الكتابة فعل مقاومة وفعل اشتباك. هكذا يتوجب قراءة النص الأخير، وفهم الفعل الأخير، لجورج حبش وإدراك الهدف منه. فهذا النص ليس سرداً بلا غاية، أو هذا ليس سرداً أراد له صاحبه أن يكون نوعاً من التاريخانية أو السرديات الأكاديمية أو المذكرات الذاتية. ليس سرداً أراد له صاحبه أن يكون مجرد أرشفة أخرى للتاريخ بلا غاية أو لمجرد الأرشفة. فالتاريخ يجب أن يُقرأ أولاً وأخيراً كحالة أيديولوجية. يجب أن يُقرأ كتحفيز لعمل مستقبلي. يجب أن يُقرأ كخارطة طريق للمقاومة والتغيير والثورة. ففي نهاية الأمر، كل الحقائق التي يختارها مؤرخو أي مرحلة من بين آلاف الحقائق الأخرى، هي (لذلك) ذاتية وسياسية أولاً وأخيراً، كما جادل مؤرخ الثورة البلشفية إدوارد هاليت كار. لهذا، فجوهر التأريخ ليس النص وحده أو بحد ذاته (على أهميته)، بقدر ما هو الاستشراف والأفق الذي يفتحه أمامنا، فيضع السرد أو النص نفسه في حيز المقاومة وسياقها في المستقبل، وحتى يمكن أن يعمل على تأسيس مسارها بفتحه آفاقاً من الإمكانات التحويلية – هذا هو المعنى الحقيقي لفكرة أن «الناس تموت والفكرة لا تموت».

الكتابة فعل مقاومة وفعل اشتباك، لأن الفعل والاشتباك المقصودين هنا بالذات هما اشتباك وفعل من أجل تكوين الوعي وخلق الإنسان من جهة، وإسقاط الخرافات (من خرافة «إسرائيل» نفسها إلى كل الخرافات التي يسوقها المهزومون)، من جهة أخرى. الكتابة فعل مقاومة واشتباك، لأن الكتابة عمل، ولأن العمل نفسه (والفعل المشتبك نفسه) هو الشيء الحقيقي الوحيد في التاريخ، والشيء الحقيقي الوحيد في هذه الحياة، وما عداه هو الخرافة والتزوير. لهذا، فالكتابة كـ «فعل مقاومة وفعل اشتباك» هي أكثر توصيف مناسب للنص الأخير الذي تركه لنا جورج حبش، ويُنشر بعد أحد عشر عاماً على رحيله. فهذه ليست محاولة للتأريخ بقدر ما هي أحدى محاولات الحكيم المتعددة للاشتباك مرة أخرى مع الأسئلة الكبرى التي أرَّقته منذ اتفاقيات أوسلو، وتحديداً مع انعقاد المؤتمر الخامس للجبهة الشعبية (1993) حين أرسل الحكيم أول إشارات العزم على التخلي عن الأمانة العامة، وأصر عليها ونفذها في المؤتمر السادس (2000) من أجل خوض مرحلة جديدة من النضال تتمثل، كما كتب، بالعمل «على إنشاء مركز [الغد] الذي يُعنى بدراسة تجربة حركة القوميين العرب ومن ثم الجبهة الشعبية والأحزاب القومية الأخرى، وكذلك تجربة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وأيضاً العمل القومي منذ النكبة، بحيث تكون تجربة الجبهة والحركة والأحزاب والتجارب الأخرى درساً مفيداً لمتابعة النضال الوطني والقومي، من دون أن يعني ذلك ابتعادي من ساحة النضال الوطني والقومي»‏[1].

في ثنايا هذا النص لا توجد فقط الكثير من الأسئلة التي كانت تؤرق حبش وكان يرى في التصدي لها والإجابة عنها مسؤولية ثورية ووطنية وقومية وإنسانية، وليس في هذا النص فقط الكثير من الحديث في التاريخ وعن التاريخ والأحداث والتجارب الفردية والجمعية، بل يوجد أيضاً الكثير مما يمكن أن نفهمه ونعرفه عن شخصية صاحب هذا النص وروحه وقلبه، والنموذج الذي ينبغي أن يكون عليه الثائر الحقيقي والقائد الحقيقي والمقاوم الحقيقي، ما دفعني إلى البحث عميقاً في نصوصنا التراثية لاستلهام توصيف لهذه الروح الفذة والفريدة. فعقب النكبة مباشرة، يكتب الحكيم، «حصلت عملية الاندماج الكلي والصادق بيني وبين العمل الكلي من أجل قضية شعبي ووطني»‏[2]. وهذا النص يؤكد أن هذا الاندماج الكلي رافق الحكيم حتى اللحظة الأخيرة من حياته، فقد رحل هذا المقاوم العظيم مبتسماً وهو يسمع أخبار أبطال غزة يكسرون الحدود بين فلسطين ومصر، فتأكد أن المراهنة على الناس التي أفنى عمره من أجلها لا يمكن أن تخيب أبداً.

في ثنايا هذا النص صدق ووضوح وشجاعة نادرة في زمن يدعي فيه «البطولة» و«الصراحة» و«الوضوح» كل من أراد ذلك فقط لتبرير تخاذله وعجزه وكذبه واستسلامه. «إنني عادة أحدد موقفي السياسي وموقف الجبهة بعد تأنٍ وتفكير، ولكنني أعترف أنه في سياق الثورة تأتي لحظات أفكر فيها بعقلي وقلبي ووجداني معاً»‏[3]. هذا ما قاله الحكيم، في سياق تفسيره لمقولة «سادات فلسطين» التي نعت بها عرفات عقب زيارته نظام كامب دايفيد، وظل يرددها لاحقاً رغم عتب البعض من رفاقه عليه لخروجه عن «حدود اللياقة السياسية». لهذا فنص الحكيم الأخير يصلح أن يكون بياناً ثورياً حقيقياً يؤسس لمراجعة حقيقية لمرحلة سابقة مليئة بالبطولات، وحتى مليئة بالمعجزات، ولكنها مليئة أيضاً بالمآسي والهزائم والخداع.

في ثنايا هذا النص أيضاً حديث عن التاريخ وفي التاريخ، ولكن بإيقاع ثوري فريد يعيد إلى الذاكرة الخطاب الثوري الفلسطيني الأصلي والأصيل، ويعيد إلى الذاكرة بيانات الجبهة الشعبية ووثائقها الأولى ونصوص الميثاق الوطني غير المعدل، وكأنها محاولة لبث الحياة من جديد في روحنا: «كانت وجهة نظر أبو عمار وفتح وعدد كبير من أعضاء المجلس الوطني وبعض الفصائل هي قيام دولة فلسطينية إلى جانب «إسرائيل»، أي قيام دولتين على الأرض، بينما كانت الجبهة الشعبية تريد دولة على الأرض مع الاستمرار في النضال من أجل إزالة هذا الكيان الصهيوني البغيض»‏[4]. هكذا يذكرنا الحكيم، بما قاله مرة الشهيد عماد مغنية، عن الهدف الذي علينا ألّا ننساه أبداً وأن نعمل من أجله كل لحظة، وأن نضحي في سبيله بكل شيء: «الهدف واضح ومحدد ودقيق: إزالة «إسرائيل» من الوجود».

لكن هذا النص، رغم كل ما فيه، غير مكتمل، وهي في الحقيقة «طبيعة الأشياء»، كما يذكر بابلو نيرودا في مذكراته. فالحكيم كتب هذا النص على أجزاء وعلى نحوٍ متقطع وعبر مراحل زمنية متباعدة أثناء انهماكه في العمل الحزبي أولاً والثقافي لاحقاً، وفي ظروف سياسية متقلبة. لهذا رحل الحكيم قبل أن يكمل وقبل أن يغطي كلياً بعض المراحل، وجزئياً بعضها الآخر، وخصوصاً التجارب ذات البعد الفردي، فظلت بلا تفاصيل […]. لكن ما تركه الحكيم من صفحات كفيل بأن يعطي القارئ لمحة عن تجربة إنسانية وثورية فريدة ونادرة هي التي صنعت الحكيم. ففيها الحكيم القائد الفذ، والحكيم الإنسان المرهف الحس، والحكيم العنيد، والحكيم الأب والزوج، وفوق كل شيء الحكيم المؤمن بالنصر واستعادة فلسطين.

 

احصلوا على نسختكم من كتاب مذكرات حكيم الثورة الفلسطينية عند الضغط على الرابط  صفحات من مسيرتي النضالية : مذكرات جورج حبش

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #جورج_حبش #حكيم_الثورة #الثورة_الفلسطينية #سيف_دعنا #كتاب_جورج_حبش