عرفت الحروب الدينية في أوروبا خلال العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة، نزيفاً بشرياً وأخلاقياً، بحيث امتدت هذه الحروب على مساحة زمنية طويلة تصارعت خلالها قناعات دينية كاثوليكية وأخرى بروتستانتية على تجسيد مبدأ الشرعية الإلهية فوق الأرض، أو تجسيد شرعية التحرر من قبضة التعصب. مارست الكنيسة سلطتها على الحياة المجتمعية لتشكيل قناعات وطقوس تحت وصايتها ومراقبتها باستعمال أساليب التعذيب النفسي والجسماني، بحيث سعت إلى خلق نموذج روحي قابل للتوظيف والتطويع وفق غايات استراتيجية محددة.

لم يكن الخروج من هذا الصراع الديني، إلا عبر رؤية متنورة ساهمت في نقل المجتمعات الأوروبية من معيار إكراهي موحد إلى معيار تعددي، يسمح ببلورة أرضية لتسامح القناعات الدينية وفق مبدأ حرية الاختيار وحرية التحويل المعتقد. لكن، ما هي أهم الأفكار التنويرية التي شكلت منعطفات تاريخية في مجال التسامح الديني؟

أولاً: منعطفات التسامح التاريخية

يمكن اعتبار كتاب رسالة في التسامح للفيلسوف الإنكليزي جون لوك (1632 – 1704) مفتاحاً مهماً لدرء خطر العنف الديني. لقد برر لوك مخارج الأزمة من خلال ترسيم الحدود بين الإيمان والمعرفة أو بين الدين والعقل، حيث اعتبر الفصل بين الديني والمدني بمثابة تنوير للقيم الروحية والعقلية. فالمجتمعات لا يمكن أن تنعم بالقيم الدينية الكبرى، كالحق والعدالة والمساواة والتضامن… إلا من خلال «التمييز بدقة ووضوح بين مهام الحكم المدني وبين الدين، وتأسيس الحدود الفاصلة بينهما. وإذا لم نفعل هذا فلن تكون هناك نهاية للخلافات التي ستنشأ على الدوام بين من يملكون الاهتمام بصالح نفوس البشر من جهة، ومن يهتمون بصالح الدولة من جهة أخرى»[1].

يدافع لوك عن ما يسمى «دين الحق» في مقابل «دين الباطل». هذا التقابل يدعو إلى إعادة النظر من جديد في المكون الديني لاستنباط مقاصده الإنسانية الكبرى التي تقوم على الفضائل والأحكام الخيرة. فغايات دين الحق هو السمو بالإنسان إلى مراتب الصداقة والتقوى والخير. أما دين الباطل فتحركه الشهوات الرذيلة والنزوعات الشريرة، لممارسة فائض السلطة القهرية للحصول على منافع وحاجات شخصية باسم الخلاص الروحي. وفي هذا الصدد، يشدد لوك على أنه «من الصعب على إنسان لا يكترث بخلاصه الروحي أن يقنعني باهتمامه البالغ بخلاصي»[2]. تلك هي المفارقة التي لا ينتبه إليها أصحاب الدين الباطل.

لا يقوم دين الحق على الإكراه لإرغام الآخر على تبني قناعات خارج اهتمامه واختياره، فالتبرير واجب عقلي لتشكيل قناعات أو استمالتها، وإن «تغير آراء البشر لا يتم إلا من خلال نور الأدلة والبراهين، وهذا النور لن يبزغ أبداً من جراء العذاب الجسماني أو توقيع العقوبات البرانية»[3]. فالتعذيب والإكراه لا مبرر لهما في إطار العلاقات الإنسانية. فلا «الأفراد ولا الكنائس ولا الدولة لديهم مبرر للاعتداء على الحقوق المدنية والخيرات الدنيوية بدعوى الدين»[4]. فما هو مبرَّر ومسموحٌ به، هو سيادة الحجة والتبرير العقلي.

هذا الهامش من التسامح الذي يدافع عنه لوك في كتابه، لا يعني التسامح مع قناعات تختار لنفسها قناعات الإنكار والجحود، لأن اللحمة التي تشد النسيج الاجتماعي تعود إلى قواعد أخلاقية دينية. فالدين مكوِّن أساسي «للمحافظة على المجتمع المدني»[5]. إن الفصل بين الدين والمجتمع المدني، هو فصل من حيث الوظائف والأهداف، وليس من حيث سلب القيم الروحية أو تدميرها.

ووعياً منه بأهمية الخطاب الديني في بناء القواعد الأخلاقية للمجتمع، يوجه لوك دعوة إلى الحاكم لممارسة الحزم في سياسته إزاء «آراء مضادة للمجتمع الإنساني»[6] التي تمارس التخريب لبنيته العقائدية. وعلى هذا الأساس، «لا يمكن التسامح على الإطلاق مع الذين ينكرون وجود الله»[7].

يُعد نكران الذات الإلهية، من وجهة نظر لوك، تعدياً على الإنسانية. فطالما يُقرن لوك بين الإنسانية والمسيحية، كقوله مثلاً إن «سلطة الحكم لا تفرض على الحاكم أن يتغاضى عن إنسانيته أو عن مسيحيته»[8]. فالعلمانية التي ينشدها لوك، تُبقي على المُثل المسيحية الكبرى وتدمِّر، في نفس الوقت، النسخ التأويلية الشعائرية التحريفية التي أنتجها الباباوات، لكونها تتعارض مع مبادئ العقل. ويعزو لوك هذا التعارض إلى أن المؤول للكتاب المقدس «يساوي بين صياغة لبنود الإيمان كما يتخيلها وبين سلطة الكتاب المقدس»[9].

أما صاحب المنعطف الثاني الذي سجل تحولاً مهماً اتسعت دائرته أكبر في حقل التسامح، هو الفيلسوف بيير باييل (1647 – 1706) ممثل حركة التنوير الفرنسية. تميزت أعماله بنقد لاذع للعقيدة المسيحية. كما تهكم أكثر فأكثر على الطقوس المسيحية التي تجبر المؤمن على دفع الإتاوة لحماية مصيره من الغدر المسيحي، حيث يُجبر «الناس كل يوم على توقيع صكوك الإيمان ضد حرية ضمائرهم من أجل حماية ثرواتهم أو تجنب المنفى والسجن والموت أو ما شابه ذلك»[10].

إن الحق في حرية الاعتقاد أمر مرفوض من وجهة نظر المذهب الكاثوليكي. وما أقلق باييل هو أن فرنسا تحولت بأكملها إلى بنية موحدة منسجمة على مستوى اعتناق المذهب الكاثوليكي في عهد لويس الأكبر. وما زاد في منسوب القلق، هو أن لويس الرابع عشر قد ألغى مرسوم نانت الذي أقره هنري الرابع عشر كشكل من أشكال التسامح الديني، وأرغم بمقتضاه جميع البروتستانتيين على الهجرة إلى هولندا. أما وأن يرفض يعقوب باييل (أخ باييل) التحول من البروتستانتية إلى الكاثوليكية، فذلك قمة الغضب الذي استشعره باييل، وخصوصاً أن يعقوب كلفه رفض الارتداد مصيراً مؤلماً انتهى به موتاً في أحد السجون الفرنسية. فهذه العوامل وغيرها مكنت باييل من بناء تصور حول التسامح المدني يدين بموجبه التعصب الديني الذي كبل إرادة الفرد وسحب منه حرية الاعتقاد، وبخاصة في تعليقه الفلسفي حول كلام يسوع المسيح «لنجبرهم على الدخول». الأمر الذي دفع باييل إلى صياغة أطروحة تنويرية تدافع، ليس فقط على حرية المعتقد الديني، بل كذلك على حرية الملحد بوصفه ضميراً حراً مندمجاً تربوياً وأخلاقياً وقانونياً وشعورياً… في البنية الاجتماعية. لم يكن الدين، من وجهة نظر باييل، مكوناً أساسياً في بناء التماسك الاجتماعي، لأن أطرافاً مذهبية وأخرى خارج الفضاءات الدينية تبحث لنفسها عن شرعية تعددية خارج منطق الوحدة والتماسك الاجتماعي.

يسلط باييل الضوء على منطقة محظورة دينياً واجتماعياً، الأمر يتعلق ببلورة وعي خارج مناطق الصراع الديني. هناك أناس لا تستهويهم العقائد والمشاعر الدينية، ومع ذلك فهم يختزنون في دواخلهم مشاعر المحبة والفضيلة والخير. على عكس أناس «مقتنعين بحقائق الدين وهم منغمسون، حتى الآن، في الجريمة»[11]. ولذلك فهم «مخادعون، أناس غيورون، زناة، فاسقون، شواذ…»[12] فعالم الملحدين لا يختلف عن عالم الوثنيين أو المسيحيين. فالملحد قد يتصرف وفق مبادئ الخير الأسمى والصالح العام، وهذه الاستقامة الأخلاقية لا تعكس بالضرورة خوفه من النار أو نزوعه الإيماني نحو محبة الله وتبجيله أو تعظيم لجلاله. قد يبدي الملحد تعاطفاً مع الإنسانية بدون العودة إلى الضوابط الدينية، وقد يترفع عن الشهوات والملذات بدون الارتباط بالوازع الديني، وقد يسمو عن حب الذات بدون الانغماس في توجيه مرجعي ديني، كما أن الملحد لا ينخرط دينياً في الحروب والتعذيب والقتل، كما حصل، لأنه لا يمتلك مرجعية دينية يدافع عنها انفعالياً.

يضع باييل مسافة بين «الوعي الحر» و«الوعي التائه». الأول وعي «أمام الله» لا يمتلك الإنسان معه القدرة على وعيه الخاص. فالوعي يتحدد بارتباطه بالله ولا شيء آخر غير الله. عندما «تصحح معرفة الله الميولات الآثمة للإنسان[13] «حينها يعتنق الخير والجمال والفضيلة. لكن باييل وضع لهذا النوع من الوعي حداً، لأن الإنسان يقع في الحزن والغضب وينطفئ نور وعيه. ففي «هذا العالم لا نتصرف وفق أنوار الوعي»[14] بل نتصرف وفق وعي ضال يبحث عن الحقيقة. فالوعي الضال ليس له مرفأ يرسو فيه، إنه آثم وتائه على الدوام. وفي هذه السيرورة من البحث عن اليقين، يتهدد الوعي الخطأ والزلل. لم يعرف وعي باييل استقراراً، فقد تحول من الكالفينية إلى المسيحية، ومن المسيحية إلى البروتستانتية. وهذه السلسلة من تحولات لوعي تائه، كان غرضها البحث عن الاطمئنان الروحي. ولهذا السبب، فالتسامح ضروري، ولأنه ضروري فيجب أن يصاحب حركة الوعي وتحولاته، بدل أن يُعتقل الوعي في حضرة الله أو «أمام الله».

لقد سجلت أعمال لوك وباييل تنويراً للوعي والدين، وارتفع مقام التسامح إلى واجب أخلاقي عام، يخول لكل إنسان الحق في التسامح. ولم يعد التسامح كقيمة دينية يبنى على فكرة الخلاص. لقد استُبعد من دائرة علاقة الفصل بين الإيمان والمعرفة نموذج «التسامح الكنسي»[15]. أو لنقل تمت عملية «رسم حدود التسامح على أسس سياسية وليست دينية»[16]. وأصبح التسامح يقوم على معايير الاحترام المتبادل بين مختلف الاعتقادات الدينية، بما فيها الملاحدة. وإذا كانت المعايير ذات الصلاحية تتطلب تبريراً عقلياً يقطع مع الإيمان وفكرة الخلاص، فإن المطلوب هو انخراط «ممارسة السلطة السياسية [في إطار] التبرير التبادلي»[17]. وهذا الانخراط في إطار علاقات تُبرر تبادلياً مبدأ التسامح، قد يمكن من تجاوز ما أسماه راينر فورست (1964 – ) «خوف لوك». يعتقد لوك أن مفكري الأنوار يقعون تحت تصور أنه «ليس هناك أخلاق على وجه الأرض بدون حب وخوف من الله»[18]. فسلطة الله كإلزام أخلاقي يضفي على العدالة الإلهية في الأرض قوتها، والإنسان لا يمكن أن ينجز فعلاً أخلاقياً إلا من خلال استحضار فكرة الله. إن حضور الفهم الأوغستيني في المجال الديني المسيحي لدى مفكري الأنوار يشكل عقبة أمام تبلور أفق تسامحي يقوم على مفهوم الاحترام المتبادل. تلك هي المخاوف التي كانت تسكن لوك.

لكن ما كان يشكل هاجساً ويثير مخاوف لدى لوك، قد تجاوزه باييل. لا يرى باييل وجود علاقة بين أفعال الإنسان والخوف من الله. فهل الخوف من الله يجعل الإنسان ينأى عن تصرفاته اللاأخلاقية؟ إذ ماذا يمكننا أن نقول عن مذبحة سان بارتيليمي (Bartholomew’s Eve Massacre) التي حدثت في فرنسا سنة 1572، وذُبح فيها ما يقرب من 30 إلى 60 ألف بروتستانتي على يد السلطات الكاثوليكية تحت أوامر الملك شارل التاسع ووالدته، خوفاً من انتشار البروتستانتية؟ ماذا يمكننا أن نقول عن حرب دامت ثلاثين سنة بين الكاثوليك والبروتستانت مزقت أوروبا بين 1618 و1648؟ فهل هذا القدر الكبير من التعصب والقتل يسمح بالدفاع عن أطروحة الخوف من العدالة الإلهية كأساس لمنع الأشخاص من السقوط في بحر الآثام والمعاصي؟ يبدو أن هذه الأطروحة لا تقوم على أي أساس، شأنها شأن أطروحة الإلحاد بوصفه جريمة أو أسوأ الشرور التي تمس بشكل مباشر الذات الإلهية. وهذا ما يسميه فورست «بمفارقة باييل». إذ كيف نقبل بربط الفعل بالعقاب الإلهي، وهو ربط لا يفضي إلا إلى المزيد من التقتيل والحروب، وفي نفس الوقت نرفض قبول عضوية الملاحدة في المجتمع، وهو رفض لا يمكن أن يفضي إلا إلى قتل الحب والصداقة والفضيلة؟ معنى هذا، إذا استحضرنا «تخوف لوك» فإنه يجب التخلص من مجتمع الملحدين. وهذا يتنافى مع مبدأ التسامح الأخلاقي ويطعن في مبدأ فردية الإيمان والخلاص. ثم إذا كان لوك يوازن بين اعتقادات مفكري الأنوار ورسالته في التسامح، فإنه بذلك يربط بين منطلقات المسيحية والقيم الأخلاقية المدنية.

صحيح أن مساحة التسامح الديني عند لوك شملت المسيحيين واليهود والمسلمين، لكن بالرغم من هذا الامتداد، فإن باييل وضع في المقابل حدوداً في وجه عضوية انضمام الملاحدة إلى البنية المجتمعية، إذ لا مكانة لهم وسط تسامح يخص فقط عقائد دينية توحيدية. فأمام محاولة لوك التي تسعى إلى «تقييد الأخلاق على أرضية مسيحية»[19] نجد باييل يدفع بالتسامح إلى حدوده القصوى، بالرغم من كونه رجلاً مؤمناً، ليشمل مجتمع الملاحدة. وبهذا تكون زاوية الانعطاف التي سجلها باييل تنفرج درجات عن ما أنجزه لوك. ويمكن القول، إن «مقاربة [باييل] تتميز بكونها تضيف بعداً انعكاسياً لسؤال تبرير التسامح لا نجده عند لوك أو اسبينوزا»[20].

نلاحظ، من خلال هذا التقابل بين لوك وباييل، أن التسامح عند لوك يحرص على مسك معادلة التوازن بين الإيمان والمعرفة من الوسط، لكنه وسط يفتقد إلى توازن، لكونه مائلاً إلى جهة الأسس المسيحية. ولذلك كان تسامحه جزئياً يفتقر إلى الشمولية، على عكس تسامح باييل فهو عام وشامل يجمع، في إطار تعدد مجتمعي، بين المؤمنين والوثنيين وغير المؤمنين… إن هذا البعد الشمولي في بناء التسامح «لا يعني أن أسسه المعيارية والإبستمولوجية تختلف عن الحجة الكلاسيكية لحرية الوعي وتتفوق عليها أو تجيب عن نقاط ضعفها الرئيسية، بل يعني أيضاً الاعتراف بالدينامية والتوترات داخل تفكير باييل وسط هذه التبريرات المختلفة»[21].

نعود إلى الإنجاز الكبير الذي حققه الملك هنري الرابع عشر، الأمر يتعلق بمرسوم نانت (Edit of Nantes). فبعد خمسين سنة من الاقتتال والتطاحن الديني، وقع هنري الرابع عشر سنة 1598 أول اعتراف رسمي بالتسامح الديني. حيث سمح لكالفينيين بروتستانت، الذين يعرفون باسم الهوغونوت (Huguenot) بممارسة شعائرهم الدينية وحقوقهم السياسية والمدنية في بعض المناطق من المملكة في إطار الأغلبية الرومانية الكاثوليكية. ويعتبر هذا الإنجاز تاريخياً غير مسبوق، حيث حقق بموجبه البروتستانت مكاسب كبيرة، كما أن هذا المرسوم فتح أفقاً جديداً للتفكير في الشأن العلماني وممارسة التسامح الديني وترسيم حرية الوعي الفردي. لكن لويس الرابع عشر قام سنة 1685 بإلغاء مفعول هذا المرسوم من خلال مرسوم فونتينبلو (Edit of Fontainebleau)، وهذا النقض يدخل في إطار إجراءات جديدة/قديمة (*) تسعى إلى توحيد فرنسا كاثوليكيا عبر ممارسة كل أشكال الاضطهاد والقوة ضد الهوغونوت كهدم معابدهم ومدارسهم واختطاف أطفالهم وطردهم خارج الحدود…

اعتبر باييل أن ما أنجزه هنري خطوة مرجعية مهمة في اتجاه بناء دعائم التسامح، وهي خطوة يمكن أن تضع حداً لعقود من الحروب الدينية ذهب ضحيتها أناس يعتقدون فقط ما لا يعتقده الآخرون. عندما يتعلق الأمر بمعتقدات الإنسان، فإنه من الصعب «كبح عيوبهم وفضائلهم»[22]. بمعنى آخر، ليس لأحد الحق «في تمثيل الناس كما يجب أن يكونوا، بل يجب [ت]مثيلهم كما هم»[23]. يعتقد باييل أن التسامح كما تم ترسيمه من خلال مرسوم نانت، على يد هنري الرابع عشر، يعطي إمكانية الثقة في أبطال سيعرفهم التاريخ لحمل هذه المهمة إلى إطارها الإنساني المتنور بنور الوعي. فالتاريخ يعاد بناؤه على أيدي أبطال متنورين يتمتعون بإرادة مستقلة تمكنهم من وضع حد للصراعات الدينية. هذه الغاية التي يجسدها باييل في التاريخ من خلال نموذج متنور كهنري الرابع عشر، ترفع التسامح إلى نقطة أعلى في الهرم السياسي، ويصبح التسامح موضوع مصادفة تاريخية ينسجها المخيال الاجتماعي كأسطورة وخلاص. وفي هذا الصدد، فإن باييل يغيِّب التسامح كفعل اجتماعي أفقي يمتد عبر مسارب المؤسسات والفضاءات العمومية ويستحضر في المقابل تسامحاً عمودياً يقع في أعلى قمة البناء السياسي، تجسده إرادة ديمقراطية، وفي هذا السياق يمكن القول، إن باييل كان «قريباً من هوبز أكثر من قربه من لوك أو من الكالفينيين المعارضين للملك»[24].

ما يمكن استخلاصه هو أن رسالة التسامح الديني كما بلورها لوك تعتبر مرجعاً أساسياً في تبرير التسامح، بالرغم من ثغراتها المتشبعة بقيم مسيحية عالقة بأطرافها. ومع ذلك، فإنها رسالة تحمل قيم التعايش إلى الفضاء السلمي العام.

أما أطروحة التسامح، كما بلورها باييل، بوصفها واجباً عاماً يقوم على أسس معيارية تبادلية، تبقى بالرغم من مسافتها الفاصلة عن «التسامح على مستوى الاجتماعي وبنية الحكومة السياسية، نظرية تقدم معلماً بارزاً في الخطاب التاريخي للتسامح»[25].

أمام هذين المنعطفين المهمَّين في تاريح التسامح، هل يمكن بناء نظرية معاصرة تقوم على تبرير نقدي للتسامح الأخلاقي؟

1 – نظرية التسامح عند فورست

أ – تحديد مفهوم التسامح

ما معنى أن تكون متسامحاً؟ وما معنى أن يكون الآخر موضوعاً للتسامح؟ ثم ما معنى التسامح في ذاته؟ وهل يكتسي التسامح قيمة في ذاته؟

يشير فورست في كتابه التسامح في صراع إلى أن مفهوم التسامح غامض وشديد التعقيد وشديد التعارض، إذ لا يمكن تعريفه، فهو منفلت من أسر التحديدات، حيث يتعذر رصد خاصيته. ولذلك فكل المحاولات التي تسعى لتقييد مفهوم التسامح تسقط في العمومية والتشويش، فمثلاً هذا تعريف قاموس حقوق الإنسان الذي يعتبر أن التسامح هو «إحدى الفضائل التي تسير بالتساوي مع احترام الحقوق. وبالرغم من ذلك، فإنه نادراً ما اعتُبر واجباً متلازماً مع حق ما في أن يتسامح في شأنه»[26]. أما قاموس التفكير السياسي فإنه يشير إلى أنه «يوجد تسامح حيث توجد أشياء يتم رفضها. وإذا كان الناس مثاليين، فإن التسامح لن يكون ضرورياً ولا ممكناً[27]. وإذا تفحصنا أيضاً قاموس العلوم السياسية فإنه يعتبر أن «التسامح قيمة أساسية للنظرية الديمقراطية»[28]

ما يمكن ملاحظته هو أن القاموس السياسي والفلسفي لا يستوعب في جوفه مظاهر تعدد المعاني التي تسكن سياقات التسامح. فالتسامح يفتقر إلى ماهية تحدد شكله ومعالمه. لأن خاصيته غير مستقرة تتلون حسب سياقات التبرير. لهذا السبب، يصعب الحديث عن معيار للتسامح. فلا معيار لخاصيته إلا من حيث المعنى الذي يتشكل بواسطته. يتغذى التسامح من المعيار بوصفه تعدداً. لذلك يمكن القول إن «مفهوم التسامح تابع معيارياً، بحيث يعتمد على تبريرات مختلفة»[29]. وأمام هذا التعدد لتبريرات التسامح، ينتهي الأمر بالتسامح إلى صراع وتنازع ويغيب معه المفهوم بوصفه قيمة في ذاته. أما الحديث عن القيمة المرتبطة بالتسامح فذلك أمر مستحيل، لأن «التسامح لا يمتلك قيمة في ذاته، ولا يمكن أن تكون له أبداً»[30]. بمعنى آخر، ليس «للتسامح فضيلة في ذاته»[31].

تتنازع تأويلات التسامح – طبعاً ليس المفهوم في ذاته – في سياقات متعددة، بحيث يكون منّة من الحاكم، وقد يكون تعاطفاً انفعالياً، وقد يكون سلطة قمعية، وقد يكون ضعفاً، وقد يكون تعبيراً عن حب واحترام، وقد يكون فضيلة أخلاقية، وقد يكون تعبيراً عن أنانية أو عن ثقة الشخصية وقوتها.. يمكن «للتسامح أن يمارس بمحبة، أو لأسباب براغماتية أو لأسباب تقوم على احترام متبادل»[32]. يتحدد التسامح من خلال العلاقات والمؤسسات والتعاقدات، أو إذا شئنا قلنا من خلال الجماعة أو المجتمع أو الدولة. وهذه المظاهر من الاختلاف لفعل التسامح تعطي انطباعاً بأن «هناك صراعاً داخل مفهوم التسامح ذاته»[33]. أن يحدث تسامح بين طرفين غير متعادلين على مستوى موازين السلطة المادية والرمزية، يعني أن المفهوم يكتسي بعداً خاصاً. وقد تنقلب الموازين في سياقات أخرى، فيتوارى المفهوم ليكتسي معنى آخر. إذاً، لا يمكن فهم التسامح إلا بوصفه ممارسة للسلطة. وسلطة التسامح لا تمتلكها إلا الأغلبية لكونها مدعمة بسلطة الإكراه، في حين أن تسامح الأقلية لا يندرج ضمن «منظومة القيم المهيمنة»[34].

وفي إطار هذه الموازين المختلة لفعل التسامح، فإن التعايش يظل جزئياً، إذ لا يمكن للتسامح أن ينزع فتيل الصراع، لأن «الوعد بالتسامح هو تعايش في خلاف ممكن»[35]. فالحياد ليس صفة ملازمة للتسامح. لا لشيء سوى لأن «التسامح نفسه متورط في صراع»[36].

ب – إشكالات التسامح

سنحاول هنا أن نستحضر بعض حالات اجتماعية متفرقة، لنختبر قوة التسامح أو هشاشته على مستوى التبرير الأخلاقي:

(1) في سنة 1995 حاول مسؤول بمؤسسة مدرسية للقانون بألمانيا، أن يعلق أيقونة الصليب المسيح فوق جدران الأقسام العمومية، فاعتُبر هذا السلوك منافياً، بموجب قرار المحكمة الدستورية الفدرالية، للقيم العلمانية الألمانية.

(2) في يوم 30 أيلول/سبتمبر 2003 اعتبرت المحكمة الدستورية الألمانية أن سلوك فيريشطا لودا (Fereshta Ludin)، وهي مُدرِّسة ومواطنة ألمانية من أصول أفغانية، يتعارض مع فصول من القانون الألماني المتعلق بالمساواة داخل المؤسسات العمومية. والسلوك المقصود هنا، هو أن لودا قررت أن تُدرس داخل الفصل الدراسي مرتدية الحجاب.

(3) في 1 آب/أغسطس 2001 سمحت الحكومة الألمانية باتحاد مدني للمثليين، يوفر هذا الاتحاد قانوناً لحماية المساواة القانونية والسياسية. وقد أصدرت المحكمة الدستورية الألمانية أحكاماً لفائدة المساواة في الحقوق بين الأزواج من نفس الجنس، لكن تم تغيير هذا القانون من قبل الائتلاف الحاكم.

(4) في يوم 14 آذار/مارس 2017 صدر قرار من قبل محكمة العدل الأوروبية يقضي بإعطاء الحق للمؤسسات في أن تحظر ضمن قانونها الداخلي، للحفاظ على حيادها، ارتداء أي رمز سياسي أو فلسفي أو ديني.

أمام هذه الظواهر الاجتماعية، تتنازع المواقف. هناك من يدافع عن قيم التسامح إزاء الحجاب والأيقونات الدينية وحقوق المثليين… وهناك من يعارض هذه الظواهر من خلال إبداء مظاهر العنف والتعصب… فالتسامح ربما لا يحتاج إلى مساواة قانونية، هناك إذاً حدود للتسامح. ومن ثم نتساءل: على أي أساس يجب أن يقوم التسامح؟ وما تبريراته؟ وهل إشكالات التسامح يمكن أن تفضي إلى تعايش أخلاقي؟

سنتناول الظواهر الاجتماعية التي رصدناها سابقاً، من خلال مفاهيم للتسامح كما حددها فورست وهي كما يلي:

(1) مفهوم الترخيص: أن ترخص سلطة الأغلبية للأقلية المقهورة رخصة ممارسة هامش من الحرية، تجسد في إثرها قناعاتها الدينية والشعائرية وحقها المدني. فحالات الحجاب أو تعليق أيقونة المسيح أو وضع اليارمولكه(*) أو الكبة فوق الرأس أو مرسوم نانت… هو إبداء نوع من المرونة على مستوى التسامح من جانب واحد تجاه أقلية منزوعة السلطة. مفهوم الترخيص، مفهوم كلاسيكي ما زال سائداً منذ القرن السادس عشر إلى اليوم. وهو أسلوب يجمع بين المرونة والقمع.

(2) مفهوم التعايش: يجب على القضايا الاجتماعية، في إطار هذا المفهوم، ألا تشكل مستوى من الصراع، إذ تحاول الأغلبية كما الأقلية الحرص على تفادي الصراع وتبني السلم الاجتماعي وفق قواعد التسوية المؤقتة (Modus Vivendi).

(3) مفهوم الاحترام: يقوم هذا المفهوم على أساس مقولة «المساواة للجميع». لكن المساواة يجب أن تتلازم تفاعلياً مع مبدأ الاحترام بين الأطراف المتسامحة التي تشكلت تحت سيادة القانون والمعايير المشتركة والمقبولة من طرف الجميع. وهذا المستوى من التقدم يعتبر قفزة نوعية عن مفهوم التعايش، لأن التسامح ينبثق من علاقات الاحترام التبادلية ومن الأساس القانوني الأخلاقي ومن مبدأ المساواة. لذلك فإن أي أيقونة، أكانت حجاباً أو اليارمولكه أو نزوعاً مثلياً… لا تشكل منسوباً ثقافياً وجنسياً متقدماً عن باقي الظواهر الثقافية والجنسية الأخرى.. فالآخر يجب أن يحظى بنفس الاحترام والاستقلالية الأخلاقية والحق في التبرير شأنه شأن الجميع. إن «شخصية الآخر محترمة كما أن قناعته وأفعاله موضوع للتسامح»[37]. ففي إطار مفهوم الاحترام، يميز فورست بين «المساواة الشكلية» و«المساواة النوعية»:

يقصد بـ «المساواة الشكلية» ذلك الفصل بين الخاص والعام. فالاختلافات بين المواطنين يجب أن تنحصر في دائرة الفضاء الخاص، وأما الفضاء العمومي فيجب أن يكون خالياً من هذه الصراعات. أما «المساواة النوعية» فهي على عكس نموذج «المساواة الشكلية»، فيقصد به أن الفضاء العمومي يعرف حضوراً لسلوكات وممارسات صراعية وتعصبية وعنصرية لامتسامحة تجاه الاختلاف الثقافي والجنسي… فهذا النموذج يقاوم قواعد الفصل بين الخاص والعام. ويحاول مد الجسور بينهما لتسريب التعصب والعنصرية إلى الفضاءين معاً.

(4)مفهوم التقدير: لا يقف التسامح عند حدود المساواة والاحترام وسيادة القانون، ولكن يقوم كذلك على تقدير معتقدات الآخرين وممارساتهم كقيمة أخلاقية. ولا يتوقف الأمر على احترام ثقافات ومعتقدات الآخرين، بل على مبدأ تقدير هذه الثقافات.

لقد حاولنا من خلال هذه التصورات الأربعة أن نختبر دعائم تبرير التسامح، ولاحظنا كيف أن التسامح يتلون تبعاً لسياقات تاريخية ويتخذ مظاهر مختلفة. وإذا كنا قد ركزنا على مكوِّن القبول للتسامح، فإن هذا المبدأ بدوره ينقلنا إلى إمكان رفض التسامح. مكوِّن القبول يتطلب البحث عن الأسباب التي تقود إلى الاعتقاد بأن الأمور الخاطئة تستحق التسامح. أما إذا كانت هذه الاعتقادات أو الممارسات تبلغ حداً من القبح لا يمكن قبولها، فإنها تندرج في إطار مكوِّن الرفض.

إن مكوِّن القبول ومكون الرفض، بدورهما يتطبعان بمضامين سياقات التبرير. أما تقبّل مسامحة فعل اجتماعي، فإن الأمر يتخذ صيغة تمكين الأقلية بما هو مسموح به. فالقبول في هذه الحالة، يجعل من التسامح علامة الإذلال. وقد يندرج مكون القبول في إطار علاقات أخلاقية تبريرية، تنسج علاقات حوارية أفقية وبينذاتية. أما مكون الرفض، فينطلق من موقف صارم «لا تسامح مع التعصب». لا يمكن التسامح مع أعداء الإنسانية. من الخطأ أن يشمل التسامح نزوعات عنصرية. والتسامح لا يمكن أن يشمل الجميع. إذا امتد التسامح إلى احتضان أعداء التسامح، يمكن السقوط في تناقض ذاتي.

يتخذ مكون الرفض في سياق التبرير صوراً أخرى أقل حدة. ففي إطار التبرير الإتيكي (*) قد تبدي جماعة رفضها مثلاً لسماح زواج المثليين، ولكن في إطار التبرير الأخلاقي يتحول الرفض إلى صيغة القبول، إذ في سياق التبرير الأخلاقي يتم رفض القناعات الإتيكية الخاصة. ويمكن كذلك أن نطلب من العنصري، بعد موقف الرفض القاطع بشأن مسامحة نزوعه العنصري، يمكن إقناعه بنبذ سلوك التحامل ضد الآخر.

يقع بين مكوِّن القبول ومكوِّن الرفض، حد ثالث يسمى مكون الاعتراض. أن تعترض على فعل ما، لا يعني سوى جمع معطيات تمكِّن المعترض من تعميق معارفه حول ذلك الفعل. والاعتراض خاصية إيجابية وحرة تمكِّن المتسامح من التعبير عن فعل لا يراه مقنعاً أو واضحاً.

ج – عدالة تبرير التسامح

تحاول النظرية النقدية لدى فورست، ترسيم منعطف جديد للتسامح، يستوعب المنعطفات التاريخية ويتجاوزه في ذات الوقت. يستوعب الثغرات التصورية، ويعيد إنتاج تصور نقدي معاصر. يحاول فورست تحرير تصورات التسامح من قبضة الأغلبية، ومن سلطة الإكراه. ليؤسس مشروعه النظري على بؤرة التبرير التبادلي والعمومي. لا يمكن من منظور فورست بلورة قيم أخلاقية للتسامح، إلا من خلال عدالة ديمقراطية متشبعة بمفهومَي التبرير التبادلي والعمومي.

صحيح أن الانتقال من مفهوم الترخيص للتسامح إلى مفهوم الاحترام، جسّد نقلة نوعية إزاء عدالة تبرير التسامح. إن أحد الأطراف الرئيسية للتبادل التبريري يجب أن يقوم على فكرة المساواة، إذ لا تسامح إلا مع المتسامحين. هذا التبادل على مستوى المنطلقات التبريرية، يعكس صلاحية المعيار ومشروعيته. لأن الصراع بين المتسامح والمتعصب يجهز على مبدأ التبرير التبادلي. ولهذا فإن رسم الحدود بين المتسامح والمتعصب، يفضي إلى «تسامح مقيد تبريرياً»[38] لا لشيء سوى لأن التسامح «مسألة تبادلية»[39].

إن تفعيل مبدأ التبادلية على مستوى دعاوى صلاحية المعيار، يتوقف على فكرة تقاسم القناعات المشتركة تفاعلياً، أي تبادل المبررات بين الأطراف المعنية في حوار خطابي. ولا يجوز لأي طرف الحق في صوغ دعاوى بمعزل عن الطرف الآخر تحت أي سبب من الأسباب ولو بحسن نية. أو رفض مقترحاته وطلباته أو فرض اعتقادات خاصة. يدعو مبدأ التبادلية إلى بناء قواسم مشتركة مستقلة على نحوٍ متوازن خال من سلطة الإكراه. يعني مبدأ «التبادلية أنه لا يجوز لأحد إعمال دعاوى معينة (صلاحية المعايير، الحقوق أو الموارد) وينفيها عن الآخرين (تبادلية المضامين) ولا يجوز للمرء أن يفترض ببساطة أن الآخرين يتقاسمون معه أفقه وقيمه وقناعاته ومصالحه وحاجاته (تبادلية الأسباب) مدعياً الحديث عن مصالحهم «الواقعية»»[40].

أما العمومية فتشمل جميع الأعضاء بدون تراتبية هرمية أو سلطة إجبارية، أكانت دينية أو سياسية. فلا يمكن للأطراف القوية عددياً أو رمزياً أن تستحضر قوتها من أجل احتواء الحلقات الضعيفة على مستوى التبرير المعياري. فالحق في التبرير وإبداء الرأي مكفول للجميع. ووفقاً لذلك، فإن ممارسة «حق الفيتو» ضد المعايير أو الإجراءات أو ضد كل ما يمكن أن يكون غير مبرر أمر مطلوب. لكل «شخص حق الفيتو الأخلاقي للاعتراض التبادلي والعمومي»[41]. والعمومية تعني بوجه عام، تلك «الأسباب ذات صلاحية معايير مشتركة بين كل المتضررين»[42].

نفهم من هنا، أن معيارَي التبادلية والعمومية، معياران ضروريان لإعادة صلاحية وممارسة الواجب، بالمعنى الكانطي، التبريري الأخلاقي في إطار صراعات دينية وسياسية واجتماعية… كما أن «مبدأ التبادلية والعمومية يتناقض مع النظرية التوافقية الخالصة»[43]. لأنه يتطلع إلى عرض كل القضايا، التي تفتقر إلى تبرير، على مبدأي التبرير التبادلي والعمومي. إن تجسيد معيار التبادلية والعمومية، هو تجسيد لبعد أساسي في العدالة بوصفها بنية محايدة ومستقلة. وسياق العدالة، هو سياق للتبرير التبادلي والعمومي ضد المعايير والأفعال غير المبررة أخلاقياً. ويجب فهم العدالة بوصفها «نهاية لسيطرة تعسفية وغير مبررة»[44]. تتطلب العدالة توزيع «سلطة المعيار» ضد «نظام المعيار» السائد في المجتمع.

تمثل النظرية النقدية للعدالة من حيث كونها ممارسة نقدية للتبرير، منعطفاً سياسياً لدى فورست. فالعدالة قاعدتها تبرير المعايير وفق قاعدة «أحسن سبب». يمكن فهم عدالة التبرير في إطار سياقاتها المختلفة والمتكاملة. وتمثل هذه السياقات دوائر مفتوحة ومتداخلة تتكامل من حيث الارتقاء إلى مستوى التبرير. يرسم فورست دائرة تبرير أولية تنطلق من مستوى علاقة الذات بالجماعة. وتتشكل هوية الذات من خلال علاقة الفرد بجماعته. وبالرغم من أن الذات تتفرد بحكايتها الخاصة، كذات تعي وتدرك وتنظم وترتب وتجرب… إلا أن حكاية الذات جزئية ولا تكتمل صورتها إلا من خلال الجماعة. والجماعة هي التي تضفي على الذات اعترافاً خاصاً. صحيح أن الشخص الإتيكي يتحدد كخاصية ذاتية، لكنها لا تعني شيئاً بدون العودة إلى قيم تشكل أساس الهوية الجماعية. بهذا المعنى، فإن التبرير الإتيكي يشمل المشترك الجماعي، طالما أن هذا المشترك يقوم على أرضية الخير للجميع. ولهذا فإن الذات الفردية لا يمكن لها أن تصوغ سؤالاً حول مبدأ الخير بالمعنى الحصري. إذ لا بد للسؤال من أن ينتقل من صيغة «الخير بالنسبة إليّ» إلى صيغة منفتحة على الجماعة «الخير بالنسبة إلينا». وفي هذا السياق، فإن التبرير الإتيكي فعل جماعي يتطلع إلى سؤال يخص الخير للجميع. فالذات مطالبة بأن تخاطب نفسها بالقول «يجب علي أن أكون قادرة على المواجهة وشرح نفسي. أبرر ذاتي لذاتي وللآخرين على خلفية قيم مهمة بالنسبة إلينا جميعاً»[45]. ففي إطار التبرير الإتيكي يجب ربط أفق الفرد بأفق الجماعة من خلال قيم وقناعات مشتركة.

يتداخل التبرير الإتيكي مع التبرير الأخلاقي، يقع التداخل بين الحياة الجماعية الخاصة والحياة الجماعية الكونية. وعلى هذا المستوى، فهل يستوجب سؤال التبرير هوية جماعية أم يستوجب ادعاءً تبريرياً يشمل جميع المتضررين؟

تعتبر دائرة التبرير الأخلاقي، دائرة أكثر اتساعاً من دائرة الإتيكا. إن فعل التسامح بوصفه مبرراً أخلاقياً، يتطلب إنتاج مواقف وأفعال إنسانية. أن نبرر معياراً للتسامح الأخلاقي حول الحجاب أو الأيقونات الدينية أو الزواج المثلي… يعني أننا بصدد ادعاءات ذات صلاحية كونية. وسياق التبرير الأخلاقي سياق مشترك إنساني، يقوم على احترام كل أعضاء الجماعة الكونية. أن تكون إنساناً يعني «أن تكون عضواً في جماعة ثنتمي إليها كل الكائنات الإنسانية بوصفهم أشخاصاً أخلاقيين»[46].

صحيح أن فورست تحدث عن مسافة الفصل بين الإتيكا والأخلاق. لكنها مسافة تكاد تكون وهمية، إذ بالرغم من الاعتراضات التي قد تحدث أو قد تفشل في مجال الإتيكي، فإن الفضاء السياسي العمومي، مجال لنبذ الإقصاء والتهميش ومفتوح على نقاشات واسعة تستعيد القضايا المركبة وتعيد النظر فيها، على اعتبار أن «القيم الإتيكية جزء من النقاش العمومي والخطاب السياسي»[47]. وهذا يعني، أن القضايا الإتيكية ليست قضايا خاصة، أو لا تكتسي أية أهمية في الفضاء العمومي والسياسي. وفي إطار الفضاء الخطابي العمومي، يصبح المعيار ذا صلاحية عمومية إلزامية. لكن هل الإلزام فعل أخلاقي فقط أم قانوني؟

تتأسس نظرية التسامح على مبدأ التبرير في إطار سياق سياسي عمومي، ولكن يجب فهم التبرير كذلك في إطار تشريع ذاتي. فالتبرير القانوني كما يقول فورست لا يسقط على الرؤوس من الأعلى ليثني المتلقي عن القبول والخضوع. ما يشكل خطراً هو أن يكون «التصور الهرمي الرسمي للتسامح هو الإمكانية الوحيدة الممكنة»[48]. يتطلب مفهوم التسامح النظر إلى مبدأ المواطنة بوصفها قوة مدنية تشرّع قوانين لذاتها وفاعلة في ترسيخها واحترامها. فالمواطن من حيث إنه فاعل قانوني يجد نفسه في حالة من التطابق مع مبدأ احترام القانون وفي كيفية أجرأته وتطبيقه. إن «الأشخاص القانونيين ملزمون بتحمل المسؤولية القانونية عن أفعالهم وتبريرها. أما كمواطنين فيجب عليهم تبرير لبعضهم البعض معايير قانونية التي يعيشون تحت ظلها»[49].

نفهم من هنا، أن الأفراد يتموقعون في سياقات مختلفة للتبرير، أكان سياقاً إتيكياً أو أخلاقياً أو قانونياً. إنها سياقات الاعتراف التبادلي أو سياقات عدالة التبرير. أما المجتمع الذي يوجد في كل هذه الأبعاد السياقية، فهو مجتمع يمكن أن يحظى بتسميته «مجتمعاً عادلاً ومنصفاً»[50]؟

على سبيل الختم

إن محاولة القيام بمسح طبوغرافي لسؤال التسامح كما تصورته النظرية النقدية لفيلسوف الجيل الرابع لمدرسة فرانكفورت، يمثل منعطفاً سياسياً مهماً لنظرية التبرير. لكن هذا التصميم لا يكتمل انسجامه النظري، إلا من خلال التزام الدولة بموقف حيادي دون اتخاذ أي موقف مائل لأي جهة أو قناعة. إن مسافة الحياد عن أي صراع ممكن أن يرفع منسوب تفعيل الأجهزة المفاهيمية الحاملة للتسامح. إن انخراط الدولة في موضوع التسامح يعتبر مأزقاً في وجه التسامح. إذا كان مفهوم التسامح يتطلب نظرية في التبرير، فإنه في المقابل يتطلب نظرية في تبرير الموقف المحايد للدولة.

 

قد يهمكم أيضاً  الثقافة الغربية ومطلب العدل الفكري: نقد الحداثيين أنموذجاً

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #التسامح #التسامح_الديني #الحروب_الدينية #الكاثوليكية #البروتستانت #حرب_الثلاثين_عاما #جون_لوك #بيير_باييل #فورست #مدرسة_فرانكفورت #مرسوم_نانت #التعايش_بين_الأديان