«لا يمكن أن يحول تخيُّل الصورة المثالية لمدينة الديمقراطية دون قدراتنا على الفعل لتجاوز [الواقع] الناقص… فعلى النقيض من ذلك، يشكّل هذا التخيُّل لكمال المشهد دافعاً للعمل وللتحرر من يأس الوصول إلى الديمقراطية»(**).

مثّل الزخم الثوري والحراك المجتمعي عقب ثورة 25 يناير 2011 لحظات انكشافية عن الأزمة البنيوية لتنظيمات وائتلافات المجتمع المدني والأحزاب السياسية بمصر؛ فقد نجحت السياسات الاحتجاجية، من خلال خلق إطار واسع لحركة جماهيرية ومن خلال الالتفاف حول مطالب الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، في كسب أرضية واسعة بين قطاعات مجتمعية مختلفة، وإزاحة رأس السلطة وإسقاط الحزب الوطني الديمقراطي، وفرض معطيات واقعية جديدة. إلا أن التنظيمات الحزبية والاجتماعية الناشئة عجزت عن سد الفراغ السياسي الناشئ وطرح بديل قابل للتحقق، سواء للبنى التقليدية السلطوية أو للمعارضة الإسلامية المنظمة المتجسدة في تنظيم الإخوان المسلمين. فقد فشلت الأحزاب السياسية والروابط المجتمعية الناشئة في بناء قواعد اجتماعية وشعبية واسعة من ناحية أولى، وطرح مشروع سياسي أصيل يستوعب مصالح الجماعات الاجتماعية المختلفة على أسس تعددية وتحررية من ناحية ثانية، وتطوير خطاب سياسي يتجاوز الصراع الوجودي التاريخي بين المعسكرين الإسلامي والعلماني/القومي من ناحية ثالثة.

مثّل إدراك القوى المجتمعية ضرورة إزاحة رأس السلطة في مصر ركناً أصيـلاً لاندلاع الموجة الأولى للاحتجاجات الشعبية في كانون الثاني/يناير 2011، غير أن مسألة هدم مؤسسات الدولة السلطوية لم تمثّل هدفاً أساسياً في الوعي الجمعي للجماهير المناوئة للنظام، باستثناء بعض القوى اليسارية الراديكالية أو الفوضوية (Anarchists). فبدلاً من الإصرار على خلق مراكز قوة مستقلة وفرض واقع جديد يعيد صياغة المعادلة السياسية ويحسّن الوضع التساومي لقوى المعارضة الآخذة في التشكل، رضخت المعارضة السياسية لخيار القبول بسلطة المجلس العسكري ممثـلاً عن الدولة ليحل محل مبارك على رأس الدولة، إذ فقد فرض غياب قيادة للقوى المدنية تعمل على تأسيس نظام ديمقراطي جديد وتطهير الأجهزة البيروقراطية للدولة وإعادة هيكلتها، خيار الرضوخ لشروط الوضع القائم دون السعي إلى تغييره. وفي الوقت ذاته سارعت جماعة الإخوان المسلمين إلى مهادنة المؤسسة العسكرية وخلق مساحات للشراكة في الحكم مع المؤسسات الموروثة من عهد مبارك على أمل السيطرة على هذه المؤسسات وتحويلها تدريجياً، من خلال تأسيس شرعية انتخابية، إلى نظام لهم؛ فبدا بعد أسابيع قليلة من تنحّي مبارك أن الأفق الإصلاحي هو المسار المتاح وفقاً لتوازنات القوى القائمة، وبخاصة في غياب تنظيمات أيديولوجية تعمل على خلق وتعديل أطر استيعابية لمطالب الثورة.

وفشل التيار الإسلامي بمختلف تنويعاته التنظيمية والحركية الإخوانية والسلفية والجهادية في طرح مشروعات أصيلة لعلاج الأزمات البنيوية المتجذرة، وإعادة تعريف معاني المواطنة وعلاقة الدولة بالمجتمع، وصياغة سياسات عادلة للتنمية، الأمر الذي مكّن الطبقة الحاكمة التقليدية من استعادة زمام الأمور وحسم الصراعات الاجتماعية وتأدية دور المحكِّم وتحويل المعادلة السياسية إلى مباراة صفرية مرة أخرى، وذلك من خلال حركة انقلابية من داخل جهاز الدولة في 3 تموز/يوليو 2013، وتصدير خطاب ترهيبي قائم على ثنائية الوطنية/والتخوين لضمان الاصطفاف الوطني‏[1].

تستند هذه الدراسة إلى المقاربات المرتكزة على دور الفاعلين (Actor-based Approach)في عملية التحول ونمط التفاعلات بينهم وتداعيات هذه التفاعلات على مجمل ديناميات العملية السياسية. تنطلق هذه المقاربات من مفهوم التفاعلات الاستراتيجية والعمليات المفتوحة النهايات التي لا تنطوي على أي نتائج حتمية أو علاقات خطية تفضي إلى أن ثمة صيغة محددة سلفاً للتفاعلات ستقود إلى نمط ناجح للتحول الديمقراطي ونسق تشاركي وتفاعلي ناظم لعلاقات الدولة والمجتمع‏[2]. لذا تسعى الدراسة إلى تشريح مواقف الأحزاب والقوى السياسية، وإدراك مختلف الفاعلين للمعوقات والفرص البنيوية. كما تركز على دور الخيال السياسي في استلهام نماذج تاريخية ومقاربتها بالواقع الراهن للبحث عن مخرج من وضع الأزمة القائم. ولا تطرح المقاربات لنماذج تاريخية وصفة حتمية للنجاح، وإنما تهدف إلى تشريح طبيعة أحداثها التاريخية بتقاطعاتها وتداخلاتها وتراكمات نضالها التي مهدت لإسقاط النظم القمعية. فتاريخياً، ومقارنة بتجارب التحول الديمقراطي في دول أمريكا اللاتينية، لم تكن عملية إقامة ديمقراطية تعددية نتاجاً لإطار يختزن معاني إجماع مجتمعي حول تأسيس السلطة السياسية، وإنما كانت نتاجاً لحلقات طويلة من الصراعات المجتمعية وصلت فيها جميع الفواعل المتصارعة إلى نقطة يصعب فيها إدراك المعركة على أنها مباراة صفرية يحصل بمقتضاها الطرف المنتصر على كل شيء ويفرض برامجه وتفضيلاته على الآخرين؛ الأمر الذي دفع هذه الفواعل إلى تقديم تنازلات سياسية والتوافق حول شروط تأسيس نظام ديمقراطي استيعابي.

وللوقوف على تفاصيل طبيعة التفاعلات بين الكيانات السياسية المختلفة وإمكانات فتح منافذ جديدة للتنسيق أو التحالف بينها مستقبـلاً، تعتمد الدراسة على تحليل استخلاصات وإجابات عدد من المقابلات البحثية شبه المقننة مع 14 فرداً من المنتمين إلى تيارات وأحزاب سياسية مختلفة ضمت حزب مصر القوية، والحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، والبناء والتنمية، والوسط، والعيش والحرية (تحت التأسيس)، والدستور، وحركة 6 أبريل، والاشتراكيين الثوريين.

تنقسم الورقة إلى ثلاثة أقسام رئيسية: يبدأ القسم الأول بإلقاء الضوء على عمليات تأطير المطالب المجتمعية كنشاط ذهني يستجيب للتحولات وسيولة السياق في مرحلة ما بعد مبارك وحتى إطاحة مرشح الإخوان المسلمين من السلطة؛ ثم ينتقل القسم الثاني إلى التركيز على عمليات تأسيس التحالفات السياسية والاجتماعية منذ 3 تموز/يوليو 2013، وتفكيك المطالب الثورية وإعادة صوغها واختزالها في خطاب الاصطفاف الوطني والحرب ضد الإرهاب؛ وأخيراً يتمحور القسم الثالث حول أهمية الخيال السياسي كعملية ذهنية ونقدية تسعى إلى تجاوز أوضاع الأزمة لخلق مشروع تحرري من خلال البحث في إمكانات الواقع الكامنة، وذلك من خلال طرح تفصيلي لنماذج تاريخية لحالات مشابهة من دول أمريكا اللاتينية ومقاربتها بالواقع المصري لتفكيك هذا الواقع وللكشف عن فرص خلق مسارات جديدة للحراك السياسي والاجتماعي.

 

أولاً: رحيل مبارك: من إطار المطالب الاستيعابية لثورة 25 يناير إلى السياسات الانقسامية لجماعة الإخوان واللحظة التأسيسية لتحالف 30 يونيو

مثلت ثورة كانون الثاني/يناير 2015 حراكاً جماهيرياً واسعاً افتقر إلى تصور سياسي محدد المعالم وأساس أيديولوجي قادر على تجاوز لحظة سقوط رأس الدولة واستدامة التعبئة الجماهيرية لتأسيس سلطة سياسية جديدة وتنفيذ مشروع ديمقراطي تشاركي يكفل الحرية والعدالة الاجتماعية‏[3]. فقد أطلقت موجة الاحتجاجات الطويلة فعاليات سياسية ومجتمعية عجزت عن تأمين مكتسبات ديمقراطية جذرية وتشكيل تحالفات عابرة للطبقات الاجتماعية قادرة على اجتذاب شرائح مجتمعية مختلفة، وإحداث قطيعة مع رواسب النظام المتداعي، وتفكيك بنى الدولة السلطوية والقمعية، وإعادة تعريف قواعد اللعبة السياسية لقلب موازين القوة القائمة‏[4].

كان خلق المعارضة السياسية إطاراً جامعاً للتعبئة المجتمعية، ينضم تحت لوائه الكثير من أصحاب المصالح، منطلقاً أساسياً لإضفاء معانيَ على الحقائق القائمة والكامنة، ورسم خطوط واضحة للمواجهات السياسية وربطها بمستودعات الرموز الثقافية كي تجد صدى بين شرائح واسعة بالمجتمع. ويتطلب اختيار الإطار الملائم للنفاذ إلى المجتمع إدراكاً ذهنياً لـ «جموع الشعب» كفاعل جماعي يمكن تطوير استراتيجيات للتواصل معه وتعديل هذه الاستراتيجيات وفقاً لتقلبات المزاج العام، وذلك بهدف خلق قواعد مستدامة من المناصرين والمؤيدين للمطالب الثورية، والتأثير في أوزان واتجاهات القوى المتصارعة في دوائر الحكم‏[5]. وفي هذا الصدد، شكّل إطار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية» نقطة ارتكاز أساسية للحراك السياسي والتعبئة المجتمعية، وصوغ مفردات ومدلولات جديدة لفهم الواقع، وتوسيع نطاق الحركة الشعبية، والتحرك صوب أهداف محددة، وخلق دوافع لإيجاد حلول لمشاكل قائمة‏[6].

ففي المراحل الأولى للحراك الجماهيري، تم تكييف وتصعيد المطالب وفقاً لردود فعل النظام المتعنتة، ووفقاً لاتساع حجم الحراك بالشارع واستيعابه تدريجاً قطاعات وشرائح مجتمعية عريضة على النحو الذي أعاد ترسيم حدود المجال السياسي، وفسح هامش الحركة الشعبية، ورفع القدرة التساومية للفواعل الاجتماعية الصاعدة‏[7]. غير أنه في الأسابيع القليلة اللاحقة على رحيل مبارك، اتضحت بعض الخطوط العريضة للمسار المستقبلي للثورة؛ فقد تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة شؤون البلاد مع سقوط نظام مبارك وأصبح المسار الإصلاحي هو الأفق المتاح مع تأدية المؤسسة العسكرية دوراً مركزياً في طرح حلول سياسية للصراعات المتأججة.

أقر المجلس العسكري قوانين تجرِّم الإضرابات وأي عمل احتجاجي من شأنه «الإضرار بالاقتصاد الوطني وتعطيل عمل المؤسسات العامة». كما روَّجت الماكينة الإعلامية للدولة خطاب «المطالب الفئوية» للحفاظ على مصالح كبار الرأسماليين ووضع تراتبية للمطالب المجتمعية من خلال فصل السياسي عن الاقتصادي‏[8] والالتفاف على المطالب الاقتصادية والاجتماعية التي نادت بتحديد حدٍ أدنى وحدٍ أقصى للأجور، وإعادة النظر في النظام الضريبي ومخصصات الموازنة العامة وأولوياتها لإقامة نظام اجتماعي عادل، وتركيز الثورة في شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» مختزلاً المشهد السياسي وسيولته في إسقاط رأس الدولة وتصوير الصراع على أنه صراع بين شخص دكتاتور سيئ و«شعبه»‏[9]. وبدا جلياً أن إجهاض الحراك الثوري وتحييد القوى الثورية، وتفتيت جبهة المعارضة وتغذية الانقسام الإسلامي – الليبرالي، والحفاظ على علاقات القوة القائمة، هي أمور على قمة أولويات الأجندة السياسية للمجلس العسكري بهدف غرس صورة ذهنية لدى قطاعات واسعة أن المؤسسة العسكرية هي البديل الأكفأ والأوحد لهذه الاستقطابات المجتمعية والصراعات السياسية التي من شأنها زعزعة الاستقرار السياسي والأمن الوطني‏[10].

وكانت جماعة الإخوان المسلمين من أكثر القوى المعارِضة تنظيماً وقدرة على استغلال حالة الفراغ السياسي عقب رحيل مبارك والدخول في مفاوضات مع أجهزة الدولة لاقتسام السلطة؛ فقد حاول الإخوان – عقب انتهاء المحنة تحت حكم عبد الناصر – الابتعاد عمّا مثلته الجماعة الإسلامية من أفكار خاصة باستخدام العنف في مواجهة الدولة الوطنية الحديثة، وقدموا أنفسهم للسلطة والمجتمع كحركة إصلاحية مكوَّنة من أبناء المتعلمين من الطبقة الوسطى، وعلى استعداد دائم لفتح نوافذ للتفاوض مع دوائر السلطة والبحث في إمكانات التغيير السلمي والتدريجي. وقد شارك الإخوان في انتخابات مجلس الشعب والنقابات المهنية وكان ذلك هو المدخل الأساسي لاختراق المجتمع ومراكز السلطة‏[11].

كان لانحياز الإخوان لخيار التفاوض، والابتعاد من الحلول الراديكالية وإرجاء الأفكار المتعلقة بموقع الدين من المشروع الديمقراطي وماهية الشريعة الإسلامية الراغبين في تطبيقها، أكبر الأثر على الاقتراب من التصورات الفكرية للدولة المصرية. وساهمت التازلات الفكرية على مستوى الخطاب الفكري للجماعة، في قضايا حقوق المرأة والشريعة، في تعميق المنطق التفاوضي وتشجيع الدخول في تحالفات مختلفة واحتلال مواقع متباينة للمعارضة السياسية. ففي مواقع المعارضة، كان الطرح الأيديولوجي للإخوان ضبابياً ومشوَّشاً، وهو ما فسح هامشاً واسعاً للمناورة واحتواء تيارات فكرية متباينة داخل التنظيم، وبالتالي مضاعفة قدراتهم التجنيدية بين شرائح مجتمعية واسعة وطرح أفق للتغيير السياسي في السنوات الأخيرة لحكم مبارك في ظل العمل على مستويين: مستوى احتوائي من خلال عمل التنظيم كحاضن للتيارات الإسلامية المختلفة، ومستوى توافقي من خلال دخول التنظيم في تحالفات سياسية تشمل كل الأطياف السياسية. وكان التنسيق مع أعضاء حركة كفاية الحدث الأبرز مع تصاعد احتمالات سيناريو التوريث لجمال مبارك، وهو ما روَّج صورة مجتمعية مطمئنة لإمكان إدماج التيارات الإسلامية ضمن مشروع ديمقراطي عام‏[12].

إلا أنه مع سقوط مبارك ظهر التشوُّش الفكري والأيديولوجي للإخوان، وهو ما اتضح في تخبط تحالفاتهم السياسية على النحو الذي أربك القوى الليبرالية والعلمانية – التقدمية ممن راهنوا على الإخوان لإقامة جسر للتواصل مع مختلف التيارات الإسلامية والوصول إلى حلول توفيقية استيعابية تتواءم مع مشروع ديمقراطي – اجتماعي لإنجاح أهداف الثورة. وأفضى اختيار الإخوان للانحياز إلى الجناح اليميني المحافظ من السلفيين والجماعة الإسلامية إلى تأجيج الاستقطاب الإسلامي – العلماني وتحوله إلى صراع وجودي في المرحلة التالية لوصول الإخوان إلى السلطة في حزيران/يونيو 2012. فبعد ما يقرب من شهرين على سقوط مبارك، وفي خضم أجواء الاستفتاء على التعديلات الدستورية في آذار/مارس 2011، اندلعت حدة الاستقطابات السياسية، وكان أبرزها الخلاف بين القوى المدنية والقوى الدينية؛ فتم اختزال العملية السياسية برمَّتها في سياسات الهوية والحفاظ على المادة الثانية التي تقر بأن «مبادئ الشريعة الإسلامية» هي «المصدر الرئيسي للتشريع، «في حين أنها لم تكن ضمن المواد الخاضعة للتعديل. وهو ما ارتبط باستقطاب أوسع بين أنصار المسارين الإصلاحي والثوري، وهو استقطاب وجد صداه بين مختلف القوى السياسية وداخل معظم الكيانات السياسية الجديدة تحديداً. ففي الوقت الذي انحازت القوى الإسلامية بمختلف تنويعاتها لخارطة الطريق التي وضعها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مع الحرص على التودد إليه، أصرت القوى العلمانية على ضرورة وضع أساس دستوري جديد يواكب الزخم الثوري ويضع ضمانات فعالة لحماية حقوق الإنسان، وحكم القانون، والأجهزة البيروقراطية ومساءلتها، وانجرفت القوى السياسية إلى هذا الاستقطاب السياسي بدلاً من التركيز على ملء الفراغ المؤسسي بعد سقوط مبارك وبناء تحالف ديمقراطي واسع لتكثيف الضغوط على القوى التقليدية السلطوية وأجهزة الدولة البيروقراطية، وبخاصة الأمنية والعسكرية‏[13]. ثم جاءت محطة الانتخابات الرئاسية لتكشف تفتت الكتلة التصويتية «الثورية» بين معسكرَي عبد المنعم أبو الفتوح وحمدين صباحي لعدم اندماجها في تيار واحد له خطة ومشروع واضحان على الصعيدين السياسي والاجتماعي. فقد بددت القوى «الثورية» مكامن قوة محتملة لتشكيل «كتلة تاريخية» للتأثير في مسار التحول السياسي عقب رحيل مبارك بسبب الافتقار إلى قيادة معبرة عنها على نحو موحد وحاسم، وهو ما أدى إلى انحسارها عقب وصول مرشح الإخوان المسلمين – محمد مرسي – إلى السلطة بعد إعلان نتائج الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في حزيران/يونيو 2012 ‏[14].

وخلال فترة حكم الإخوان المسلمين تفاقم الصراع الهوياتي مع نقاشات اللجنة التأسيسية لوضع الدستور الجديد، مع إصرار التيارات الإسلامية على منح مؤسسة الأزهر اختصاصات المحكمة الدستورية العليا للرقابة على مدى ملاءمة القوانين الصادرة من البرلمان لمبادئ الشريعة الإسلامية وإضفاء طابع إسلامي على مؤسسات الرقابة والمحاسبة. واستمرت بنى السلطة السلطوية من دون تحُّول، مع تركيز مجمل العمليات السياسية في صناعة تحالفات انتخابية، والتركيز على المواءمات السياسية مع المؤسسة العسكرية، وتبنّي خطاب الدولة المرتكز على عمودَي الاستقرار والتحول الانتخابي‏[15].

ومع استمرار تودد الإخوان المسلمين للمؤسسة العسكرية، استمر لجوء القوى المدنية إلى الاحتكام للمؤسسة نفسها والتماهي مع جبهة الدولة والقوى السلطوية ضمن تحرُّك في الاتجاه المعاكس للثورة وتفويت أي فرصة لتشكل جبهة ثورية تتبنى موقفاً مغايراً للتحرك السياسي على نحوٍ مستقل عن الكتلة المساندة للإخوان المسلمين من ناحية، وعن الدولة والبنى السلطوية من ناحية أخرى. فتشكلت جبهة الإنقاذ الوطني في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 من جانب القوى السياسية المدنية، التي سعت إلى التحالف مع المؤسسة العسكرية في الحشد لتظاهرات 30 حزيران/يونيو المطالبة بالتخلص من حكم الإخوان. وقد أدى الفشل المتكرر مرة تلو الأخرى للقوى «الثورية» في خلق قطب سياسي – اجتماعي يؤثر في ماجريات الأحداث السياسية إلى بلوغ حالة انسداد سياسي ومؤسسي أوصل الأمور إلى نقطة الصفر. وكان لخروج جماعة الإخوان عن نمط المهادنة لأجهزة الدولة الأمنية والعسكرية، والتوجه نحو أقصى اليمين المحافظ، أعمق الأثر في وضع نهاية لمنطق التوازن التاريخي الحاكم لحركة الإخوان في علاقتها بالدولة المصرية. وأضحت المؤسسة العسكرية هي البديل الوحيد للتدخل لحسم صراعات القوى السياسية المدنية والدينية واستعادة الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي‏[16].

ومع تصاعد حدة المعارضة السياسية والمجتمعية ضد حكم الإخوان المسلمين اكتسب استدعاء ذكرى عبد الناصر ومفردات نظامه السياسي دلالات وتأويلات جديدة أسهمت بصورة جلية في صوغ الخطاب السياسي للحراك الشعبي في 30 حزيران/يونيو والتأسيس لتحالفات ما بعد 3 تموز/يوليو ٢٠١٣ – تاريخ إطاحة محمد مرسي – وخلق مواقع عدائية مع الإسلاميين وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين. ونجحت المؤسسة العسكرية بقيادة الفريق عبد الفتاح السيسي في إعادة تأطير مفردات دولة التحديث السلطوي القائم على المحتوى الأيديولوجي للحقبة الناصرية بصناعة «الشعب» وتصويره ككيان متجانس يسوّغ للدولة خوض معارك الاستقلال والكرامة الوطنية ضد القوى الرجعية الإسلامية بالنيابة عنه‏[17].

ثانياً: تطورات مرحلة ما بعد 30 يونيو ووصول السيسي إلى الحكم

مثّلت اللحظة التأسيسية لتحالفات 30 يونيو صيغة شمولية لعلاقة الدولة بالمجتمع، تتبنى تصوراً فوقياً وسلطوياً في محاولة لخلق مشروع للسلطة يحقق التجانس بين أهداف الطبقة السياسية الحاكمة، ويؤسس لشرعية نظام بدعوى احتكار التمثيل المجتمعي‏[18]. وأسهم استغلال مفردات الخطاب الناصري وإعادة تأويلها في تطوير هوية جماعية للمواطنين الراغبين في إنهاء حكم الإخوان المسلمين؛ فقد رفع المتظاهرون صور عبد الناصر جنباً إلى جنب مع صور عبد الفتاح السيسي والأعلام المصرية، في مشهد رمزي شديد الدلالة على تمثيل القيادة العسكرية «للهوية الوطنية الحديثة الجامعة للمصريين» في مواجهة واضحة مع «الهوية الأممية الإسلامية/التقليدية» التي تنادي بها جماعة الإخوان. كما أسهم استغلال الخطاب الناصري وإعادة صوغه في إضفاء مضمون مختلف على مفردات العزة والكرامة والاستقلال الوطني، في إشارة إلى استقلال القرار السياسي المتمثل بعزل الجيش لمحمد مرسي بمساندة جماهيرية في مواجهة موقف غربي/أمريكي تم تفسيره على أنه داعم لبقاء الإخوان في الحكم‏[19].

على الرغم من اختلاف الظرف التاريخي، فإن الناصرية ما زالت تمثل مخزوناً وافراً لمعاني ورموز مستقرة في الوعي الجمعي، وعلى رأسها الوحدة والاستقلال الوطني. فقد كان لهذه المفردات دور محوري تجاوز صوغ خطاب مناهض لجماعة الإخوان قبل ٣٠ يونيو وانتقل إلى دعم جهود المؤسسة العسكرية في تأسيس سلطة سياسية جديدة لنظام ما بعد الإخوان، على غرار ما فعله الجيش في تشكيل قوام النظام السياسي والطبقة الحاكمة لنظام ما بعد تموز/يوليو 1952‏[20]. ولا شك في أن هذه الجهود من جانب الأطراف ذات المرجعية الناصرية – القومية قد تقاطعت مع جهود أطراف أخرى داخل التحالف الحاكم وأجهزة الدولة البيروقراطية، بمكوناتها المدنية والعسكرية والأمنية، تعمل على إحياء الدولة الأمنية، ومصادرة المجال العام، وتقويض حرية التعبير في إطار الحرب على الإرهاب، واحتواء محاولات تحالف دعم الشرعية المناصر للإخوان لتعطيل المسار الانتقالي اللاحق على عزل مرسي‏[21].

ساعد الفشل المبكر للمشروع الهوياتي – الانقسامي للإخوان المسلمين على إعادة إنتاج مفردات الخطاب الناصري، الذي فسح في المجال لهيمنة الصياغات القومية الأكثر رحابة وتقبـلاً للتعددية وتجلياً للسلام المجتمعي. وخلقت الدولة من خلال الاستدعاء الكثيف لذكرى الحقبة الناصرية حالة من الاصطفاف الوطني واعتبار أي جماعة مختلفة فكرياً وحركياً كخوارج عن زمرة الجماعة الوطنية في الشهور التالية على تموز/يوليو ٢٠١٣. فكانت تظاهرات 30 يونيو بمنزلة لحظة تأسيسية لتأسيس نظام قمعي بهدف استئصال القوى الإسلامية في سياق «الحرب الوطنية ضد الإرهاب» وفرض أولوية السياسات الأمنية، ومصادرة المجال العام، والترويج لخطاب الإجماع والاصطفاف الوطني وتخوين أي معارض ينشق عن الصف؛ فعلى الرغم من أن الناصرية لا تمثل مشروعاً متماسكاً ومتجانساً للهيمنة الأيديولوجية، كالإسلام السياسي أو الماركسية، فهي تشكل جزءاً أساسياً من الثقافة السياسية ومن الخيال السياسي للطبقات العمالية والوسطى الحضرية والريفية في مصر، وهو ما ساعد القوى التقليدية على تجاوُز اللحظة الراديكالية في الانقطاع الثوري في شباط/فبراير 2011 واستعادة مقاليد الأمور‏[22]. وفشلت القوى الليبرالية واليسارية – القومية في صوغ خطاب شعبي أو جماهيري يدور حول الحريات السياسية والمدنية، والعدالة الاجتماعية، واحترام حقوق الإنسان، ليكوِّن مساراً ثالثاً مستقـلاً عن المؤسسة العسكرية من ناحية، وتحالفاً لدعم الشرعية من ناحية أخرى‏[23].

غير أن اعتماد نظام ما بعد الإخوان بصفة أساسية على الأداة الأمنية لإدارة الصراع السياسي والاجتماعي، والعجز التام عن تدريب كوادر وبلورة أفكار وسياسات للتخفيف من وطأة الأوضاع الاقتصادية المتردية ولضمان استمرار الشحن المعنوي للمؤيدين وتوسيع القواعد الشعبية المساندة، يؤذن بوجود أزمة حكم طاحنة للطبقة السياسية. فأي مشروع للسلطة يستند إلى ركيزتَي الهيمنة والقبول كأساس للاستمرار في الحكم، عبر الاعتماد المكثف على أدوات القهر والأجهزة الأمنية يؤذن بأوضاع غير قابلة للاستدامة الدولية‏[24]، وسيُبقى الأزمات الهيكلية الموروثة من عقود ما قبل 2011 تشكل ضغوطاً هائلة على مسعى الطبقة الحاكمة نحو الهيمنة، وعلى رأسها الخلل البنيوى الضخم في النظام الاقتصادي المتمثل بعجز هائل في ميزان المدفوعات والتجارة، وغياب التراكم الرأسمالي بسبب غياب القواعد الصناعية المنتجة، وارتفاع معدلات البطالة، وعدم ملاءمة السياسات الضريبية والمالية للأهداف التنموية العادلة‏[25].

أفرزت ثورة ٢٥ يناير توقعات متزايدة ورفعت وعي قطاعات واسعة من الشباب وأحدثت هزة عنيفة في بنى السلطة القائمة؛ فكان التشابك بين اللامساواة الاقتصادية والاستبداد – في ما أطلق عليه رأسمالية المحاسيب في مصر – عنصراً جوهرياً في اندلاع ثورة ٢٥ يناير. فالطبقة السياسية الحاكمة بحاجة إلى اكتساب شرعية من خلال الوفاء بحاجات المواطنين الاقتصادية والاجتماعية، وبحاجة إلى تشكيل تحالفات اقتصادية واجتماعية لتمرير سياساتها التنموية. فلا يمكن الاستمرار في طمس الأسس الاقتصادية والمادية للاستقطابات المجتمعية تحت احتراب هوياتي وأيديولوجي تروج له السلطة الحاكمة في خطابها القائم على أولوية السياسات الأمنية لمكافحة الإرهاب. لذا يمكن أن يشكل رد الاعتبار للأبعاد الاجتماعية والاقتصادية كإطار للحركة نقطة دفع لتشكيل تحالفات حزبية وخلق أرض للتوافقات وللعمل الجبهوي المشترك للتنسيق في قضايا «العدالة الاجتماعية»‏[26].

ثالثاً: إمكانات تجاوز الاستقطاب الثنائي القومي – الإسلامي في ضوء نماذج النقد الذاتي والتحول السياسي بأمريكا اللاتينية

أكّد ستانلي كافيل أنه لا يمكن تجاوز إحباط الحلم الديمقراطي العصي على التحقق، واليأس من الوصول إلى وضع «الكمال الديمقراطي» من دون الانطلاق من نظرة نقدية للواقع المعاش والكشف عن جوانب القصور فيه والسعي الحثيث نحو العمل على سدها‏[27]. فالتحقق غير المكتمل للوعد الديمقراطي قد يشكل دافعاً لإعادة المحاولة ورفض الرضوخ والاستسلام للنسق السياسي القائم بما يشوبه من نواقص؛ فالنقد الذاتي هو عملية تقويمية وممارسة جماعية للبحث عن مخارج مبتكرة لإدارة التنوع والاختلاف، بغرض الحفاظ على بقاء الكيان السياسي وفقاً لأي مستجدات على الصعيدين المحلي والإقليمي. ارتبط النقد الذاتي تاريخياً بسياقات التحول والتغيير، ارتباطاً شرطياً تلازمياً، وعادة ما تزامن في توقيته ومنطلقاته مع مراحل انتقالية مفصلية، وما يصاحبها من أزمات بنيوية يمر بها المجتمع ككل، أو تتعرض لها حركة أو جماعة بعينها من جماعاته السياسية الفاعلة؛ فتجد القوى السياسية نفسها أمام خيارين، إما المضي قدماً بطريقة ارتجالية، وإما التخطيط للمستقبل بالرجوع إلى أخطاء الماضي وتقييمها وتقويمها لبدء مرحلة جديدة. لذا يعَدّ إدراك الكيان/الفاعل السياسي لسوء الأداء ومقاربته بالتوقعات المأمولة منطلقاً أساسياً للشعور بالمسؤولية إزاء تطورات ومآلات الأحداث وخلق الدافع للشروع في مراجعات فكرية نقدية‏[28].

تبدأ المراجعات النقدية باستدعاء ذاكرة الماضي وربطها بسياقها وبالأهداف والقيم الحاكمة للسلوك لاستجلاء مواضع الخطأ في مجمل مواقف التنظيم السياسي ومنطلقاته واستراتيجياته، وهو ما يساعد على امتصاص الصدمات وتراكم الخبرات واستخلاص الدروس المستفادة لتَجنُّب الأخطاء نفسها في المستقبل إذا ما أُعيد إنتاج المواقف القديمة نفسها. يمكن النظر إلى المسار السياسي الذي بدأ مع لحظة 3 يوليو 2013 بوصفه أحد الاحتمالات الممكنة، وإن مثّل ضربة قاصمة لإطار 25 يناير؛ فكل إخفاق يحمل في طياته قوة دافعة للاستمرار بعد الوقوف عند محطات لمراجعتها من دون الانزواء في ركن المظلومية والانهزامية الذي يقتل روح المبادرة في البحث عن مخارج وحلول لتخطي الوضع المتأزم.

باستلهام تجارب تاريخية في سياقات مشابهة، وبالبحث عن الأسس المعيارية الكامنة وراء البدائل التي طرحتها هذه النماذج، ارتبط التحول الديمقراطي بأمريكا اللاتينية وسقوط النظم العسكرية السلطوية بعمليات تاريخية لمراجعات فكرية لقوى اليسار لإعادة تأسيس نظمها الحزبية، وتوسيع قواعدها الشعبية، وفتح آفاق جديدة للتعاون مع أطياف سياسية ومجتمعية على نحو تجاوز الاستقطاب الأيديولوجي التاريخي بين محوري اليمين – واليسار وحبّذ النزعات التوافقية مع المنافسين السياسيين. تصاعدت حدة الانشقاقات داخل معسكر اليساريين مع لحظة الحسم للاختيار بين الذاكرة التاريخية اللينينية الهادفة إلى توظيف أدوات العنف للوصول إلى السلطة وتحقيق الحلم الاشتراكي من ناحية، وبين سياق اجتماعي متحول يفرض ضرورة إحداث مراجعات فكرية ونظرية وتحولات في التوجهات السياسية والمستويات الحركية من ناحية أخرى. وتمخض الجدل الفكري داخل المعسكر الماركسي عن إعلان القوى اليسارية مسؤوليتها الكبرى إزاء إحداث استقطابات مجتمعية حادة إبان حقبة الخمسينيات، شكلت دافعاً قوياً لتدخل المؤسسة العسكرية وإقامة نظم سلطوية في أمريكا اللاتينية في الستينيات والسبعينيات. ومثّل إدراك القوى اليسارية لأخطائها التاريخية دافعاً للانغماس في مراجعات سياسية ونظرية للنقد الذاتي والخروج بمشروع «التجديد الاشتراكي» (Socialist Renovation)‏[29].

ارتبطت عمليات النقد الذاتي لليسار وما تمخض عنها من متخيّلات اجتماعية جديدة بقدرة قيادات سياسية وفكرية على جذب قطاعات واسعة من الشعب لطرح بدائل للتخلص من الحكم العسكري السلطوي واستشراف مستقبل سياسي أكثر مرونة. فقد كان الخيال السياسي محركاً رئيساً لكل نشاط ذهني داخل التيار اليساري التجديدي يهدف إلى إحداث تغيير مجتمعي وسياسي منطلقاً من مراجعة مجموعة القيم المستقرة للأيديولوجيا اليسارية‏[30]، فأعاد اليسار تعريف الديمقراطية كإطار للتعايش المشترك والتوافق بعد أن وجد هذا اليسار نفسه في خيار إما الحفاظ على قواعده الاجتماعية الراغبة في الحراك خارج الأطر المؤسسية التمثيلية بما ينطوي عليه من مخاطر استمرار الحكم السلطوي، وإما احتواء المطالب الشعبية لضمان الاستقرار السياسي بما يحمله هذا الخيار من إفراز وضع سياسي يحد من المشاركة الشعبية ويقوّض أسس الصراعات الطبقية بالمجتمع‏[31].

لم يكن الخيار التاريخي أمام المعسكر اليساري بين «الاشتراكية» أو «الفاشية» وإنما بين استمرار «الدكتاتورية العسكرية» أو التأسيس لـ «ديمقراطية سياسية». فأدت عمليات تشريح الماضي وتحليل الخبرة الذاتية تحت الحكم العسكري إلى إعادة صوغ النموذج الاشتراكي التقليدي للحركة السياسية وطرح بديل أيديولوجي مرشداً للممارسات السياسية اللاحقة. فلم يشكل التجديد الاشتراكي التزاماً بخطة أو استراتيجية سياسية محددة، وإنما انطوى على تحولات أيديولوجية وثقافية في ستة عناصر شكلت الأساس الفكري لحركة اليسار منذ الستينيات: 1 – إعادة النظر في العنف الثوري كإحدى استراتيجيات العمل السياسي؛ 2 – تقييم أداء اليسار ومسؤوليته إبّان الحكم العسكري؛ 3 – إحلال الإيمان بقيم الديمقراطية الراديكالية محل الراديكالية الاشتراكية والأسس الثورية للماركسية – اللينينية؛ 4 – رد الاعتبار للبعد السياسي للديمقراطية والاهتمام بالحريات، 5 – إعادة ترتيب العلاقة بين السياسة (موقع الطبقات، والدولة، والحزب) والمجتمع المدني وتوفير الضمانات القانونية لاستقلال الأخير، 6 – التخلي عن الحتمية الاقتصادية وإعطاء مضمون جوهري للثورة بإعادة النظر في كونها وسيلة عالمية للوصول إلى السلطة السياسية ورد الاعتبار لخصوصية السياقات السياسية والاجتماعية المتباينة‏[32].

لذا، أدت الخبرات والأزمات التاريخية في الستينيات دوراً في رسم مسارات ومآلات عملية التعلم. فقد أدّت قيادات الأحزاب والحركات اليسارية في تشيلي وأوروغواي والبرازيل والمكسيك وفينزويلا دوراً في صوغ التوجهات الاستراتيجية، وإضفاء محتوى اجتماعي على العملية الديمقراطية، وخلق أسس مادية جديدة للاستقطاب تنأى من الالتزام الصارم بالعقيدة الثورية اللينينية. ركزت قيادات هذه الأحزاب على العدالة الاجتماعية ومنازعة السلطة على حقوق الملكية وردِّها إلى الإطار الأوسع لسياسات الدولة الاقتصادية وانحيازاتها الطبقية والآثار الاجتماعية لسياسات النيوليبرالية‏[33].

ومع التسليم بعدم وجود كتلة إسلامية أو ثورية متجانسة، فإنه يمكن لبعض التنظيمات والتيارات السياسية بمصر استلهام تجربة المراجعات اليسارية والاستفادة من متوالية الأخطاء التي أعقبت ٢٥ يناير والتي أدت إلى مأزق ما بعد ٣ يوليو وما نجم عنها من تضييق للحريات ومصادرة المجال العام من خلال طرح أسئلة جوهرية تتمحور حول رؤية الذات والآخر، وتقييم الأداء وردود الأفعال والتفاعلات مع مختلف القوى السياسية؛ وذلك بهدف وضع رؤية للعمل المستقبلي والكشف عن مكامن القوة لإصقالها ونقاط القصور لتصويبها، واقتراح آليات وأولويات للحركة وتقييم مدى مواءمتها مع شروط الواقع، وبحث إمكان التنسيق أو إقامة تحالفات مع القوى الأخرى.

تبدأ عمليات النقد الذاتي بتفكيك الفواعل للفرص السياسية إلى سلسلة من الأفعال وردود الأفعال وإعادة النظر في السياق السياسي وما أفسحه الزخم الثوري من فرص تم إهدارها وفقاً لمحكَّين رئيسيين‏[34]: أولاً، موقع الدين في العملية السياسية والموقف من القوى الإسلامية. ثانياً، سيولة الأطر الحاكمة للمطالب الثورية وقدرة القوى الثورية على تعبئة الموارد التنظيمية. تساعد هذه العملية الذهنية على إعادة النظر في التحركات السياسية واستجلاء كيف تمت إعادة رسم خطوط المواجهة والانتقال تدريجاً من الجبهة المناوئة للطبقة السياسية الحاكمة إلى الانحياز لجبهة الفلول والمؤسسة العسكرية وتضييق مساحات الحركة وهامش المناورة أمام أي تكتل للمعارضة.

 

1 – الموقف من الدين والقوى الإسلامية

هناك صعوبات بالغة في ظل المنعطف التاريخي للإخوان لإجراء أي مراجعات فكرية، حيث تشددت أغلب القواعد الاجتماعية واتخذت مواقف أكثر محافظة بعد الأحداث السياسية التي عصفت بالتنظيم منذ مذبحة رابعة في آب/أغسطس 2013 وحملة الاعتقالات الشرسة ضد الصفوف الأولى للتنظيم. غير أن التسليم بضعف احتمالات خوض تنظيم الإخوان المسلمين أي مراجعات فكرية، لا يمكنه إخفاء واقع سياسي يؤكد أن الدين هو عنصر مؤسس لشرعية دولة ما بعد الاستقلال، وأداة الطبقة السياسية لاستدامة السيطرة الاجتماعية وإعادة إنتاج تحالفاتها المحافظة والحؤول دون نفاذ مشروع لجماعة دينية للهيمنة المجتمعية‏[35]. ويقتضي للخروج من المأزق الراهن تحديد الموقف من الدين وعلاقته بالسياسة والبحث في إمكانات التنسيق أو التحالف مع قوى إسلامية أخرى مناهضة لجماعة الإخوان‏[36].

عمدت التنظيمات المدنية إلى طمس التنويعات الواسعة داخل التيار الإسلامي ذات الرؤى المختلفة للعلاقة بين الدين والدولة. فقد غلبت نظرة الريبة والشك تجاه التيار المصري وحزب مصر القوية على نحو أعاق التنسيق أو التحالف معهما، من دون التدقيق في مقوِّمات قيادات هذه التيارات للضغط والتأثير في قواعدها الجماهيرية لخلق أسس غير هوياتية للصراع الاجتماعي وإيجاد مساحات مشتركة للحوار مع القوى المدنية‏[37] . فعند أخذ موقف من حركة سياسية ينبغي تشريح طبيعة مشروعها السياسي والاجتماعي لتحديد الموقف الاستراتيجي إزاءها؛ أي البحث في حدود وإمكانات التنسيق معها حول قضايا مشتركة من دون عقد تحالفات، وذلك لمواجهة عدو مشترك بتوسيع هامش المناورة ضده. فلا يمكن التعامل مع التيار الإسلامي على أنه كتلة متجانسة ومتناغمة ذات أساس أيديولوجي متماسك حاكم لتحركاته السياسية، فهناك قوى سياسية تنطلق من قيم ومرجعية إسلامية يمكنها تخفيف حدة الانقسامات العدائية الأيديولوجية للإسلام السياسي والصراع الهوياتي، وطرح أولويات أخرى تتجاوز إهدار الفرص المتتالي بخلق أسس مادية اقتصادية وجغرافية للصراعات المجتمعية.

أكد أحمد شكري – رئيس المكتب السياسي لحزب مصر القوية – جهود الحزب في كسر حلقة الخلاف الهوياتي وتجاوز الاستقطاب الإسلامي – العلماني ومحاولة خلق أسس جديدة للصراع‏[38]. يسعى الحزب إلى الدفع في اتجاه مسار ديمقراطي والوصول إلى توفيقات مجتمعية في شأن السياسات التنموية وتخصيص موارد الموازنة، وذلك من خلال إثارة قضايا العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد، والتنديد بأوضاع عسكرة الدولة. وأشار شكري إلى أن: «الحزب يسعى بالأساس إلى إحداث شراكة وطنية للعمل المشترك ومقاومة الاستبداد، ودعم المسار الديمقراطي… فمع الظروف الضاغطة انضم إلينا التيار المصري وهناك مسارات للتواصل والحوار مع أحزاب الوسط والبناء والتنمية وتم خلق مساحات مشتركة معها، أدت إلى انسحابها من تحالف دعم الشرعية […] وهناك استجابات محدودة للتنسيق مع قوى يسارية إزاء قضايا محددة يمكن العمل على زيادتها في المستقبل، بالإضافة إلى سعي الحزب لاجتذاب شرائح الشباب وخلق مساحات آمنة للمشاركة السلمية من شأنها أن تتراكم وتحدد قواعد اللعبة السياسية مستقبـلاً».

وأضاف محمد المهندس – رئيس وحدة الاتصال السياسي بحزب مصر القوية – أن الحزب يقوم بدور محوري في العمل على تجاوز مخاوف التيار المدني، وذلك من خلال «طرح فكري عاقل ومتزن يدور حول إعادة تعريف سياسات الهوية والحريات الدينية من خلال الممارسات [العملية]. فيمكن مع تراكم مواقف الحزب الثابتة تجاوز شكوك التيارات المدنية والدفع نحو تقبلها للخلفية المحافظة للحزب كأحد موارد القبول والمصداقية بين قواعده الاجتماعية»‏[39].

ويمكن لثراء تجارب لاهوت التحرير في دول أمريكا اللاتينية أن تشكل نقطة انطلاق ملهمة لمختلف القوى السياسية في مصر بمختلف تنويعاتها في ما يتعلق بمهمات إعادة تعريف علاقة الدين بالمجتمع بوجه عام وبالسياسة على وجه الخصوص. فقد تقاطعت المراجعات الفكرية لليسار اللاتيني مع انبثاق الجناح التقدمي داخل الكنيسة الكاثوليكية، وأدى الخيال السياسي لكل منهما دوراً محورياً في تنمية روح الابتكار والتجديد وتجاوز الإحباط والانهزام وخلق آفاق سياسية جديدة. فقد نسقت حركة لاهوت التحرير مع الحركات اليسارية للوصول إلى مجموعة من الأهداف السياسية والاجتماعية المشتركة التي خلقت مساحات للتلاقي انطلاقاً من محددات الإيمان المسيحي، مع الإبقاء على مسافة من الفكر الماركسي – الصراعي المحدد لتحركات اليسار السياسية. فقد نجح كلاهما في تخطي التقسيم الثنائي «التقليدي – المعاصر» والتأكيد أنه ليس كل ما هو جديد يشكل قطيعة جذرية مع القديم، وليس كل ما هو تقليدي هو تكرار للأمور نفسها؛ فالمشروع الذي تبنته حركة لاهوت التحرير هو بالأساس مشروع «ثقافي – روحي» يهدف إلى البناء الثقافي والروحي للإنسان وإعادة تفسير الكتاب المقدس من خلال محنة الفقراء ومن منظور عقدي إنساني أكثر رحابة.

بدأ لاهوت التحرير في أمريكا الجنوبية في عام 1968 مع مؤتمر الأساقفة الثاني لدول أمريكا اللاتينية الذي اجتمع في ميديلين بكولومبيا‏[40]. كانت الفكرة من وراء المؤتمر هي إعادة تأويل الكتاب المقدس والكفاح من أجل الفقراء والعدالة الاجتماعية، حيث نجح نضال الكنائس المحلية بالقارة في كسر الالتزام التاريخي – التقليدي لثقافة السكون والخنوع للكنيسة الكاثوليكية،‏[41] ودفعها نحو التحرك تجاه الناس والواقع انطلاقاً من التزام الكنيسة ببشارة «الإنجيل للفقراء» والمقهورين. وعليه أكّد مؤتمر ميديلين صوغ مشروع فكري يتمحور حول ضرورة الارتقاء بأوضاع الإنسان عبر ثلاث آليات محورية: «الوعي.. التحرر.. المشاركة». فتم التشديد على محورية التغيير المجتمعي من خلال إيقاظ وعي الجماهير بتردّي الأوضاع الواقعية المجتمعية، الأمر الذي يقتضي الأخذ على عاتقهم مسؤوليات تحسين أوضاعهم المدنية والسياسية، ومساعدة الأفراد لتحرير أنفسهم من القهر وأنانية الطغاة، ومشاركة الفرد كفاعل وصانع للتاريخ لإحداث التطور الاجتماعي المنشود والتخلص من النظم الاستبدادية‏[42].

وضعت الكنيسة الكاثوليكية في تشيلي وكولومبيا والبرازيل وأوروغواي إبّان حقبة السبعينيات خطة عمل تهدف إلى:

– توفير مساحات آمنة داخل التنظيمات الكنسية للأحزاب السياسية ومساعدتها على إعادة البناء الذاتي.

– مد الجسور وإقامة الروابط مع جماعات المقهورين من المزارعين والفلاحين.

– عقد ندوات لنشر الوعي وإدانة ممارسات النظم العسكرية.

– كسر احتكار تفسير الإنجيل لمصلحة الطبقة السياسية الحاكمة.

– تقديم تعرف جديد للتنمية كانقطاع راديكالي – جذري مع الوضع القائم.

– إعادة تعريف الفقر ليس بوصفه ظرفاً أو حالة فردية يمكن تجاوزها بالتوسع في الأنشطة الخيرية والخدمة التقليدية إلى تصيره كخطيئة بنيوية للنظام الرأسمالي.

– الاستفادة من المساحات المشتركة للنظام الرعوي الكنسي لخلق هوية جماعية للنضال السياسي ضد النظم العسكرية‏[43].

يمكن للقوى الإسلامية استلهام تجربة إعادة تأويل النص المقدس لتجاوز الإغراق في ذاكرة الماضي والتطلع إلى تخيل ما أطلق عليه البعض «الحداثة البديلة»، وإدراك فشل الطموحات الطوباوية وصعوبة تكييفها مع الواقع السياسي والاجتماعي المعاش وحتى الجيوستراتيجي القائم. فالقوى الإسلامية بحاجة إلى حركة فكرية تهدف إلى مراجعة موقع السلطة والحكم في البناء الفكري والعقدي للحركات الإسلامية من ناحية، وإعادة تعريف أصول الشريعة الإسلامية مع التركيز على قيم العدل والمساواة والتعددية من ناحية أخرى.

أكد عضو المكتب السياسي في حزب البناء والتنمية‏[44] أن الاختلافات الأولية حول تعريف الثورة والموقف من الدولة، وتحديد الفواعل المنوط بها رسم سيناريوهات للمستقبل، وضعت البذور الأولى للانقسامات السياسية والصراعات الأيديولوجية؛ ناهيك بعدم جاهزية جميع القوى السياسية للحظة الثورية وما يستتبعها من مسؤوليات، «وغلبة منطق انتهاز الفرصة السانحة كمنطق حاكم لحركة الإسلاميين، والنزعة الاستعلائية تجاه التيارات المدنية باعتبارها غير قادرة على التمدد في المجتمع على غرار القوى الإسلامية». فلا يمتلك التيار الإسلامي بتنويعاته «رؤية ومشروعاً سياسياً محدداً، بل يتعامل بالقطعة مع الأمور نتيجة للخلط بين المنطق الحاكم لفكر التنظيم «كمنظومة صارمة ومنضبطة» ومحاولة إسقاطه على الدولة والتي تقتضي رؤية تعددية [تضمن] استيعاب جملة المكونات الأخرى للمجتمع».

وأضاف أن: «هناك صعوبة لبروز فكرة خارج الصندوق لغياب المقومات اللازمة لإحداث مراجعات فكرية وصياغة مشروع لإصلاح المنظومة الفقهية في ظل القبضة الأمنية والتهديد المستمر للقواعد الشعبية للجماعات الإسلامية»، غير أن الحزب يحاول الدفع في اتجاه «تطوير خطاب استيعابي نقدي بإعادة النظر في موقع الهوية مع ازدياد القناعات في ضوء الخبرة الواقعية بصعوبة استحواذ فصيل واحد على صياغة مستقبل مصر… ففي المستقبل يمكن أن يكون هناك اتفاق حول المشتركات انطلاقاً من نظرة مختلفة للشريعة الإسلامية التي لا بد وأن تتعدى الحدود وجملة القوانين الجنائية وتتجه نحو الإعلاء من قيم العدل والمساواة والحرية كجسر للتواصل مع التيارات الأخرى وصياغة مشروع ديمقراطي يقوم على المواطنة، وبناء دولة مدنية متعددة الأديان، وتعريف الهوية الإسلامية كهوية جامعة لجملة القيم الإنسانية، والتركيز على روح الشريعة الإسلامية».

أثبت ما آل إليه الواقع السياسي في مرحلة ما بعد 3 يوليو 2013 فشل فرضية الإدماج – الاعتدال (Inclusion-moderation Thesis) للقوى الإسلامية، التي افترضت وجود علاقة خطية – آلية بين التوجه السلوكي للتيار الإسلامي نحو الاعتدال وإدماجه في عملية سياسية تعددية؛ فأثبت هذا الافتراض إفلاسه في التطبيق على الحالة المصرية؛ ففي ظل وجود حوافز بنيوية تدفع نحو الوسطية والاعتدال بعد وصول مرشح جماعة الإخوان إلى السلطة، قررت الجماعة التوجه نحو أقصى اليمين بالتحالف مع قوى إسلامية محافظة على نحوٍ أثار عدة تساؤلات حول ماهية الاعتدال، وهل المقصود اعتدال في السلوك أم في الأسس الأيديولوجية والتوجهات الفكرية؟ وما هي ميكانيزمات التسلسل العملياتي للوصول إلى أوضاع الاعتدال؟ وهل تتم هذه العمليات على مستوى فردي أم تنظيمي – جماعي؟ وهو ما دفع في اتجاه ضرورة البدء في مراجعات فكرية للتوصل إلى إجابات عن هذه الأسئلة‏[45]. فتركيز القوى الإسلامية في الفترة القصيرة لحكم الإخوان المسلمين (حزيران/يونيو 2012 – حزيران/يونيو 2013) على الفرز الهوياتي القائم على إقصاء الأغيار، أعاد إنتاج الأطر الانقسامية للهوية وعلاقة الدين بالسياسة على نحو عقيم لم يسهم في خلق حالة من الجدل العام بين الجماعات المتصارعة، وهي حالة منشئة لأسس وتحولات مجتمعية ومؤسسية جديدة في تاريخ الاجتماع البشري.

2 – الأطر الحاكمة للمطالب الثورية وقدرة القوى الثورية على تعبئة الموارد التنظيمية

كانت الأحداث الاحتجاجية في الشارع التي حملت إطار «يسقط يسقط حكم العسكر» في خضم الزخم الثوري بدءاً من أواخر 2011، كافية للاستثمار فيها لإيجاد قواعد مجتمعية أكثر وعياً ونضالاً رغم تراجع حركة الشارع آنذاك، وهو ما شكّل نقلة نوعية من شعار «الجيش والشعب يد واحدة» الذي أسس لحكم المجلس العسكري عقب تنحي مبارك. غير أن معظم القوى الثورية تبنت هذا الإطار لأغراض مؤقتة تتعلق بالتملل من انحياز المؤسسة العسكرية للإخوان المسلمين، ولم يكن الهدف الأصيل صوغ مشروع جماهيري تعبوي لإزاحة العسكريين من المواقع السياسية وتوسيع هامش المناورة معهم ببناء حركة جماهيرية ضد الحكم العسكري وتأسيس طبقة سياسية جديدة. وقام الإخوان، من جانبهم، باستغلال مفردات هذا الإطار للإسراع بوتيرة عملية الانتقال السلمي للسلطة، واستكمال خطتهم للوصول للسلطة، والنفاذ إلى أجهزة الدولة ومحاولة السيطرة الهادئة التدريجية عليها عبر الآليات الانتخابية، بوصفهم القوة السياسية ذات القواعد التنظيمية الأكثر تمرساً في قواعد اللعبة الانتخابية. فأشار خالد علي – مرشح الرئاسة الأسبق وعضو المكتب السياسي في حزب العيش والحرية (تحت التأسيس) – إلى أن التحول من إطار «عيش حرية عدالة اجتماعية» إلى «يسقط يسقط حكم العسكر»‏[46] أعاد مسألة الدولة إلى جوهر الصراعات السياسية في ظل تركيز الإخوان والمؤسسة العسكرية على اختزال عملية التحول السياسي في الإجراءات الانتخابية وصناديق الاقتراع، وفشل القوى الثورية في طرح حلول جذرية كتشكيل حكومة مستقلة للإشراف على الانتخابات، أو صوغ سياسات اجتماعية أكثر تقدمية. وأضاف أنه «مع انبطاح القوى الثورية حتى بعد اتضاح الأمور في 3 يوليو 2013 والاشتراك في دائرة الدم برزت تناقضات خطاب الثورة وفقدت [التيارات الثورية] أي مصداقية للعمل بشكل مستقل، الأمر الذي أدى إلى تراجعها من المشهد السياسي».

كان غياب التنظيم الحزبي الراسخ ذي القواعد الجماهيرية الواسعة هو أحد ملامح الضعف البنيوي للثورة، وهو ما حال دون تعبئة طاقات مجتمعية لتحويل طاقات الانتفاض والاحتجاج الشعبي إلى مشروع سياسي قادر على التنافس على مواقع السلطة وتشكيل قوامها، وتحسين الوضع التساومي لمعارضة مستقلة، ومزاحمة القوى المعارضة المهادنة للطبقة السياسية التقليدية، وخلق دوافع جديدة لكسب المتعاطفين مع مطالب الثورة الرئيسية. فشدّد محمد هواري – عضو الحزب المصري الديمقراطي سابقاً والدستور حالياً – على معوقات تطوير أبنية حزبية ذات ظهير شعبي واسع في ظل افتقار الأحزاب السياسية الناشئة إلى أي أسس أيديولوجية للتمايز بينها، وهو ما جعل معظم الصراعات الحزبية داخلية حول مسائل تنظيمية غير مسيسة‏[47]؛ فلم تستطع الأحزاب الوليدة تطوير برامج قادرة على النفاذ إلى ثنايا المجتمع، وابتكار حلول وفقاً لتطورات الأحداث، وتدريب وتجنيد قواعد شبابية؛ «فجميع خناقات الأحزاب في مصر خناقات تنظيمية […] الخناقة جوّه ومش عارفين يخرجوا براها… وتحولت أمانات الأحزاب بالمحافظات إلى مجرد أبنية [غير وظيفية] ليس لها رؤية أو أهداف محددة.. وعاجزة عن المبادرة بالفعل.. فمستنيين حاجة تحصل من براهم كموقف نقابة الأطباء ضد بطش جهاز الشرطة ثم تبدأ الأحزاب في التصديق وإقرار المواقف». تحولت الأحزاب إلى نوادٍ للنقاش مع الاستغراق في الانشغال بتدافع الأحداث دون الاهتمام بوضع رؤية حول الأسس والغايات والأدوات. وأوضح عضو في المكتب السياسي لحزب الوسط‏[48]، أن غياب الخبرة السياسية للأحزاب والتيارات الوليدة أدى إلى ارتباك في عقد التحالفات السياسية والتنسيق حول القضايا المشتركة. فضـلاً عن أن تسارع وتيرة الأحداث وتراكماتها المتلاحقة أعاق إنشاء هيئة استشارية ووحدات بحثية لتحديد مرجعية توضح معالم الطريق وترشِّد عمليات صنع القرار السياسي، «مفيش مسطرة يمكن الرجوع إليها كمعايير للحكم على الممارسات السياسية.. وهناك حاجة لمعاونة بعض الأكاديميين لوضع خطة عمل مستقبلية للعمل الحزبي في إطار تجارب دول أخرى.. فهناك فرصة الآن لطرح الأسئلة الصعبة والبحث عن إجابات أكثر نضوجاً».

من ناحية أخرى، حال تركيز القوى الثورية على نحوٍ حصري على الأداة الاحتجاجية والمواجهة المباشرة مع الأجهزة الأمنية والاستدعاء الدائم لذاكرة «ميدان التحرير» دون التركيز على تشريح الظروف المحيطة، وإدراك واقعي لحدود الخطوة السياسية، وترتيب التحالفات وصوغ الشعارات والمطالب، وتطوير الأدوات والاستراتيجيات وفقاً لهذه الأسس. فقد نجحت السياسات الاحتجاجية في خلق سلسلة من التفاعلات السياسية والاجتماعية واندلاع حركة شعبية واسعة النطاق، غير أنها عجزت عن التأثير في ماجريات الأحداث بصفة مستدامة، كما عجزت عن صوغ وخلق مطالب جديدة تمشياً مع السيولة والتغيرات في سياق الفرص السياسية. وفي هذا الصدد، أشار المهندس إلى أنه لا بد من التركيز على رفع الوعي المجتمعي بحدود الهزيمة الحالية للتيارات الديمقراطية بخلفياتها الأيديولوجية المختلفة وبحث إمكانات تجاوزها بدلاً من التركيز على تبادل الاتهامات ورفع شعارات جوفاء، مثل «المقاومة» وعدم الاستفادة من أخطاء الماضي، باعتبار السياسات الاحتجاجية الأداة المثلى لإحداث تغييرات سياسية جوهرية ورفض آليات التنظيم وقيم الحوار والتفاوض‏[49]. وأضاف هواري أن «الثوريين تحولوا إلى جزر منعزلة، فتحول الميدان إلى ترس مغروس في دماغ الناس، بحيث إن الحلول الجذرية تعني النقاء وإن أي انفتاح على حلول توافقية أو تفاوضية هو فساد»‏[50]. فنجاح أي استراتيجية احتجاجية مرهون بالقدرة على استشعار نبض وتوجهات ورغبات شرائح مجتمعية واسعة، وذلك لاتخاذ قرارات استراتيجية تتعلق بتوقيت التحرك وتطوير الأدوات وإمكانات التصعيد أو الهدنة.

عجزت القوى الثورية في أكثر المنعطفات حسماً عن رسم سيناريو للتغيير وتنفيذه لتأسيس سلطة سياسية، وهو ما فسح في المجال لأجهزة الدولة لاختراق التنظيمات الثورية ولتأدية دور مركزي في تشكيلها وتحديد استجابتها لمسارات الأحداث. واختلطت أوراق اللعبة السياسية مع تحويل معركة الثورة إلى الساحات الانتخابية وتم إعادة تأطير المطالب المجتمعية من إطار مناهض للقوى الأوليغارشية التقليدية تحت شعار «يسقط يسقط حكم العسكر» إلى إطار يسعى إلى استعادة أوضاع الاستقرار خوفاً من حكم الإخوان المسلمين. ومع منعطف 30 يونيو، لجأت القوى المدنية – متمثلة بجبهة الإنقاذ الوطني التي ضمت ما يقرب من 35 حزباً سياسياً وحركة سياسية وثورية، وجميعها ذات أيديولوجيات ليبرالية ويسارية – إلى تحكيم مناهضي الثورة من أجنحة الدولة والقوى القديمة وعلى رأسها المجلس العسكري لحسم المعركة لصالحها وبالوكالة عنها. وعند هذه النقطة الزمنية، تجاوزت الطبقة السياسية التقليدية أزمة الهيمنة مع احتكام القوى المدنية للمؤسسة العسكرية كممثل للدولة المصرية لتشكيل توازن قوة مضاد لجماعة الإخوان. فلم يعد الهدف إصلاح الدولة ومؤسساتها وإنما السعي لاستعادة ما تم هدمه منها منذ تنحّي مبارك، في تحرك استراتيجي يحمل في طياته إطاراً تجديدياً لبنية وعلاقات القوة التقليدية.

أدى الفشل المتراكم في خلق جبهة ثالثة للصراع، ضد بقايا نظام مبارك وضد الإخوان، بإمكانها فتح أفق سياسي جديد وتغيير قواعد اللعبة التاريخية الصفرية للصراع بين الدولة والإخوان، إلى بزوغ الجيش كبديل وحيد لحسم صراع الهيمنة واستعادة قدرات الدولة القمعية وتحويل المسار السياسي برمَّته، مع إزاحة الإخوان من الحكم في مرحلة ما بعد 30 يونيو. كانت مرحلة 30 يونيو تأسيسية لإعادة تشكيل التحالفات السياسية والاجتماعية المساندة للنظام الجديد والساعية إلى استئصال التيار الإسلامي بالقوة أو بإرادة نظام سلطوي. ففي لحظة احتدام الانقسام الهوياتي الإسلامي – العلماني في 30 يونيو 2013 خلقت الدولة إطاراً يحمل معاني الإجماع الوطني تحت دعاوى إنقاذ الدولة واستعادة الأمن والاستقرار. وتماهت قطاعات واسعة من القوى الاجتماعية المسيَّسة والأحزاب السياسية الوليدة مع الخطاب القومي للدولة، الأمر الذي أدى إلى مصادرة المجال العام الذي كان آخذاً في التشكل، وإبقاء الموقع التمثيلي لمطالب الثورة السياسية والاجتماعية شاغراً، وترحيل معركة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية إلى مواضع هامشية في ظل خطاب السلطة الداعي إلى الإجماع العام وفي خضم معركة وطنية ضد الإرهاب تضيق ذرعاً بأي فضاءات ناقدة مستقلة.

كما تم الحفاظ على التحالفات السياسية القائمة على المباراة الصفرية في العلاقة المختلة بين الدولة والمجتمع: إما الحفاظ على الدولة من خلال التحالف مع قوى نظام مبارك المتداعي والأجهزة الأمنية والعسكرية، وإما خلق فراغ سياسي تملؤه التنظيمات الجهادية الإسلامية كما ينذر الوضع الإقليمي في سورية والعراق.

أشار خالد علي إلى أنه لا يمكن الاستهانة بالخطاب الصفري والترهيبي للدولة، «فعلى الرغم من سخريتنا اللاذعة من مقولة «أحسن نبقى زي سورية والعراق»‏[51] إلا أنه خطاب يجد صداه بين قطاعات واسعة من المجتمع تخشى العمل الحزبي والتواجد في المجال العام، تحسباً من أن تؤول الأمور إلى حرب أهلية على غرار تلك الجارية في سورية والعراق. كما أدى تأجيج الصراع الهوياتي إلى إعادة إنتاج الأزمة البنيوية الخاصة بالتمثيل السياسي منذ إنشاء الاتحاد الاشتراكي وحتى سقوط الحزب الوطني الديمقراطي – الامتداد العضوي له – حيث ظلت الدولة/حزب الدولة الملاذ الوحيد والممثل الأوحد للمجتمع والمحدد الرئيسِ لأولوياته؛ فيكون الاهتمام بالشأن العام والانخراط في العمل السياسي في حدود الإطار الذي تسمح به الدولة وفي اتجاه القضايا التي تطرحها الدولة، كونها الحاضن للهوية الوطنية الجامعة، التي تضيق بحكم التعريف بقيم التنوع والاختلاف والإدارة السياسية للصراعات الاجتماعية‏[52].

 

خاتمة

هناك ثلاثة شروط أساسية لمأسسة نظام للديمقراطية التعددية: أولاً، القدرة الاستيعابية لمؤسسات النظام على نحو يسمح لجميع الفواعل الاجتماعية والسياسية بمساحة للفعل في المجال السياسي، فإقصاء فواعل من المعادلة السياسية لا يسمح بالاستقرار على المدى الطويل؛ ثانياً، تؤمِّن الديمقراطية التعددية حكم الأغلبية، غير أنه لا يمكن أن يكون حكماً منفرداً على نحو يسمح باستغلال قواعد اللعبة الانتخابية مرة واحدة للاستيلاء على الحكم والتجديد اللامتناهي لفترة الحكم. فيشترط حكم الأغلبية وجود مؤسسات تمثيلية تسمح بالرقابة والتوازن بالإضافة إلى رقابة مؤسسات المجتمع المدني؛ ثالثاً، ينطوي حكم الأغلبية على إجماع مشروط يقتضي تأمين حقوق الأقليات دستورياً وقانونياً على نحو يعيد تعريف العلاقة بين الأقليات والسلطة.

فقد أثبتت تجربة السنوات الثلاث الأخيرة بعد وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة ثم إطاحتهم، أن التيار الإسلامي بأوضاعه الأيديولوجية والعقائدية الموروثة والخطاب السياسي القائم على الشحن الطائفي، غير قابل للدمج داخل نظام سياسي ديمقراطي أو سلطوي ضمن إطار الدولة الوطنية الحديثة. غير أن التجربة نفسها أثبتت أيضاً صعوبة استئصال التيار الإسلامي بالقوة؛ فالتنظيمات الإسلامية ذات ظهير شعبي وعمق مجتمعي واسعَين، وهو ما اتضح إبّان فترة الحراك الانتخابي الحر في 2011 و2012. فقد حاز التيار الإسلامي ربع الكتلة التصويتية‏[53]، وهو ما يعد مؤشراً على الوزن النسبي السياسي والمجتمعي له. لذا لا يمكن تحقيق استقرار سياسي وسلام اجتماعي من دون طرح حلول لمشكلة التيار الإسلامي وموقعه في المعادلة السياسية – الاجتماعية.

يعَدّ خلق تيار «ما بعد إسلاموي» يتجاوز محور الصراع الوجودي التاريخي بين دولة ما بعد الاستقلال والتيار الإسلامي بمختلف أطيافه، محكّاً رئيساً للتغلب على أزمة التحول السياسي في مصر وخلق حواضن شعبية مؤيدة للديمقراطية من بين المعتنقين لأفكار التيار الإسلامي، حيث تشكل الخطابات الإسلامية جزءاً محورياً من المخيال والوجدان الجمعي لهذه الجماهير. فقد أكد كل من عضوي حزب البناء والتنمية وحزب الوسط‏[54] أن سؤال الهوية الإسلامية لا يمكن استئصاله من الواقع المجتمعي. كما أكّد محمد هواري أن غياب رؤية حاسمة لعلاقة الدين بالدولة لدى كل من التيار الإسلامي والتيار الليبرالي عزز وضع الدولة التساومي لتصدير الاستقطاب السياسي في صورة ثنائية الوطني – الخائن للتخلص من الإخوان‏[55].

هنا قد تكون المقارنة مجدية مع صعود اليسار الجديد في أمريكا الجنوبية منذ 2006؛ فعلى الرغم من التسليم باختلاف الملابسات التاريخية وظروف نشأة الدولة القومية الحديثة في المنطقة العربية عن أمريكا اللاتينية، وكذلك تباين الأسس العقيدية والأيديولوجية لليسار المعتدل/الراديكالي في أمريكا الجنوبية والجماعات الإسلامية بتنويعاتها في المنطقة العربية، إلا أن الأساس البنيوي والمنطق الحركي لليسار الراديكالي والجماعات الإسلامية قابل للمقارنة. فتجديد فكر اليسار وإعادة تعريفه لأدوات العمل السياسي والتخلي عن عقلية العسكرة الموروثة من فكر لينين الثوري، كمسار أوحد للتغيير الاجتماعي والسياسي، كان لها أبلغ الأثر في رد الاعتبار لدوره التمثيلي وإعادة رسم حدود الساحة السياسية ومعالم البنية المؤسسية بالإقليم منذ نهاية التسعينيات.

يمكّن الخيال السياسي والتطلع إلى واقع أفضل المرء من قراءة الواقع والتاريخ على نحو جدلي، والسعي الحثيث لتبديل الشروط المادية والموضوعية للوضع القائم والوعي بأهم المآخذ كنقطة انطلاق ومرتكز لإعمال الإرادة والاستعداد لاغتنام أي فرصة بنيوية لتغيير الواقع وتحويل هياكل القوة التي يرتكز عليها. فقد بذلت التيارات الفكرية والسياسية جهوداً استغرقت سنوات كي تأتي بثمار ملموسة لإحداث مراجعات ناقدة لإخفاقات النماذج الفكرية والسياسات التعبوية التاريخية لليسار التي عمقت الاستقطابات الأيديولوجية والصراعات الاجتماعية، وفسحت في المجال لإقامة نظم السلطوية البيروقراطية في القارة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم. فقد اتجه التيار اليساري بمختلف تنويعاته (باستثناء حالتَي كوبا وفنزويلا) مع أواخر الثمانينيات من القرن الماضي إلى إعادة صوغ عدد من مفردات الخطاب الاشتراكي والمنطلقات الفكرية والحركية، مع التخلي عن الدوغمائية اللينينية في تعريف الاشتراكية بالاستيلاء على السلطة والاتجاه نحو عمليات مفتوحة لدمقرطة الهياكل الحزبية والتنظيمات اليسارية؛ فتلاشت مفردات «الدكتاتورية» و«الحزب الطليعي» و«العنف المسلح» من الخطاب اليساري وحلت محلها مفردات الديمقراطية الاجتماعية وبرامج الإصلاح الاجتماعي والسياسات التوزيعية، وديمقراطية المشاركة المجتمعية، والاستقلال الوطني. ونجح اليسار بعدها في توسيع قواعده الشعبية بين الجماعات المهمشة باختلاف انتماءاتها الطبقية، وأحدث تغييرات جوهرية في الخريطة السياسية والسياسات التنموية في القارة منذ بداية التحول اليساري في عام 2006.