هل فاجأتك نتائج الانتخابات الأمريكية؟ لماذا؟

طبعاً فاجأتني هذه الانتخابات وفاجأت كل المتابعين، حتى إنها فاجأت دونالد طرمب وفريق عمله الذين لم يكونوا يتوقعون الفوز. في حين أن هيلاري كلينتون وفريقها كانوا يتوقعون فوزها. وكل السيناريوهات كانت تشير إلى أن كلينتون هي الفائز وأن طرمب يواجه صعوبة في الفوز. ولكن النتائج جاءت على عكس التوقعات، وعلى عكس استطلاعات الرأي. مع العلم أن دور استطلاعات الرأي مهم في الانتخابات الأمريكية، لأن الانتخابات يصعب التكهن بمن سيفوز فيها من دون استطلاعات تفصيلية، في بلد واسع جداً كأمريكا، والمعركة الانتخابية فيه تحسم في 6 أو 7 ولايات وبمناطق معينة، فليس من السهل التكهن بالنتيجة من دون الاستطلاعات، ونتائج هذه الاستطلاعات كانت خاطئة.

لماذا أخطأت استطلاعات الرأي في تقدير النتائج؟

صحيح أخطأت. ولكن لكي أكون منصفاً، إن استطلاعات الرأي أشارت أن السباق والنتائج كانت متقاربة بعضها من بعض، فالفرق بين كلينتون وطرمب في آخر أيام الاستطلاعات كانت 4 أو 5 بالمئة، وهو لا يعد فارقاً حاسماً، ولكن معظم الترشيحات كانت باتجاه كلينتون. وقطاع استطلاعات الرأي الآن في أزمة ذاتية، لأن كل الحملات الانتخابية على كل الصعد (الرئاسة ومجلس الشيوخ ومجلس النواب وحكام المناطق بالولايات (Governors)، تعتمد على استطلاعات الرأي؛ فقطاع الانتخابات في أمريكا ممول وواسع، والآن الجميع يشككون في استطلاعات الرأي، فالقطاع يعيد النظر بالأخطاء التي حصلت ولماذا حصلت. من التفسيرات التي تطرح الآن أن بعض الناخبين المستطلَعين المؤيدين لطرمب كانوا خجولين أو مترددين بالتعبير عن رأيهم علناً للمستطلِع عبر الهاتف أو عبر وسائل أخرى، لأن طرمب كما هو معروف أدلى بتصريحات أثناء الحملة الانتخابية تسبب إحراجاً، حين تحدث عن نظرته إلى النساء وعن موقفه من المجموعات الثقافية والعرقية والدينية من غير الـ «بيض» في المجتمع الأمريكي، وهي تصريحات يمكن أن تجعل الشخص يخجل بتأييدها، أو تأييد قائلها، علناً ولكن يمكن أن يقتنع بها ضمناً أو يقبل فيها مقابل أمور أخرى. ويبدو أن حجم مؤيدي طرمب اختلف بين استطلاعات الرأي وبين عملية التصويت الفعلية، لأن هذا التردد في تأييده صراحة عبر استطلاعات الرأي الذي لم يعد موجوداً في غرفة الاقتراع التي يصوت الناس بحرية، وهذا ما سبّب الفارق في النتائج وبالتالي سبّب مشكلة لشركات استطلاعات الرأي.

ما هي الأسباب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في رأيك لفوز طرمب؟

هناك عدة أسباب. في ما يخص الأسباب الاقتصادية، إن النمو الاقتصادي الحاصل في الولايات المتحدة الأمريكية عملياً في السنوات العشرين أو الثلاثين الأخيرة يؤدي إلى تركيز الثروة في أيدي الشريحة الغنية التي يسمونها «أغنى 1 بالمئة» في المجتمع. والعولمة وتوسع اتفاقيات التجارة العالمية أدت إلى ذوبان عدد كبير من الوظائف الصناعية التقليدية بعدما انتقلت الشركات الصناعية إلى الصين أو المكسيك أو ماليزيا أو إلى دول أخرى. والطبقة التي كانت تستفيد من التصنيع – وهي طبقة كبيرة – نقلت مصانعها إلى دول أخرى حيث اليد العاملة أوفر، ومالكو هذه الشركات العالمية هم من الـ «1 بالمئة» الذين يستفيدون مالياً كأصحاب شركات أغنياء. أما بالنسبة إلى العمال فهم يفقدون وظائفهم أو أن الدخل في وظائفهم محدود بل ربما يشهد تراجعاً. بالفعل توجد مشكلة اقتصادية مستفحلة في الولايات المتحدة الأمريكية، عبّر عنها المرشح طرمب، كما عبّر عنها بقوة المرشح اليساري بيرني ساندرز الذي نافس هيلاري كلينتون على الحزب الديمقراطي.

أما المشكلة السياسية، ولكي نكون منصفين، فهي أساساً مشكلة اقتصادية أكثر منها سياسية، ولكن يعبّر عنها بالسياسة عبر الحملة الانتخابية أو عبر اصطفاف الناس حول أحزاب أو مرشحين. أولاً من اللافت للنظر أن الكثير من الناخبين الذين يعانون هذا الوضع الاقتصادي اصطفوا وراء الخيار اليساري مع بيرني ساندرز الذي يصنّف نفسه اشتراكياً، وكانت حملته قوية وكاد يغلب هيلاري كلينتون في الانتخابات الأولية. وهناك عدد آخر اصطف وراء دونالد طرمب، الذي يمثل الخيار اليميني إذا أردنا أن نصنّفه، مع أنه حتى بعض طروحات طرمب ليس من السهل تصنيفها يمينية أو يسارية. إذاً، يعبر عن الأزمة الاقتصادية سياسياً على هذا النحو. وفي الوقت نفسه، بين السياسي والاجتماعي هناك قضية تركيبة المجتمع الأمريكي وهي تركيبة أرى أنها تتغير. وهنا رأينا الانفصال الشديد بين المدن والأرياف، أي بين ناخبي المدن وناخبي الأرياف. فناخبو المدن إجمالاً يصوتون لهيلاري كلينتون والحزب الديمقراطي، وناخبو الأرياف يصوتون للحزب الجمهوري، وبالتالي لدونالد طرمب. والاختلاف الحاصل في هذه الانتخابات بين المدن والأرياف يشبه إلى حد كبير الاختلاف الحاصل في بريطانيا بين المدينة والريف حول موضوع «البركسيت»، والنتيجة عملياً هي نفسها، هي أن الريف عبّر في النهاية عن إرادة الخروج من «البركسيت»، والريف الولايات المتحدة عبّر عن تفضيله لدونالد طرمب.

الاختلاف والمشكلة بين المدينة والريف الأمريكيين يجريان على صعيدين: على الصعيد الاقتصادي، كون الوضع الاقتصادي في الأرياف الأمريكية يشهد ركوداً قوياً؛ والأرياف تقليدياً هي مجتمعات زراعية، والقطاع الزراعي في أمريكا أصبح قطاعاً صغيراً من حيث توظيف العاملين، إذ يعمل في الزراعة في أمريكا نحو 2 أو 3 بالمئة فقط من اليد العاملة. إذاً القطاع الزراعي لم يعد القطاع القادر على إحياء الأرياف. من جهة أخرى، كانت الأرياف الأمريكية في المرحلة الصناعية تقوم أو تعتاش على الصناعات الكبرى التي كانت موزّعة على البلدات الريفية إذا جاز التعبير؛ وكانت المجتمعات الريفية تستفيد من فرص العمل في هذه الشركات، ومع تعمق ظاهرة العولمة الاقتصادية، كما سبق أن ذكرنا، انتقلت معظم هذه الشركات إلى مناطق أخرى في العالم، فحدث اختلاف كبير اقتصادي بين المدن والأرياف الأمريكية.

وفي خصوص الاختلاف الاجتماعي، يوجد في المدن الأمريكية تنوع مجتمعي وديني وإثني، ففي معظم المدن الكبيرة، مثل نيويورك وشيكاغو ولوس أنجلس، هناك ما يسمى «البيض» و«اللاتين» و«السود» أو الأمريكيون من أصل أفريقي وأشخاص من باكستان وأثيوبيا…، فالذين يقطنون اليوم في المدن الأمريكية تأقلموا مع التنوع المجتمعي وقبلوا به، لا بل أحبوه ولم يعد لديهم خوف من الآخر أو ما هنالك. أما معظم الريف الأمريكي فلا يزال قديم ويقطنه أناس «بيض» لا يختلطون كثيراً مع الآخرين، وينظرون إلى المدن اليوم بأن هذه الثقافة السائدة في المدينة، التي يشاهدونها في التلفزيون والإعلام، لم تعد تمثّل قيمهم، بما في ذلك التنوع الإثني. ودونالد طرمب عملياً يمثّل «الـيمين الأبيض» الذي أعاد تثبيت الهوية الأمريكية «البيضاء» القديمة، وهو يجرّب أن يحد من مكانة ودور التنوع الحاصل. فالريف لديه حنين إلى الماضي، إلى أمريكا حيث يكن للسود أو اللاتين الدور الذي هم عليه اليوم، ناهيك بالمسلمين الأمريكيين أو المسلمين اللاجئين من دول أخرى، فالريف يتأثر اجتماعياً في هذا الأمر.

ما هي أهم أخطاء الحزب الديمقراطي التي ساعدت طرمب على الفوز؟

هيلاري كلينتون حصلت على عدد الأصوات العامة تفوق أصوات أكثر دونالد طرمب بنحو مليون صوت. ولكن المرشح في النظام الانتخابي الأمريكي عليه أن يفوز بالمجمع الانتخابي (Electoral College)، ففي كل ولاية عليه أن يحصل على نتيجة معينة، وعلى ذلك الأساس يفوز بالانتخابات.

حملة هيلاري كلينتون لم تكن ضعيفة، فهي حصلت على عدد أصوات أكثر من أصوات دونالد طرمب بوجه عام، وفي الولايات الثلاث الحاسمة التي خسرت فيها، كانت الفارق بينها وبين طرمب ضيقاً جداً. فـ 20 ألف صوت من أصل 3 ملايين، لا يعني تقدماً كبيراً لطرمب عليها. ولكنه تقدم عليها بما يكفي ليفوز في الانتخابات.

النتيجة هنا تشبه ما حصل مع جورج دبليو بوش وآل غور سنة 2000، حينها حصل آل غور على نسب أصوات أعلى من أصوات بوش في كل أمريكا، لكنه خسر في عدد ضئيل من الأصوات (نحو 100 صوت) في ولاية فلوريدا؛ ففاز بوش وخسر غور.

إذاً، لم تكن حملة كلينتون ضعيفة، ولكن هناك أخطاء ارتكبها الحزب الديمقراطي، منها:

أولاً، اختيار المرشح، فهذه المرشحة، هيلاري كلينتون، لم تكن مرشحة حماسية، فهي صحيح أنها معروفة ومشهورة وقديمة، لكنها لم تكن شخصية براقة تستطيع أن تخلق جواً حماسياً. كما فعل باراك أوباما منذ 8 سنوات وكما ما فعل دونالد طرمب اليوم أو كما ما فعل بيرني ساندرز أيضاً. المشكلة الأولى إذاً كانت باختيار الشخص الذي لم يخلق مناخاً عاطفياً أو حماسياً.

ثانياً، معظم الناخبين في أمريكا يريدون التغيير؛ فهم لم يعودوا مرتاحين للوضع القائم، بل يريدون شيئاً جديداً. وهيلاري كلينتون تمثّل استمرارية كبيرة لأيام بيل كلينتون واستمرارية لباراك أوباما، وهي لا تمثّل أمل التغيير. أما بيرني ساندرز فطرح التغيير وكذلك دونالد طرمب. وفي أجواء تغييرية كانت هيلاري كيلنتون ضعيفة من هذه الناحية.

ثالثاً، لم يكن هناك تركيز كافٍ في حملة الحزب الديمقراطي على الأرياف التي في النهاية كان لها دور كبير في الانتخابات؛ الطبقات الاجتماعية التي توجّه لها بيرني ساندرز توجه لها دونالد طرمب أيضاً، وهي طبقات الـ «بيض» الذين يعيشون في المناطق البعيدة ويعملون في المصانع. في حين اعتمدت حملة هيلاري كلينتون على المدن وعلى الأقليات، كما اعتمدت على الوضع الاجتماعي أيضاً وعلى دور المرأة وإلى ما هنالك. ولم تتوجه كفايةً إلى القضايا الاقتصادية لإحداث تغيير فعلي في الاقتصاد حتى تعطي الناس أمـلاً اقتصادياً. لم يكن لديها رسالة اقتصادية وهذا كان من عناصر الضعف في حملتها.

هل تعتقد أن الحزب الديقراطي لو تبنّى ترشيح ساندرز بدلاً من كلينتون كان يمكن أن يغيّر في نتائج الانتخابات هذه؟

من الصعب أن نعرف. هناك مناقشات كثيرة حول هذا الموضوع، ولكن ليس واضحاً إطلاقاً كيف كانت ستأتي النتيجة لو كان ساندرز هو المرشح. فبيرني ساندرز أعلن عن نفسه أنه اشتراكي، وفي الولايات المتحدة هذه الكلمة تعد «شتيمة» تقريباً. فليس من السهل أن يقبلوا به في الأرياف، وهو رجل كبير في السن، بينما دونالد طرمب تكلم كثيراً عن حيويته ونشاطه فهو رجل حيوي مفعم بالنشاط، ولديه أعماله الخاصة وناجح في أعماله ولديه أيضاً طائرته الخاصة، بينما بيرني ساندرز يعطي انطباعاً أنه رجل عجوز، وفي تقديري، لو كانت الحملة بين بيرني ساندرز ودونالد طرمب لكان الأخير سيشن حملة كلامية قوية جداً ضد ساندرز كما فعل مع هيلاري كلينتون، وبالتالي كان ساندرز سيكون لديه نقاط ضعف كثيرة. على أي حال هذا أمر أصبح من الماضي وليس أكيداً أنه كان سيفوز.

هل فوز طرمب هو فوز لشخص أم لحالة يعبّر طرمب عنها؟

سؤال جيد. إلى حدٍّ ما هو نجاح لشخص، لأن طرمب يجمع بطروحاته مجموعة تيارات وتناقضات وظروف استطاع أن يستفيد منها ووصل إلى رئاسة الجمهورية. وهو نوعاً ما فوز للحزب الجمهوري أيضاً، علماً أن معظم الحزب الجمهوري كان ضده وضمناً لا يأتمن له ويكرهه، ولكن طرمب أمّن للحزب الجمهوري النجاح في البيت الأبيض وفي مجلس الشيوخ ومجلس النواب. الآن، الأكيد أنهم سيواكبونه، ولكن هذا ليس فوزاً واضحاً للحزب الجمهوري؛ فالحزب الجمهوري اليوم فيه أزمة داخلية بين حملة طرمب وبين الجمهورين التقليديين وحزب الشاي الذي كان مهماً منذ 4 سنوات أو 8 سنوات.

كما أن عقد الفوز الذي عبّر عنه طرمب يمكن أن ينفرط، بمعنى أن العهود التي قطعها في حملته الانتخابية بدأ بالتراجع عنها قليـلاً أو يقوم بتغييرها وتعديلها، وليس من المستغرب بعد ستة أشهر أو سنة ونصف السنة أن تتراجع شعبية طرمب كثيراً وأن تصبح أوضاعه مختلفة.

لكن لا شك في أن فوز طرمب هو نجاح لشريحة في المجتمع الأمريكي كانت مهملة من جانب الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فالحزبان في آخر مرحلة أصبحا حزبين متمركزين في المدن مع شركات التمويل والمصارف؛ فنخبة الـ «1 بالمئة» كما ذكرنا مسيطرة على الحزبين الجمهوري والديمقراطي.

بيرني ساندرز قام بثورة ضمن الحزب الديمقراطي، فحاول تجييش الشعب ضد هذه النخبة، ودونالد طرمب، مع أنه من هذه النخبة، جيّش الرأي العام الريفي ضد النخبة في الحزب الجمهوري.

أعتقد أن مَن شعر نفسه فائزاً في هذه الانتخابات هم هؤلاء البيض في الأرياف التي لم يكن صوتها نافذاً، سواء في الحزب الجمهوري التقليدي أو في الحزب الديمقراطي. وهم يشعرون أن طرمب أوصل لهم صوتهم وغضبهم وشعورهم بالتهميش وإلى ما هنالك. جزء من الرأي العام هذا هو يميني متطرف، عنصريون، «بيض» ضد «السود». هذا التطرف أصبح يشعر نوعاً ما أنه ممثَّل. وهناك كذلك رأي عام غير متطرف من البيض أعاد له طرمب الاعتبار.

كمصالح اقتصادية علينا أن ننتظر القرارات التي سيتخذها طرمب، فما طرحه أثناء حملته الانتخابية يمثّل تراجعاً عن العولمة إلى حدٍّ ما وعن الاتفاقيات التجارية الكبيرة، فهي مواقف إذا ما نُفِّذت تضر بالشركات الكبرى وبمصالح المستثمرين في الاقتصاد المعولم. لكن طرمب في المقابل يعد بتغييرات في النظام الضريبي هي لمصلحة الشركات، إذ وعد بخفض مستوى الضريبة على دخل الشركات ودخل ذوي الدخل الكبير. فهذا من ناحية يفيد ويسعد نخبة الـ «1 بالمئة» والشركات الكبرى، وهو من ناحية ثانية يمكن أن يضر بالاقتصاد. من جهة يفيدهم ومن جهة يضر بهم؛ فعلينا أن ننتظر لنرى كيف ستتطوّر الأمور.

ومن يشعرون بالخسارة هم كل المجموعات الثقافية الإثنية والدينية، من اللاتين والسود والمسلمين الأمريكيين ومجموعة كبيرة من الحركة النسائية ومجموعة المثليين (LGBT)، وهي مجموعة قوية في أمريكا. كل هذه المجموعات تشعر نفسها خاسرة إلى حدٍ كبير. ففي أمريكا اليوم هناك أجواء خاسر ورابح.

هل ما حصل هو رد فعل على مجموعة أمور وأخطاء وقع فيها العهد السابق أم أنه تعبير عن اتجاه أو مسار تاريخي؟

أعتقد أن «المسار التاريخي» كلمة كبيرة. ولكن الكلام على مسار اقتصادي ممكن. فمنذ فترة بيل كلينتون دخلت أمريكا والعالم بمرحلة عولمة شديدة، أدت إلى نمو اقتصادي كبير ولكنها أدت إلى أنماط معينة من إعادة توزيع الثروة، كما سبق أن ما ذكرنا سابقاً، تُفيد الأثرياء وتُضعف الطبقة الوسطى. وانتهج الحزبان الديمقراطي والجمهوري هذه السياسة منذ 30 سنة. وهذا التعبير رأيناه بإعادة النظر في بعض شروط العولمة. فالعولمة ظاهرة تبقى موجودة ولكن الاتفاقيات الكبرى، مثل النافتا، الاتفاقية بين أمريكا وكندا والمكسيك، سيعيد طرمب النظر في بعض بنودها، وكذلك وضع الاتفاقيات التجارية مع الصين ومع أوروبا وغيرها؛ فطرمب يقول إنه مع التجارة ولكنه يريد أن يفاوض لكي تكون الشروط أفضل. أعتقد أن هذا ما يعبّر عنه طرمب، كما أنه يعبّر عن مسار تاريخي بمعنى أن أمريكا تقليدياً بيضاء ومع الوقت تتحول إلى ملوّنة. صحيح أن البيض لا يزالون أكثرية في الولايات المتحدة، ولكن في غضون 10 أو 20 سنة سيتساوى عدد البيض وعدد المجموعات الثقافية والإثنية والعرقية الأخرى. وهنا يمكن القول إن خطاب طرمب يعبّر عن رد فعل على هذا المسار، وعلى فوز باراك أوباما الذي يعود إلى أصول أفريقية، فمثّل فوزه صدمة لعدد كبير من الأمريكيين الذين لم يتقبلوه، وهو رد فعل أيضاً على رئاسة باراك حسين أوباما الذي يعود إلى أصول أفريقية ووالده يدعى حسين، هذه الأمور الثقافية والمجتمعية عبّرت عن رد فعل «تاريخي».

ما هي أبرز المنعطفات المتوقّعة في السياسة الداخلية الأمريكية في مرحلة طرمب؟

هناك عدة عناوين رئيسية على هذا الصعيد. أولاً، موضوع السياسة الصحية، وبرنامج الرعاية الصحية الشامل، أو ما يسمى Obama Care، وهو أهم إنجاز داخلي لأوباما. هذا الإنجاز لديه عدة نجاحات لكن لديه أيضاً مشاكل وتحديات. وطرمب والحزب الجمهوري لم يكونا راضيَين على هذا البرنامج. ومن الأكيد أن الرئيس طرمب والإدارة الجديدة ستلغي هذا البرنامج وستستبدل برنامجاً آخر به. لا نعرف حتى الآن تفاصيل هذا البرنامج البديل، ولكن من الواضح أنه سيكون هناك تغير بموضوع السياسة الصحية.

ثانياً، موضوع الهجرة إلى أمريكا وبالأخص الهجرة غير المنظمة قانوناً، أي المهاجرين غير الشرعيين، وهم يعَدّون بالملايين داخل الولايات المتحدة. وهذا كان من أهم شعارات طرمب في حملته الانتخابية حيث قال إنه سيبني جداراً بين الولايات المتحدة والمكسيك وسيمنع دخول أي مسلم إلى الولايات المتحدة وسيعيد النظر في دخول الناس من دول لها تاريخ في الإرهاب أو فيها مشاكل.

كما يعِد طرمب بأن يكون متشدداً جداً في موضوع سياسة الهجرة إلى الولايات المتحدة، وبالأخص الهجرة غير المقوننة، حيث يقول إنه سيطرد نحو مليوني شخص موجودين بصفة غير قانونية في أمريكا ممن تورطوا بقضايا جنائية، وسيعيدهم إلى البلاد التي أتوا منها، المكسيك أو غيرها، وسيتشدد أيضاً على الحدود بحيث سيبني جداراً أو سيرمم الجدار الموجود إلى ما هنالك. فسياسة الهجرة هي من التغيرات التي ستحدث، ولا نعرف بالضبط ضمن موضوع الوافدين إلى أمريكا كيف سيتم التعامل مع موضوع المسلمين بوجه عام.

ثالثاً، الموضوع الاقتصادي، ومن عناوينه تغيير النظام الضريبي حتى يريح الشركات الكبرى لتعود الشركات لتستثمر في أمريكا وتزيد في استثمارها، الأمر الذي يوفر فرص عمل ويحسّن الاقتصاد وتنطلق العجلة الاقتصادية، إضافة إلى إعادة النظر بالاتفاقيات التجارية، فهذه العناوين تعبّر نوعاً ما عن سياسة طرمب الاقتصادية بهدف إعادة تحريك الاقتصاد الأمريكي.

رابعاً، وهو أمر يتعلق بالشق الاقتصادي نوعاً ما، هو إطلاق خطة استثمار كبير في ترميم البنى التحتية العامة الأمريكية، بما فيها القطارات والمطارات والمرافئ والأتوسترادات وغيرها، وهذا سيكلف مئات المليارات من الدولارات. لكن السؤال الرئيسي هنا، هل يستطيع الكونغرس تمرير مشروع كهذا أم لا؟ وبأي حجم؟ وهذه من الأمور التي سيتشدد بها طرمب أيضاً.

خامساً، وهو من أهم الأمور، أي اختياره عضو المحكمة العليا (Supreme Court)، الذي يكون له دور كبير في تفسير القوانين في أمريكا. فالرئيس هو الذي يرشّح ومجلس الشيوخ يرفض أو يوافق على ترشيحه.

ومجلس المحكمة العليا يتألف من تسعة قضاة توفي قاضٍ منهم في السنة الحالية، ورشح الرئيس أوباما شخصاً ولكن مجلس الشيوخ رفض أن ينظر فيه، وسيرشح الرئيس طرمب شخصاً سيكون محافظاً بالتأكيد. ومن الموضوعات التي تهم الكثير من الناس مثـلاً هو موضوع الإجهاض؛ فالحركة النسائية تقول إن هذا الحق يعود للمرأة وليس للدولة الحق بأن تمنعه أو تسمح به، في حين أن طرمب سيرشح قاضياً يمنع الإجهاض على الصعيد القانوني أو الفدرالي، وحينها سيعود الأمر إلى كل ولاية لتقرر وتقدر ما إذا كان الإجهاض مسموحاً فيها أم لا. وهذه قضية تاريخية كانت قد حُسمت في السبعينيات في مجلس المحكمة العليا القديم، ولكن الآن سيعاد النظر فيه.

كذلك هناك قضية زواج المثليين الذي يُقدم في الولايات المتحدة إلى مجلس القضاء الأعلى، وهذا أمر يمكن أن يعاد النظر فيه أيضاً، فموضوع المحكمة العليا يؤثر في القانون وتفسيره في الولايات المتحدة.

هل سيكون طرمب قادراً على تنفيذ وعوده الانتخابية الإشكالية؟

هناك بعض القضايا هي في يد الرئيس، وهناك قضايا أخرى تحتاج إلى تعاون من جانب الكونغرس. في ما يتعلق بموضوع العلاقات التجارية مثـلاً، الاتفاقات الكبرى تمر في الكونغرس وبالتالي تعديلها هو بيد الكونغرس، والكونغرس الآن هو ذو أكثرية جمهورية، وما دام الرئيس طرمب يتمتع بهذا المستوى من الشعبية في أول عهده، أعتقد أنه سيكون قادراً على أخذ السياسة التجارية بالاتجاه الذي يريده هو. مع العلم أن الرئيس والإدارة التنفيذية لهما دور كبير في تحديد السياسة التجارية وتفسيرها وتطبيقها. لذلك أعتقد أن طرمب سيكون قادراً على تنفيذ وعوده على هذا المستوى. حتى إن موضوع تغيير النظام الضريبي أعتقد أن الحزب الجمهوري يرحب به ويتبنّاه. أما موضوع الإنفاق على البنى التحتية فأعتقد أنه موضوع إشكالي، وفي النهاية ربما يحصل تفاوض بين طرمب والكونغرس على حجم الاستثمار في هذا القطاع، سيحاول خفض خطط الرئيس على هذا الصعيد. ونذكر أن الرئيس أوباما بعد أزمة العام 2008 وعد بانفاق 300 مليار دولار على خطة استثمار كبيرة في البنى التحتية العامة. كما لا بد من أن نذكر هنا أن طرمب يطرح زيادة في الإنفاق على القوات المسلحة. وهذا أمر أعتقد أنه سيلقى ترحيباً من جانب الحزب الجمهوري. أما موضوع مجلس القضاء الأعلى، فأعتقد أن الحزب الجمهوري والكونغرس سيسيران مع طرمب في الأشخاص الذين سيرشحهم طرمب لهذا المجلس. إذا باستثناء موضوع الإنفاق على البنى التحتية، أعتقد أن طرمب سيكون قادراً على تحقيق الكثير مما وعد به.

لكن السؤال الأساسي هنا ليس إذا كان قادراً على تحقيق هذه الوعود بل ما هو تأثير هذه المشاريع في الاقتصاد الأمريكي؟ فهناك من يقول اليوم إنه إذا دخل طرمب في حرب تجارية مع الصين والمكسيك وكندا وأوروبا… فالنتيجة ستكون تضخماً وتراجعاً في النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة، وسيكون لهذه الحرب أعباء اقتصادية كبيرة على الولايات المتحدة. كما أن سياسة تخفيف الضرائب على الشركات والأثرياء يمكن أن تؤمّن فرص عمل في البداية لكنها ستحدث خلـلاً كبيراً في الموازنة العامة وسترفع الدين العام من دون أن تخلق فرص العمل المتوقعة.

كيف ستنعكس مرحلة طرمب على الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الداخلي؟

على الصعيد الاقتصادي، بعض الدراسات تقول إن التأثير في الاقتصاد سيكون سلبياً، لأن إدخال طرمب الولايات المتحدة في حرب تجارية مع شركاء أمريكا في العولمة، أو توتيره العلاقات التجارية معها على الأقل، ستكون تأثيراتها الأولية سلبية، مثل التراجع في الاستثمار بين الدول ورفع الجمارك وبالتالي زيادة التكاليف على المستهلك، فكل ذلك ستكون له تأثيرات سلبية في الاقتصاد الأمريكي، وبالتالي من المرجح أن تزيد معدلات البطالة في الولايات المتحدة بدلاً من أن تنخفض. أما السياسة الضريبية التي يتحدث طرمب عنها هي نفسها السياسة التي اتبعها جورج دبليو بوش، واتبعها قبله رونالد ريغن، فهي ستعمِّق في رأي الكثير من سوء توزيع الثروة وهذا أمر الناس منه مستاؤون أصـلاً. لذلك لا يستبعد كثيرون أن طرمب بعد هذه الفورة التي شهدها سيصطدم بالحائط اقتصادياً وبالتالي لن يستطيع الفوز بولاية ثانية، ويفسح ذلك في المجال أمام الحزب الديمقراطي إلى العودة إلى السلطة عام 2020.

اجتماعياً، النتائج هي سلبية منذ الآن، فما حصل في الحملة الانتخابية، وما تحدّث فيه طرمب عن الأمريكان من أصل مكسيكي أو من أصل لاتيني، أو عن الأمريكان المسلمين والأمريكان ذوي البشرة السوداء، أو عن النساء، خلق شرخاً وتوتراً كبيرين في المجتمعات الأمريكية، ثم زادت هذه الحالة بعد فوزه، وتكثر الأخبار اليوم عن أحداث تحصل هنا وهناك بين مواطنين «بيض» وبين مواطنين مختلفين عنهم لوناً وعرقاً وثقافةً، وهي كلها أحداث تعبّر عن توتّر مجتمعي وعن حماسة عنصرية يمينية لم تعرفها الولايات المتحدة منذ زمن طويل، والآن بدأت تظهر انقسامات اجتماعية قاسية، وتشهد المدن الأمريكية تظاهرات كبيرة ضد طرمب لم تعرفها الولايات المتحدة منذ مدة طويلة. فالوضع الاجتماعي من حيث العلاقات المجتمعية سيئ جداً.

أما الوضع السياسي الداخلي، فالحزب الديمقراطي اليوم يجري مراجعة ذاتية لدراسة أسباب الخسارة وما التعديلات المطلوب إدخالها في سياساته وفي طريقة تواصله مع المجتمع، وكيف سيدير حملة في الانتخابات النصفية عام 2018 لمجلس النواب وجزء من مجلس الشيوخ وكيف سيحضّر للانتخابات الرئاسية عام 2020. حتى إن الحزب الجمهوري الذي هو في موقع قوة اليوم، يجري كذلك مراجعة لسياساته، إذ يمكن أن تتراجع قوته إذا ما ساء الوضع الاقتصادي، وبخاصة أن الأكثرية التي حصل عليها في الانتخابات هي أكثرية صغيرة، فضـلاً عن أن النمو الديمغرافي في الولايات المتحدة لا يميل لمصلحة البيض بل لمصلحة المجموعات الثقافية والعرقية الأخرى وهي مجموعات تصب في مصلحة الحزب الديمقراطي.

ما هي أبرز المنعطفات المتوقّعة في السياسة الخارجية الأمريكية في مرحلة طرمب؟

في ما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية، جزء منها طرحه طرمب في حملته الانتخابية، لكن طرمب، في الوقت نفسه، هو شخص جديد في السياسة، وبالتالي ليس معلوماً بعد أي سياسة سيعتمدها وأي مواقف سيتخذها في كثير من قضايا السياسة الخارجية وملفاتها. وإذا كانت هيلاري كلينتون قد أمضت نحو ثلاثة عقود في العمل وبالتالي لديها موقف معروف من مختلف ملفات السياسة الخارجية، فإن طرمب هو مبتدئ في كل هذه الملفات، وبالتالي لا نستطيع أن نجزم في تحديد السياسة التي سيعتمدها في سياسته الخارجية. كما أنه لا يزال اليوم يبحث في تكوين فريق العمل الخاص به لمختلف مواقع الإدارة المرتبطة بالسياسة الخارجية. الأسماء التي تطرح فـ «من كلّ وادٍ عصا». منهم من هو مع التقارب مع روسيا ومنهم ضد ذلك، ومنهم من هو «مع الأسد» ومنهم من هو ضد الأسد، ومنهم من هو مع الناتو ومن هو ضد الناتو… حتى الآن هناك فوضى عارمة في أجواء طرمب حول السياسة الخارجية.

أما في ما يتعلق بالقضايا التي تحدث طرمب عنها في حملته الانتخابية، فهو عبَّر عن مواقف إيجابية تجاه روسيا، وهذا أمر جديد بالنسبة إلى الولايات المتحدة، سواء بالنسبة إلى الحزب الجمهوري أو بالنسبة إلى الحزب الديمقراطي. من جهة أخرى أبدى طرمب تحفظاً عن التحالفات الأمريكية التقليدية: حلف الناتو، حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وفي آسيا، فهو يرى أن هذه التحالفات يجب أن تكون نفعية، بمعنى أن أي تحالف من هذا النوع يجب أن يدفع نفقاته الطرف الذي يريد التحالف مع الولايات المتحدة. فهو ينظر إلى هذه التحالفات كصفقات تجارية أكثر منها تعبيراً عن علاقة استراتيجية. لذلك يوجد قلق كبير في حلف الناتو اليوم، وبخاصة لناحية التوسع الروسي في أوروبا الشرقية والوسطى، وكذلك القلق في بعض دول آسيا من التوسع الصيني الذي يمكن أن يقابل بعدم الاكتراث من جانب إدارة طرمب.

كذلك يعبّر طرمب، في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، عن نظرة هي ليست انعزالية بكل معنى الكلمة، لأن ذوي التوجّه الانعزالي يدعون إلى انسحاب الولايات المتحدة من كل أدوارها الخارجية وسحب كل جيوشها من الخارج والاهتمام بالشأن الداخلي. في حين أن طرمب كرجل أعمال يؤمن أن الولايات المتحدة دولة كبيرة واقتصادها كبير وهي لها أدوار في العالم، أول هذه الأدوار يجب أن يكون تجارياً ومالياً يعود بمردود على الولايات المتحدة، وإذا كان لا بد من تجارة عالمية فلا بد من أن تكون شروطها مرضية له أو للطرف الأمريكي، حتى إذا كان لا بد من تحالفات عسكرية فلا بد من أن تكون مدفوعة الثمن. هو مع الترابط في العالم لكن هو مع إعادة النظر بشروط وتفاصيل هذا الترابط. هو مثـلاً لا ينظر إلى روسيا بمنظار الحرب الباردة بل ينظر إليها بمنظاره الأمريكي الداخلي، بمعنى منظار الرجل الأبيض المسيحي المختلف عن السود والإسبان والآسيويين والمسلمين، وهو بذلك يرى في بوتين الرجل الأبيض والمسيحي والقوي.

لذا سيحاول طرمب بناء علاقة إيجابية بروسيا، لكن ليست واضحة بعد معالم هذه العلاقة، هذا مع العلم أن كـلاً من أوباما وبوش حاولا إقامة علاقة إيجابية مع بوتن لكنهما فشلا. أما طرمب فسيحاول بناء علاقة إيجابية مع الروس. هناك من يقول إن هناك خطراً من عقد كل من طرمب وبوتين ما يشبه اتفاقية يالطا جديدة، لناحية إعادة تقسيم النفوذ والأدوار بين الدول العظمى في العالم. هذا احتمال ليس واضحاً مدى تحققه، نظراً إلى تنوع مروحة الأسماء المطروحة حتى الآن التي ستمسك بإدارة طرمب، لكن يمكن أن تترجم هذه الأجواء الإيجابية بين طرمب وبوتين في سورية في البداية، وهذا أمر عبّر طرمب عنه بالدعوة إلى ترك الروس والرئيس السوري بشار الأسد وحلفاؤهم يقاتلون داعش والإرهاب في سورية.

وعلى صعيد العلاقة بالصين، الموضوع الأساسي ليس أمنياً وعسكرياً كما هو الأمر مع روسيا، بقدر ما هو موضوع اقتصادي تجاري نظراً إلى ضخامة التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة، فضـلاً عن أن الصين هي من أكبر المستثمرين بالدين الأمريكي، فالعلاقة بين الصين المتحدة والصين معقدة جداً وكبيرة جداً، وسيحاول طرمب التفاوض مع الصين لتحصيل شروط تجارية أفضل معها، من دون أن يخرب العلاقة الاقتصادية معها لأن ذلك ستكون له تداعيات خطيرة على كلا البلدين. وعلى الصعيد الأمني لا شك في أن هناك قلقاً جدياً لدى حلفاء أمريكا في آسيا، كاليابان وكوريا الجنوبية وغيرهما، لأن طرمب في حملته الانتخابية تساءل أكثر من مرة عن جدوى نشر الولايات المتحدة قواعد عسكرية لها في آسيا دفاعاً عن بلدان لديها ثروات أكثر من الولايات المتحدة، فلماذا لا يدافع هؤلاء عن أنفسهم عبر تطوير ترساناتهم العسكرية بما في ذلك الخيار النووي. لكن بوجه عام لم تتبلّر سياسة طرمب تجاه آسيا كفاية بعد.

على صعيد العلاقة بأوروبا من المرجح أن تستمر هذه العلاقة كما هي، لكن هنا ما يُقلق أوروبا في شرق أوروبا كما قلنا، فإذا لم تقف أمريكا وحلف الناتو بصلابة ضد التوسع الروسي هناك، كما حصل في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم أو ما يمكن أن يحدث في بعض دول البلطيق، لذا تخشى أوروبا أن تنزلق القارة الأوروبية إلى مواجهات وحروب جزئية في شرق القارة يمكن أن تكون بداية مرحلة صعبة لم تعرفها أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي أجواء قد تشبه الظروف التي سبقت الحرب العالمية الأولى، لذلك يخشى الأوروبيون أن عدم الاهتمام الأمريكي سيشجع بوتين على خلق مشاكل وتحديات أخرى في أوروبا ستكون عواقبها غير معروفة. كما يوجد قلق أوروبي من صعود اليمن في أوروبا نفسها، كما حصل في بريطانيا أو كما تأمل ماري لوبان في فرنسا، فضـلاً عن بلدان أوروبية أخرى تشهد صعوداً للمناخ اليميني، وهو أمر يقلق الليبراليين في أوروبا كما يقلق أصحاب المشروع الأوروبي والاتحاد الأوروبي.

على صعيد الشرق الأوسط، أبرز العناوين التي يتحدث فيها طرمب هي: (1) الميل نحو روسيا، وهذا أمر بدأ يترجَم في سورية، (2) الكلام ضد إيران، وهذا موقف يحمل بعض التناقض، رغم أن طرمب والحزب الجمهوري يتفقان في الموقف السلبي من الاتفاق النووي مع إيران. وقد ذكر طرمب أثناء حملته الانتخابية أنه إذا فاز في الانتخابات سيمزق الاتفاق النووي مع إيران، حتى إن كلامه على الجمهورية الإسلامية في إيران يشبه إلى حد بعيد كلام جورج دبليو بوش، في أن موقفه في سورية يعبّر عن ميل إلى حلفاء روسيا، بمن فيهم إيران، الذين يقاتلون داعش. والسؤال هو كيف سيحل هذا الموقف المتناقض من إيران بين إيران نفسها والاتفاق النووي معها وبين إيران التي تقاتل داعش في سورية. ولا شك في أن الرئيس الروسي بوتن سيحاول إقناع طرمب بضرورة الحفاظ على علاقة هادئة مع إيران وبضرورة الحفاظ على الاتفاق النووي معها. لذلك ربما ينجح الرئيس بوتين بإقناعه في ذلك للحفاظ على علاقة حذرة لكن ربما تكون غير صدامية مع إيران.

من جهة أخرى إذا سار طرمب في سياسة منع المسلمين، أو بعضهم، من الدخول إلى الولايات المتحدة، أو سار بحملات ضد المسلمين الأمريكيين، وهي قضية لا ترتبط بأسباب جيوسياسية تجاه المسلمين بقدر ما ترتبط بأسباب أخلاقية وسياسية بوجه عام، فسيُحدث ذلك ردَّ فعل قوياً ضد الولايات المتحدة في العالمين العربي والإسلامي، وسيؤثر ذلك في العلاقات الدولية. وإذا نجحت داعش أو القاعدة في تنفيذ أي عمل إرهابي في الولايات المتحدة في بداية العام المقبل فسيكون رد فعل طرمب قوياً ومؤثراً في علاقته بالعالمين العربي والإسلامي أيضاً. والأجواء مهيَّأة لصراع من هذا النوع.

بالنسبة إلى علاقته بالبلدان الأخرى في المنطقة، المشكلة مع مجلس التعاون الخليجي ستكون المشكلة ثقافية سياسية عامة في حدود مواقفه من المسلمين بوجه عام، لكن على مستوى العلاقات الاقتصادية والنفطية والأمنية لا أتوقع تغييراً جدياً في العلاقات بل أتوقع استمراراً في العلاقات وتعاوناً يفيد الطرفين. ودول الخليج، وكذلك تركيا، هي بانتظار أن ترى كيف سيتبلّر كلام طرمب ضد إيران بسياسات على الأرض من جهة، وكيف سيتبلّر موقفه من الرئيس الأسد ودور روسيا وحلفائها في سورية من جهة أخرى. أما بالنسبة إلى تركيا فالأرجح أن تتعزز هذه العلاقة؛ فالكلام بين طرمب وأردوغان كلام إيجابي، وبخاصة أن طرمب لا يركز على قضايا الحريات وحقوق الإنسان، بل يحب هذه الشخصية القوية في أردوغان.

لكن مع كل ذلك ستظل علاقة طرمب بإسرائيل، ومع نتنياهو، هي الأقوى في المنطقة. فطرمب يتحدث عن دعم مطلق لنتنياهو، في حين يغيب لديه أي كلام على حقوق الفلسطينيين. لذلك، لن يكون هناك عودة إلى مفاوضات جدية بين الإسرائيليين والفلسطينيين سيكون هناك دعم لنتنياهو ولليمين الإسرائيلي.

كيف تنظر إلى مستقبل الولايات المتحدة في المدى المتوسط، وهل من اتجاهات اجتماعية جديدة يُتوقع أن تصعد؟

إذا نظرنا إلى الأمام قليـلاً، إلى الانتخابات المقبلة عام 2020، فكما ذكرت أن الحزب الديمقراطي لا يزال مستقبله قوياً، وهو كان يُفترض أن يفوز في هذا الانتخابات، ولكنه لم يفز. فالوضع الديمغرافي للحزب هو إلى تحسّن كما ذكرنا أيضاً. والخطاب الموجّه إلى البعض الذي نجح به طرمب هو مقلق جداً للحزب الجمهوري بوجه عام، لأنه يحصر الحزب الجمهوري بالبيض، بهذه المجموعة الريفية المتصلبة، التي تتراجع ديمغرافياً، وهي غير قادرة على بناء جسور مع المدن ومع الأطراف الأخرى من المجتمع الأمريكي. فحين خسر الجمهوريون الانتخابات أمام أوباما منذ ثماني سنوات، كان لديهم مراجعة ذاتية لمواقفهم تقول عكس ما فعله طرمب، إذ كانت مراجعتهم تلك تدعو إلى التوجّه نحو الأقليات وإلى توسيع الحزب الجمهوري وفتحه أمام كل مكونات المجتمع الأمريكي. أما طرمب فأخذ الحزب باتجاه معاكس، أي بالاتجاه الرجعي إذا جاز التعبير. لكن نظراً إلى شطارته الإعلامية نجح في هذا الأمر في ظروف معينة ومقابل شخصية ضعيفة لهيلاري كلينتون حقق هذا الفوز، لكنه في الوقت نفسه وضع الحزب الجمهوري في وضع صعب. وهناك الكثير من أعضاء الحزب الديمقراطي صُدموا بهذه النتيجة لكنهم لا يزالون متفائلون بالمستقبل. يوجد اليوم سباق على الشباب الذين سيمثلون الثقل الأساسي وسط الناخبين في السنوات المقبلة. وهؤلاء الشباب كانوا في الحزب الديمقراطي مع بيرني ساندرز، والحزب الديمقراطي يدرس كيف يمكن أن يبني على هذه الحركة الشبابية. والحزب الجمهوري كذلك يدرس كيف سيبني على حركة الشباب الذين صوّتوا لدونالد طرمب.

نحن الآن في مرحلة طرمب، لكن علينا أن ننتظر النتائج الاقتصادية لسياسات طرمب في السنتين الأوليين من عهده، وسننظر إلى صورته كشخص، إذ هناك الكثير من المشاكل في شخصيته؛ فهو استطاع أن يفوز لكن من الممكن أن يظهر الكثير من الفضائح التي تصيبه وتؤدي إلى تراجع شعبيته، فالفقاعة الإعلامية التي أعطته هذا الحجم يمكن أن تنتهي ويتقلص حجمه وشعبيته؛ فمصير هذا الشخص غير واضح. أما الاتجاهات الاجتماعية في الولايات المتحدة اليوم فلا تخلو من أجواء خطيرة لم تعرفها البلاد منذ الستينيات، لذلك لا يزال المسار غير واضح.

هل سيبقى نموذج الثنائية الحزبية صالحاً للاستجابة للتحولات الاجتماعية المحتملة؟

أعتقد أن النظام الثنائي باقٍ في الولايات المتحدة، ولا يبدو أن نظام الحزبين هذا سيتغير. وما حصل هو خضات ضمن كل حزب من هذين الحزبين، ولم يبرز أي حزب ثالث. حتى إن شخصاً مثل طرمب القادر على تأسيس حزب ثالث هو رأى أنه من الأفضل أن يدخل في حزب قديم ويغيّره من الداخل. صحيح أن النظام الثنائي لم يستطع الاستجابة لتطلعات الناس لكنه في الوقت نفسه أظهر أن لديه مرونة، فشخص مثل طرمب الذي كان مرفوضاً من قيادة الحزب الجمهوري استطاع أن يأخذ الحزب، وبيرني ساندرز غيّر بدوره الحزب الديمقراطي وهو لا يزال يغيّره. صحيح أن هذا النموذج الثنائي جامد لكن توجد حيوية داخل كل من الحزبين بحيث يمكنهما أن يتكيّفا مع الأوضاع الجديدة.

هل سندخل فعـلاً في مرحلة تعددية قطبية في النظام العالمي تقر الولايات المتحدة بها؟

نحن أصـلاً بلغنا مرحلة التعددية القطبية إلى حد ما. فروسيا كما نرى تؤدي في السنوات الأخيرة أدواراً كبيرة في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية، وهي تتصرف على الساحة الدولية كقطب آخر. والصين كقوة اقتصادية جبارة، وهي المستثمر الرئيسي في أفريقيا وعدة مناطق في العالم، وهي ستظل تحقق نمواً اقتصادياً في السنوات المقبلة، فهي من دون شك قطب عالمي. وتأثير ذلك في الوضع الأمني في بحر الصين وفي مناطق قرب الصين هو أمرٌ ستبلّر في السنوات المقبلة. وروسيا والصين في مجلس الأمن ثبّتا منذ بدء الأزمة السورية أنهما ليستا من ضمن النظام الأمريكي بل إنهما دولتان لهما مواقفهما. والعالم اليوم له ثلاثة أقطاب على الأقل كقوى عالمية، في البرازيل وما يسمى منطقة البريكس تراجعتا. وعملياً نحن نتكلم على روسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية، وأوروبا إلى حدٍ ما. نحن إذاً في مرحلة تعدد الأقطاب، ولكن تبقى الولايات المتحدة الآن قوى عالمية واحدة في العالم هي الولايات المتحدة كما يقول بوتن لكن توجد أدوار لروسيا والصين في العالم لكنهما ليستا قوتين عالميتين بحجم الولايات المتحدة، وليس أن تعود روسيا إلى قوة عالمية بالحجم الذي كانت عليه أيام الاتحاد السوفياتي، فروسيا حتى الآن اقتصادها ضعيف، في حين أن الصين اقتصادها يتقدم، لكن الصين لم تختر حتى الآن أن تؤدي دور القوة العالمية الجبارة بالمعنى السياسي. فالعالم سيكون عملياً في أرجحية أمريكية ولو متراجعة، إلى جانب أدوار لروسيا والصين وإلى حد ما لقوى إقليمية كإيران والسعودية والبرازيل. لن نشهد إذاً تغييراً جذرياً ولكننا نشهد استمراراً لمسار بدأ بعد فشل مشروع جورج دبليو بوش في حربيه في كل من أفغانستان والعراق الهادف إلى إعادة بسط السيطرة الأمريكية على النظام العالمي. الولايات المتحدة دخلت في حالة تراجع منذ ذلك الفشل، وأوباما كان راضياً في ذلك وكذلك طرمب قابل بهذا التراجع.