استيقظت فلسطين والعرب والعالم كله صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي على حدث ضخم يليق بالنضال الممتد للشعب الفلسطيني مذ بدأت معالم المشروع الصهيوني على أرض فلسطين تتضح في أواخر القرن التاسع عشر؛ فقد نفذ مقاومو غزة الأبطال عملية عسكرية أطلقوا عليها اسم «طوفان الأقصى» في إشارة بليغة إلى أن الإمعان في امتهان مقدساتنا الإسلامية والمسيحية لا يمكن أن يمر من دون عقاب، وإلى أن المقاومة الفلسطينية في صعود بإذن الله حتى يحقق شعب فلسطين أهدافه المشروعة، وكما نزل «طوفان الأقصى» بردًا وسلامًا على قلوب محبي الحرية في كل مكان فإنه أطاش صواب المحتل الإسرائيلي وداعميه، فسارعوا بوصم هذا العمل بالإرهاب والقيام بعملية انتقام مجنونة شاهد العالم كله همجيتها ووحشيتها، بل بلغ السفه بهؤلاء حد تشبيه «حماس» بـ«داعش»، في إشارة أكيدة إلى جهلهم بحقائق الأمور؛ بل طالب الرئيس الفرنسي في غمرة السباق بين قادة الغرب التابعين للولايات المتحدة، بتحالف دولي لإسقاط «داعش» فلسطين كما حدث في مواجهة دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام، وإن عاد إلى رشده جزئيًا بعد أن فرض «طوفان الأقصى» تداعياته.
تثبت إسرائيل وأنصارها في كل حلقة من حلقات المواجهة مع المقاومة الفلسطينية أنها لا تعي حرفًا واحدًا من دروس الخبرة التاريخية التي تشير إلى أن لكل استعمار رد فعل يتمثل بمقاومة الشعب المستعمَر له، وأن هذه المقاومة تبدأ من نقطة خلل فادح في ميزان القوة بين المستعمِر والمستعمَر لمصلحة الأول بطبيعة الحال، وأن هذا الخلل يبدأ في التقلص تدريجًا نتيجة إيمان المقاومة الوطنية بقضيتها، واحتضان شعبها لها، واتّباعها أساليب غير تقليدية في القتال، حتى يصل النضال التحرري إلى نقطة تحول تزداد فيها تكلفة الاحتلال على عائده، فتُضطر سلطاته إلى التسليم بمطلب الاستقلال، وفي الحالات التي اتصفت فيها السلطات الاستعمارية بعمى كامل في الإدراك جعلها ترفض التسليم بمطالب حركات التحرر أفضى هذا إلى تحولات داخلية أتت بسلطات جديدة واعية للتطورات ومستجيبة لما فرضه النضال التحرري من واقع جديد، مُسَلِّمة من ثم بمطلب الاستقلال. حدثَ هذا في فرنسا والبرتغال في المرحلة الأخيرة لحروب التحرير في الجزائر والمستعمرات البرتغالية، ويتوقف توقيت النصر النهائي لحركات التحرر على عوامل متعددة أهمها وحدة فصائل المقاومة وتوافر دعم خارجي لها. لكن أيًّا كان الاختلاف في التوقيت فإن خبرة التاريخ تفيد بأن القانون العلمي للتحرر الوطني يقضي بحتمية انتصار الشعوب المستعمَرة وانتزاعها لاستقلالها من براثن مستعمريها مهما طال الزمن، وقد حصل شعبا الجزائر واليمن على استقلالهما بعد قرابة قرن وثلث القرن من الزمان بعد معارك أسطورية ضد الغاصب الأجنبي.
السابع من تشرين الأول/ أكتوبر إذن هو حلقة من حلقات النضال الوطني الفلسطيني من أجل الحرية سبقتها حلقات مذ بدأت خطوات تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين تتضح، وستتلوها حلقات أخرى حتى يتحقق النصر النهائي بإذن الله، فلا مجال إذن لترهات اتهام المقاومة الفلسطينية في غزة، وعلى رأسها حماس، بالإرهاب. ويُلاحظ في خصوص هذا الاتهام أولًا أنه استند إلى أكاذيب، فلم يقدم أحد كائنًا من كان أيَّ دليل على مزاعم ذبح المقاومة الأطفال واغتصاب الفتيات، ناهيك بما تكشَّف مؤخرًا من قصف الطيران الإسرائيلي، في غمرة الفزع مما حدث، مستوطنينَ إسرائيليين ظنًا منه أنهم من أفراد المقاومة، والأهم من ذلك أن فتح ملف الإرهاب ليس في مصلحة الكيان الصهيوني الذي بُني أصلًا على آليات إرهابية باعتراف مؤرخيه الجدد؛ وما علينا، بغض النظر عن هذا الاعتراف، سوى أن نلقي نظرة سريعة على الطريقة التي تم إجبار الفلسطينيين في نكبة عام ١٩٤٨ على مغادرة أرضهم من خلال الترويع والتهديد والمذابح الجماعية الموثقة بالصور والشهادات الواقعية ممن شاركوا فيها، لكي نعرف من هم الإرهابيون الحقيقيون، ناهيك باستمرار الجرائم الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني طوال ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن حتى الآن.
لا تتوقف الاتهامات لحماس عند هذا الحد، فهناك من ينكر عليها دورها المقاوم بسبب انتمائها إلى حركة «الإخوان المسلمين» التي دخلت في صدامات واسعة في عدد من الدول العربية، وكاتب هذه السطور يختلف اختلافًا تامًا مع الأيديولوجية السياسية للإخوان المسلمين ومع خبرتها في الممارسة السياسية، لكن التمييز ضروري بين حماس كقوة سياسية داخلية تتنافس مع غيرها من القوى، وحماس كفصيل تحرُّر وطني يوجه سهامه إلى العدو المستعمِر، إذ تتراجع التناقضات الداخلية في هذه الحالة إلى الخلف لمصلحة التوحُّد في مواجهة المستعمر، وفات الذين يطالبون بخذلان حماس أن ما يحدث في غزة من مقاومة أسطورية بقيادة حماس تشترك فيه فصائل المقاومة كافة، وإن بدرجات مختلفة. أضف إلى ذلك اتهام حماس السخيف بأن ما يحدث ليس سوى تمثيلية. ولا بد هنا من تفنيد هذا الاتهام، بدءًا بأن هذه الاتهامات تتكرر كلما حقق العرب إنجازًا استراتيجيًا، وأُذَكِّر بأن الاتهام نفسه وُجِّه بعد تفجر حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وكأن مطلقي هذه الاتهامات يستكثرون على العرب أن يكونوا قادرين على تحقيق أي نجاح. الملاحظة الثانية هي أن هذه الاتهامات تتخبط هذه المرة من حيث تحديد كاتب السيناريو في هذه التمثيلية، فتارة يقال إنه إيران للرد على ما يُحاك ضدها، علمًا بأن إيران في هذا التوقيت لا تمر بحالة أزمة في علاقاتها الإقليمية والدولية تدفعها إلى مثل هذا السلوك، وتارة أخرى يقال إن إسرائيل هي التي استدرجت المقاومة لهذا العمل كي تتخذه ذريعة لتدمير غزة وتهجير سكانها استكمالًا لمشروعها الاستيطاني في عموم فلسطين، وتهيئة للشروع في بعض المشاريع ذات القيمة الاستراتيجية للكيان الصهيوني، وكأن إسرائيل بحاجة إلى ذريعة للقتل والتدمير في غزة وكل أرجاء فلسطين؛ وهذا ويذكرنا بما قيل عن أن الدولة العميقة في الولايات المتحدة هي التي دبرت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001 كي تجد الذريعة لإعلان ما سُمي الحرب على الإرهاب في أفغانستان، وكذلك لتنفيذ مشروعها لغزو العراق. أما الملاحظة الثالثة والأهم فهي أن المروجين لفكرة «التمثيلية» يفتقرون إلى الدليل، وحتى لو تصورنا جدلًا أن ثمة أساسًا لما يقولون فإن التخطيط والتنفيذ الرائعين لعملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر والصمود الأسطوري والإنجازات الفذَّة للمقاومة حتى الآن لا ينبغي أن تغيب لحظة عن الأذهان.
يضاف إلى الاتهامات الموجهة إلى عملية «طوفان الأقصى» وجهة النظر القائلة بأنها عمل غير رشيد، وذلك بمقارنة المكاسب بالخسائر التي تمثلت بالتدمير الهائل الذي لحق بغزة وآلاف الشهداء الذين اقترب عددهم لحظة كتابة هذه السطور من خمسة عشر ألف شهيد، ناهيك بعشرات الألوف من المصابين. ويعني منطق وجهة النظر هذه أن المقاومة المسلحة قد جلبت الخراب على أهلها، وأصحاب هذا المنطق لا يعون حرفًا واحدًا من خبرة التاريخ، فكل التجارب الاستعمارية أثبتت أن البديل الوحيد للمقاومة المسلحة هو القبول بالذل والهوان في ظل الاحتلال، لأنه لا يمكن أن يتنازل عن مكاسبه طوعًا، وقد جرب الفلسطينيون على سبيل المثال مسار أوسلو لأكثر من ثلاثين عامًا، فلم تكن النتيجة سوى صفر على اليسار، ووقوفًا عند نقطة البداية حتى الآن، بل إن سلطات الكيان الصهيوني أمعنت طوال هذه العقود كما فعلت قبلها في العصف بحقوق الفلسطينيين بكل السبل، من تدمير وقتل واعتقال وامتهان للمقدسات، ولم تفلح السلطة الفلسطينية التي أنشئت بموجب مسار أوسلو، في حماية شعبها من تغوّلات المستوطنين الإسرائيليين على أبسط حقوقه، فماذا عن عشرات الألوف من الشهداء والمصابين؟
مع كل الفجيعة في فقدان الشهداء والأسى لآلام المصابين فإن هذه للأسف هي دروس التاريخ، ومفادها أن الشعوب تدفع ثمنًا باهظًا من دمائها من أجل الحرية، فهل نسينا أن الشعب الجزائري قدَّم راضيًا مليونًا ونصف المليون من أبنائه قربانًا لاستقلالٍ انتزعه من براثن الاستعمار الفرنسي بعد أن وصل تأثير حرب التحرير الجزائرية إلى حد إحداث تغيير سياسي في الداخل الفرنسي أسقط الجمهورية الرابعة، وكان بداية لحقبة جديدة في السياسة الفرنسية. وما حدث في الجزائر ينطبق على كل الشعوب الأفريقية والآسيوية التي خاضت معارك التحرُّر الوطني ضد سلطات استعمارية شرسة، ثم من قال إن «طوفان الأقصى» لم يسفر إلا عن هذه الخسائر المادية والبشرية الفادحة؟
* * *
تنقلنا الإجابة عن السؤال السابق إلى الحديث عن حصاد «طوفان الأقصى»، فهل يجوز هذا الحديث أصلًا عن حصاد معركة لم تنته بعد؟ بالتأكيد يجوز، لأن الطوفان وإن لم تتم قصته فصولًا قد أتى أكله بالفعل في عدد من الاتجاهات أُجمل أهمها فيما يلي:
هناك أولًا اللطمة التي وجهتها عملية «طوفان الأقصى» للكيان الصهيوني، والتي شعرت إسرائيل معها بالمهانة الشديدة، وبخاصة أنها أتت من فصائل مقاومة تتهمها إسرائيل التي تمتلك واحدًا من أقوى الجيوش في العالم بالإرهاب، وقد كان لسان حال عدد من الصحف الإسرائيلية آنذاك أن ضربة 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973 يمكن ابتلاعها على أساس أنها جاءت من أقوى دولتين عربيتين آنذاك، لكن هذه الضربة جاءت من فصيل مقاوم لشعب محاصر منذ نحو سبعة عشر عامًا، ناهيك باحتلال أرضه منذ أكثر من نصف قرن. وما زاد الإحساس بالمهانة الكفاءة المذهلة التي تمت بها الضربة تخطيطًا وتنفيذًا، بما في ذلك الكفاءة الاستخبارية في مواجهة أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية التي يُفترض أنها من أكفأ الأجهزة المماثلة في العالم.
وهناك ثانيًا الفشل الإسرائيلي في تحقيق أي هدف استراتيجي عقب الضربة القوية التي وجهتها المقاومة إليها؛ فقد أعلن مسؤولوها، وعلى رأسهم رئيس الوزراء، أن انتقام إسرائيل سوف يجتث حماس، وأن حمساويًا واحدًا لن يبقى في قيد الحياة. أكتب هذه السطور في اليوم الخمسين للمعركة، وحصيلتها بكل المعايير إخفاق استراتيجي، فما زال المقاومون صامدين يوقعون خسائر موجعة في صفوف العدو رغم كل القتل والتدمير، وعجزت إسرائيل عن تحرير الرهائن بالقوة، واضطُرت قبل كتابة هذه السطور بيومين إلى الاتفاق مع حماس على تبادل جزئي للأسرى، ووقف إطلاق النار لأربعة أيام قابلة للتجديد للتمكين من تنفيذ التبادل، وثمة احتمال في تكرار هذه الخطوة لاستكمال تحرير أسراهم، ولن يحدث هذا بطبيعة الحال إلا بتحرير كل الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. وإذا حدث هذا فهو قد يغير طبيعة المواجهة أصلًا، مع أن رئيس الوزراء الإسرائيلي قد وعد باستئناف القتال فور انتهاء عملية التبادل لاستكمال تحقيق هدف اجتثاث حماس، وهو منذ بداية الأزمة يتحدث بغرور بالغ لا يتناسب مع تواضع إنجازاته بعد شهر ونصف الشهر من بداية القتال. بل لقد وعد نتنياهو منذ البداية بأن انتقامه المروع سوف يغير الشرق الأوسط. يعجب المرء لهذا الغرور الذي يتحدث به هؤلاء في حين هم عاجزون عن هزيمة فصائل مقاومة لا يمكن مقارنة قوتها بقوتهم، وهو ما يذكرنا بالمنطق نفسه الذي كانوا يتحدثون به عن اجتثاث حزب الله في عدوان عام 2006، ويرفضون وقف إطلاق النار بحجة – وفقًا لتصريحات كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك – أن أعمال العنف الإسرائيلي هي مخاض لشرق أوسط جديد. وبالفعل تبلورت ملامح شرق أوسط جديد لم يعد تجاهل حزب الله فيه ممكنًا، ومن الواضح أن أصحاب هذه العقليات الاستعمارية ما زالوا غير قادرين على فهم دروس التاريخ التي تفيد بأن التاريخ المعاصر لم يشهد اجتثاثًا لقوة مقاومة أصيلة واحدة، وأن الاجتثاث على العكس قد حدث للاستعمار، وليس درس جنوب أفريقيا ببعيد.
هناك ثالثًا الزلزال الذي أحدثه «طوفان الأقصى» في إسرائيل، لما عكسه نجاح العملية من فشل سياسي واستخباراتي كامل، وقد وضع «طوفان الأقصى» نهاية أكيدة للمستقبل السياسي سواء لنتنياهو أو لهذا النمط من الحكومات المفارقة للتاريخ. صحيح أن هذا لن يفضي بالضرورة إلى تحولات جذرية في مجتمع عنصري كإسرائيل، لكن ذلك في كل الأحوال بداية، ولنتذكر كيف بدأت العملية التاريخية لتصفية النظام العنصري في جنوب أفريقيا كي نتأكد من الحتمية التاريخية للتحرر الوطني. ويعزز من تداعيات هذا الزلزال ما انطوى عليه «طوفان الأقصى» من احتجاز لقرابة مئتين وخمسين أسيرًا ورهينة بعضهم ذوو جنسيات أجنبية، وهو ما ولّد ضغوطًا داخلية وخارجية يعتد بها لا شك أنها أدّت دورًا ضاغطًا مهمًّا في التوصل إلى اتفاق تبادل الأسرى، وسوف تستمر هذه الضغوط بالتأكيد حتى تتم عملية التبادل بالكامل، ومن المُرَجح أن يخلق هذا مناخًا جديدًا قد يمهد لسيناريو مشابه لسيناريو العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 المتمثل بالتوصل إلى وقف إطلاق نار دائم بقرار أممي متوازن، وساعتها ستكتمل الهزيمة الاستراتيجية لإسرائيل في هذه الجولة.
هناك رابعًا التحولات المذهلة التي أحدثها «طوفان الأقصى» في الرأي العام العالمي، بسبب الوحشية المفرطة التي انطوى عليها العدوان الإسرائيلي، التي عكست قصر نظر لا يمكن تخيُّله؛ فقد تصور المعتدون أنهم يمكن أن يخدعوا العالم بادعاءاتهم المضحكة بأن قادة حماس ومقاتليهم وأسراهم موجودون تحت مستشفيات غزة، ومن ثم أمعنوا في ارتكاب جرائمهم التي سُجلت بالصوت الصورة. من ناحية أخرى انتزع الصمود الأسطوري لأهل غزة تعاطف كل إنسان سوي في العالم وتقديره واحترامه، وهكذا رأينا التظاهرات الحاشدة تجتاح مدن العالم، بما فيها، أو حتى على رأسها، مدن في البلدان التي تواطأت حكوماتها مع العدوان، وانتشرت الشرائط المصورة التي تُظهر الجرائم البشعة لإسرائيل وتعاطف صانعيها مع الشعب الفلسطيني على نحو أعتقد أنه لم يكن بمقدورنا أن نُحْدثه بالوتيرة المتواضعة للجهود العربية في هذا الصدد، وقد انعكست صحوة الرأي العام العالمي بسبب الغباء الإسرائيلي على دوائر صنع القرار الغربية المنحازة وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، فحدث تغيير في الخطاب السياسي الأمريكي، وتراجع الرئيس الفرنسي عن أفكاره السخيفة في شأن تكوين تحالف دولي ضد حماس على نمط التحالف الذي قضى على «داعش». على العكس، طالبت نائبة رئيس الوزراء البلجيكية بفرض عقوبات على إسرائيل، واعترفت إسبانيا بدولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية، ناهيك بالمواقف الإيجابية للبرتغال والنرويج، والموقف الإيرلندي الرسمي الذي يتجاوز كثيرًا معظم المواقف العربية؛ كما غيَّر رئيس الوزراء الكندي موقفه المنحاز إلى إسرائيل، وتبنَّت جنوب أفريقيا كعادتها مواقف تتسق وكفاحها المرير المظفر ضد النظام العنصري الذي حكم البلاد قرونًا. الأمثلة أكثر من أن يتسع لها هذا الحيّز، وأعتقد أن هذه التحولات سوف تحدث نقلة نوعية في المواقف الدولية تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية، فما بالنا لو عززناها وقمنا بواجبنا في الملاحقة القانونية والفضح الإعلامي لجرائم إسرائيل.
وهناك خامسًا مسيرة التطبيع التي لا بد من أن تتأثر سلبًا بطوفان الأقصى، وقد نذكر ما كان سائدًا في المنطقة قبل الطوفان من استكمال لعملية التطبيع بين إسرائيل وبعض الدول العربية، وأن الخلاف كان فقط حول شروط هذا التطبيع ومواصفاته. غير أن جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني، وبالذات ضد أهلنا في غزة، سوف تجعل بالتأكيد مذاق التطبيع شديد المرارة، بحيث تتعثر خطواته المستقبلية، أو على الأقل يتم التشدد في شروطه لمن يصر على استكماله. غير أن الأهم هو موقف الشعوب العربية التي أعاد لها طوفان الأقصى الذاكرة التاريخية للعدوانية الصهيونية في أبشع صورها. وأزعم كمصري عربي أن العدوان الصهيوني الراهن قد جدد المواقف الأصيلة للشعب المصري تجاه الصراع مع إسرائيل، وهو الذي لم ينخرط أبدًا في تطبيع مع الكيان الصهيوني رغم معاهدة سلام معه كادت تكمل نصف القرن عمرًا. ولو تابع المرء كيف ينخرط بسطاء المصريين ونخبتهم في مقاطعة كل ما يمت بصلة لداعمي الكيان الصهيوني لأدرك الأثر الهائل الذي أحدثه الطوفان.
أُتابع في الوقت نفسه الظاهرة نفسها على صعيد الشعوب العربية، حتى في الدول التي طبَّعت علاقاتها مع إسرائيل، وقد يعوض هذا من القصور في المواقف العربية الرسمية التي اكتفت في معظمها كالعادة بمطالبة الآخرين ودعوتهم إلى تبني المواقف المطلوبة، وثمة فرصة ثمينة لتصحيح هذه المواقف ببذل جهود حقيقية في الملاحقة القانونية والقضائية لإسرائيل، وتكثيف فضحها إعلاميًا على الصعيد الدولي، وما أسهلها من مهمات.
إذا كان هذا هو ما تحقق من إنجازات حتى الآن لطوفان الأقصى، فماذا عن المستقبل؟
توعد رئيس الوزراء الإسرائيلي فور النجاح الباهر لعملية الطوفان بأن انتقامه سيكون مروعًا، وأن هذا الانتقام سيغيِّر الشرق الأوسط، ويجتث حماس من خريطته. ثم وقف وجيشه الذي لا يقهر، بدعم لامحدود من جانب الولايات المتحدة وتابعيها، لمدة زادت على الشهر ونصف الشهر، عاجزًا أمام فصائل المقاومة في غزة بقيادة حماس، ورضخ بالفعل، كما سبقت الإشارة، للضغوط التي توالدت عليه بفعل الخسائر التي ألحقتها المقاومة به، فضلًا عن الضغوط الداخلية نتيجة فشل خطته الغبية التي بناها على «معلومات استخبارية دقيقة» لتحرير الأسرى والرهائن، وكذلك الضغوط الدولية التي تمت الإشارة إليها سلفًا. وعليه تم التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى أملت حماس شروطها فيه، تضمن إطلاق سراح دفعة أولى من الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين من النساء والأطفال دون التاسعة عشرة مقابل إفراج إسرائيل عن ثلاثة أمثال هذا العدد من الأسيرات الفلسطينيات والأطفال من العمر نفسه، فضلًا عن وقف إطلاق النار لأربعة أيام قابلة للتجديد. وبمراجعة عدد الأسرى والمحتجزين الموجودين بحوزة فصائل المقاومة الفلسطينية يتضح أن العملية سوف تستغرق وقتًا يتوعد نتنياهو بعده أن يستأنف القتال بالوحشية نفسها عقب إتمام التبادل، وأتصور أن هذه العملية سوف تفضي إلى مناخ جديد، بالنظر إلى الإنجازات التي سبقت الإشارة إليها للمقاومة، سوف يُصَعِّب على القيادة الإسرائيلية أن تواصل جرائمها معه، وبالذات إذا نظرنا إلى التحولات المهمة في المواقف الدولية. وإذا أصرت هذه القيادة على مواصلة عملياتها سوف تواجَه مجددًا بصمود المقاومة واحتمالات اتساع نطاق الحرب ومزيد من تصاعد الضغوط الدولية، وحتى لو نجحت إسرائيل، لا قدر الله، في كسب هذه المعركة فسوف تتلوها معارك حتى النصر بإذن الله، كما يشهد تاريخ حركات التحرر الوطني بذلك، وكما تشهد كذلك الحلقات المتصلة لنضال الشعب الفلسطيني من أجل الحفاظ على حقوقه قبل النكبة واستردادها بعد ذلك عبر الكفاح المسلح والنضال المدني اللذين أبدع الشعب الفلسطيني في ابتكار آلياتهما.
أختتم بالحديث عن الأفكار المريضة المغرورة عن مستقبل غزة بعد اجتثاث حماس، فقد تصاعد الحديث منذ الأيام الأولى للعمليات العسكرية الإسرائيلية الهمجية عن هذا المستقبل، وكأن قوى العدوان قد نجحت بالفعل في اجتثاث المقاومة، واشتعل الحوار حول الإجابة عن سؤال: من يحكم غزة بعد القضاء على المقاومة، وهل يكون إسرائيل أم السلطة الفلسطينية، أم تحالف عربي دولي يضم تفضلًا عنصرًا فلسطينيًا. إن الموقف ببساطة تجاه هذه الترهات أن سيناريو انتصار العدوان ما زال بعيدًا، وأنه سواء استمر صمود المقاومة أم خسرت هذه الجولة لا قدَّر الله، فإن التصور الوحيد المقبول لن يكون لمستقبل غزة وحدها، وإنما لمستقبل فلسطين ككل في ظل دولة كاملة السيادة على إقليمها في غزة والضفة معًا وفقًا لقرارات الشرعية الدولية. وعلى من يتصور أن هذا السيناريو غير واقعي أن يستوعب دروس تاريخ حركات التحرر الوطني بعامة وحركة التحرر الفلسطيني بخاصة و«طوفان الأقصى» بصفة أخص، وإذا لم يُعجب هذا التصور سلطات الكيان الصهيوني وداعميه فليس عليهم سوى أن ينتظروا الضربة القادمة للمقاومة. غير أن هذا السيناريو يتطلب لتحقيقه الشروع فورًا في إعادة اللحمة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية كافة، ولن يغفر التاريخ لأي إنسان أو جهة تقصيرهم في هذا الصدد، فوحدة النضال الفلسطيني هي الشرط الضروري لاكتمال النصر والتعجيل به بإذن الله، وإذا كانت معجزة «طوفان الأقصى» قد حدثت في ظل الانقسام، فإن النصر أكيد وقريب مع الوحدة بإذن الله.
كتب ذات صلة:
المصادر:
نٌشرت هذه الافتتاحية في مجلة المستقبل العربي العدد 538 في كانون الأول/ديسمبر 2023.
أحمد يوسف أحمد: أستاذ العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، ورئيس اللجنة التنفيذية لمركز دراسات الوحدة العربية
أحمد يوسف أحمد
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، ورئيس اللجنة التنفيذية في مركز دراسات الوحدة العربية.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.