من بين الظواهر الشاذة التي تعرفها مجموعة من الأنظمة العربية: إشكالية تداول السلطة، والتي ساهم بطؤها الشديد في موت النخب السياسية لتحتكر أسماء معيَّنة صناعة القرار السياسي بلا منافسة، أو منافسة وهمية ضعيفة تفضي في النهاية إلى فوز ساحق للجهات نفسها. هذه الظاهرة سيطرت على النظام السياسي التونسي بدوره مدة من الزمن لم تكن بالهيِّنة منذ نهاية الخمسينيات (1957) مع الرئيس الحبيب بورقيبة، إلى غاية ثورة الربيع العربي مع الرئيس زين العابدين بن علي. إذاً خلال فترة 54 سنة (1957 – 2011) لم يتعاقب على حكم تونس سوى رئيسين:

– الحبيب بورقيبة: 1957 – 1987.

– زين العابدين بن علي: 1987 – 2011.

هذه الدائرة المغلقة في الحكم نستسيغها ونقبلها في الأنظمة الملكية، حيث توارث العرش ومساطر معينة في انتقال الحكم، لا تخضع للتحديد الزمني المسبق؛ العكس تماماً مع الأنظمة الجمهورية التي تنظمها انتخابات دورية بمدد زمنية محددة مسبقاً.

شكّل الدستور التونسي لسنة 2014 المصاحب للثورة، ثورة على التقاليد الدستورية والسياسية التونسية على مستويات عدة، من ضمنها مؤسسة رئاسة الدولة التي ركز عليها المشرّع الدستوري بشكل لافت ومهم، باعتبارها شكلت دوماً القلب النابض للنظام السياسي التونسي، وكذلك لنفاذها داخل كل المؤسسات السياسية للدولة، واحتكارها للسلط مع توزيع بعض الوظائف على الجهات الأخرى، مستندة في ذلك إلى مشروعيتها الحزبية وشرعيتها الدستورية.

إذاً، هل ما زالت مؤسسة الرئاسة في تونس مع دستور 2014 قوية كما كانت سابقاً منذ العهد البورقيبي؟

سنحاول أن نتناول هذا الموضوع من خلال التطرق إلى محورين:

الأول: إشكالية تداول السلطة.

الثاني: مستوى الصلاحيات والاختصاصات.

أولاً: المدة الرئاسية وإشكالية تداول السلطة

1 – انتخاب رئيس الدولة: مسار تاريخي

شكل المبدأ الانتخابي ثورة على التقاليد السياسية التونسية بعد إطاحة النظام الملكي، حيث حلّت المشروعية الانتخابية محل المشروعية التاريخية الوراثية، ليتمتع إثر ذلك رئيس الجمهورية المنتخب بمشروعية شعبية لا تضاهيها إلا تلك التي يتمتع بها أعضاء المجلس النيابي[1].

اتسمت الطريقة التي كان يُنتخب بها الرئيس التونسي، في البداية بالبساطة وعدم التعقيد قبل التعديل الدستوري لسنة 2002 الذي شمل الفصل 39 من الدستور، والذي كانت الفقرة 1 منه تنص على أنه: «ينتخب رئيس الجمهورية لمدة خمسة أعوام، انتخاباً عاماً حراً مباشراً، سرياً.. طبق الشروط المنصوص عليها بالقانون الانتخابي…».

وعليه، فإن طريقة الاقتراع المعتمدة تمثلت في الاقتراع الفردي بالأغلبية في دورة واحدة، حيث كانت تكلف لجنة خاصة حسب الفصل 40 من الدستور بالتصريح بانتخاب المترشح الحائز أوفر عدد من الأصوات، مع نشر نتائج الانتخابات بالرائد الرسمي (أي الجريدة الرسمية).

أما بعد التنقيحات التي وردت على مجموعة من الفصول في الدستور التونسي – ما قبل الثورة دائماً – إثر الاستفتاء الدستوري الذي أجري يوم 26 أيار/مايو 2002، أصبح الفصل 39 ينص على أنه: «ينتخب رئيس الجمهورية… انتخاباً عاماً، حراً، مباشراً، سرياً، وبالأغلبية المطلقة للأصوات المصرَّح بها، وفي حالة عدم الحصول على تلك الأغلبية في الدورة الأولى تنظم دورة ثانية يوم الأحد الثاني الموالي ليوم الاقتراع، ولا يمكن أن يتقدم للدورة الثانية إلا المترشحان المحرزان على أكثر عدد من الأصوات في الدورة الأولى مع اعتبار الانسحابات عند الاقتضاء، وذلك طبق الشروط المنصوص عليها بالقانون الانتخابي…».

وإذا كان الفصل 39 في صيغته السابقة على تنقيح 2002 تناول نمط الاقتراع بنوع من العمومية، حيث سكت عن نسبة الأصوات اللازمة لنجاح المرشح في الانتخابات الرئاسية، فإن الفصل 70 من المجلة أو القانون الانتخابي المتعلق بانتخاب رئيس الجمهورية قد حاول إزالة ذلك اللبس بنصه على ما يلي: «تعلن اللجنة المنصوص عليها بالفصل 66 من هذا القانون عن انتخاب المترشح الذي أحرز على أوفر عدد من الأصوات».

ويستدَل من عبارة «أوفر عدد من الأصوات» أن نسبة الأصوات المطلوبة للفوز بالرئاسة هي أغلبية بسيطة، وإذا كان الوضع السياسي في تونس المتميز بالمكانة الخاصة التي كان يحظى بها الرئيس الحبيب بورقيبة (الذي تم تعيينه لرئاسة الدولة مدى الحياة)، وبالسيطرة التي كان يتمتع بها الحزب الاشتراكي قد حال دون إقرار نظام الدورتين لانتخاب رئيس الجمهورية[2]، فإن الفصل 39 جاء فيما بعد ليضيف نمط الاقتراع ويعدله على الشكل التالي:

– تحديد الأغلبية المطلوبة بـ: الأغلبية المطلقة بدل عبارة «أوفر عدد من الأصوات».

– نظام الدورتين بدل الدورة الواحدة، ما يفيد الإقرار الدستوري للتعددية في الترشيح.

مسطرة انتخاب رئيس الجمهورية عموماً لم يطرأ عليها تغيير كبير بعد الثورة – أي مع الدستور الحالي لـ 26 كانون الثاني/يناير 2014 – خصوصاً في الشق المتعلق بالأغلبيات المطلوبة وطريقة الاقتراع وإمكان تنظيم الدورتين…، الفوز بالأغلبية المطلقة في الدورة الأولى حسب الفصل 75 من دستور 2014، وتحديد أغلبية الدورة الثانية بأغلبية الأصوات من خلال الفصل 112 من القانون الأساسي المتعلق بالانتخابات والاستفتاء؛ هذا الأمر لا يفيد طبعاً بأن الثورة لم تغير شيئاً في هذا الباب، حيث نلمس بشكل جلي روحاً جديدة تسري على مجموع المقتضيات المؤسسة والمقننة لمؤسسات الحكم، مفادها التريّث والحذر والرغبة في التغيير توضحت مع الفصل 75 المؤطر لطريقة انتخاب الرئيس حينما اشترط أن يتم الانتخاب بطريقة شفافة ونزيهة[3]. كما تم تفصيل هذا المقتضى من خلال ما يناهز 20 فصلاً مدرجة في القانون الأساسي للانتخابات في الباب المتعلق بالجرائم الانتخابية، وإذا تعذر إجراء الانتخابات في موعدها بسبب خطر داهم فإن المدة الرئاسية تمدد بقانون إلى أن يتسنى إجراء الانتخابات.

في المقابل يمكن أن تجرى الانتخابات قبل انتهاء المدة الرئاسية الجارية، وذلك بسبب شغور منصب رئاسة الجمهورية لسبب من أسباب الشغور الدائم[4].

نظراً إلى الأهمية التي أصبحت تكتسيها المؤسسات الدستورية في تونس، ورغبة النظام السياسي في توسيع قاعدة المشاركة السياسية، تم فسح المجال للتونسيين المقيمين بالخارج من أجل المشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية والاستفتاء، حيث تجرى عمليات التصويت بالمراكز الدبلوماسية والقنصلية خلال ثلاثة أيام متتالية آخرها يوم الاقتراع داخل الجمهورية[5]، علماً أنه في وقت سابق كان يُفتح باب التصويت في وجه التونسيين المقيمين بالخارج بمناسبة الانتخابات الرئاسية دون التشريعية[6].

2 – النخبة الرئاسية بين الاستقرار والتجديد

من مسلَّمات القانون الدستوري وأنظمة الحكم أن كرسي الرئاسة في النظام الجمهوري مؤقت لزمن محدد ومعيَّن قد يمتد من أربع إلى سبع سنوات حسب قناعات الأنظمة، تحكمه قوانين انتخابية دورية وتوطره صناديق اقتراع، بينما في النظام الملكي كرسي العرش دائم وراثي تحكمه كذلك قوانين لكنها ليست انتخابية ولا اقتراعية، وإنما محددة لكيفيات وراثة العرش وانتقال الحكم داخل عائلة ملكية معينة، غالباً ما يتم التداول بعد الوفاة أو التنازل.

إذا كانت القوانين والأنظمة الدستورية عرفت مجموعة من الانحرافات والتغييرات عن القواعد العامة في ما يتعلق بكيفيات اشتغال السلط والعلاقات فيما بينها، وتمت استساغة ذلك الأمر على أساس احترام جوهر السلطة وروح القوانين، فإن تلك الانحرافات قد بلغت ذروتها حينما حاولت مجموعة من الأنظمة قلب أسس أنظمة الحكم والقوانين الدستورية بابتكار ما أطلق عليه – مجازاً – بالجمهوريات الملكية أو الملكيات الجمهورية، حيث نجد رئيس الدولة المنتخب يُخضع مؤسسة الرئاسة لمساطر وراثة العرش.

كيف تعامل النظام الجمهوري التونسي مع هذا المعطى؟

لم تشهد تونس تغييرات على مستوى مدة الرئاسة منذ النص الأصلي لدستور 1959 إلى غاية الدستور الحالي لسنة 2014، حيث حددت منذ البداية في خمس سنوات، وهي مدة معتدلة ومعقولة، وبالتالي الإشكال لا يطرح بخصوص هذا النظام على مستوى المدة بقدر ما يطرح على مستوى تجديد صلاحية رئاسة الدولة، أو ما يعرف اختصاراً بالتداول على السلطة، والذي عرف عبر التاريخ التونسي وضعا يتراوح بين المغالاة في إعادة الترشيح، وتأسيس الرئاسة مدى الحياة.

أ – ما قبل دستور 2014

نصت المادة 73 من مشروع دستور 1958: «لرئيس الجمهورية أن يجدد ترشحه للرئاسة»، ليتم تدارك ذلك الأمر باعتبار تمكين رئيس من أربع مدد متتالية يشكل حلاً مناسباً، لذلك قضى النص الأصلي لدستور 1959 ألّا يتمكن رئيس الجمهورية من تجديد انتخابه أكثر من ثلاث مرات متتالية[7]، وخلال المؤتمر السابع للحزب الاشتراكي الدستوري سنة 1964 أثار الرئيس السابق «الحبيب بورقيبة» من يخلفه في الحكم، ليستمر النقاش حول تلك المسألة إلى غاية 1971 حين اقترح المؤتمر الثامن للحزب إبقاء «بورقيبة» رئيساً للجمهورية مدى الحياة، وفي 19 آذار/مارس 1975 جاء القانون الدستوري عدد 13 لينقِّح الفصلين 40 و51‏[8] مؤسِّساً بذلك الرئاسة مدى الحياة، ليعقبه بعد ذلك في 11 آب/أغسطس 1976 صدور القانون عدد 66 ضمن المجلة الانتخابية لينص على: «ينتخب رئيس الجمهورية لمدة خمس سنوات، ويجوز له أن يجدد ترشحه»[9]. وبهذه النصوص يكون المشرع التونسي قد أقر تجديد ولاية الرئيس دون تحديد انطلاقاً من الفصل 39 من الدستور الذي جاء فيه: «وبصفة استثنائية، واعتباراً للخدمات الجليلة التي قدمها المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة للشعب التونسي… يعلن مجلس الأمة إسناد رئاسة الجمهورية مدى الحياة إلى الرئيس الحبيب بورقيبة».

الملاحَظ من تاريخ الانتخابات الرئاسية التونسية – في الحقبة البورقيبية – أنه قبل دسترة الرئاسة مدى الحياة سنة 1975، كان المرشح للرئاسة دوماً هو رئيس الحزب الدستوري «الحبيب بورقيبة» وذلك منذ الاستقلال، وكانت نسبة فوزه تزداد مع كل تجديد، نذكر من ذلك:

– سنة 1959 حصل على 91,47 بالمئة من الأصوات.

– سنة 1964 حصل على 96,43 بالمئة من الأصوات.

– سنة 1969 حصل على 99,76 بالمئة من الأصوات.

– سنة 1974 حصل على 99,85 بالمئة من الأصوات[10].

استمر ذلك الوضع إلى غاية إبعاد الرئيس «بورقيبة» عن الحكم بواسطة ما سمِّي «الانقلاب السلمي الأبيض» الذي قاده وزير الداخلية آنئذ (زين العابدين بن علي) سنة 1987، حيث تم العدول عن الرئاسة مدى الحياة بموجب التنقيح الدستوري عدد 88 لـ 25 تموز/يوليو 1988، وأصبح الفصل 39 من الدستور يجيز لرئيس الجمهورية أن يجدد ترشحه مرتين متتاليتين، كما حددت كذلك السن القصوى التي تحرم كل من تجاوزها إعادة الترشيح في سبعين سنة بموجب الفصل (40)[11].

بعد كل تلك المسيرة التي طبعت التاريخ الدستوري التونسي بخصوص إمكان تجديد الترشيح والتأسيس للرئاسة مدى الحياة، لم يتمكن المسار التصحيحي الذي حاول أن يقوده الرئيس السابق زين العابدين بن علي من الصمود أمام إغراءات السلطة لأزيَد من 16 سنة منذ تغيير السابع من تشرين الثاني/نوفمبر1987، ليتم الإعلان عن استفتاء دستوري بتاريخ 26 أيار/مايو 2002 أعاد بعث مؤسسة الرئاسة مدى الحياة من خلال الفصل 39 الذي اكتفى مع آخر فقرة منه على النص على أنه: «ويجوز لرئيس الجمهورية أن يجدد ترشحه»[12]. وبموجب هذا التنقيح الدستوري (أي 26 أيار/مايو 2002) تم رفع السن القصوى لإمكان الترشيح إلى 75 سنة بدل 70 سنة بموجب الفصل 40 من الدستور، وقد وجهت انتقادات كثيرة لذلك التنقيح صبت في مجملها في اتجاه اتهام بن علي برغبته الواضحة في البقاء في السلطة أو الاستقرار في كرسي الرئاسة بشكل قانوني، حيث كان عمر الرئيس حينها يبلغ 65 سنة ولم تبق له فرص كثيرة للترشح، وبالتالي تمديد السن القصوى إلى 75 سنة كان سيفتح له إمكانات إعادة الترشح إلى غاية سنة 2014. لكن الأمر الذي لم يتوقعه التنقيح الدستوري لسنة 2002، والذي تجاوز الذكاء الدستوري للرئيس السابق، هو قيام ثورة شعبية قبل سنة 2014 عصفت بالتحايلات الدستورية والسياسية للطبقة الحاكمة.

ب – مع دستور 2014

لم تمثل المدة الرئاسية لواضعي دستور 2014 عائقاً أو خللاً وجب الوقوف عنده لتصويبه، لإدراكهم أن إشكالية الدورة الرئاسية لم تتجسد في عدد سنوات المدة الرئاسية بقدر ما تمثلت بإمكان دوران النخبة وتحركها، أو جمودها وتوقفها إلى أمد غير مسمى أو بعيد المدى. وعليه حدد الفصل 75 من دستور 2014 المدة الرئاسية في خمسة أعوام كنظيره الأصلي لسنة 1959 مروراً بكل التنقيحات التي عرفتها الحياة الدستورية التونسية، والتي لم تغيَّر من هذه المدة.

في ما يتعلق بدورة النخبة الرئاسية حاول مشرِّع دستور 2014 أن يضبطها بشكل يجعل أمر تداول السلطة ممكناً في بلد لم يتعاقب على حكمه ورئاسته سوى رئيسين لمدة 54 سنة، وبالتالي حدد أقصى فترة للرئاسة في 10 سنوات، بمعنى أنه لا يمكن لأي رئيس أن يتولى حكم تونس لأكثر من عشر سنوات: «لا يجوز تولي رئاسة الجمهورية لأكثر من دورتين كاملتين»[13].

لا يمكن أن نجزم بجدة هذا المقتضى بحكم أن الرئيس الأسبق (بن علي) كان قد أدخل هذا التنقيح على الدستور التونسي لسنة 1988، لكنه لم يلبث أن قام بالتراجع عنه من خلال التنقيح الدستوري لسنة 2002 ليعيد فتح إمكان الترشيح بلا تحديد.

الجديد إذاً على مستوى دستور 2014، والذي لم تتعرض له أي من التعديلات الدستورية السابقة بهذا الخصوص، تمثل بما يلي:

– لا يجوز تولّي رئاسة الجمهورية لأكثر من دورتين كاملتين، متصلتين أو منفصلتين، بمعنى أنه لا يمكن أن تتجاوز المدة الرئاسية لأي رئيس عشر سنوات إما دفعة واحدة أو منفصلة.

– في حالة استقالة رئيس الجمهورية تعتبر مدته الرئاسية كاملة، بمعنى أن مدة الخمس سنوات تحسب على الرئيس بمجرد تنصيبه، وبالتالي استقالته وإن قدمت مع بداية ولايته الأولى لا يتبقى له سوى فرصة واحدة للترشيح[14].

– من أجل ضمان دوران النخبة الرئاسية عمد المشرِّع الدستوري التونسي إلى تحصين المقتضيات المذكورة أعلاه المتعلقة بالمدة الرئاسية وتعدد الولايات، بتقنية الجمود الجزئي المطلق للدستور، والتي تفيد بمنع إدخال أي تعديل على بعض مواد الدستور بصفة مطلقة وفي أي من الأوقات وهذا ما درج فقه القانون الدستوري على تسميته «الحظر الموضوعي».

وعليه نص المشرِّع التونسي على عدم جواز إدخال أي تعديل على عدد الدورات الرئاسية ومددها بالزيادة من خلال الفصل 75 دائماً.

بهذه التقنية يؤكد المشرع – أو الفكر – الدستوري التونسي عدم ثقته بالأشخاص (الرؤساء)، لذلك عمد إلى حماية المكتسبات الدستورية بهذا الخصوص بالتقنيات والآليات الدستورية. ولكي تتخلص تونس من شبح الحزب المهيمن الذي اعتُبر رافداً خصباً لصانعي القرار السياسي في بلد استند بشكل واضح إلى المشروعية الحزبية، كما اعتبر أن العلبة السوداء تحتكر صناعة القرار السياسي، حاول المشرع الدستوري أن يفصل بين المسؤوليات حينما جعل منصب رئاسة الجمهورية يتنافى مع أي مسؤولية حزبية[15].

3 – خلوّ منصب الرئاسة وتنظيم الحلول

إذا كانت الدساتير تحدد مساطر انتخاب رؤساء الدول، فهي كذلك بالمقابل تنظم ظاهرة الشغور، أي تتولى تحديد الحالات التي لا يتمكن بموجبها رئيس الدولة المنتخب من ممارسة مهامه والقيام بدوره كرئيس، وذلك لتلافي الفراغ الذي يمكن أن يهدد البلاد ويحدث الفوضى داخل المؤسسات.

وتولي الدساتير في أغلب الأحيان مهام الرئاسة أثناء الشغور إلى إحدى المؤسسات الدستورية كجهة رسمية مساهمة في صناعة القرار السياسي، وقد تكون إما رئاسة البرلمان أو الحكومة، أو نائب رئيس الدولة إن وجد، أو رئيس المجلس الدستوري.

أما في ما يتعلق بأسباب الشغور، فقد تتعدد وتختلف، لكن إجمالاً يمكن حصرها في نوعين من الموانع: مؤقتة كمرض غير مزمن مثلاً، بزواله تنتهي حالة الشغور وتعود الأمور إلى طبيعتها، أو دائمة، كموت أو عجز دائم أو استقالة، تمتد معها حالة الشغور إلى حين انتخاب أو تعيين رئيس جديد.

لم يغفل النظام الدستوري التونسي بدوره تنظيم حالة شغور الرئاسة كمقتضى دستوري أساسي أريد به ضمان استمرار المؤسسات، وتلافي – قدر الإمكان – كل توتر قد يحدثه كرسي رئاسة فارغ ولو بشكل مؤقت.

لم يتعرض النص الأصلي للدستور التونسي إلا لحالة الشغور المطلق، ولم يتم تدارك ذلك الأمر إلا مع تعديل 31 كانون الأول/ديسمبر 1969، حيث وقع التمييز بين التعذر الوقتي لرئيس الجمهورية وشغور الرئاسة، ومع تعديل 1976 وقع تأكيد التمييز، كما تم تدقيق مسألة الحلول التي كرست سنة 1969‏[16].

الشغور المؤقت، أطَّره الفصل 83 من دستور 2014 كما يلي: «لرئيس الجمهورية إذا تعذر عليه القيام بمهامه بصفة وقتية أن يفوض سلطاته إلى رئيس الحكومة لمدة لا تزيد عن ثلاثين يوماً قابلة للتجديد مرة واحدة».

يتضح أن الفصل 83 ورد غامضاً في ما يتعلق بأسباب الشغور المؤقت، حيث اكتفى بالإشارة إلى «التعذر الوقتي»، وهي عبارة لا تفيد سوى نوعية الشغور، لتبقى الأسباب غير محددة بدقة وبالتالي مفتوحة على عدة احتمالات على نقيض ما هو معمول به عند العديد من الدول.

أما جهة الحلول فقد حددها الفصل 83 في رئيس الحكومة وذلك بعد أن يفوضه رئيس الدولة سلطاته لمدة لا تزيد على ثلاثين يوماً قابلة للتجديد مرة واحدة، أي ما مجموعه 60 يوماً على أبعد تقدير. بالتالي فإن الطريقة التي يتم بها الحلول أثناء التعذر الوقتي لا تتمثل بالانتقال الآلي للسلط، وإنما تتم عبر تقنية التفويض حيث يقترن حلول رئيس الحكومة بتفويض رئيس الدولة.

أثارت مسألة التفويض عدة إشكاليات مع الدستور القديم الذي كان يشهد فراغاً فيما لو امتنع رئيس الدولة عن تفويض مهامه للوزير الأول أثناء فترة الشغور المؤقت، أو وقع ما من شأنه أن يحول دون توقيع التفويض، وهي الواقعة التي اصطدمت بها الساحة السياسية والدستورية التونسية أثناء الثورة الأخيرة، حينما عمد الرئيس السابق «بن علي» إلى مغادرة البلاد تحت ضغط احتجاجات الشارع التونسي بتاريخ 14 كانون الثاني/يناير 2011. واستناداً إلى الفصل 56 من الدستور التونسي آنذاك يتولى مهام الرئاسة في حالة الشغور المؤقت الوزير الأول بتفويض من رئيس الدولة، وبالتالي تولى الغنوشي مهام الرئاسة آنئذ رغم عدم تفويض الرئيس «بن علي» الرئاسة المؤقتة للوزير الأول كما كان يقضي به الفصل 56. وهو ما حدا بالمجلس الدستوري في اليوم الموالي على الإعلان عن الشغور الدائم والنهائي للرئيس، وبالتالي طبقاً للفصل 57 أسند مهام الرئاسة إلى رئيس مجلس النواب إلى حين إجراء انتخابات جديدة.

لم تُحل إشكالية الحلول المؤقت مع واقعة الرئيس بن علي أثناء الثورة دستورياً لأن الدستور السابق لم ينظم مسألة الحلول في حالة عدم تفويض الرئيس لسلطاته، وبالتالي احتجاجات الشارع فرضت الخضوع لأمر واقع وإن كان مختلاً دستورياً.

لم يكن المشرِّع الدستوري ليُغفل هذا الفراغ مع دستور 2014 وخصوصاً أن الحدث ما زال حديثاً، وبالتالي تم تنظيم هذه الحالة بموجب الفصل 84 من دستور 2014 والذي قضى بأنه إذا لم يقم رئيس الدولة بتفويض سلطاته لرئيس الحكومة أثناء الشغور المؤقت، تجتمع المحكمة الدستورية وتقر الشغور المؤقت وحلول رئيس الحكومة محل رئيس الجمهورية لمدة لا تتجاوز ستين يوماً.

وفي ما يتعلق بالشغور بالدائم: تم تنظيمه بموجب الفصل 84‏[17] من دستور 2014، والذي حدد أسبابه في أربع حالات كالتالي:

– تجاوز مدة الشغور الوقتي ستين يوماً.

– تقديم رئيس الدولة استقالته كتابة إلى رئيس المحكمة الدستورية.

– الوفاة أو العجز الدائم.

– أو لأي سبب من أسباب الشغور النهائي.

إذا كانت الأسباب الثلاثة الأولى واضحة، وتستدعي فعلاً إعلان الشغور النهائي، فإن الحالة الرابعة وردت غامضة لتنأى بأسباب الشغور النهائي إلى مجال عدم التقيد بحالات محددة، والأخذ بقاعدة توسيع الأسباب. هذه الحالة الرابعة تعتبر من إضافات دستور 2014، الأمر الذي يوضح رغبة المشرِّع الدستوري في تحصين مؤسسة رئاسة الجمهورية وليس شخص رئيس الجمهورية كما في السابق.

أما في ما يتعلق بالجهة المكلفة بالحلول، فقد حصرها الفصل 84 من الدستور في جهة وحيدة هي: رئيس مجلس نواب الشعب لمدة تتراوح بين 45 يوماً إلى 90 يوماً على أساس أن تجرى خلالها انتخابات رئاسية، لكن يبدو أن المشرِّع أغفل بشكل كامل الفراغ الذي قد يحدث إذا تزامن الشغور الرئاسي مع شغور رئاسة مجلس نواب الشعب.

يُذكر أن المشرِّع الدستوري وقع في نوع من الارتباك بهذا الخصوص حينما نص من خلال الفصل 85 أن الرئيس بالنيابة – أي رئيس مجلس نواب الشعب – يؤدي اليمين الدستورية أمام المجلس أو أمام المحكمة الدستورية في حالة حل المجلس، هنا يطرح التساؤل، هل حينما يتم حل مجلس نواب الشعب يظل رئيس المجلس قائماً؟ إذاً المشرّع لم يوضح بما يكفي هذه الجزئية.

عموماً تبقى مسألة شغور الرئاسة من الحالات التي تخلق أوضاعاً غير عادية داخل المجال السياسي للدولة، حيث تكسر السير العادي للمؤسسات خصوصاً على مستوى تلك المكلفة بالحلول، كما تحدث تغييرات تمس جوهر بعض الوظائف التي قد يرتبك سيرها إلى حين عودة الأوضاع إلى نصابها، حيث يتم تعطيلها خلال فترة الحلول كونها من المجالات المحفوظة لرئيس الدولة الفعلي المنتخب وليس المنتدب نظراً إلى خطورة اللجوء إليها لما في ذلك من مس بالحريات والحقوق…، وقد حصرها المشرِّع الدستوري التونسي في: اقتراح تعديل الدستور – اللجوء إلى الاستفتاء، حل مجلس نواب الشعب، تقديم لائحة لوم ضد الحكومة.[18]

ثانياً: تغيير جوهري على مستوى صلاحيات رئيس الدولة

أولى الدستور التونسي لما قبل ثورة 2011، مكانة متميزة وخاصة لمؤسسة رئيس الدولة، حيث لم يكتفِ بالنص على الوظائف التقليدية لهذه المؤسسة وإنما عمل على تعميقها وتقويتها لتشمل مجالات أخرى عديدة، مقابل إضعاف باقي المؤسسات الدستورية الأخرى بشكل يجعل توزيع السلط مختلاً لمصلحة رئيس الدولة الذي ظل طوال فترة حكم الرئيسين السابقين (بورقيبة وبن علي) في موقع صانع السياسة العامة للدولة، والمشرف عليها في كل مناحيها بشكل يضمن له حرية التصرف ويمنحه هامشاً واسعاً جداً يسمح له بالتحرك والتنقل بين كل السلط الموجودة، إما بالتسيير أو بالتوجيه والإشراف.

ولما كان من بين أهم أهداف الثورة تغيير نمط الحكم في الدولة، فإن مؤسسة الرئاسة نالت حظاً وافراً من التعديل بما يشبه الثورة المؤسساتية الموازية للثورة الشعبية؛ حيث عمل دستور 2014 على تجسيد ذلك الهاجس الشعبي الرامي إلى إبعاد هذه المؤسسة من التحكم المطلق في كل الفعل السياسي، وبالمقابل إعادة توزيع الصلاحيات والوظائف بشكل يهدف إلى تقوية أدوار المؤسسات الأخرى: حكومة؛ برلمان؛ على حساب – أحياناً – مؤسسة رئاسة الدولة التي احتكرت لمدة طويلة جداً من الزمن منصب الريادة في صناعة القرار السياسي بعيداً من أجواء الانتخابات التشريعية والرئاسية، وكذلك عن حركية المجتمع السياسي التونسي الذي يناضل من أجل حماية الثورة الشعبية وتحقيق أهدافها في التغيير والانتقال بتونس من دائرة الحكم المغلق، إلى فضاء النسق السياسي المنفتح والمنضبط للعديد من خصائص الأنظمة الديمقراطية. وحتى يتأسس ذلك النظام الخاضع لمحددات الفعل الديمقراطي والمحترم لمقاييس الأمن والحرية وحقوق المواطن…، ركز المشرّع الدستوري لسنة 2014 على تقليص اختصاصات مؤسسة رئاسة الدولة التي رأى فيها الشارع التونسي أثناء الثورة سبب القمع والتسلط وتردي أوضاع الدولة عموماً. وعليه، سنركز على بعض هذه الاختصاصات أو الوظائف التي أصابها التغيير والتقليص بشكل ملحوظ:

– كان الرئيس في تونس قبل دستور 2014 يملك السلطة التقديرية المطلقة في تعيين الحكومة[19] – وزيراً أول ووزراء – دون أي قيد أو شرط دستوري؛ سلطة كانت تخول له تعيين من يشاء من الأسماء في الحكومة وإن كان بعيداً من الخريطة السياسية.

– لم يكن الوزير الأول يتمتع بالشرعية الديمقراطية – على خلاف رئيس الجمهورية – لأن اختياره لم يكن قائماً على اقتراع أو انتخاب، بل على تعيين تتحكم فيه الإرادة الرئاسية التقديرية وغير المشروطة دون التزام باستشارة أي هيئة بما فيها البرلمان الذي لا يملك حق التنصيب[20]، هذا قبل الثورة.

– عرف تعيين أو تشكيل الحكومة مع دستور 2014 تغييراً جذرياً نقل هذه المؤسسة – الحكومة – من السلطة التقديرية المطلقة لرئيس الدولة في التعيين، إلى الشرعية الديمقراطية القائمة على الاختيار الشعبي مع الانتخابات التشريعية، وبالتالي أصبح رئيس الحكومة في تونس ولأول مرة في التاريخ الدستوري التونسي[21]، هو مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصل على أكبر عدد من المقاعد بمجلس نواب الشعب، وهو الذي يتكلف باختيار باقي أعضاء الحكومة باستثناء وزارتي الخارجية والدفاع اللتين يستشير بخصوصهما رئيس الجمهورية.

إذاً، بعد نتائج الانتخابات التشريعية التي تتحدد على أساسها الشخصية التي ستقود الحكومة، وبعد اختيار مرشح الحزب الفائز للتشكيلة الوزارية، تتقدم الحكومة أمام مجلس نواب الشعب لتعرض موجز برنامج أعمالها أمامه، وفي حالة منحها هذا المجلس الثقة، يتولى حينئذ رئيس الجمهورية تسمية رئيس الحكومة وأعضائها.

يتضح إذاً أن مسطرة تشكيل الحكومة في تونس اختلفت جذرياً عمّا كان معمولاً به في السابق، على أساس تغيير موازين القوى بين الفواعل المتحكمة في هذه المسطرة: رئيسي الدولة والحكومة؛ ودخول فاعل جديد قوي أصبح المتحكم الرئيسي في هذا التكوين وهو: الفاعل الانتخابي الذي على أساسه تتحدد الشخصية التي ستقود الحكومة.

هذا التغيير الهام جداً أدخل النظام الدستوري التونسي في إطار العائلة الكبرى للنظام البرلماني، ومن ضمن التغييرات كذلك التي استهدفت مؤسستي الرئاسة والحكومة والتي طبعت النظام الدستوري التونسي الجديد بالبرلمانية، بعض الصلاحيات التي انتقلت من رئاسة الدولة إلى رئاسة الحكومة، على الشكل التالي:

– ضبط السياسة العامة: قبل دستور 2014 كانت الحكومة لا تعمل سوى على تنفيذ السياسة العامة التي يضعها ويضبطها رئيس الجمهورية حسب اختياراته وتوجيهاته[22]، لتصبح بذلك مجرد أداة للتنفيذ والتطبيق والمساعدة، ولعل هذا الأمر كان يفرغ مؤسسة الحكومة من أداء أدوار فاعلة وحقيقية في صناعة القرار السياسي، بجعل كفة التوازن تميل لمصلحة رئيس الدولة الضامن لاستقلال الوطن واستمرار الدولة. وإذا كان الرئيس بورقيبة يتميز بتخلّيه عن الجزئيات واهتمامه فقط بتوجيه السياسة العامة وخاصة الخارجية، فإن الرئيس بن علي لم يكتفِ بالتوجيه، بل وأيضاً الإشراف والمتابعة باستمرار خاصة في نطاق المجالس الوزارية الضيقة[23].

مع دستور 2014 أصبح رئيس الحكومة يضبط السياسة العامة للدولة ويسهر على تنفيذها، باستثناء مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية، والتي بقيت مجالات محفوظة لرئيس الجمهورية، ولكن بعد استشارة رئيس الحكومة[24].

– ممارسة السلطة الترتيبية العامة: كان يمارسها سابقاً رئيس الجمهورية، كما كان بإمكانه أن يفوض جزءاً منها إلى الوزير الأول[25]، لتصبح هذه السلطة مع دستور 2014 من اختصاص رئيس الحكومة، يمارسها ويصدر الأوامر الفردية التي يمضيها بعد مداولة مجلس الوزراء[26]، هذا المجلس بدوره الذي انتقلت رئاسته من رئيس الدولة إلى رئيس الحكومة، ماعدا إذا تعلق انعقاد المجلس بأحد المجالات المحفوظة لرئيس الجمهورية: الدفاع؛ العلاقات الخارجية والأمن القومي؛ في هذه الحالات يرأس المجلس رئيس الجمهورية، وكذلك إذا رغب في حضور الاجتماع فإنه يرأس المجلس[27].

مهما كانت الاستثناءات أو تعددت، تبقى مسألة انتقال هذه الصلاحيات الهامة جداً من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الحكومة من إبداعات الدستور الثوري التونسي، والذي يتشبث بمقتضى مجموعة هامة من فصوله بالدخول بالنظام الدستوري التونسي إلى المجالات الخصبة للنظام البرلماني، كنظام يقوي ويرجح كفة مؤسسة رئاسة الحكومة على حساب رئاسة الدولة.

إذاً أصبحت مؤسسة رئاسة الدولة في تونس مع دستور 2014 تفقد زعامتها ومحوريتها، ليس في ما يتعلق بباب الصلاحيات والوظائف والتي لم نذكر منها سوى نماذج قليلة جداً، لأن اللائحة لم تزل مفتوحة وطويلة، وإنما كذلك من باب انتزاع نوع من القدسية والسيطرة عن هذه المؤسسة بموجب مقتضيات أخرى في الدستور من باب أنه في:

– حالة وقوع نزاع بين رئيس الحكومة ورئيس الدولة تبت المحكمة الدستورية الأمر بناء على طلب يرفع إليها مبدأ حرص الطرفين[28].

– إمكان تقديم مجلس نواب الشعب لائحة معللة ضد رئيس الدولة لإعفائه[29].

– محاسبة رئيس الجمهورية بتهمة الخرق الجسيم للدستور، بمعنى إمكان انعقاد مسؤوليته السياسية أمام البرلمان، مع تحديد تهمة الخيانة العظمى على مستوى رئيس الدولة، والتي لم يعترف بها يوماً التاريخ الدستوري التونسي سوى بالنسبة إلى أعضاء الحكومة.

كما حدد الفصل 88 من الدستور الحالي دائماً نوع العقوبة في: العزل مع رفع الحصانة وبالتالي المعاملة كأي مواطن عادي مع الحرمان من الترشح لأي انتخابات أخرى في حال ثبوت التهمة، وبالتالي الحرمان من جزء مهم من الحقوق السياسية. إذاً، هي حالات ومقتضيات لم تكن واردة حتى ضمن الخيال الدستوري التونسي في العهود السابقة.

خاتمة

كخلاصة مقتضبة يمكن أن نذهب إلى أن تونس – في حالة ما إذا طبقت دستور 2014 بتفاصيله وجزئياته – ستحقق تغييراً جذرياً على مستوى البنية السياسية والمؤسساتية، بشكل ينقلها من مستوى الحكم الفردي المغلق إلى عهد جديد فعلاً بمقاييس مختلفة؛ ليس على شاكلة «العهد الجديد» الشعار الذي رفعه الرئيس السابق بن علي بعد انقلابه على الرئيس الأسبق بورقيبة، بل إلى عهد سيجعل من تونس تجربة ديمقراطية عربية مهمة استطاعت أن تثور شعبياً ودستورياً. لكن الأكيد أن هذه الثورة الدستورية تحتاج إلى نخبة سياسية قوية وفاعلة ومؤمنة بآلية التداول والتناوب والدوران. وإذا كانت الدسترة والقوننة مسألة مهمة جداً، فإن الأهم في الكيفية والإمكان للتنزيل والتطبيق، وهو الأمر الذي ستبرهن عنه الممارسة خلال الأشهر والسنوات المقبلة.