة الطويلة، فإن الحفاظ على خط موحد من السياسات والممارسات يمثل أولوية قصوى لحماس. تجدر الإشارة هنا إلى أنه على مر عقود من النضال ضد إسرائيل، ظلت حماس الحركة الفلسطينية الوحيدة التي لم تتعرض للانشقاق والتي تمكنت من الاحتفاظ بقدر كبير من الوحدة الداخلية. لهذا، يبدو أن ترسيخ المواقف والتصورات ومناغمتها بعضها مع بعض ضمن إطار الحركة، رغم تغيير قيادة حماس وما تتعرض له الحركة من صنوف من الضغط، يمثل أحد أهداف الوثيقة، كما تعبر عنه الفقرة التالية: «بهذه الوثيقة تتعمق تجربتنا، وتشترك أفهامنا، وتؤسس نظرتنا، وتتحرك مسيرتنا على أرضيات ومنطلقات وأعمدة متينة وثوابت راسخة، تحفظ الصورة العامة، وتُبرِزُ مَعالم الطريق، وتعزّز أصول الوحدة الوطنية، والفهم المشترك للقضية، وترسم مبادئ العمل وحدود المرونة».

رابعاً: سياق «الفلسطنة» مقابل سياق «الأسلمة»

ليس ثمة زعم في الوثيقة يوحي بتخلي حماس عن أصلها وسمْتها الديني الإسلامي رغم تخففها الواضح من اللغة الدينية التي وسمت ميثاق 1988 وغيره من بيانات الحركة. مع ذلك، فإن التشديد على «فلسطينية» فلسطين، وعلى الوطنية الفلسطينية المُعبَّر عنها في هذه الوثيقة الجديدة، ليس له نظير في أدبيات الحركة السابقة لجهة وضوحه والتركيز عليه. من هنا، فإن التخلي عن الارتباط باسم الإخوان المسلمين لم يُقصد به الأطراف الإقليمية والدولية فحسب، ولكنه استهدف أيضاً تأكيد الانغماس في السياسات الفلسطينية الداخلية على حساب ما كانت حماس تُتهم به من اهتمام بقضايا إسلامية وغير فلسطينية. وعليه فإن خفض النبرة الدينية وتبني خطاب سياسي وطني يفسح في المجال أكثر أمام حوار الفلسطينيين مع الفلسطينين. وهذا يعزز منحى «فلسطنة» حماس وأسبقيته المُستهدفة مقابل منحى «الأسلمة» الذي وسم الحركة في العقود الثلاثة الماضية. وتشير الوثيقة تكراراً إلى أرض فلسطين بدلاً من الإشارة إلى الأمة الإسلامية، ويتعزز تعريف الفلسطينيين بأنهم العرب الفلسطينيون المقيمون في فلسطين قبل 1947 ومن ينحدرون من آباء فلسطينيين، بما يمنح الأسبقية للشخصية والهوية الفلسطينية للأفراد مقابل هويتهم الإسلامية أو انتماءاتهم الأخرى.

من هذا المنظور أيضاً يمكن قراءة التفات الوثيقة واهتمامها بتعيين وذكر حدود فلسطين جغرافياً ووطنياً (التي هي في الواقع ذات الحدود التي رسمها الانتداب البريطاني). ومن اللافت للنظر أنه في مقابل صلابة حضور الجغرافيا في الوثيقة، لا يُستحضر التاريخ بنفس الدرجة من الصلابة إلا لأغراض الحشد والخطابية. ورغم الإشارة إلى «أن الشعب الفلسطيني جزء من الأمة العربية والإسلامية»، إلا أن هذا يرد على نحو عابر وغير مؤدلج. كما يندرج ضمن سياق هذا التحول الملموس في خطاب حماس مؤشر آخر ذو صلة، وهو إيلاءُ الحركةِ الوحدةَ الوطنيةَ أولويةً وأهميةً على الاختلافات الأيديولوجية بين الفلسطينيين. كما لا تأتي الوثيقة على ذكر الأيديولوجيا العلمانية لمنظمة التحرير الفلسطينية أو أي من الفصائل الفلسطينية السياسية الأخرى، وهو أمر جرت الإشارة إليه في ميثاق 1988 كعقبة في وجه الانضمام إلى صفوف المنظمة، كما أشير سابقاً.

عبر التأكيد على الروابط الوطنية بلغة جديدة والتخفف من الإغراق في الخطاب الديني وإغفال الصلات بالإسلاموية العابرة للحدودة، تحاول حماس التصدي لاتهامها المتكرر داخل الساحة الفلسطينية بأنها أكثر ولاءً للقضايا الإسلاموية منها إلى التطلعات الوطنية الفلسطينية. ويذكر أن تلك الاتهامات كانت قد اشتدت في إثر شهر العسل القصير الذي شهدته الحركة خلال الربيع العربي وصعود الإخوان المسلمين في مصر بين 2011 و2012، وحينما كان إعلام حماس وخطاب الحركة الدعائي منساقاً خلف التطورات الإقليمية، بما فيها الفوز المتعاقب للأحزاب الإسلامية في تونس ومصر. بيد أن سقوط الإخوان المسلمين السريع في مصر والتحولات الإقليمية المتسارعة، دفعت حماس إلى تبني لغة وخطاب أكثر حساسية وأمْيَل إلى السياسة الواقعية والوطنية. وتأسيساً على هذه التبدلات وما ترتب عليها، فإن لغة وثيقة حماس الجديدة تدعو إلى الوحدة الوطنية وتؤكد ما أرسته الاتفاقيات المتعددة من تفاهمات بينها وبين القوى الفلسطينية المنافسة بهدف تحقيق تلك الوحدة. وتشير الوثيقة إلى أن هذا الهدف يمكن الوصول إليه. إلى جانب ذلك كله وفي رسالة مباشرة إلى فتح خصوصاً، والسلطة الفلسطينية عموماً، تقول حماس إن الإشارات والاستنتاجات المتضمَّنة في خطاب وطني كالذي يرد في الوثيقة، إلى جانب القبول بدولة فلسطينية على حدود 1967، من شأنه أن يجعل تحقيق الإجماع الوطني أمراً ممكناً.

خامساً: تناقضات في الوثيقة أم «فرص ممكنة»؟

أشير في ما تقدم إلى أن طريقة صوغ هذه الوثيقة الجديدة يبدو أنها جرت بدقة وانتباه يهدف إلى ترك مساحات رمادية إزاء بعض المواقف بما يتيح للحركة هامش المناورة، كما يترك في الآن ذاته باب التأويلات والتوقعات الخارجية مفتوحاً، وكذا احتمالات التبريرات الداخلية. ومن هذه الزاوية يمكن فهم السمة الضبابية المقصودة التي تحيط بعدد من المقاربات في الوثيقة. وعلى الأرجح، لن تُقنع هذه الطريقة في الطرح عدداً من الأطراف، بمن فيهم من يطالبون حماس بقطع الشوط كامـلاً والاعتراف بإسرائيل على نحو يطابق ما فعلته منظمة التحرير الفلسطينية، أو من يريدون منها الثبات على مواقفها الأصيلة ورفض حل الدولتين من دون أي لبس. إن التحدي الناجم عن هذا التغيير الجزئي في المواقف، المتمثل بضرب حماس طوقاً من الإبهام حول نفسها وحول مواقفها لتحتمي خلفه في الوقت الذي تحاول إرضاء العديد من الفرقاء، خلق نقاط توتر وتناقض في الوثيقة المعلنة يمكن قراءتها من أكثر من زاوية.

ثمة تحديداً ثلاثة تناقضات رئيسة في الوثيقة يمكن إجمالها بالتالي: أولاً، قبول حماس بدولة فلسطينية على حدود 1967 من دون اعتراف صريح بإسرائيل، وثانياً، رفض حماس اتفاقيات أوسلو في الوقت الذي تقبل فيه بالسلطة الفلسطينية التي هي نتاج أوسلو، وثالثاً، تأكيد حماس على تنوع وسائل وأساليب المقاومة و«إدارة المقاومة»، أي تجميدها، من خلال التصعيد والتهدئة وفقاً للظروف، في الوقت الذي تعلن فيه تمسكها التام بهذه المقاومة كاستراتيجية أولى. هذه المواضع الثلاثة التي يشوبها التضارب، والمرتبطة بشكل أساسي بشروط اللجنة الرباعية الثلاثة المذكورة أعلاه، يمكن النظر إليها إما على أنها تناقضات محبطة لكل ما جاءت به الوثيقة وإما على أنها غموض إيجابي يفتح الباب أمام «فرص ممكنة»، وذلك بحسب زاوية الرؤية وخاصة «التسووية».

هنا، وفي حال توافر جهود حقيقية وجادة نحو التوصل إلى تسوية سياسية حقيقية، فإن الوثيقة الجديدة تترك الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام حماس كي تكون طرفاً في تطور من هذا القبيل. مع ذلك، فإن الأطراف التي ليس لديها رغبة حقيقية في السعي وراء الحلول السياسية قد تعتبر هذه «الفرصة المُحتملة» التي تنطوي عليها وثيقة حماس عقبة أو خطوة قاصرة. ومن المهم التذكير هنا أنه على مر السنوات الطويلة لما يسمى عملية السلام التي انطلقت منذ عام 1993، واصلت إسرائيل والولايات المتحدة فرض عدد لا يحصى من الشروط على الفلسطينيين، وهو ما أدى عملياً إلى قتل «السلام» وبقاء «العملية» فقط في قيد الحياة. منظمة التحرير، بفصائلها كافة، والسلطة الفلسطينية مجتمعتين، استجابتا لكل تلك الشروط التي يُطلب من حماس الانصياع لها: الاعتراف بإسرائيل؛ الالتزام باتفاقيات السلام الموقّعة، وبخاصة الترتيبات الأمنية؛ ونبذ كل أوجه النضال المسلح. والسؤال هنا ما الذي سوف يضيفه عملياً القبول بتلك الشروط من جانب طرف فلسطيني إضافي، حماس في هذه الحالة؟ ولماذا لم تنجح عملية السلام مع منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية برغم موافقة الاثنتين على كل تلك الشروط؟ هنا لا يمكن القول إن سبب فشل أوسلو وعملية السلام يعود إلى رفض حماس شروط الرباعية الدولية، لأن المسألة أعقد من ذلك بأشواط كثيرة. فسبب فشل تلك العملية الأكيد هو سياسات إسرائيل العدوانية وحروبها العسكرية والاستيطانية. فقد مارست إسرائيل تخريباً نوعياً وعميقاً لكل جولات المفاوضات بمواصلة بناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس، ورفض القبول بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية مستقبلية، وكذلك نبذها حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، وتخطيطها (إن لم نقل تنفيذها العملي بحكم الأمر الواقع) لضم أجزاء واسعة مما تبقى من أراضٍ فلسطينية إلى الكيان الصهيوني.

في ضوء هذا الواقع الصلد، فإن الضغط على حماس لتلبية شروط الرباعية الثلاثة ليس إلا ذريعة تسوقها إسرائيل لمواصلة سياساتها ومخططاتها المعهودة وتعزيز احتلالها العسكري، فيما هي تختبئ تكتيكياً خلف ما تزعمه من مواقف متشددة لحماس. باختصار، يمكن القول إنه حتى وإن عمدت حماس إلى جراحة موقفية كبرى تحولها إلى صورة أخرى من فتح، فإن انقلاباً كهذا لن يُحدث أي تغيير حقيقي في السياسات الإسرائيلية العدوانية الراهنة وما يقابله من تأييد شرس للولايات المتحدة لإسرائيل.

وإلى جانب موقفها «الملتبس» – أي المقروء إما كعقبة أو كفرصة مُحتملة – من الاعتراف بإسرائيل، يمكن النظر أيضاً إلى موقف حماس من المقاومة والنضال المسلح في الوثيقة إما كتناقض أو فرصة ممكنة. فحماس ترى أن إعلانها في الوقت الراهن عن التخلي عن المقاومة المسلحة أمر مستبعد إن لم يكن مستحيـلاً. وأقصى ما يمكن للحركة طرحه هو ما تنص عليه الوثيقة بكلمات مختارة بعناية، أي اللجوء إلى «تطوير وسائل المقاومة وآلياتها» المتعددة، بما فيها حمل المقاومة السلمية غير المسلحة على محمل الجد؛ وتصعيد أو تهدئة صيغ معينة من المقاومة خلال أي فترة محددة بحسب استراتيجية تقوم على تقييم متواصل للظروف المختلفة. وعبر تحديد هذه المواقف، فإن حماس تخاطب عدداً من الأطراف، وتقر بصورة غير مباشرة بأن النضال المسلح ليس غاية في ذاته بل مجرد وسيلة. ومن خلال الإعلان عن ذلك، تقدم الحركة أرضية مشتركة أوسع على المستوى الوطني الفلسطيني، وتتيح لنفسها ضمناً قدراً من المرونة في اختيار «تهدئة» النضال المسلح بما يفتح الباب أمام صيغ أخرى من المقاومة. إن خطاباً كهذا توجهه حماس للاعبين الإقليميين والدوليين، وتعييناً اللجنة الرباعية، إذ إنه يؤكد أن الحركة قادرة أيضاً على التحدث بلغة السياسة والدبلوماسية.

ثالث التناقضات المحتملة أو الفرص الممكنة هو موقف حماس من اتفاقيات أوسلو. مرة أخرى، إن منطوق الوثيقة بخصوص الاتفاقيات وما نتج منها (تشكيل السلطة الفلسطينية) يمكن أن يقرأ بطريقتين مختلفتين: إما كرفض كامل ومباشر وإما كقبول جزئي وغير مباشر. إن ابتداع هذا الغموض الإيجابي، إن جاز الوصف، وتوسعة مجالات الخيار السياسي المستقبلي تطرحه الوثيقة بشكل قصدي. فبينما تكرر الحركة أسبابها المبدئية في رفض الاتفاقيات، تعمد إلى ذلك بطرح عنصرين جديدين ملطفين: أولهما، التعبير عن الرفض بلغة براغماتية وموضعة ذلك الرفض في إطار القانون الدولي (وليس الدين)؛ وثانيهما، تخفيف نبرتها تجاه السلطة الفلسطينية والتركيز على أن واجب هذه السلطة هو حماية الفلسطينيين لا حماية أو خدمة الآخر.

خلاصة القول إن ثمة انزياحاً تقدمه وثيقة حماس الجديدة في مواقف الحركة وسياساتها باتجاه أكثر نحو البراغماتية والوطنية على حساب الدوغما والإسلاموية. وعبر هذا الانزياح استحدثت حماس مواضع من الغموض الإيجابي يمكن عدُّها فرصاً ممكنة تسهل بروز أساليب جديدة في الطرح تمكّن اللاعبين المتعددين من التعامل مع الحركة، إن لجهة إنهاء الحصار المفروض على غزة أو لحل الصراع برمته. رغم ذلك، فإن تلك المواضع ذاتها التي تتسم بقدر كبير من الغموض الإيجابي المتعمد يمكن النظر إليها أيضاً كعراقيل وعقبات تؤكد وصم حماس بطبيعة لا تتغير ولا تتبدل. على أن الأمر في مبتدئه ومنتهاه يعتمد على من يريد رؤية ماذا في الوثيقة الجديدة، وكيف يستخدمها أو يسيء استخدامها، وأي أجندة يسعى لتشجيعها وتنفيذها.

 

قد يهمكم أيضاً  الدين والحداثة السياسية في الصهيونية وفي الوطنية الفلسطينية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #حركة_حماس #المقاومة_الفلسطينية #ميثاق_حماس_الجديد #الأسلمة #القسام #الفلسطنة #وثيقة_المبادئ_والسياسات_العامة