مقدمة:

وجد علم الاجتماع نفسه منذ تأسيسه في صدام ومواجهة مع الدين، بشكل لا يمكن تجنُّبه. ولقد تصادم مع الدين بداية باعتباره طريقة للبناء الاجتماعي للواقع ونظاماً مرجعياً يلجأ إليه الفاعلون تلقائياً للتفكير في العالم الذي يعيشون فيه. كما تصادم الهدف النقدي لعلم الاجتماع مع الطموح الذي سعت إليه كل الأديان بإعطائها معنى شاملاً وعاماً للعالم واختزالها التنوع اللانهائي للخبرات والتجارب الإنسانية. واعتبر إميل دوركهايم الدين إطاراً منظماً ومؤسساتياً للمقدس، وشكلاً من إنتاج القواعد الجماعية والوعي الاجتماعي، وبالتالي أداة لتفسير وظيفة جامعة عند قوله «الدين هو قاعدة ورابطة تشد أزر المجتمع، يوحي بقوة الاعتقاد وجود مجموعة من القيم المتعالية اجتماعياً، يتأسس وفقها نظام الموجودات، ومن هنا تكمن أهمية الطقوس ودورها في بث اليقظة الدائمة في هذا الوعي الجماعي الأصيل».

فتحضر مثلاً في الديانات العالمية الكبرى ضوابط مأكل تشير إلى فكرة ضرورة اعتراف الأفراد بقيم مرجعية مشتركة وقواعد جامعة ضابطة. وتعد جدلية الطاهر والنجس بالفعل حالة نموذجية عن كيفية عمل الدين وعن كيفية تحوله إلى قانون وإلى حزمة من التعاليم التي تنظم الحياة الاجتماعية[1].

وشاع عن الماركسية رفضها لفكرة استغلال الدين، ومع ذلك يعرفه كارل ماركس «الدين هو النظرية العامة لهذا العالم، إنه موسوعته الكلية، منطقه في صورة شعبية، نخوته الروحانية، إنه عقاب الأخلاقي، إطراؤه الاحتفالي، إنه عزاؤه وتبريره الكوني، إن الدين هو الإنجاز الرائع للكائن البشري لأن الكائن البشري لا يمتلك واقعاً حقيقياً والنضال ضد الدين بالتالي هو نضال بشكل غير مباشر ضد هذا العالم الذي يعتبر الدين بمثابة عبيره الروحي»[2].

وعمل يورغن هابرماس[3] على إظهار الإشكال الملحّ والمعاصر لوضع الدين في المجتمعات المعاصرة، وما يستوجب ذلك الحضور والوضع من تأويلات لمقابلاته مع السياسة والثقافة والحالة الاجتماعية. ولأجل ذلك عمد إلى أن يجعل من خطاب الحداثة إطاراً يضمن محتوى كل من الدين والعلم. وتلك هي إشكالية أخرى من كبريات إشكاليات العقل المعاصر. ويقرّ هابرماس بوجود حالة الأصولية والتحجرية التي يمكن وسمها بالأرثوذكسية في الشرق وفي الغرب، إذ يعاني اليهود والمسيحيون والمسلمون من المتطرفين. ويقول لتجاوز هذا الوضع: «إن العقل يستطيع أن يقدم حيلاً أو حلولاً لتفسير وتغيير هذه السلوكيات بينما يمكننا أن نعول على التفكير في الأمر، بذلك فنحن لا نقصي الآخر الديني لمجرد اختلافه عن موروثاتنا لأن ما لديه يوازي ما لدى مجتمعاتنا من التعصب والأصولية مما فتح الباب أمام الحديث عن أمرين: الدين والعلمانية والدين والآخر الديني»[4].

وأبرز ما قدمه هابرماس في بحثه قوة الدين في المجال العام، هو فكرته في كون التسامح أساس الثقافة الديمقراطية وهو مسار باتجاهين دائماً، ولهذا لا ينبغي فقط أن يتسامح المؤمنون إزاء اعتقادات الآخرين بما فيها عقائد غير المؤمنين وقناعاتهم… بل إن من واجب العلمانيين غير المتدينين أن يثمِّنوا قناعات مواطنيهم الذين يحركهم دافع ديني[5].

وحاول هابرماس في نفس البحث أن يكشف أن العنف الناتج من الممارسات والتقاليد الأصولية الدينية، إنما يصوغ لدى تلك الجماعات في كونه موجهاً بوصفه رد فعل مقابل ما تسببت له الحضارة الغربية التي تحس أنها متفوقة عليه من جروح وآلام، لذلك نجد عودة العنف العالمي المضاد على سعي الغرب الحثيث نحو العلمنة. وللخروج من أزمة التطرف الديني والعلاقة الدينية المتناقضة بالسياسة أو النقيض، يرى هابرماس أنه يجب الانعطاف بمسار الحلول نحو سَن معايير مشتركة وتشكيل حس مشترك، وأن يتم تجاوز الأصولية والواحدية وتحقيق التعددية الدينية والتسامح الديني، ولا بد أن يمر ذلك عبر شبكة تواصلية تذاوتية قانونية وسياسية تقدم أنموذج نظام إدارة وتشريع يتعامل مع الفكر الديني على أنه جزء مكوِّن لكثير من شكلانيات المجتمع المعاصر ومنها أسس الشرعنة والأخلاقيات[6]. ولمعرفة تمثلات الدين والتديُّن في المجتمع المعاصر وكيف استوعبت الرواية هذه الرؤى، سنعرض رؤية واسيني الأعرج وأحلام مستغانمي للدين والتدين كنماذج لرواية الألفية الثالثة.

أولاً: ماهية الدين ومظاهر التدين في النص الروائي

 

1 – رواية «أصابع لوليتا» لواسيني الأعرج

صدرت رواية أصابع لوليتا للروائي واسيني الأعرج في الجزائر سنة 2012 [7]. وسمحت لنا هذه الرواية باكتشاف إمكان أن يتحقق الحب رغم اختلاف السن والدين والمدن. روايةٌ تلتقي فيها الموضة، صناعة العصر، والكتابة الروائية التي ألغت الحدود الجغرافية في عالم التكتلات؛ رواية يلتقي فيها الجسد المعشوق بالقتل المخطط من طرف مجموعات تزرع الخوف والترهيب باسم الدين.

الجدول الرقم (1)
رؤية ماهية الدين ومظاهر التديُّن
في العالم الاجتماعي الروائي في رواية «أصابع لوليتا»

السياق والدلالة       العباراتالمحاور
– عن محتوى رواية «عرش الشيطان».

– عن إندونيسيا وعامل تقدمها.

– عن الحب كعلاقة بين شخصين مختلفين.

– يونس مارينا للوليتا بعد أن سألته عن ماهية دينه.

– مارينا للوليتا عندما أخبرته أنه متهم باليهودية.

«مجرد لحظة هاربة لاختراق سرية القرآن اللذيذة». (ص 13).

«النموذج الناجح: المواطنة قبل الدين». (ص13)».

«بلد مسلم لائكي». (ص 404).

«القدرة الخلاقة على تخطي الحدود التي ترسمها الأعراف والأديان». (ص 52).

«ما يهمني في المسيح ليس الدين فهو خيار شخصي». (ص 150).

«مشكلتي ليست مع الأديان ولكن مع بشر يلبسون هذه الأديان. لا يخلو أي دين من الملائكة والضحايا ولا يخلو أي دين من الشياطين والقتلة». (ص 151).

«إن أي دين ليس تهمة» (ص 172).

ماهية الدين في العالم الروائي
– يونس مارينا عن وظيفة الأئمة في بلده.

– آية استهلت بها السلطات العسكرية إعلان قائمة المجموعة التي رفضت الانقلاب.

– يونس مارينا للوليتا في كنيس الانتصار.

«الإمام المنغمس مع المخابرات». (ص 22).

«الدين هكذا عندما يسيَّس يفقد عفويته ويتحول إلى كراهية بغيضة بين الناس والمحيط». (ص 27).

«إن الله لا يضيع أجر المحسنين». (ص 83).

«ولو أن المسألة ليست بين أيدي المتدينين ولكن هي مساحة يحتلها الساحة والعسكريون هم من يشعل النار وهم من يطفئها متى شاؤوا». (ص 172).

التوظيف المؤسساتي للدين
– أثناء عملية التفتيش في القطار بين ألمانيا وفرنسا.

– شرطية تتساءل عن سبب التحقيق في قضية تهديد المثقفين المسلمين.

– المحقق الفرنسي لزميلته عن تهمة يونس مارينا المحقق ايتينان لزميله عن الخطر الذي يهدد فرنسا.

– المحقق ايتيان لزميله.

– عن العمل الإرهابي الذي وقع على البرجين في الولايات المتحدة في 2011.

«التعصب الديني مرتبط بالحروب والمنافي والخوف». (ص 20).

«لم يعد الإرهاب يعني الشيء الكثير عند المسافرين». (ص 65).

«مسلمون يقتتلون فيما بينهم». (ص 107).

«من أدخل الإرهاب إلى أراضينا الآمنة؟».

«كان الإسلاميون يضعون اسمه على رأس قائمة من يجب قتلهم لأن روايته عرش الشيطان تمس بالذات اللاهية». (ص 212).

«الخلايا الإرهابية الإيرانية ولاكمي قاعدة المغرب العربي مرتبطة بشكل مباشر مع القيادات العليا». (ص 210).

«شابان بلا سوابق يعيشان في البارات ومع المومسات على الأقل ظاهرياً يتحولان في لحظة إلى انتحاريين». (ص 213).

الدين والإرهاب في العالم الاجتماعي الروائي

 

– أمنية مومس تخاف انتقام الأهل والقتل،تسمي نفسها مريم ماجدلين.

– عن ذكريات الطفولة، للعذرية نفس القيمة عند المسلمين واليهود.

– المحقق وهو يدافع عن حق الأقليات لزميلته المنتمية إلى اليمين المتطرف.

– لوليتا في أول لقاء لها مع يونس مارينا في شوارع باريس.

– لوليتا في الكنيسة .

– يونس مارينا للوليتا وهي تحدثه عن إيمانها وحبها للصلاة.

الإمام الاندونيسي للوليتا بعد أن عادت لتلملم جروحها في جاكارتا.

– لوليتا وهي تدخن بعد عودتها.

– لوليتا لمارينا وهي تفشي له كيف اغتصبها والدها في جاكارتا حيث ترافقه لشراء القماش والألبسة.

«التحق بأحد أديرة المدينة..أخدم المتعبين والفقراء». (ص 57).

«إبنة الحاخام اليهودي التي كانت تمنحه كل شيئاً إلا تلك المنطقة المحرمة التي تجلب لها العار لها ولعائلتها» (ص 61).

«يريد أن يكون مسلماً مؤمناً أو حتى بوذياً أو منتسباً لأي ديانة أخرى ما الضرر في ذلك». (ص 110).

«نموت على الكنائس والمعابد». (ص 147).

«تغريني حجرة الغفران». (ص 159)

«الصلاة ليست إلا مسلكاً خاصاً للتقرب والإفضاء الداخلي لماذا يريد الناس تعميمها بشكل يكون واحداً». (ص 400).

«اللذة سيدة الإيمان شيئ واحد يقربنا من الله وممن نحب هو الصلاة». (ص 402).

«الدخان مكروه وليس حرام».

«لم يكن الحجاب في الجزائر معروفاً ومعمماً، والدي هو من كان وراء تحجيب نساء الجزائر». (ص 257).

 مظاهر التديُّن في العالم الاجتماعي الروائي

 

 

يلتقي بطل الرواية، يونس مارينا، بعارضة الأزياء لوليتا، في معرض نظِّم لتوقيع روايته «عرش الشيطان» في ألمانيا، ليلتقيا مرة أخرى في باريس. يعيد هذا اللقاء يونس مارينا إلى الماضي البعيد، إلى أول مرة أوقفه الأمن السري بسبب كتاباته ورفضه للانقلاب العسكري الذي وقع لرئيس الدولة حينها. في أسره عرف لقاء الأجساد وعرف خبايا النظام السياسي وتناقضات النظام الاجتماعي. أحب يونس مارينا الروائي والشخصية الرئيسية في لوليتا عشقها للحياة وعفويتها وحبها له. نقلته بدورها إلى عالم الموضة الذي لم يكن يعرف عنه شيئاً. وأحبت لوليتا في يونس مارينا ثقافته الواسعة، ووجدت في قربه حنان الأبوة الذي فقدته منذ تعرضها للاغتصاب.

الحدث الأبرز في العالم الاجتماعي الروائي يكمن في توظيف عارضة الأزياء لوليتا، من طرف جماعة إرهابية لقتل يونس مارينا، بسبب روايته «عرش الشيطان»؛ والحدث الأهم، أنها فجرت نفسها في عملية إرهابية انتحارية في وسط حي باريسي يبعد عن مرأى شخصيتنا الرئيسية بعض الأمتار. يسأله أحد الشباب المسلمين الذي حضر معرض بيع روايته: «لماذا تكتب ضد الإسلام؟»[8]. أربك السؤال الروائي مارينا وكاد ينزع فرحة النجاح بعد أن نفدت كل نسخ الرواية. لماذا كان لهذا السؤال الاستفزازي أثر عميق في نفسيته؟

قراءة سوسيونقدية للمعطيات

نقرأ من خلال الجدول الذي لخصنا فيه رؤية واسيني الأعرج لماهية الدين ومظاهر التدين والمحاور المرتبطة بإشكالية الدين في العالم الاجتماعي الروائي ما يلي:

– تتكرر لفظة «أديان» أكثر من لفظة «دين». وهذا ما يبعث على الاعتقاد أن الروائي يعتقد بتعددية الأديان ولا يؤمن بوجود دين واحد في العالم، وأن للفرد حرية اختيار الدين الذي يناسبه.

– لكل دين من الأديان شعائره وطقوسه وتكاد تتشابه في المحرَّمات والممنوعات ومثاله قيمة العذرية عند اليهود والمسلمين. ومنه نظام الأديان واحد ولا يوجد دين أفضل من آخر.

– الأعراف مرتبطة بالأديان وتعد أنظمة مختلفة ولكن تعمل بنفس النمط.

– هناك ميل إلى المؤسسات الدينية المسيحية كالأديرة والكنائس، باعتبارها أماكن مطهرة وتمنح الطمأنينة للأشخاص المهمشين الذين يشعرون بالعزلة أو الإقصاء من طرف عالمهم الاجتماعي. كما تمنح هذه المؤسسات فرصة العمل الخيري الذي يقدم للذين يشعرون بعدم المنفعة، وإمكان الاندماج الاجتماعي والشعور بالإنسانية.

– نسجل تعارضاً واضحاً بين الدين والفن الممثل بالكتابة الروائية.

– استخدام لفظة «الآلهة» يدل على التأثر بالفلسفة الإغريقية والفلسفات القديمة.

– الدعوة إلى العلمانية واعتبارها مبدأ أساسياً لتحقيق دولة المواطنة والتقدم.

– التعبير عن التدين بالعنف والإرهاب مرتبط بالجماعات الأصولية الإسلامية، ومثاله الجماعات الإيرانية وجماعة المغرب العربي، وهي بدورها تمخضت عن شيوع الخوف والترهيب والمنفى الذي مورس عليهم. ويدخل الإرهاب باسم الدين ضمن نظام عالمي جديد وتعد الحركات الإسلامية المتطرفة عبر العالم يده المنفذة.

– أغلب السلوكات ومظاهر التديُّن هي من وضع جماعات بشرية لها في ذلك مصلحة مادية، ومثاله شيوع الحجاب في الجزائر، الذي انتشر بعد انتعاش تجارة الأقمشة وتزامن مع فتح الاستيراد، ومنه استيراد الألبسة من بلدان آسيوية كإندونيسا. والذين نشروا ثقافة الحجاب بعيدون كل البعد عن الدين وكان همهم الربح. وعن سلوك التدخين فتحريمه أو إجازته يختلف حسب الظرف. وكان من نتائج هذه التناقضات بفعل اشتقاق من الدين ما يخدم مصالح دنيوية شخصية أن نجد عارضة أزياء تشتغل في الموضة مع كبريات دور العرض تقوم بعملية انتحارية في قلب باريس بعد أن أقنعتها جماعة أصولية بضرورة قتل الروائي الذي تجرأ في رواياته المساس بالذات الإلهية.

وبانتحار لوليتا، يلتقي الانتحار بالدين حسب التفسير السوسيولوجي، فحين يفشل المجتمع في توظيف مصادر رمزية، أو في بث أعراف قادرة على خلق لحمة بين الأفراد ومجموع القيم الجماعية، فلا يحسّون بوعي جماعي يسمو فوق مختلف أشكال الوعي الفردي، عندها تتولد بيسر سياقات التحلل، فالدين كما جاء في كتاب دوركهايم الانتحار يكون عامل تماسك اجتماعي.

– الانتحار علامة على أن الأعراف الاجتماعية ليست في مستوى إقناع الفرد.
– يوحي وضع حد لحياة الشخص بوجود خلل في النسيج الاجتماعي، لذلك يحتاج المجتمع، لبلوغ إجماع يخوله الاشتغال دون حصول نزاعات منهكة، إلى حزمة من الأعراف والقيم ذات طابع جماعي يتبناها الأفراد كفروض وواجبات وإلزامات تكون الأساس الأخلاقي المشترك بين الجميع.

2 – ماهية الدين ومظاهر التديُّن في رواية «الأسود يليق بك»

الرواية الثانية للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي بعنوان الأسود يليق بك والصادرة عام 2012 [9]. شخصيتنا الرئيسية مطربة من الشرق الجزائري، غادرت الوطن بعد اغتيال والدها وأخيها من طرف الجماعات الإسلامية المسلحة. اغتيل الوالد، لأنه كان مغنياً وعازفاً، واغتيل الابن بعد عودته من الجبال واعتباره تائباً وبعد أن حاول أن يتصالح مع الحياة. غنت هالة الوافي تعبيراً عن حزنها وعن أصالتها وعن وجودها. أُعجب بها رجل أعمال ثري لبناني، أحب شجنها والأسود الذي لا يفارقها، غازلها، أغراها، لتنتهي العلاقة إلى مجرد ذكرى. وعن فن الغناء جاء في الرواية «قررت أن أؤدي الأغنية.. كي أنازل القتلة بالغناء ليس أكثر». «إن واجهتهم بالدموع يكونوا قد قتلوني أنا أيضاً»[10]. وعن العنف المعنوي المتجذر في الثقافة الأبيسية تقول شخصيتنا الرئيسية «إن امرأة لا تخشى القتلة، تخاف مجتمعاً يتحكم حماة الشرف في رقابه، ثمة إرهاب معنوي يفوق جرائم الإرهابيين».

قراءة سوسيونقدية للمعطيات  

– يتعارض الفن مع الدين كما هو كائن في العالم الاجتماعي الروائي المعاصر بوضوح، وعلى الأخص فن الغناء والموسيقى، بخلاف ما كان سائداً في التاريخ الاجتماعي لهذا البلد حيث كان الفن مدعماً للتديّن وكان الدين محتوياً مختلف أشكال التعبير الفني من غناء ورقص ومظاهر احتفالية شافية للنفوس.

– تؤدي الفرق الصوفية الدور المنوط بها، مبتعدة عن الأمور المادية باحثة عن السمو الروحي من خلال الرقص والمديح، وهي تؤدي بذلك الوظيفة الدينية على أكمل وجه.

– يستخدم اللباس وبعض المظاهر كاللحية لإظهار التديُّن للعامة ولتبرير السلوكات اللادينية. كما يستخدم الدين كذريعة لقضاء حاجات دنيوية أو غريزية ومثاله استخدامه في تعدد الزوجات.

– حماية السلطة للمتطرفين والإرهابيين والتسامح معهم بينما تطارد ما يبدي اللاعفة في المجال العام كالتقبيل أو المواعدة في الأمكنة العامة.

– استخدام ألفاظ دالة على كونها مستوحاة من التنشئة الدينية كلفظة، القدر، والخطيئة، والمغفرة، في جل النص.

الجدول الرقم (2)
رؤية ماهية الدين ومظاهر التدين
في العالم الاجتماعي الروائي في رواية: «الأسود يليق بك»

السياقالعباراتالمحاور
– هالة تتحدث عن سبب مقتل أخيها علاء من طرف الإرهابيين.

-التهمة التي وجهت للأخ بعد التحاقه بالجماعة المسلحة.

– هالة منتقدة غرور رجل الأعمال الثري.

– بعد حوار بين هالة والثري عن اللانسجام.

– بعد عشاء جمعهما.

«الخيار بين قتلة يزايدون عليك في الدين وبذريعته يجردونك من حريتك». (ص 70).

«كانوا يشتبهون في كون الجيش من أرسله ليتجسس عليهم بسبب جهله في أمور الدين». (ص 87).

« الحجارة التي رفع بها أبراجه من خلق الله». (ص 268).

«ضحك الإله». (ص 298).

«يد القدر التي تملك مفاتيح الأبواب وأقفالها» (ص 277).

ماهيّة الدين
– وفاء تستعيد ذكريات مقتل والدها بسبب الغناء.

– وفاء عن دور الجامعة في تجنيد أخيها وتطرف غيره من الطلبة ودور الأساتذة الدعاة القادمين من مصر في العملية.

وصف هالة بعد انبهارها بجمال طبيعة فينا.

«كان المطربون على أيام جدها منشدين وأبناء طرق وزوايا دينية». (ص 61).

«كانت جامعة قسنطينة ممراً إجبارياً لكل الفتن ومختبراً على كل التطرفات». (ص 68).

«كان المتحكمون يضخمون بعبع الملتحين يغتالون صغارهم ويحمون كبارهم الأكثر تطرفاً». (ص 70)

«لقد خلقت المساجد والكاتدرائيات لتقزم الإنسان لأنها بنيت على قياس الله لا على قياسك، فهي بيوته». (ص 268).

التوظيف المؤسساتي للدين
– وفاء تتحدث عن عملية إقناع أخيها للانضمام إلى الجماعة.

 

– في حوار لهالة مع أحد زملائها عن قيمة الحب في العالم الاجتماعي القائم وسياسة السلطة اتجاه الإرهابيين.

– هالة مقارنة السلم القيمي ونظام التحريم بين التاريخ الاجتماعي والوقت الحالي.

– الثري متحدثاً عن زوجته وقناعاته في التعدد خارج إطار الزواج.

– في سهرة رمضانية لهالة مع والدتها وإعجابها بفرقة المولوية الصوفية وما أحدثته هذه الرقصات من شفاء من وجع الحب والذكريات الأليمة.

«جاء من يقنعه بأن كل ما حدث له من مصائب هو بسبب ابتعاده عن الإسلام؛ فلا صلاته ولا صيامه سيشفعان له عند الله إن لم ينصر مجاهديه لكونه قضى سنتين في العسكرية لخدمة الوطن ولم يعط من عمره شهراً لخدمة الإسلام أغروه بالالتحاق بالجبل للإيفاء بدينه ومعالجة الجرحى من الإسلاميين». (ص 87).

«في نوبة من نوبات العفة، تم إلقاء القبض على أربعين شاباً وصبية وأودعوا السجن، فيما كان الإرهابيون يغادرونه بالمئات مستفيدين من قانون العفو». (ص26).

«في ذلك الزمن الجميل لم يحدث أن أفتى أحد بتحريم صوت امرأة». (ص 65).

«يا ربي نقّص لي في القوت وزيد لي في الصوت لزهد الطلب استجاب لهم الله.. كان يكره أصحاب البزات وأصحاب اللحى». (ص 70).

«لن ألجأ لذرائع دينية لأتزوج عليه». (ص 276).

في رقصتهم تتجلى محنة المتصوف الذي كما الناي اقتلع نفسه مما هو دنيوي وأفرغ جسده مما هو مادي عبر التقشف والزهد. (ص 314).

«تقمصت أرواح أولاد سيدي سليمان الذين كانوا في طقوس احتفائية يؤدون رقصات صوفية حد انخراطهم في نوبة بكاء رهيبة ودخولهم في حالة انخطاف روحي». (ص 315).

مظاهر التديُّن في العالم الاجتماعي الروائي
زميل هالة مقارناً الإرهاب المعنوي الذي تمارسه البنات بعنف المسلحين الإسلاميين.

– عن حدس الأم بعد اعتقال ابنها وإرساله إلى الصحراء.

– عن عوامل الشهرة في الغرب.

– عن جو الاحتفالات وحضور الأمن أكثر من الجمهور.

– ملاحظة هالة بعد الجو والوطني الذي ساد القاعة في باريس وبعد سماع النشيد الوطني.

– هالة تستعيد ظروف اغتيال أخيها.

«الإرهابيون يشهرون نواياهم، يصيحون «الله أكبر» قبل الانقضاض عليك بسواطيرهم وسكاكينهم». (ص 24).

«قامت السلطات بمداهمة الجامعة وإلقاء القبض على عشرات الإسلاميين وإرسالهم إلى معتقلات الصحراء». (ص 68).

«تضاف إليها توابل الإسلام والإرهاب». (ص 73).

«بسبب تهديد الأصوليين لضمان حياة آيت منغلات» (ص 74).

«قام الإرهابيون باغتيال الشاب حسني». (ص 76).

«مائتي ألف جزائري قتلهم الإرهابيون واختلف في تسميتهم الفقهاء أهم قتلى، أم ضحايا أم شهداء فكيف يفوزون بشرف الشهادة وهم لم يموتوا على يد النصارى بل على يد من يعتبرون أنفسهم يد الله وبيده يقتلون من شاؤوا من عباده». (ص 77).

«أن يثبت لهم اعتناقه الجهاد بعودته لقتل والده». (ص 88).

الدين والتديّن والإرهاب

 

– استخدام لفظة «الإله» للدلالة على كبرياء الإنسان ونفس الملاحظة نبديها للنص السابق أي التأثر بالفلسفات القديمة وماهية الدين فيها حيث تتعدد الآلهة.

– الوعي بكون الإعلام الغربي يتسارع لاستخدام البعض من ضحايا الإرهاب لتشويه الإسلام وتدعيم فرضية كون الإرهاب مرتبطاً بالدين الإسلامي فحسب.

ثانياً: توظيف الدين ومظاهر التدين في العالم الاجتماعي الروائي

يعني تحديد رؤية العالم في الأعمال الروائية اختزال الأعمال الروائية إلى صيغ ومقولات ذهنية وفلسفية لإثبات التماثل القائم بين مجتمع الرواية والبناء الاجتماعي في الواقع. وتجاوزت السوسيولوجيا فكرة البحث عن المطابقة بين العالمين، فالروائي لا يعبِّر حتماً عن وعي الطبقة أو الجماعة التي ينتمي إليها. ولكن يعبر بصورة منسجمة على نحو ما عن رؤية للعالم تتوافق على أكبر قدر ممكن مع الوعي الممكن لطبقة ما. وهي حالة تصادفنا في كل طور. وعليه فكل عمل إبداعي ينشأ من علاقة توافق أساسي بين ذهنية المبدع والبنية العقلية لمجموعة بشرية.

إن استخلاص رؤية العالم في عمل روائي تتم بالتوصل إلى مدى تعبيره عن الوعي الممكن للفئات أو الطبقة التي استمد منها هذا العمل مادته الخاصة. ويتم التوصل إلى تحديد الرؤية للعالم التي تتضمنها البنى المكونة للعالم الروائي في إطار إحدى الخطوات التي يرتكز عليها المنهج البنيوي التكويني أي مرحلة التفسير[11].

وبعد القراءة السوسيولوجية للنصوص الروائية، يتأكد لنا مرة أخرى، أنه يمكننا الحديث عن رؤية متقاربة ومنسجمة للعالم وما يجري فيه من قضايا وأحداث ومشاكل بالرجوع إلى هذا العمل الإبداعي. وفي موضوعَي الدين والتدين جاءت الرؤية متقاربة جداً، ومن ناحية تماثلها مع التحليل السوسيولوجي نجدها أقرب إلى مقاربة يورغن هابرماس التي عرضناها، القائلة بعدم إقصاء الآخر الديني لمجرد اختلافه عن موروثاتنا، لأن ما لديه يوازي ما لدى مجتمعاتنا من التعصب والأصولية مما فتح الباب للحديث عن أمرين: الدين والعلمانية والدين والآخر الديني. وهي الإشكالية التي تشكل محور القضية الدينية في العالم الاجتماعي الروائي الجزائري في مطلع الألفية الثالثة. ولم يرد في النصين، أن وظيفة الدين هي التماسك الاجتماعي أو إيجاد الوعي الجمعي كما تقول بذلك النظرية الدوركهايمية، بل إن واسيني الأعرج يفضل حالة اللادين بالمفهوم الماركسي على حالة الدين كما هو مؤسس له في النظام الاجتماعي.

وللخروج من أزمة التطرف الديني والعلاقة الدينية المتناقضة بالسياسة أو العكس كنا قد ذكرنا مقترح هابرماس المتمثل بالانعطاف بمسار الحلول نحو سَن معايير مشتركة وتشكيل حس مشترك وتحقيق التعددية الدينية والتسامح الديني. وجاء في النصين أن الفن بكل أشكاله، وحده قادر على محاربة التطرف الديني والتعصب الفكري ورفض الآخر.

خلاصة المشروع الفكري لهابرماس، أن هناك تحولاً مرحلياً وتاريخياً من فكرة الدين الأوحد الأحقّ إلى فكرة الدين الذي عليه أن يعيش في مرحلة ما بعد العلمانية ويقبل بالتعددية الدينية.

ونلخص التماثل بين التفسير السوسيولوجي ورؤية الرواية الجزائرية في النقاط التالية:

– الحديث عن الأديان بدل الدين واعتبار الديانات متساوية.

– اعتبار الدين مسألة شخصية والإنسان يمكنه اختيار الدين الذي يناسبه. وتفضيل حالة اللادين بالمفهوم الماركسي على حالة الدين كما هي قائمة، أي توظيفه لأغراض سياسية سواء على المستوى المحلي أو العالمي. وهذا ما يتعارض مع الرؤية الإسلامية، التي ترى أن الدين هو الإسلام وهو نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي.

– إمكان، بل وضرورة، العمل لقيام دولة لائكية علمانية على غرار بعض الدول الإسلامية التي نجحت في ذلك، أين تكون المواطنة جوهر المشروع السياسي والاجتماعي.

– ويبقى التديُّن حرية شخصية وتبقى المؤسسات الدينية مهمتها الأساسية الأعمال الخيرية التطوعية وتوفير الأمان والطمأنينة لطالبيها وذلك مهما كانت الديانة.

– يتم استغلال الدين كما هو في اللحظة الراهنة من طرف الدول العسكرية على خلاف الدول المدنية.

– الإرهاب باسم الدين يدخل ضمن نظام عالمي جديد.

– رفض اعتبار الديني الآخر لادينياً أو تكفيره وإدانته.

– العمل على إبراز وإظهار ارتباط التدين بالاقتصاد والتجارة ولا علاقة له بالإيمان وكل مظاهر التديُّن تدخل في ذات السياق.

– مظاهر التدين واحدة في كل الديانات وهي مرتبطة بالأعراف.

يحارب التطرف الديني بالفنون كالرواية والغناء.

لقد سمحت لنا القراءة السوسيولوجية للنصوص الروائية انطلاقاً من إشكالية الدين والتديُّن في المجتمع المعاصر ومقارنته بالفرضيات التي وضعناها انطلاقاً من ملاحظات تم رصدها من قراءات متعددة للأعمال الروائية المنتجة في السنوات الأخيرة باستنتاج ما يلي:

– تتماثل رؤية الرواية الجزائرية العربية مع رؤية الخطاب الإعلامي العالمي المهيمن الذي يسند الإرهاب للإسلام، هذا الخطاب الذي يستخدم العبارات التالية كمترادفات: «الوهابية» و«الأصولية الإسلامية»، و«الإسلام السياسي»، و«التطرف الإسلامي» و«الفاشية الإسلامية» و«الإرهاب الإسلامي»، باعتبارها مترادفات بالرغم من أنها جميعاً باستثناء أولها مصطلحات تخاطب السلطة السياسية، وليس الخلاص الروحي والتحريض والعصيان، وليس الدين. ولقد تفطن إلى ذلك المفكر الأمريكي جين هيك، قائلاً: «إن ما يُفهم اليوم على أنه الإسلام هو بدلاً من ذلك تجسيد شرير يعد نقيضاً له ويعود السبب في ذلك إلى بنى التنظيمات الإرهابية نفسها»[12].

– تشير الدعوة إلى العلمانية كشرط أساسي لبناء دولة بمؤسسات حديثة إلى انخراط الروائي في المعطى السياسي. ومع أن الوعي ذاته ظاهرة تاريخية، وعلى الرغم من أنه يتوصل في حركته الدائمة إلى الكشف عن حقائق ثقافية تاريخية، فإن هدفه الأسمى يكمن في الرغبة الدائمة في تجاوز ما تم اكتشافه والتحرك إلى قارة المجهول في الفكر والإبداع؛ أي أن الوعي نشاط وفعالية متحركة، لا تؤمن بالثبات والاستقرار لكن السياسة محور نشاط السلطة وفعاليتها تتحرك في محور الثبات والاستقرار لذلك ينصرف اهتمامها في الفكر والإبداع إلى ما يحقق هذه الغاية، التي تفضي إلى تكريس مشروعيتها السيادية العليا.

خاتمة

إذا ذهبنا بمقولة سوسيولوجيا النص القائلة بدور الكتابات الروائية من خلال الحضور المجتمعي في الرواية في إنتاج أشكال متعددة من الوعي، وكون اللغة ذات دلالة أيديولوجية رامزة باعتبارها في المقام الأول ظاهرة اجتماعية حاملة لكل التحولات الكائنة والممكنة، فالرواية يمكنها أن تكون مرجعاً معرفياً شرعياً، بإمكان هذا المرجع من خلال قراءته أن يعطينا تصوراً عاماً حول طبيعة التحولات الاجتماعية والاقتصادية، وقد مكنتنا القراءة السوسيولوجية للإنتاج الروائي الجزائري من ذلك في شتى المواضيع الاجتماعية. وفي موضوع ماهية الدين ومظاهر التديُّن، توصلنا بواسطة القراءة السوسيونقدية لنصين روائيين أُنتجا في الألفية الثالثة إلى كون التديُّن في العالم الاجتماعي الروائي يعَدُّ حرية شخصية، وتبقي المؤسسات الدينية مهمتها الأساسية الأعمال الخيرية التطوعية وتوفير الأمان والطُّمأنينة لطالبيها وذلك مهما كانت الديانة المتبعة، كما توصلنا إلى وجود قناعة راسخة للروائي بالعلمانية واعتبارها شرطاً أساسياً لبناء دولة بمؤسسات حديثة، وذلك لكي لا يتم استغلال الدين كما هو في اللحظة الراهنة من طرف الدول العسكرية، بل كما هو سائد في الدول المدنية. وتتماثل رؤية الرواية الجزائرية العربية مع رؤية الخطاب الإعلامي العالمي المهيمن الذي يسند الإرهاب للإسلام والحركات الإسلامية؛ ولكنها من ناحية أخرى تعتبر عملية إسناد الإرهاب للدين تدخلاً ضمن نظام عالمي جديد. كما يقترح الروائي محاربة التطرف الديني بالفنون كالرواية والغناء والموسيقى ورفض اعتبار الديني الآخر لادينياً، أو تكفيره وإدانته؛ وهذا ما يتماثل مع مقترح هابرماس لتجاوز الأزمة الحالية والمتمثل بالعمل على تشكيل حس مشترك وتحقيق التعددية الدينية والتسامح الديني. وجاء في النصين، أن الفن بكل أشكاله، وحده قادر على محاربة التطرف الديني والتعصب الفكري ورفض الآخر.

نؤكد مرة أخرى أن الممارسة النقدية في مجال السوسيولوجيا ليست ممكنة وشرعية فحسب، بل ضرورة لكونها تسمح بتجاوز الأزمة المعرفية والاجتماعية، فهي تعطي بعداً جديداً للعلوم الاجتماعية.

 

قد يهمكم أيضاًَ  التلازم الوثيق بين البنى: بنية المجتمع وبنية النص المكتوب

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #التدين #الدين_والرواية #الرواية_الجزائرية #العلمانية #العلم_الاجتماعي_الروائي #الفن_والدين #النص_الروائي_والمجتمع