أولاً: مدخل إشكالي: المسألة الدينية في عالم متحول

يشهد الواقع الديني بالمغرب – كما هو في بقية بلدان المعمورة – تحولات نوعية وعميقة ومتسارعة، وذلك بالنظر إلى عدة عوامل: منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي. وقد شكلت الحقبة الممتدة من ستينيات القرن الماضي إلى الآن مسرحاً لعدة تحولات وتغيرات عميقة، شملت مختلف الأبعاد والمستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وقد انطلقت حركية بحثية سوسيولوجية بالمغرب، حاولت أن تكشف لنا عن بعض الجوانب الخفية في هذه التحولات والتغيرات. ولعل من بين القضايا التي شكلت بؤرة للعديد من النقاشات والدراسات والأبحاث، هي المسألة الدينية وتغير القيم بالمجتمع المغربي. وقد كان لافتاً أن يتم الانتباه في حقل السوسيولوجيا إلى هذه القضية. بكل ما تحمله من دلالات وإشكالات وعوائق منهجية وإيبيستيمولوجية. ذلك أن دراسة الدين في المجتمعات العربية والإسلامية، والمغرب واحد منها، لم تنجُ من توجُّسات وتخوفات ومنع، وفي أحسن الأحوال من وجود أحكام مسبقة ونمطية، أصبحت تشكل جزءاً من مخيال ووجدان المجتمع المغربي.

ولا شك في أن الظاهرة الدينية بالمغرب، كظاهرة اجتماعية سوسيولوجية، تتميز عن بقية الظواهر، بكونها تقع في حقل كثير التعقيد والتركيب، والظاهر فيها، لا يمثل إلا قمة جبل الجليد، الذي نعتقد أنه هو الأهم، بينما ننسى أن هناك ترسبات عميقة تكتنف كل الجليد. ومن هنا – نحتاج كباحثين – إلى مزيد من تعميق النظر، في هذه الجوانب الخفية وغير المعلنة للحفر فيها، قصد الوصول إلى نماذج أكثر تفسيرية لظاهرة تنفلت من كل محاولة للإمساك بها.

ولم يأت انشغالنا بموضوع التحولات الدينية عند الشباب المغربي تحديداً، نظراً «إلى موضة» بحثية ما، أو استسلاماً لتقليد بحثي معيَّن، بل إن الموضوع، أملاه علينا وعيُنا بحجم التحولات التي دهمت الحقل الديني، وخصوصاً في ظرفية زمنية وسوسيوتاريخية، يمر بهما المغرب، والعالم ككل.

ففي السياق العام، هناك توجه عالمي نحو «العودة للدين» (Berger, 1999)، فالفرضيات التي طرحها العديد من الباحثين حول تراجع الدين، أصبحت محط نقاش. وخصوصاً في ما تعلق بالربط الميكانيكي بين ارتفاع مؤشرات التعليم والتصنيع والتمدين وخروج المرأة للعمل، إلا وتراجع التديُّن. فكل هذه المؤشرات بينت أنها ليست «خطية» وأنها لا تنتج المخرجات نفسها. فالعديد من الدول الغربية والشرقية (كازانوفا، 2005)، عاشت هذه الموجات من التحديث، دون أن تتراجع فيها مؤشرات التديُّن. ولعل النموذجين اللذين برزا بشكل لافت للنظر: هما الولايات المتحدة الأمريكية واليابان. حيث إنه رغم قوة التحديث في كلا البلدين، فإن الدين بقي محافظاً وحاضراً – بشكل أو بآخر – في تغذية قيم المجتمعين. هذا على الرغم من أن هذين البلدين، ينتهجان علمنة في علاقة الدولة بالدين. وهذا الأمر حتّم على مجموعة من الباحثين إعادة النظر في المقتربات التفسيرية لفهم طبيعة الظاهرة الدينية وما يكتنفها من غموض (Norris, 2011). ولكي نقرِّب القارئ من بعض المؤشرات الكمية لقياس التديُّن، نستعرض النتائج التي توصل إليها كل من «إنكليهارت» و«بيبانورس» في دراستهما عن «العلمنة والمقدس: الدين والسياسة في العالم» (الجدول الرقم (1)).

أما على مستوى السياق الخاص بمنطقة الدراسة، فقد تميز على الخصوص، بمسار إصلاح الحقل الديني في عهد الملك محمد السادس، والذي جاء بعدما وقعت الأحداث الأليمة بالدار البيضاء، في 16 أيار/مايو 2003. والتي كسرت مقولة الاستثناء المغربي. وينضاف إلى هذا السياق، بروز فاعلين جدد في الحقل الديني، أصبحوا يشكلون جزءاً من الرأي العام، وخصوصاً فئة الشباب، وذلك عبر نافذة التقنيات التكنولوجية الحديثة، من قنوات فضائية وشبكات اجتماعية، ومختلف الوسائل التقنية المتطورة والذكية. ولعل اقتحام هؤلاء الفاعلين الجدد هذا الحقل الديني، أدى إلى سقوط مقولة الهيمنة والتحكم اللذين كانا مفروضين على مسارات هذا الحقل. هذا الواقع، جعلنا نتحدث عن ظاهرة معقدة جداً ومركبة جداً في الآن نفسه. وقد أعادت كل هذه السياقات وغيرها – مما لا يتسع المجال لذكره -، السؤال المؤرق: من يؤطر الشباب دينياً؟ وما هي القناعات التي يستبطنها هؤلاء الشباب؟ وكيف تتفاعل العوامل الداخلية مع العوامل الخارجية للتأثير في مسارات التديُّن: صعوداً ونزولاً؟ وكيف يمكن تفكيك هذه العوامل؟ وقياس درجة تأثيرها في تديُّن هذه الفئة؟ وما هي المصادر الدينية والمعرفية التي يتغذى منهما الشباب؟ وما هو نوع الأداء الذي يقوم به الفاعل الرسمي دينياً، وبقية الفاعلين، لتأطير هذه الفئة؟ وما هي الاتجاهات الكبرى للحالة الدينية الشبابية بالمغرب؟

الجدول الرقم (1)

جدول توضيحي للاعتقاد في الله حسب الدول من سنة 1947 إلى 2001

نسبة التغير2001199519901981197519681947الدول
33.6−464838526080السويد
22−5861647980هولندا
19.9−7575798095أستراليا
18.9−6558687384النروج
17.9−62595380الدنمارك
16.5−6172737677بريطانيا
12.3−8496اليونان
12−697163687281ألمانيا
11.2−67657678بلجيكا
10.8−7273618383فنلندا
10.1−565759727366فرنسا
7.2−8885918995كندا
7.2−777784سويسرا
4−949398الهند
3−3544373938اليابان
0.494949396949894الولايات المتحدة الأمريكية
3999896البرازيل

المصدر: (Norris and Inglehart, 2011: 90).

 

هذه الأسئلة/الإشكالات، لا ندعي أننا الوحيدون الذين طرحناها، بل نعتقد أن الجديد في موضوعنا، ليس هو دراسة الشباب وعلاقته بالدين، بل هو زاوية المقاربة. فالمطَّلع على مجموعة من الأبحاث التي أنجزت في الآونة الأخيرة، أو حتى في السابق‏[1]، يلاحظ طغيان النفَس التوصيفي والرصدي لظاهرة التديُّن عند هذه الفئة وغيرها. دونما القدرة على بلورة نموذج تفسيري واضح. إلا أنه بقدر ما أسهمت هذه الدراسات في تجلية الكثير من الإشكالات والتساؤلات، بقدر ما بقيت جوانب كثيرة يلفها الكثير من الغموض. ولهذا وتأسيساً على هذا التراكم المعرفي، جاءت هذه الدراسة لتقدم مقاربة، نعتقد أنها قادرة على أن تمكننا في حدود معيِّنة من فهم بعض الجوانب الخفية في الحقل الديني. وهذه المقاربة تم استلهامها من إنتاجات العديد من رواد السوسيولوجيا النقدية، كآلان تورين (نظرية الفاعل)، أو من خلال نظرية بورديو، حول (المجال والهابيتوس)، أو حتى من خلال أعمال السوسيولوجي الأمريكي «بارنسونز»، وخصوصاً المقاربة النسقية في صيغتيها الكلاسيكية والحديثة، في ما يعرف بالمقاربة النسقية المرنة. ولهذا الغرض وقفنا – ونحن نحاول سبر أغوار الظاهرة الدينية -، عند مختلف الأنساق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها. ومن هنا فالحديث عن الفاعلين الدينيين في هذه الورقة له ما يبرره من الناحيتين النظرية والمنهجية. وتأسيساً عليه، فقد بلورنا مجموعة من الإشكاليات يمكن صياغتها على الشكل التالي:

إشكالية البحث

– كيف يمكن قياس طبيعة الممارسات والمواقف والاتجاهات والسلوكات الدينية عند الشباب المغربي؟

– ما هي أنماط التديُّن عند الشباب المغربي؟ وما هي العوامل المفسرة لتعدد هذه الأنماط التديُّنية؟

– كيف يتمثل شباب منطقة الدراسة الدين نظرياً وواقعاً عملياً؟

– ما هو دور المؤسسات الدينية الرسمية واللارسمية في تأطير الشباب؟ وهل يمكن الحديث عن مشروع مجتمعي ديني واضح المعالم والسمات؟ أم أن الأمر يشي بوجود صراع حول الحقل الديني الرمزي بين مختلف الفاعلين؟ وما تأثير ذلك في فئة الشباب تحديداً؟

– كيف يتفاعل الشباب مع الإعلام الديني في مجال القيم الدينية، وكيف يمكن الحديث عن وسيط تنشئوي جديد في هذا الحقل الشديد التركيب والتعقيد؟ وما هي مختلف الرهانات والأبعاد التي يسعى لتحقيقها هذا الفاعل الإعلامي؟

ثانياً: الإطار النظري والمفاهيمي والمنهجي للدراسة

1 – الإطار النظري والمفاهيمي

من خلال الاشتغال على دلالة مفهوم التديُّن، أمكننا أن نستخلص أن التديُّن هو الكيفية التي يعيش بها الأفراد والجماعات تجربتهم الدينية، وذلك بالتفاعل مع أشكال الفهم والاستيعاب والتطبيق والتمثل للمكونات الأساسية في الدين. وقد سبق للعالم السوسيولوجي «جورج سيمل»، أن ميز بين الدين والتديُّن، «حيث يمثل الدين الدافع الحيوي، والتديُّن الشكل الاجتماعي الذي يسعى إلى الاستحواذ والسيطرة على الأول. لذلك يحضر الكائن البشري بالنسبة إلى عالم الاجتماع، مجبولاً بطبيعته على صياغة رؤاه الدينية الخاصة عن العالم. فكل فرد، كما يجري بشكل عفوي، ينجذب إلى دائرة الفن أو الإيروس، وبالشكل نفسه وبعفوية تفتنه المعاني الرمزية التي تتيح له الدائرة الدينية التمتع بها. وبالتالي فالتديُّن هو تجربة ذاتية عن علاقة بشيفرة غريبة للحياة نفسها. وهذه الشيفرات التي تصوغها الأشكال الاجتماعية للديني – كما ندرك نحن تاريخياً في مختلف التعبيرات، من المسيحية إلى البوذية – انطلاقاً من التجربة الذاتية، يجد التديُّن الذاتي إجابة في الحاجات الحيوية العميقة، مثل الحاجة إلى العشق وأن يكون محل عشق من الآخرين بالشكل الصرف، الذي يتجاوز الآثار الفعلية في المحبة» (أكوافيفا وباتشي، 2011: 63). ولعله في طيّات هذا التحليل، نقف عند المفهومين اللذين صاغهما «دوركايم»، عندما تحدث عن المقدَّس والمدنَّس؛ فهذان المفهومان يفسران كيف يتفاعل الإنسان (تأكيداً ونفياً) مع مجموع العقائد والمبادئ الدينية الثابتة والمعيارية، وذلك في محاولة تطبيق، أو في البحث عن ترميق‏[2] لتلك المعتقدات في أرض الواقع المادي وفي الحياة الاجتماعية والفردية وفي مختلف السياقات التي تشرط سلوك الفرد وتؤثر فيه. وقد توصل (بشارة، 2013)، في تحليله لمفهوم التديُّن، إلى القول إن «أهمية التديُّن تكمن في العادي واليومي لا في الاستثنائي وغير العادي في التجربة الدينية، وبأن التديُّن ليس التجربة الأولية للمقدس، بل هو أيضاً نفيها، ونفيها هو الذي يصنع الدين أي يمأسسه باعتباره ظاهرة» (بشارة، 2013: 186).

ولتوضيح الفرق بين الدين كرسالة معيارية، والتديُّن كممارسة بشرية، فإن الباحث عبد الباسط عبد المعطي بيَّن في دراسته حول التديُّن الشعبي في إحدى قرى مصر، ما يلي: «ولأننا معنيون بالوعي الديني، فقد تحدد قصدنا بالدين، هنا، في الدين كما يفهمه البشر ويستوعبونه – وليس الدين الرسمي كرسالة سماوية – بحسب خصائصهم وأوضاعهم المشتركة والمتباينة، التي تحددت وتشكلت وتحولت تاريخياً إلى خصائصهم المعاصرة، المحددة أيضا بالمرحلة التاريخية. والخصائص الجوهرية لبنية القرية المصرية يتضمن فهم الناس واستيعابهم للدين «الشعبي»، تعيين أهم الأساليب والعمليات التي صاغت فهماً واستيعاباً معنيين لهذا الدين، وتلك التي صاغت فهماً واستيعاباً آخرين له. إن هذا التحديد لا يستبعد ظهور الأحكام والمبادئ الدقيقة للدين الرسمي، كلياً أو جزئياً، نصاً أو روحاً، أو هما معاً بالظروف والوسائط والديناميات التي من صنع البشر، والتي يعيشها البشر. ولعل هذا قد استجلى الأمر ومقصده، فنحن معنيون – لا بالدين المنزل والمرسل – ، ولكن بالعمليات البشرية لاستقبال الدين وتوظيفه في حياتهم العيانية الملموسة» (عبد المعطي، 2000: 362 – 363).

انطلاقاً من هذا التحديد لمفهوم التديُّن، يمكننا الحديث عن الدين كظاهرة اجتماعية قابلة للدراسة والفحص والرصد والمتابعة، ككل الظواهر الاجتماعية التي يعج بها مجتمعنا. إلا أن عملية الرصد تقتضي بلورة نموذج عملي إجرائي، يمكن من عملية الرصد بشكل واضح. وهو ما توصل إليه بعض الدارسين في تخصص سوسيولوجيا الدين، حيث يكمن اعتبار النمذجة التي بلورها «غلوك» واستارك» من بين أهم النمذجات الإجرائية والتي تتمتع بصلاحية لدراسة الظاهرة الدينية. وهذه النمذجة تشتمل على خمسة أبعاد هي البعد الأيديولوجي (المعتقدات)، والبعد الطقوسي (الشعائر)، وبعد التجربة (الشعور الديني)، والبعد الفكري (المعرفة) ثم البعد الأخلاقي (الآثار الأخلاقية للدين على الفرد والمجتمع) (Geoffroy and Vaillancourt, 2005: 349‑374). ولعل هذه النمذجة التي نقترحها، ستساعدنا في فهم طبيعة التديُّن عند الشباب المغربي؛ فبالنسبة، إلى البعد الأول (الأيديولوجي) الذي يمكن أن نسميه المعتقد، حيث يمكننا من دراسة أهمية الدين وتمثل الله والرسول (ﷺ) والديانات الأخرى، وعلاقة الدين بالاقتصاد والسياسية… أما في ما يخص البعد الثاني الطقوسي، فيمكن رصد واقع الممارسة الدينية/التديُّنية للشباب من أداء للصلوات وقراءة للقرآن وصلاة الجمعة، وصيام التطوع، والتمثلات حول الحج وما إلى ذلك؛ في حين يمثل البعد الثالث (المعرفة الدينية)، مجالاً للوقوف عند طبيعة المعرفة الدينية عند الشباب ومستوى حضورها، أو ضعفها، ومحاولة الكشف عن الأسباب العميقة لهذا التحول في نقل وإعادة نقل المعرفة الدينية، وما هي القنوات الجديدة لنقل هذه المعرفة، وما مدى دور الفاعلين الدينيين في تأطير هذا المستوى، وما هي مختلف القطائع والاستمراريات التي حدثت في هذا المجال.

أما البعد الرابع من هذه النمذجة، فهو الذي يمكننا أن ندرس من خلاله، بعد التجربة الدينية‏[3]، والذي نقصد به مختلف التجارب الشخصية أو الجماعية التي يمر بها الشخص، في ارتباطه بجماعة دينية ما أو تيار ديني ما، أو توجه حركي «دعوي» ما، ويسمح لنا هذا المكوِّن، معرفة طبيعة الانتماء إلى هذه الجماعات، من خلال دراسة، ما يمكن أن نطلق عليه شبه «سيَر ذاتية» لبعض الشباب، سواء المنخرطين فعلياً في هذه التنظيمات والتيارات، أو حتى الذين سبق لهم أن عايشوا هذه التجارب.

وأخيراً، يمثل البعد الخامس في هذه النمذجة، البعد الأخلاقي (الآثار الأخلاقية للدين على الفرد والمجتمع)، مجالاً حيوياً، لفهم علاقة التديُّن بالسلوكات والممارسات والمواقف والاتجاهات القيمية التي توجه رؤية الأشخاص سواء كانوا شباباً – كما هو نموذج دراستنا للحالة – أو غيرهم من الفئات. المهم هو الوقوف عند مختلف الآليات التي يوظفها الفرد في تمثله لعلاقة المعتقد بالسلوك، والبحث أساساً عن الأسباب العميقة لمظاهر ما يمكن تسميته تجاوزاً بـ «آليات الترميق» خصوصاً في المجال الحياتي اليومي، وكيفية بناء مسلكيات في المعيش اليومي للأشخاص أو الجماعات، وبشكل خاص، كيف تصبح هذه المسلكيات «هابيتوس» بلغة بورديو. ولا شك في أن هذا التحديد الإجرائي الآنف الذكر، يساعدنا على استحضار أغلب الأبعاد الدينية، حتى لا نقول كل الأبعاد، ويمكننا من تجاوز الاقتصار في رصد واقع التديُّن على ما يرتبط بالمعتقدات ومن بينها القيم والتمثلات، والثاني الشعائر ومن بينها الممارسات والمواقف. كما ذهبت إلى ذلك بعض الأبحاث التي صدرت مؤخراً في المغرب‏[4].

إن هذه الأوجه الخمسة المذكورة، تفترض سلفاً رؤية مضبوطة للدين؛ حيث يعرِّفه كل من سابين وأكوافيفا وإنزو باتشي «الدين باعتباره نظاماً متكامـلاً لتنظيم الحاجات في الوقت الحالي، وهو ما يمثل استراتيجية معرفية، وشكـلاً من الإفصاح عن سلوكيات طقوسية، وضرباً منظماً من العقائد. فهو بالتالي تأويل محوري يلبي حاجة لاكتشاف العالم المفارق واختباره، وهو في النهاية آلية اجتماعية ثقافية لتحديد الهوية العرقية والسياسية وما شابهها. فلئن كان الدين نظاماً شامـلاً من الإدلاء بالإجابات، عن مختلف المحفزات والاستراتيجيات، عن عيش الأفراد وحياة الجماعات، فإنه يلتحم على هذا الأساس، بالأشكال الواقعية القابلة للاختبار التجريبي، التي يعبِّر الفاعلون، أفراداً وجماعات، بفضلها على مختلف أبعاد التديُّن» (أكوافيفا وباتشي، 2011: 70).

2 – الإطار المنهجي

اعتمدت الدراسة الميدانية على تقنية الاستمارة بالنسبة إلى البحث الكمي، بالإضافة إلى المجموعات البؤرية والمقابلات الفردية الموجهة في البحث الكيفي.

أ – تقنية الاستمارة

أما العيِّنة الكمية، فقد تم اختيار عيِّنة تمثيلية للشباب المتراوح أعماره بين 15 و35 سنة، من كلا الجنسين من الشباب القاطنين بمدينة سلا، اعتمد فيها على قاعدة المعطيات التي توفرها المندوبية السامية للتخطيط، تبعاً للإحصاء العام للسكن والسكني الأخير (2004)‏[5]، حيث يقدر عدد الشباب المتراوحة أعمارهم ما بين 15 و35 سنة، بثلاث مئة ألف، وقد اعتمدنا على عيِّنة تمثيلية بنسبة 1.5 في كل ألف شاب وشابة، مما أفضى بنا إلى الحصول على عيِّنة مكونة من 459 شاباً وشابة، ينتمون إلى الوسطين الحضري والقروي، ويشملون مناطق عمالة سلا كافة. وهذه العيِّنة تسمى العيِّنة غير العشوائية أو بالحصيص، وهي تمثل جزءاً من المجتمع المدروس. وللإشارة فإن هامش الخطأ متوقع في مثل هذه العينات، وكذلك مستوى تعميم نتائج الدراسة على الشباب المغربي ككل. وقد تم التقيد بالصرامة العلمية والمنهجية في الوصول إلى عيِّنة الدراسة. وتجدر الإشارة إلى أن اختيار هذه العيِّنات لم يكن يخضع لأي معرفة مسبقة بحالهم ولمستوى تديُّنهم، كما أنه تم التفادي ما أمكن اختيار عيِّنة من شباب ينتمون إلى الحركات الإسلامية، وفي ما يلي تفاصيل العيِّنة التي تم اعتمادها:

الجدول الرقم (2)

توزيع عيِّنة البحث الكمي

المستوى الدراسيذكورإناثالمجموع
15 – 2425 – 3515 – 2425 – 35
بدون1115274194
ابتدائي28322123103
متوسط72396834214
عالٍ815101447
المجموع120100127112459

(*) وجبت الإشارة إلى أن عملية استخلاص العيِّنة، تضمنت نسبة 30 شابة وشاباً من الوسط القروي، ونظراً إلى أن حجم تمثيلية الوسط القروي، كان ضعيفاً، حيث لا تتعدى نسبة 7 بالمئة، من مجموع الساكنة السلاوية، فهي لا تعتد من الناحية الإحصائية، كما أكد لنا مكي بناني، رئيس قسم البحوث لدى الأسَر، بالمندوبية السامية للتخطيط. وعليه فنحن لن نقوم بتحليل معطيات هذا المتغير، لأنها غير دالة إحصائياً، وسنتعامل مع العيِّنة باعتبارها ممثلة للشباب بعمالة سلا.

المصدر: المندوبية السامية للتخطيط – الإحصاء العام للسكان (2004).

ب – تقنية المقابلات والمجموعات البؤرية

نظراً إلى اقتناعنا بأن المعطيات الكمية لا تسمح بالخوض في البنية العميقة للتمثلات، وللخلفيات المتحكمة في السلوك الديني للشباب، فقد التجأنا لتقنية البحث الكيفي، الذي تم اعتماده في هذه الدراسة، أولاً لتأكيد نتائج البحث الكمي، وثانياً لتفسير جزء من السلوك الديني. هذا مع التأكيد أننا لا ندعي أي إطلاقية في ذلك، فعلى الرغم من أن تقنية البحث الكيفي تكون أكثر تفسيرية من تقنية البحث الكمي، فإن الأمر يتوقف عند مستوى ما يعبِّر عنه المبحوثون.

وفيما يلي تفصيل أوضح عن العيِّنة:

الجدول الرقم (3)

عيِّنة البحث الكيفي

المنطقة/سلاالمجموعات البؤرية (عدد المشاركين)المقابلات الفرديةالمجموع
مقاطعة باب المريسة101020
مقاطعة تابريكت101020
مقاطعة بطانة حي السلام

مقاطعة احصين

8

8

8

4

16

12

مقاطعة العيايدة

جماعة السهول (قروي)

8

8

8

16

8

المجموع524092

المصدر: عيِّنة البحث الكيفي (2011 – 2012).

ثالثاً: أهم النتائج والخلاصات

 

1 – على مستوى المعتقدات الدينية

لا يساورنا شك في أن فك شيفرات الخريطة المعتقدية، يعد من أعقد المهمات على الباحثين السوسيولوجيين، لكننا من خلال الاتجاهات العامة التي عبَّر عنها شباب المنطقة في موضوع المعتقد، يمكن أن نميِّز بين نوعين من هذه النتائج: أولاً، هناك نتائج كمية، كأهمية الدين في حياة الشباب، وذلك وفق متغيرات متعددة: كالجنس والمستوى الدراسي. وثانياً، هناك النتائج الكيفية (التي حصلنا عليها باستعمال المقابلات والمجموعات البؤرية). قبل الاسترسال في بسط بعض النتائج، يمكن تسجيل ملاحظة أساسية، وهي أن جل الدراسات السوسيولوجية الصادرة في الآونة الأخيرة‏[6]، اهتمت في طرح أسئلتها وبناء استماراتها ومقابلاتها حول هذه القضية. فمثـلاً نجد أن جل الدراسات التي يسهر عليها معهدَي «غالوب» و«بيو ريسيرش»، تطرح هذا السؤال: «هل الدين مهم في حياتك؟» «How Important is Religion in Your Life?»، ونحن لا نسعى لتقليد هذه البحوث، بقدر ما نطمح لتطوير أسئلة أكثر تركيبية وتسمح بالكشف عن الظاهرة الدينية، ولهذا زاوجنا بين هذه الآلية الكمية بآلية أخرى كيفية عندما طرحنا أسئلة تتعلق بكيفية تمثل الله والرسول والمسيحية واليهودية وغيرها من الأسئلة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في ما يخص الجدول الرقم (4) فإنه يعكس مستوى وأهمية الدين في الحياة اليومية عند الشباب، حيث تقترب النسبة من 90 بالمئة من المستجوَبين، والذين عبَّروا عن كون الدين مهم في حياتهم اليومية. وللمقارنة مع بعض الدراسات الدولية، نجد أن أغلب الدراسات التي أنجزت حول القيم الدينية بالمغرب طيلة السنوات الأخيرة، توصلت إلى نتيجة هامة وبالغة التعقيد. فالشباب المغربي يعتبر أن الهوية الدينية ممثلة بالإسلام هي أهم قضية تتخذ أولوية في سلم الأولويات التي يرتبها. ففي سؤال ذكي وينمّ عن مهنية في الأبحاث السوسيولوجية، طرح منجزو «تقرير الإسلام اليومي، 2007» على الشباب المغربي: أيهما أقرب لك من بين الاختيارات الثلاثة التالية: يهودي مغربي، أو مسيحي فلسطيني أو مسلم أفغاني؟ فكانت الإجابات كالتالي: عبَّر 67 بالمئة عن كونهم يجدون أنفسهم أقرب إلى المسلم الأفغاني، المغربي اليهودي 13 بالمئة والمسيحي الفلسطيني7 بالمئة. وهناك معطى آخر خلصت إليه في دراستي، وهو المتربط بتفوق الإناث على الذكور في مسألة المعتقد، وهو الأمر نفسه الذي خلصت إليه العديد من الدراسات والمسوح السوسيولوجية التي أجريت في عدة مناطق من العالم على التأكيد أن النساء يتفوقن بدرجات تقترب من 10 بالمئة عن الرجال (Rachik, 2007: 180; Mossière, 2013)‏[7].

وبالموازاة مع ذلك، ورغم أن المغرب يعدّ بلداً ذا أغلبية مسلمة، ورغم كون الفاعل الرسمي، يرفع شعار الوحدة المذهبية، ممثلة بالمذهب المالكي السني، فإن وجود تعبيرات على المستوى السوسيولوجي، والتي تتمظهر في اتجاهات نحو المسيحية أو أشكال أخرى من الدين غير التوحيدي (كالبوذية مثـلاً) أو التشيع (جرموني، 2015) – رغم قلتها عددياً –  فإنها تبقى حاضرة، وتؤشر إلى منزع نحو تحول نوعي في المرجعيات المؤطرة للحقل الديني، سواء في طرق الاستمداد أو التلقي أو إنتاج وإعادة إنتاج القيم الدينية. وهذا المعطى ربما سيفرز في السنوات المقبلة مجموعة من الآثار قد تتمظهر في شكل حساسيات أو «أقليات» دينية تعبر عن مطالبها لضمان حرية المعتقد في المغرب.

وغني عن البيان، أن المنحى التعددي في التديُّن ليس قاصراً على المغرب، بل أصبح يشكل ملمحاً جديداً في العالم المعاصر. «فقد انتشرت في الديار الغربية اللهفة نحو الانضمام إلى الخلايا الدينية، ويبدو البعد ما بعد الحداثي في هذا التوجه الديني، في النزوع نحو الاغتراف من تعددية دينية وافدة، مختلفة الأسس العقائدية (وثنية وسماوية). فهناك انبعاث جديد لديانات قديمة من مصر واليونان والهند وأفريقيا السوداء، كعبادة الشمس والقمر والأوثان وحتى «الشيطان». وهنا تبدو الطرافة «حيث يتم الانتقال والمزج بين خليط متنافر من الاعتقادات. فأصبح الدين بدوره يخضع لمنطق الاستهلاك، استهلاك تعددية الألوان الدينية المتاحة في السوق العالمية» (الإدريسي، 2011: 334؛ Roy, 2008).

2 – على مستوى الطقوس الدينية

تسمح النتائج التي توصلنا إليها في ما يخص مستوى أداء الطقوس الدينية عند فئة الشباب، من تشكيل صورة ولو مصغرة عن نوعية وحجم وطبيعة الممارسة الدينية في منطقة الدراسة، فالصلاة كمؤشر هام يعكس مدى الارتباط بين المعتقدات والممارسات الدينية، تبين أن هناك اتجاهاً يسير نحو «تعزيز» هذه الممارسة الطقسية. وأكثر من ذلك كشفت النتائج عن تديُّن حضري، مرتبط بشروط سوسيوثقافية وبنيوية وسوسيوتاريخية. فالمدينة كانت مسرحاً لتحولات عدة، وقد كان من أبرزها وجود الحركات الإسلامية والدعوية، والذين عملوا على تقديم نموذج من التديُّن، يستفيد من خدمات التعليم وثماره ويستغلون الفضاءات العمومية، كالمدارس والجامعات والإدارات العمومية، لتوصيل خطابهم. وقد انعكس ذلك على تمثل «إيجابي» لبعض الممارسات الدينية ومنها الصلاة. والشكل الرقم (1) يوضح هذا الأمر بجلاء:

الشكل الرقم (1)

ممارسة الصلاة حسب متغير وسط الإقامة

(الأرقام بالنسبة المئوية)

 

 

 

 

 

 

 

المصدر: (جرموني، 2013) (قيد النشر).

 

وبجانب هذه الملاحظة، نجد أن معطيات البحث، تكشف عن ملمح بارز، وهو المتعلق بتديُّن الفتيات، فأغلب المعطيات الكمية، سواء الخاصة بالصلاة أو الصيام أو قراءة القرآن، بينت أن الفتيات يحققن تفوقاً على الذكور، وقد فسرنا ذلك بنوعية التنشئة الاجتماعية التي تخضع لها الفتاة. فإذا كان الباحث شقرون قد توصل في دراسته حول الشباب (Chekroun, 1990)، إلى أن نسبة الفتيات اللواتي يؤدين الصلاة لم تتجاوز 9.1 بالمئة، بالمقارنة مع الذكور (17.2 بالمئة)، وقد أرجع تفوق الذكور في هذه الممارسة، لطبيعة التنشئة الاجتماعية التي تمارسها الأسرة حول الذكر والتي تميزت في نظره بالتشدد في اتجاه التربية الذكورية التي كانت سائدة في المجتمع المغربي. وهذا ما يعني تحولاً في ممارسة الطقوس الدينية، ومنها الصلاة، بين الأمس واليوم، والشكل الرقم (2) يبين حجم هذه الظاهرة.

ولعل من بين النتائج التي يمكن استخلاصها من نتائج الأبحاث الميدانية السابقة، هو وجود حالة من التماهي مع اللباس المسمى «الحجاب»، الذي ظهر مع بروز الحركات الإسلاموية في سبعينيات القرن الماضي. فمن خلال المقاربة المقارناتية، يلاحظ أنه حصل «تطور» كمّي بين البحوث الإمبيريقية التي أنجزت بدءاً من تسعينيات القرن الماضي، وبداية الألفية الثالثة. ولهذا جاءت نتائجنا لتؤكد هذا التوجه نحو مزيد من التمثل الإيجابي للحجاب. والجدول الرقم (4) يبين الأمر بجلاء.

الشكل الرقم (2)

ممارسة الصلاة حسب متغير الجنس

(الأرقام بالنسبة المئوية)

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر: المصدر نفسه.

 

الجدول الرقم (5)

تطور اتجاهات الموقف من الحجاب عبر مراحل زمنية متفرقة

(الأرقام بالنسبة المئوية)

الإناثالذكوراسم الدراسة وزمنها
ضدمعضدمع
55.940.552.833.7«Jeux et Enjeux cultureles au Maroc» M. Chekroun 1990
13.44917.841R. Bourqia [et al.], «Jeunesse estudiantine Marocaine valeurs et stratégies» 1995
13.6606.754.5Bourqia Rahma, Harras Mokhtar, Ayadi Mohamed, Rachik Hassan, Les jeunes et les valeurs religieuses, 2000
76.8 (هذه النسبة تنسحب على كلا الجنسين)L’islam au quotidien: enquéte sur les valeurs religieuses au Maroc/H.Rachik [et al.], 2007

المصدر: تركيب الباحث من خلال مجموعة من الدراسات (انظر الفصل الثاني جرموني،2013).

لكن من حيث الواقع العملي، يشكل الحجاب بشكله الحالي، بؤرة للعديد من النقاشات والتجاذبات، فقد تغير شكله وطبيعته، وتلون بلون لغة «الماركتينغ» والتسليع الإشهاري، وقد بدأ يتخذ مسارات متعددة، تعكس حجم التوتر الذي تحدثه عناصر التحول في المنظومة القيمية في علاقتها بمظاهر الحداثة العنيفة، مما ولد ردة فعل، يقودها الفاعل السلفي، لإعادة تقديم هوية جديدة بطقوس أكثر «صلابة» وأكثر حدية مما سبق. في هذا الإطار يمكن الحديث عن عناصر التحول من الحجاب إلى النقاب، والتي يمكن أن تشكل في المستقبل المتوسط والقريب نزعة نحو إعادة تحديد الفضاء العمومي والفضاء الخاص. ونحن إذ نبسط هذه النتائج ونحاول أن نقرأها ونفسرها، فإننا بالمقابل نطمح لتكون عبارة عن مقدمات لاستشراف المستقبل. والذي سيغير من المشهد الديني بالمغرب لا محالة.

الشكل الرقم (3)

رأي الشباب حول الحجاب

(الأرقام بالنسبة المئوية)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر: (جرموني، 2013) (قيد النشر).

3 – بخصوص المعرفة الدينية

يمكن أن نستنتج أن التوجه العام للمستجوَبين يؤكد «ضعف» وهشاشة هذه المعرفة، حيث إن نسبة قليلة منهم استطاعت التعرف إلى المذهب الفقهي المتبع في المغرب. أما بقية المذاهب فلا علم لأغلبيتهم بها، مما يعزز ما توصلت إليه أبحاث سوسيولوجية سابقة حول ضعف المعرفة الدينية عند الشباب.

بخصوص مصادر المعرفة الدينية، تبقى المصادر التقليدية للتنشئة الدينية المتمثلة بالأسرة والمسجد أهم مصدر لتلقي المعرفة الدينية للشباب، بالإضافة إلى بروز المدرسة والتلفاز والإنترنت باعتبارها مصادر جديدة تغذي الطلب حول هذه المعرفة. ويوضح الجدول الرقم (5)، بعضاً من هذه المصادر.

الجدول الرقم (6)

مصادر المعرفة الدينية عند الشباب حسب الأولوية

(الأرقام بالنسبة مئوية)

المصدر الأولالمصدر الثانيالمصدر الثالث
الإمام40.313,26.9
الأسرة23.524,514.0
المدرسة5.39,210.2
التلفاز7.415,111.9
الأصدقاء5.58,912.7
الإنترنت4.69,66.1
الجمعيات الدينية5.16,89.1
الكتب7.48,514.2
آخر0.74,011
المجموع100100100

المصدر: المصدر نفسه.

الشكل الرقم (4)

معرفة الشباب بالمذهب الفقهي الذي يتبعه المغاربة

(الأرقام بالنسبة المئوية)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر: المصدر نفسه.

بيد أن هذه النتائج الخاصة بضعف المعرفة الدينية لدى فئة الشباب، بالمنطقة المبحوثة وبقية مناطق المغرب، ليست إلا نتيجة لعلاقات الصراع حول المجال الرمزي، وخصوصاً المعرفة الدينية. فإذا كان كليفورد غيرتز تحدث عن كون أهم الموارد التي يقع حولها الصراع، هي المعرفة (غيرتز، 1993)، فإن البحث بيَّن أن طبيعة تشكل الدين في المغرب، والتحكم الذي يتعرض له، والعلاقة المتوترة بين الدولة والمجتمع، وضعف فعالية العلماء، أدى إلى وجود تصدعات في إنتاج المعرفة الدينية وإعادة إنتاجها. ولهذا تحدثنا في ثنايا هذه الدراسة عن «اللاأمن المعرفي الديني».

وليست هذه مبالغة منا، بقدر ما هي نتيجة لقراءة الواقع، فقد ظهر أن هناك «تدفقاً» قوياً للقنوات الدينية ذات الخلفية السلفية في المغرب، مما يفسح في المجال، لإعادة تملك القيم الدينية ونقلها للأجيال المتلاحقة. وينضاف إلى هذا العامل، ما تقوم به الحركات الإسلامية، من إعادة تموقعها في الحقل الديني، من خلال المدخل المعرفي الديني. حيث تعتبر أن مبرر وجودها يتأسس على «فراغ» في التأطير الديني للشباب. وقد بيَّنا في هذا المستوى، تداعيات ذلك على العلاقات البينية التي تجمع المجتمع والفاعلين الدينيين والسلطة. ومن بين هذه التداعيات، تقديم معارف دينية متعددة ومتناثرة ويلفها التشظي، ومن ثم تشكيل خليط من الأجيال يتسم بالهجانة والتلفيق الدينيين. وقد نجازف بالقول، إلى تطور الأمر إلى نوع من الصراع حول تأويل النص الديني وفرض قراءات حدية على فئة الشباب، خصوصاً في المناطق الهامشية والتي تعاني الأزمات الاجتماعية والسيكولوجية والأمنية والاقتصادية والتنموية عموماً.

4 – على مستوى القيم الدينية و«الأخلاق» في استراتيجية التفاوض

حاولت الدراسة التأكد من نتائج دراسات سابقة خلصت إلى أن الشباب المغربي يعيش «ازدواجية» في تديُّنه، وكون أن النتائج التي حصلنا عليها، تؤكد بعض الجوانب من هذا التوتر، لكننا حاولنا أن نذهب أبعد في تحليله والكشف عن أسبابه وأنواعه. فمثـلاً بالنسبة إلى السؤال الخاص بالغش في الامتحانات، أجاب نصف المستجوَبين المعنيين (50 بالمئة من العيِّنة) أنهم يمارسون هذه الظاهرة، وهمت هذه الحالة الفئات التي لا تنتظم في أداء الصلوات، أو التي لا تصلّي إطلاقاً. في حين لم تتجاوز النسبة 17 بالمئة بالنسبة إلى المصلين بانتظام.

ويمكن تفسير الظاهرة بمدى تمثل المصلّين ببعض القيم الدينية والتربوية مثل قيمة الغش، ورفضهم المبدئي لها مقارنة مع غير المصلّين. وهو اتجاه تؤكده المعطيات التي تم تجميعها أثناء الدراسة الكيفية، والتي تذهب إلى أن الاتجاه العام للشباب «المنضبط» دينياً له استعدادات أقل للغش في الامتحانات وتقديم الرشوة من أجل الحصول على امتيازات من أولئك الذين لا يصلّون.

الجدول الرقم (7)

اتجاهات الشباب حول الغش في الامتحان لكلا الجنسين

(الأرقام بالنسبة المئوية)

المصلون بانتظامغير المصلين
الغش1750
ترك ورقة الامتحان فارغة7.210.7
طلب مساعدة23.514.3
الإجابة بلا أعرف51.625
المجموع100100

المصدر: المصدر نفسه.

لكن هذه النتائج، وجب أن نقرأها بحذر شديد، ذلك أنه ثبت من خلال عدة دراسات واستقصاءات، أن المستجوَبين لا يعبرون عن حقيقة مشاعرهم وسلوكاتهم – وخصوصاً إذا كانت تخالف الحس العام المشترك – مما يؤدي إلى إضفاء نوع من «المرغوبية الاجتماعية» على مجموعة من السلوكات والمواقف واتجاهات القيم. ولعل من بين التفسيرات التي توصلنا إليها، أن مسألة «التفاوض الاستراتيجي» في السلوك، ليست مرتبطة بنسق الشخصية/الفرد فحسب، بل إنها ترتبط بنسق الجماعة/المجتمع، والذي يعيش على وقع التوتر بين المعايير المرجعية، بما فيها الدينية، وبقية الأنساق المجتمعية. حيث يقوم بتبرير مجموعة من السلوكات، ويضفي عليها قبولاً اجتماعياً، وإن كانت غير مقبولة منطقياً، كما شرح ذلك «إيكلمان». وأخيراً هناك نسق المجال، والذي قد يكون اقتصادياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو حتى ثقافياً، ويتحكم في سلوكات الأفراد والجماعات، من خلال مجموعة من التأثيرات والإشراطات، التي قد تكون خارجة عن وعي الأفراد. وفي هذا الصدد، تحدثنا عن المعضلة الثقافية، بالمنظور السوسيوأنثربولوجي للمفهوم، حيث بيَّنا أن تفسير «استراتيجية التفاوض القيمي»، ينبع من نوعية الثقافة السائدة في المجتمع.

ولعل هذه الخلاصة التي توصلنا إليها في هذا البحث، تتقاطع مع النتائج التي استخلصها الباحث ستيفان فيش عندما قارن بين مؤشرات الرشوة في العالم المسيحي والعالم الإسلامي، حيث أشار إلى أن غالبية المجتمعات الإسلامية، حسب مسوحات عالمية، تكثر فيها الرشوة؛ فمثـلاً نجد في المعدل العام لـ 19 دولة إسلامية (2.9)‏[8]، أما في الدول المسيحية فحصلت على معدل (4.6). هذه النتيجة، ولو في حدود معيِّنة، تبرز أن ظاهرة «التوتر» لا تنسحب على منطقة البحث وحدها، ولا حتى على بقية مناطق المغرب، بل هي خاصية مميزة للسلوك اليومي عند المسلمين، إذ في الوقت الذي ترتفع فيه مؤشرات التديُّن الطقوسي في المجتمعات المسلمة، كما بيَّنا سابقاً، ترتفع فيه مؤشرات الرشوة بأبهى صورها.

5 – بخصوص الفاعلين الدينيين الرسميين

يستنتج من خلال نتائج الدراسة، أن هناك ضعفاً للثقة في تمثل الشباب للفاعلين الرسميين، وثقة محدودة في المبادرات والخطابات الرسمية الخاصة بهيكلة الحقل الديني في المغرب. فرغم الزخم الذي صاحب مسار إصلاح الحقل الديني منذ سنة 2004، إلا أن الشباب لم يلمسوا تأثيره في حياتهم، بدليل تعبير فئات واسعة من الشباب الذين تم إجراء البحث معهم، عن ضعف معرفتهم بهذه البرامج ومضامينها وضعف تواصلهم مع المؤسسات الدينية الرسمية، وضعف المعرفة بالعلماء والدعاة المحليين والوطنيين. ولعل أحد أهم المؤشرات التي تبرز مدى نجاح سياسة عمومية في أي حقل من الحقول، هو مدى وصولها لأكبر عدد من الفئات، وحيث إننا من خلال بحثنا حاولنا أن نعتمد على بعض المؤشرات التي تقيس مستوى ثقة الشباب في نوعية السياسات العمومية التي يضعها الفاعل الرسمي، من خلال التساؤل عن مدى ثقته‏[9] في هذه المؤسسات. وهكذا، فقد توصلت الدراسة إلى أن أغلب الشباب لم يستطيعوا التعرف إلى اسم وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية. الأمر نفسه ينطبق على المجالس العلمية المحلية والمجلس العلمي الأعلى. بل إن الأمر يمتد ليصل إلى حد النقد اللاذع لما تقوم به المؤسسات الرسمية الدينية من مبادرات، بالرغم من تأكيد دراسات سابقة ثقة المجتمع المغربي في المؤسسات الدينية بشكل عام (Gallup, 2010). لكن عندما دققنا في الأمر، من خلال توجيه السؤال للمؤسسات الدينية لوحدها، بدون ذكر المؤسسات الاجتماعية الأخرى، فإن النتيجة تغيرت، وهو ما دفعنا للحديث عن الحذر من التماهي مع نتائج البحوث الميدانية. ومن بين النتائج التي أمكننا الحصول عليها، هو ضعف – بل غياب – الثقة في العلماء المغاربة، بدليل أن العيِّنة المستجوبة لم تحدد لنا أي شخصية دينية معروفة مغربياً، بل إن الشباب تعرفوا إلى نماذج أخرى من خارج المغرب (محمد حسان، الداعية المصري)، وهذا الأمر جعلنا نستنتج أننا نعيش في مرحلة فقدان النماذج حيث إن المجتمعات التي يقع فيها تحول سريع، غالباً ما تجد نفسها في «فراغ مرجعي». وهذه النتيجة ليست وليدة سبب واحد أو مقترب تفسيري واحد، بل هي ثمرة عدة عوامل ومسببات. وقد بيَّنا في هذه الدراسة، كيف أن تراجع دور مؤسسة «القرويين» في إخراج علماء بالمعنى الذي يضفيه «غرامشي» على المثقف العضوي، كان من بين أسباب ضعف الثقة. وأيضاً لغياب الحس النقدي في خطاب هؤلاء العلماء، وغياب القدرة على التواصل مع فئات المجتمع، وخصوصاً الفئة الشابة منه. ولهذا أمكننا الوصول إلى فكرة كان قد عبر عنها المفكر التونسي هشام جعيط: «أنه لا المجتمع قادر على تربية الدولة، ولا الدولة قادرة على تربية المجتمع». لأنها في العمق أزمة ثقة. ومن خلال مجمل النتائج المتوصل إليها، أمكننا التأكد من فرضيتنا، التي كنا قد طرحناها في مستهل هذه الورقة. فالجهاز الرسمي، لم يقم بإصلاح الحقل الديني، إلا لكي يضمن احتكاره للسلطة الرمزية والزمنية معاً. وذلك في إطار إعادة هيكلة هذا الحقل، بما لا يترك مجالاً لأي مفاجآت محتملة. ولعل هذا السبب العميق، هو الذي جعل الإصلاح، تمر عليه أكثر من ثماني سنوات، ولا تزال نتائجه جد محتشمة إن لم نقل غائبة. وهذه الخلاصة، تتوافق مع فرضياتنا التي كنا قد انطلقنا منها سابقاً. ولهذا تساءلنا: هل يمكن أن يكون إصلاح الحقل الديني في غياب المشروع المجتمعي؟

الجدول الرقم (8)

الشباب والثقة في الفاعلين الدينيين

(الأرقام بالنسبة المئوية)

لديه ثقةليس لديه ثقةلا أدريالمجموع
مؤسسة إمارة المؤمنين37.313.549.2100
المجلس العلمي الأعلى32.123.944.0100
المجلس العلمي المحلي16.727.855.5100
العدل والإحسان30.333.736.0100
حركة التوحيد والإصلاح16.222.960.9100
الزوايا9.458.731.9100
دور القرآن94.52.33.2100
التيار السلفي14.950.234.9100

المصدر: المصدر نفسه.

6 – الفاعلون الدينيون غير الرسميين

بالرغم من ضعف الثقة التي عبر عنها شباب المنطقة عن الفاعلين المدنيين، من حركات إسلامية وتيارات صوفية وسلفية وغيرها، لكن ذلك لا يمنع من تسجيل مجموعة من الملاحظات: أولاً، في ما يخص بروز الحركات الدعوية والإسلامية، يمكن اعتبار الأمر، مبنياً على مبرر وجودي، تعتقده هذه الحركات، حيث تروج في خطاباتها وأوراقها وكتبها ومنشوراتها مقولة «فساد» التديُّن في المغرب، ولذلك تتقوى الحاجة إلى ميلاد هذه الجماعات. والتي تعتبر نفسها مسؤولة عن «إصلاح» الدين، وذلك عن طريق المدخل التربوي. لذلك ركزت كل الحركات على هذا المدخل، وجعلت منه «حصان طروادة». وقد تبين من خلال الحالات المدروسة، كيف استطاعت هذه الحركات «خصوصاً ذات التوجه الحركي»، أن تعيد تشكيل الفرد، وفق نسق تربوي صارم.

ثانياً، كشفت لنا معطيات البحث، وخصوصاً الكيفي، عن وجود مستويين من الحركات، هناك الحركات الدعوية التي استطاعت أن تتأقلم مع طبيعة التحولات الجارية في الحقل الديني، وبالتالي عملت على تغيير آلياتها ووسائلها وخططها وبرامجها، والنموذج على هذا النوع «حركة التوحيد والإصلاح»، بينما بقيت جماعات تستهلك الوسائل والآليات «القديمة» نفسها، ويمكن أن نضرب مثالاً بجماعة «الدعوة والتبليغ».

ثالثاً، من بين النتائج الدالة التي يمكن الوقوف عندها، هي حالة التيار السلفي، فهذا التيار يسعى لتقديم نفسه، كأقرب جماعة دينية للوحي، ومن بين الآليات التي يعتمدها، هي بساطة الخطاب والاعتماد على مستمسك دور القرآن، باعتبارها دوراً لتحفيظ الكلام العالي، لكنها تقوم على صياغة جديدة للفرد. ولعل هذا التوجه الذي يؤسس مواقفه وتوجهاته، من بقية الجماعات الأخرى، من خلال خطاب الطهرانية والنقاء والقرب من السلف الصالح.

رابعاً، كشفت لنا بقية المعطيات، عن ضعف التعرف إلى التيار الشيعي، بل إن غالبية المستجوَبين عبَّروا عن مواقف سلبية اتجاهه، وهذا ربما يرتبط بالإعلام وبالخطاب الرسمي – وحتى عند بعض الفاعلين الدينيين – الذين لا يفتؤون يوجهون التهم إلى هذا التيار ويشنون عليه الحرب. بيد أن المقابلة الهامة التي تمكنّا من إنجازها مع الشاب «المتشيع»، أثبتت لنا، مدى صلابة التكوين الذي يتلقاه المنتسب للتيار، فقدرة الفرد على امتلاك معرفة قوية ومتماسكة، تجعله مقنعاً للآخرين. فإذا كنا قد توصلنا إلى أن غالبية المستجوَبين الآخرين، ليست لديهم معرفة بالدين، فإن حالة الشباب الشيعي، تبين العكس. وقد أسعفتنا تحرياتنا من فهم بعض خبايا الخريطة الدينية الشبابية اليوم، إذ في واقع انهيار حدود الزمان والمكان، لم يعد ممكنا الحديث عن خصوصيات وعن «تحصين» الذات، فالسوق الدينية سوق مفتوحة على كل الاحتمالات. ولعل الفرضية التي كنا قد طرحناها، والتي تتحدث عن تعدد الرهانات والرهانات المضادة في الحقل الديني بين الفاعلين، تأكدت – ولو في حدود معيِّنة – وأثبتت أن الحقل الديني، تتقاذفه عدة موجات وعدة تموجات، مما ينعكس على حالة التديُّن سواء الشبابي أو غيره.

7 – الإعلام الديني

شكّل ميلاد ما سميناه «الإعلام الديني» مرحلة جديدة في تحول الخطاب من الوسائل التقليدية إلى استغلال منتجات التكنولوجيا والتقنية، وذلك بهدف أن يقوم الفاعلون في هذا المجال، بتمرير الخطاب الديني، لفئات جد واسعة ومتنوعة. وقد كان هذا التحول لافتاً في ذهنية التيار السلفي بشكل خاص.

اهتمام الشباب بدعاة الفضائيات المشرقية، بشقيها السلفي والإخواني أو المستقل، بحيث تصدَّر الشيخ «محمد حسان» الرتبة الأولى كأفضل شخصية دينية يفضلها شباب المنطقة، يتبعه الداعية الشاب «عمرو خالد»، ثم الشيخ «يوسف القرضاوي». وتجدر الإشارة إلى أن هؤلاء الدعاة الثلاثة باختلاف مرجعياتهم الفكرية ينحدرون من دولة مصر، في حين لم يتم ورود أي اسم لداعية مغربي ضمن الشخصيات الدينية المفضلة من طرف الشباب المغربي، الذين أجريت الدراسة حولهم. والشكل الرقم (5) يوضح هذا الأمر بجلاء:

الشكل الرقم (5)

الشخصية الدينية الأولى ذات الأهمية حسب متغير الجنس

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر: المصدر نفسه.

من جهة أخرى، أمكننا من خلال متابعتنا مجمل النتائج، وكذا التفسيرات التي عززنا بها تحليلاتنا، أن نتأكد من الفرضية المطروحة، وهي أن الإعلام الديني، وخصوصاً في شقه الافتراضي (مؤسسة الفكر العربي، 2012)، ولّد ما يسمى التديُّن الفردي. وهذه المسألة، تعني أن التديُّن الشبابي الحالي، بحكم ما توفر لديه من إمكانيات لولوج عالم النت، ولإمكانية بناء الأفكار والمعلومات وكذا الاختيارات…، قد تحول من مستهلك للمنظومات الرمزية، ومنها الدينية، بجميع تلاوينها واختلاف مشاربها وكذا توجهاتها…، إلى منتج ومشارك في عملية ترويج وإعادة ترويج الخطاب الديني بأشكال ودلالات جد محدثة.

وقد بدأ نوع من الانفصال عن الواقع السوسيولوجي والتاريخي، ومحاولة بناء هويات جديدة، تجد ضالتها في العالم الافتراضي. ولهذا خلصنا إلى أن العلاقة ما بين ما هو افتراضي وواقعي لم تمر بالشكل السلس في التجربة العربية الإسلامية، ومنها المغرب، وبشكل خاص منطقة الدراسة.

بناء على ما سبق، ما هي أنماط التديُّن المستخلصة من الدراسة؟ وهل يمكن تعميمها على بقية الشباب المغربي؟

رابعاً: اتجاهات التديُّن عند الشباب

بناء على النتائج المتوصَّل إليها في البحث، ومن خلال انتهاج المقاربة النسقية في معالجة قضية القيم الدينية عند الشباب أمكننا رسم توجهات التديُّن عند فئة الشباب، في هذا الصدد يمكن استخلاص سبعة أنماط من التديُّن – ولو بنوع من المجازفة – وهي:

– التديُّن الرسمي، والتديُّن التقليدي/الشعبي، والتديُّن الطائفي، والتديُّن الحركي، والتديُّن الأنثوي، والتديُّن الفردي، وأخيراً التديُّن الحضري. وتجدر الإشارة إلى أنه لا يمكن الجزم بأن هذه الأنماط هي الوحيدة الممكنة، إذ إن أغلب المتديِّنين يندرجون في أحد هذه الأنماط، أو من خلال المزج بين نمطين أو أكثر، من طريق ما يسمى التوفيق/التلفيق (Bricolage) أو حتى من خلال المزج بين التقيد على المستوى الطقوسي، والتوتر على المستوى السلوكي. ولهذا يمكننا أن نستخلص توجهاً عاماً يتسم بنوع من استراتيجيات الازدواجية والتفاوض بين المبدأ والواقع.

خامساً: حدود الدراسة وآفاق للتساؤل والاستشراف

لقد حاولنا من خلال هذا العرض المجتزأ، تقديم إلمامة خطاطية عامة بأهم الخرائط الدينية عند فئة الشباب، فإن هذه المغامرة الاستكشافية لا تخلو من صعوبات ومخاطر، ونحن نعتقد أن من بين أهم تلك الإشكالات ما يلي:

– صعوبة عملية قياس التديُّن، فرغم كل الاحتياطات والمنهجية والتقنية التي يمكن أن يتسلح بهما الباحث، فإن هذه العملية، تطرح مجموعة من الصعوبات، ذلك أن طبيعة القيم والممارسات والاتجاهات الدينية، وقدرتها على التخفي والتستر تجعلها غير شفافة. ولهذا يجب أخذ كل تلك الإشكالات، بعين الاعتبار حتى لا ننزلق في تأويلات خاطئة، فنحن نقيس ما يصرح به الشباب من اتجاهات وقيم، لا ما يمارسونه حقاً في سلوكهم اليومي. وبالتالي مهما كانت درجة موافقة الشاب على قيمة معيّنة، أو اهتمامه بها فإنها لا تعني بالضرورة امتلاك القيمة والتصرف وفقها. ولهذا بدأ يتعزز وسط الباحثين، توجه نحو انتهاج المقاربة الكمية أو المنهج البيوغرافي، عوض المنهج السوسيوغرافي.

– صعوبة رصد كل المبادرات والفعاليات التي يقوم بها الفاعلون الدينيون سواء الرسميون منهم أو المدنيون، وكذا صعوبة تتبع آثارها على واقع الشباب. ولهذا فنحن نعترف أن ما توصلنا إليه في هذا المجال، لا يعد سوى مدخل أولي يمكنه أن يساعد الباحثين على تملك أوجهه الشاملة سواء منها الظاهرة أو الخفية.

– قضية التفاوض الاستراتيجي التي تميز المجتمع المغربي بصفة عامة، والشباب بشكل خاص. والتي حاولنا أن نقدم بشأنها مجموعة من المعطيات والتحليلات والمقتربات التفسيرية، لكنها بحاجة إلى نوع ثان من المقاربات، والتي تمتح من الخلفية السوسيوتاريخية والأنثروبولوجية، لفهم تعقيداتها وسبر أغوارها، وفك شفراتها الملغزة.

لكل هذه الاعتبارت الآنفة فإن تركيزنا في تحليل الظاهرة الدينية الشبابية، وفق محاور ومجالات، لا يعني بالضرورة عدم اشتماله على أبعاد أخرى صالحة للبحث. كما لا يعني ذلك أننا لم نقم باختزال وتعسف في البحث عن الظاهرة، على اعتبار أن كل بحث في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، يظل – لاعتبارات إيبيستيمولوجية عديدة – اختزالاً تعسفياً، ولذلك يقتضي الأمر مقاربة منهجية صارمة للتقيد بالأعراف العلمية المطلوبة في مثل هذه البحوث، وهو ما حاولنا أن نتقيد به في الإطار النظري والمنهجي – ولو في حدود معيّنة – من هذه الأطروحة المتواضعة.

لذلك فإن إحاطة شمولية بالظاهرة الدينية، سواء عند فئة الشباب أو غيرها – مطلب يتجاوز حدود ومحدودية بحث معين، كما يفوق في مداه المجهود الفردي. لذلك يستدعي تظافر عدة جهود وتخصصات علمية في حقول شتى. ولأجل هذا فإننا، ننوه مرة أخرى، أن الإشكالية التي حددناها لموضوع أطروحتنا، وما قدمناه من إجابات وخلاصات ونتائج، لا نعتبره – في الشروط الراهنة – سوى محاولة من بين محاولات، تطمح إلى أن تغني البحث في سوسيولوجيا الدين، ببلادنا وأن تستشرف بعضاً من آفاقه المستقبلية.

 

قد يهمكم الاطلاع على هذه الدراسة المهمة  سؤال الدولة والدين عند مكيافيلي وابن خلدون