قبل أكثر من 48 عاماً، في أيلول/سبتمبر من عام 1970 أسلم جمال عبد الناصر روحه لبارئها وغادر هذه الدنيا، تاركاً الساحة لخلفاء له ألقوا عليه باللائمة في كل ما أصاب الأمة العربية من نوائب على مدى ألف عام، وليس فقط على مدى الأعوام الثمانية عشر التي حكم خلالها الرجل.

وقد تعرض عبد الناصر مباشرة بعد وفاته لحملة تجريح وتشكيك حمّلته مسؤولية الهزيمة في عام 1967، مبالغة في حجم النكسة لتبرر لدعاة الحل السلمي خيارهم في الحل بأي ثمن. ومنها انطلقت الحملة لتدين كل ما قام به عبد الناصر في مصر خلال حكمه. فأصبح السد العالي مضرّاً بالبيئة؛ وأصبح التصنيع إهداراً للطاقات الوطنية؛ وأصبح تأميم قناة السويس عام 1956 وما تلاها من نصر سوء إدارة لمرفق عام؛ وأصبح الإصلاح الزراعي الذي كان أول ما قام به بعد تولي السلطة عام 1952 ضرباً للملكيات الزراعية المنتجة. من هذه الحملة انطلق دعاة الحل السلمي مع إسرائيل ليبشروا بالسلام معها باسم الواقعية السياسية التي بررت ذلك بقولها إن السلام سيوفر الطاقات للتنمية الاقتصادية وإنه سيمنع القتل عن أبناء الشعب العربي. ونادوا بليبرالية اقتصادية تطلق الطاقات الكامنة للناس لتجعل الجميع ثرياً. بعد خمسة عقود على وفاة عبد الناصر ما الذي تحقق من كل الوعود التي أطلقها من أدانوا عبد الناصر وتسنّموا السلطة في معظم الأقطار العربية؟

أولاً: رهان السلام

نبدأ بالرهان على السلام مع إسرائيل. فما إن توفي عبد الناصر حتى بدأ خلفه أنور السادات بإرسال رسائل سرية إلى الأمريكيين والإسرائيليين تعبر عن رغبته في إقامة سلام مع الكيان الصهيوني. وقد ترجم ذلك بتمديد وقف إطلاق النار الذي كان قد قبل به عبد الناصر في صيف عام 1970 لبناء حائط الصواريخ، فإذا بالسادات يحوله إلى حالة شبه دائمة لثلاث سنوات كاملة مراهناً على نجاح مساعيه السلمية. ولم يقبل السادات بشن الحرب إلا بعد فشل هذه المساعي نتيجة التعنّت الأمريكي والإسرائيلي، ونتيجة ضغط الجيش والشارع المصري الذي كان يريد شن الحرب لاستعادة الأرض واستعادة الاعتبار أيضاً. وعندما شن السادات الحرب في عام 1973 فإنه تدخل في سير الخطط العسكرية لأنه أراد حرباً محدودة هدفها تحريك السلام لا تحرير الأرض. بعد ذلك قدم السادات التنازل تلو الآخر للتوصل إلى اتفاق كامب دايفيد في صيف عام 1979 والذي أعاد سيناء منزوعة السلاح وتحت السيطرة العملية الأمريكية ما جعل أحد الشعراء يقول: «يا خوفي لبساعة النصر نرجّع سينا ونخسر مصر».

بعد كامب دايفيد شهد الوطن العربي حروباً إسرائيلية كثيرة ضد لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية. ففي عام 1978 اجتاح الجيش الإسرائيلي جنوب لبنان للمرة الأولى، أتبعها باجتياح آخر في عام 1982 وصل إلى العاصمة بيروت، جعل جزءاً من جنوب لبنان يقع تحت الاحتلال الإسرائيلي لنحو 22 عاماً، حين تم التحرير بقوة سلاح المقاومة لا بالمفاوضات. وحتى بعد ذلك شهد لبنان عدواناً إسرائيلياً كبيراً في عام 2006. خلال هذه الفترة سقط عشرات ألوف اللبنانيين والفلسطينيين والسوريين وغيرهم من العرب ضحية الاعتداءات الإسرائيلية، ذهب بعضهم ضحية مجازر مخطط لها؛ كان أشنعها في عام 1982 في مخيَّمي صبرا وشاتيلا.

إضافة إلى ذلك، قررت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة بياسر عرفات سلوك طريق المفاوضات منذ أوائل السبعينيات. وقد اتُّخذت أولى الخطوات الجدية على هذا الطريق في عام 1982 عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان حين قرر عرفات اللجوء إلى تونس وبدأ بإرسال رسائل سرية إلى الإسرائيليين والأمريكيين تعرب عن استعداده للقبول بتسوية سلمية مع الكيان الصهيوني لقاء قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد بدأت الاتصالات السرية بالإسرائيليين في عام 1987، ولم يكن إعلان قيام دولة فلسطين في الجزائر في عام 1988 إلا للتمويه على هذه المفاوضات. وفي عام 1991 شارك وفد فلسطيني في مفاوضات السلام التي افتُتحت في مدريد، وفي عام 1993 وُقِّع اتفاق أوسلو الذي حصلت منظمة التحرير بموجبه على حكم ذاتي في غزة وأريحا تم توسيعه إلى بعض مناطق الضفة الغربية. إلا أن الوعود بمنح الاستقلال للفلسطينيين لم يتم الوفاء بها؛ الأمر الذي أدى إلى انطلاق الانتفاضة الثانية في أواخر عام 2000. وبعد أربع سنوات قرر الإسرائيليون بمباركة الأمريكيين التخلص من عرفات بتسميمه، فخلفه على رأس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي كان رأس حربة الفريق الفلسطيني الداعي إلى السلام مع إسرائيل. وبعد 14 عاماً على ترؤسه للسلطة الفلسطينية، أين الدولة التي وُعد الفلسطينيون بها.

ثانياً: وعود التنمية والديمقراطية

إضافة إلى فشل وعود السلام فلقد وعد المراهنون على الرضى الأمريكي الشعوب العربية بتحقيق الديمقراطية والتنمية والرخاء والرفاه. اتُّهم عبد الناصر بأنه دكتاتور. وعلى الرغم من الكثير من الأمور التي يمكن أن تصنَّف في خانة الدكتاتورية إلا أنه من الواجب الالتفات إلى الوقائع التالية. لقد تسلم عبد الناصر بلداً كانت تحكمه أسرة ألبانية يعاونها أقلية من الوجهاء وملّاك الأراضي الزراعية وهو ما جعل الثروة تتركز في يد خمسة بالمئة من الشعب المصري والأجانب القاطنين في مصر، بينما كان 95 بالمئة من الشعب يعيش في فقر مدقع. كانت الديمقراطية التي تمارس هي ديمقراطية أقلية غنية صادرت أصوات الفقراء وعلّبتها في صناديق الاقتراع. وعندما حصل الانقلاب الذي وصل عبد الناصر من خلاله إلى السلطة توصَّل إلى نتيجة مفادها أنه يجب تحرير الشعب المصري اقتصادياً حتى يحرر قراره السياسي من الارتهان للإقطاع. هذا ما جعل عبد الناصر يتبنى خطاباً اشتراكياً يدعو إلى التنمية والعدالة الاجتماعية. ولأن البرجوازية المصرية تخلت عن دورها لجأ عبد الناصر إلى تطبيق رأسمالية الدولة عبر إنشائها لآلاف المصانع التي أضحت تنتج معظم حاجات الشعب المصري. وقد جرى تعميم هذه التجربة على كل الدول العربية والأفريقية حديثة الاستقلال.

بعد وفاة عبد الناصر تمت الخصخصة في مصر وبيع القطاع العام وضُربت التنمية وزادت الفوارق الطبقية. وهنا نسأل أين هي الوعود بالرخاء التي قُدمت للشعب المصري بعد خمسة عقود على التمرد على مبادىء عبد الناصر؟ وإذا تحققت هذه الوعود فكيف يعيش اليوم أكثر من ستين بالمئة من الشعب المصري تحت مستوى خط الفقر؟ وكيف تتجاوز الأمية في هذا البلد عتبة الخمسين بالمئة؟ وكيف يعيش عشر الشعب المصري في المقابر؟ وإذا كان عبد الناصر دكتاتورياً، فما الذي تحقق من الديمقراطية الغربية بعد خمسة عقود على وفاته؟ هل أن عبد الناصر هو المسؤول عن سجن مئات ألوف المصريين على مدى خمسة عقود وعن تعذيبهم وإذلالهم بعد وفاته؟ وحتى على صعيد الأحزاب القومية واليسارية. أين هي الديمقراطية لدى هذه الأحزاب التي تهاجم عبد الناصر بينما هي لا تطبق داخل أحزابها نفسها أياً من المبادئ التي تنادي بها. وما ينطبق على مصر ينطبق أيضاً على كل الأقطار العربية ودول العالم الثالث.

ثالثاً: مسألة التحرر الوطني

ما يؤخذ على عبد الناصر أنه ورّط مصر في كثير من الأزمات خارج الحدود ما أنهك الشعب المصري. في هذا الإطار يجب أن نلفت الانتباه إلى أن عبد الناصر اكتشف أن التنمية والتحرر الوطني أمران متلازمان. فلقد دخل الاستعمار إلى مصر من طريق المديونية في عام 1882 حين عجزت حكومة الخديوي إسماعيل عن سداد ديونها. وبالتالي فإن عبد الناصر، عندما سعى إلى التنمية وجد أنها مشروطة بارتهان مصر لإرادة القوى الغربية التي كان يسعى للتخلص منها. إذاً كان تورط عبد الناصر في أزمات خارج الحدود مسألة حتمية فرضتها الإمبريالية الغربية الساعية للهيمنة على الشعوب ومقدراتها. لذا وجد عبد الناصر أنه مجبر على التضامن مع شعوب العالم الثالث حتى يحقق لمصر الاستقلال الوطني. هذا ما دفعه إلى التضامن مع قضايا التحرر العربي والعالمي وجعله يكون أبرز رمز في تحرير الوطن العربي وأفريقيا من الاستعمار. ويظهر إنجاز عبد الناصر جلياً في تحرر المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا وليبيا والصومال وجيبوتي ودول الخليج واليمن الجنوبي إضافة إلى معظم الدول الأفريقية.

إضافة إلى ذلك فإن عبد الناصر عندما كان ينخرط في هذه القضايا كان يلبي حاجات الأمن القومي المصري. فليس هو من اكتشف أهمية سيناء وبلاد الشام للدفاع عن مصر، بل إن من اكتشف ذلك هو الفراعنة القدماء الذين عانوا الأمَرَّين في الألف الثاني قبل الميلاد حتى يتخلصوا من الهكسوس. ومنذ ذلك التاريخ وعى المصريون أن خط الدفاع الاول عن مصر في الشرق يقع على الخط الممتد بين عسقلان وبئر سبع، أما في مداه الأوسط فيقع هذا الخط بين طرابلس وحمص وفي مداه الأقصى على خط حلب مرعش. أما في الغرب فلقد اكتشف الفراعنة أهمية بنغازي للدفاع عن مصر من الغرب وأهمية اليمن والصومال لضمان أمن البحر الأحمر والشواطئ الشرقية لمصر. بينما كان الفراعنة هم من اكتشفوا مصادر النيل بحكم أنه الشريان الحيوي الذي يعيشون منه. لذلك فإن دعم عبد الناصر للقضية الفلسطينية كان استجابة للحاجة إلى الدفاع عن مصر من الشرق، ودعمه لثورة معمر القذافي كان لضمان أمن مصر من الغرب، ودعمه لثورة اليمن الجنوبي ضد البريطانيين والشمالي ضد نظام الإمامة كان لدواعي الأمن القومي المصري في البحر الأحمر، بينما كان توقيعه اتفاق وأوغدوغو حول مياه النيل لضمان الحق المصري فيه.

وبعد خمسة عقود على وفاة عبد الناصر، أين هو السلام الذي تنعم به مصر، وأين هو أمنها في ليبيا التي تجتاحها حروب العصابات المسلحة، واليمن الغارق في دماء أبنائه، وسورية التي تعيش مأساة كبرى منذ سبع سنين، وفلسطين التي تكاد تضيع لولا ضريبة الدم التي يدفعها أبناؤها كل يوم. بل أين هو الأمن للشعب المصري في الوقت الذي تتعرض فيه البلاد لهجمات إرهابية واستفزازات سودانية وإثيوبية تهدد حق مصر في النيل؟

هذا يفسر السبب الذي جعل معظم زعامات النظام الرسمي العربي التي وصلت إلى السلطة بعد وفاة عبد الناصر، وبنت سمعتها عبر محاولة ضرب سمعته، أن تسقط تباعاً بعد عام 2003، وفي مرحلة ما عُرف بالربيع العربي، في الوقت الذي ارتفعت فيه بين الحشود فقط صور جمال عبد الناصر.