كانت كتابة الأيديولوجيا العربية المعاصرة حدثاً فكرياً كثيف الدلالات؛ كانت كذلك لأنها استطاعت استيعاب مختلف عناصر الفكر العربي الحديث والمعاصر وصوغها في نمذجةٍ مكنت العروي من تقديم صورة بانورامية عن مكونات ذلك الفكر وتيارات الأيديولوجية الكبرى أولاً؛ ولأنها أرستْ دعائم مشروع فكري نقدي هو، عند المهتمين بالفكر العربي المعاصر وقضاياه، من أجود ما قدَّمه أهل ذلك الفكر منذ انصرام جيل طه حسين ومن بعده جيل حسين مروّة وطيب تيزيني، من حيث مناولته الإشكالية لمختلف قضايا الفكر العربي الحديث والمعاصر، كما من حيث راديكالية مواقفه ووحدة متنه ثانياً؛ ثم لأن الأيديولوجيا العربية المعاصرة تضمنت المعالم الكبرى لموقف العروي الذي لن يحيد عنه في كل ما سيعقبها من مصنفات عقدت على طول مدة زمنية ناهزت النصف قرن، ورسمت – في تداخلها – معالم العروي التاريخاني صاحب المواقف الثابتة، الداعي إلى الحسم في ترددنا تجاه الاختيار الحداثي[1].

وعندما يميز الباحثون في تشكل متن العروي بين مرحلة النقد الأيديولوجي وما عقبها من مراحل أخرى[2]، فإنهم لا يقصدون بذلك أن منعطفاً حدث في مسار ذلك المتن، وجرفَ معه مواقف صاحبه التأسيسية، كما لا يقصدون بذلك إمكان فصل مرحلة النقد الأيديولوجي عما سيليها من تأليفٍ في الحداثة ومفاهيمها الكبرى، أو في العقيدة والسياسة، طالما أن المقدمات الكبرى الحاكمة لفكر العروي كانت متضمنة في كتابه العمدة: الأيديولوجيا العربية المعاصرة.

دافع العروي عن الاختيار الحداثي، معتقداً أن استشراء التقليد في أمشاج الثقافة العربية يبقى من أبرز ما يعيق التحديث في الوطن العربي، وطفق يتعقب جراثيم التقليد في كل مكونات تلك الثقافة؛ في حيِّزها الأيديولوجي كما في قطاعات المعرفة والذوق والتعبير، بل وفي إرثنا السياسي الذي ما انفك يجثم بظلاله على تمثلنا شرط وجودنا السياسي والاجتماعي. كانت النتيجة أن اتخذ نقده للتقليد شكل مرافعةٍ ضد ممثليه في قطاعات الوعي العربي الحديث والمعاصر. وما كان لجوء العروي إلى الشيخ، باعتباره إحدى شخصياته المفهومية الرئيسة، إلا تعبيراً عن رغبته في تفكيك النزعة التقليدية في مختلف تعبيراتها وتمظهراتها، ولا سيَّما في ظل ربطها بدعوة الأصالة التي تصدى لها بالدراسة والنقد والتفكيك. غير أن الشيخ لم يكن الخصم الوحيد للاختيار التاريخاني في نص الأيديولوجيا العربية المعاصرة، بل نافسَه على احتكار الجواب عن سؤال التأخر التاريخي كلٌ من رجل السياسة وداعية التقنية، كما أن ماركسية النخب العربية لم تدرك المستوى الكافي من النضج الذي يلزمها لاستيعاب مكتسبات الحداثة الغربية في نظر العروي، لذلك كان لا بد من إعادة ترتيب أوضاع الأيديولوجيا العربية المعاصرة من خلال تناول مكوناتها بالنقد المرتكز على التحليل التاريخي والتأصيل المفاهيمي للحداثة. هكذا أمكننا القول إن النصوص النقدية الأولى للعروي كانت محاولة لخوض سجال مع مختلف ممثلي الأيديولوجيا العربية المعاصرة، الغاية منه البرهنة على صحة اختياره التاريخاني باعتباره المدخل الأنسب إلى التحديث وإرساء دعائم الحداثة في الوطن العربي، وهو الاختيار الذي سيسخر العروي كامل متنه للدفاع عنه. في هذا السياق، تحديداً، كتب العروي ما كتبه عن الحداثة الغربية ومفاهيمها الكبرى، وسرعان ما فطن إلى ما تنضح به تلك المفاهيم من غموضٍ ومفارقات كان منبعها الرئيس قلقٌ في التلقي العربي لمنظومة الفكر الحديث، وقد حمله ذلك على إفراد كتبٍ خمسةٍ للوقوف عليها، فكان من الطبيعي أن تأتي سلسلة المفاهيم في صورة تقعيد نظري للموقف الأيديولوجي الذي قدمه العروي في كتاباته النقدية الأولى، وأن تضطلع بمهمة الفحص النقدي لمفاهيم الحداثة الغربية، بما يستلزمه ذلك من خلخلة للتصورات التراثية لتلك المفاهيم أيضاً.

رأى البعض في كتب المفاهيم مصنفات تعليمية لا تحمل الهم النقدي نفسه الذي نضحت به الكتب النقدية الأولى، بحكم طابعها البيداغوجي الذي جعلها تتقدم إلى مشهد الثقافة العربية في صورة قول أكاديميٍ في مفاهيم الحداثة الغربية، غير أن وصل تلك المصنفات بأصولها ومقدماتها النظرية التي أرسى العروي على مقتضاها مشروعه الفكري، أي النظر إليها من حيث هي استمرارية لذلك المشروع ولنَفَسه النقدي، من شأنه أن يكشف لنا عن أهمية سلسلة المفاهيم؛ فهي لم تكن، على حد تعبيره، انتقالاً من التاريخانية إلى الحداثة، إذ التاريخانية هي منهج الحداثة نفسها[3]، وهي «أدلوجة البلدان المتأخرة»[4] في نظره، وطالما أن الدفاع عن الحداثة لا يمكنه أن يستقيم إلا على مقتضى استيعاب منطقها الذي تجسده مفاهيمها الكبرى.

لفكر عبد الله العروي مقدمات كبرى لم يحد عنها طيلة العقود التي أمضاها في التأليف الفكري والكتابة التاريخية والأدبية، وقد ارتأيتُ في هذا المقال بسطَ القول في بعضٍ منها بدا لي ضرورياً لفهم متنه عامة، وكتبِ سلسلة المفاهيم على وجه التحديد. ظل هذا المفكر متمسكاً بالطابع النسقي لإنتاجه النظري، وهو ما اقتضى منه إثبات وحدة متنه التي هي عينها وحدة مشروعه التحديثي، وما هذا المقال إلا محاولة لبيان المقدمات الضامنة لفهم مشروع العروي في تناسقه كما في وحدته التي أرادها له صاحبه.

 – 1 –

كان على عبد الله العروي أن يعرِّج على تأليف سلسلة المفاهيم بعد فترةٍ أمضاها في النقد الأيديولوجي مكَّنته من التقعيد لمشروعه الفكري القائم على الدعوة إلى استيعاب درس الحداثة والوعي بتاريخية العقل والوجود معاً. أتت العقيدة التاريخانية تُعبر عن هذا المنحى الأيديولوجي الذي وسم مشروعه الفكري منذ عقده كتابَ الأيديولوجيا العربية المعاصرة، وما اقتضاه ذلك من توسيع دائرة النقد الأيديولوجي ليشمل كثيراً من مناحي الفكر والعمل العربيين على نحو ما يستشف من كتابيه أزمة المثقفين العرب والعرب والفكر التاريخي.

والعروي نفسه لا يضمر صلة الوصل المتينة التي تربط كتب المفاهيم بمشروعه الفكري. وعبثاً حاول بعض النقاد إثبات غربتها عن ذلك المشروع[5]، ما دام التفكير في الحداثة، التي تبوَّأت في فكره مقام الأساس والمركز[6]، لا يستقيم دونما وعي بمفاهيمها الكبرى التي أُفردت لها سلسلة المفاهيم برمتها. نقرأ للعروي في هذا المعرض قوله؛ «إننا لا نبحث في مفاهيم مجردة لا يحدها زمان ولا مكان، بل نبحث في مفاهيم تستعملها جماعة قومية معاصرة هي الجماعة العربية. إننا نحلل تلك المفاهيم ونناقشها لا لنتوصل إلى صفاء الذهن ودقة التعبير وحسب، بل لأننا نعتقد أن نجاعة العمل العربي مشروط بتلك الدقة وذلك الصفاء»[7].

كما نقرأ له في مقام آخر قوله؛ «إن وضوح المفاهيم المستعملة لا يوصل بالضرورة إلى إدراك الواقع، لكن على الأقل تخلص الباحث من التساؤلات الزائفة. وما أكثر التساؤلات الزائفة في ميدان نقد الذهنيات»[8]. ليس تدقيق النظر في مفاهيم الحداثة غاية في حد ذاته، بل إن المطلوب من الفكر العربي الذهاب في عملية التدقيق تلك إلى أبعد حدودها، حتى تغدو آلية إفادة ومكمن استفادةٍ بالنسبة إلى العمل العربي اليوم. ومتى تذكرنا أهمية ترشيد العمل السياسي عند العروي[9]، بما اقتضاه ذلك من احتفال بدور المثقف العربي وتوصيف لبعض ملامح أزمته[10]، فهمنا حساسية الدور الذي أناطه هذا المفكر بسلسلة المفاهيم؛ إذ عليها عوّل لترسيخ مبادئ الحداثة وترشيد تلقي مفهومها في أوساط الوعي العربي المعاصر، ومن فصولها ساق أكثر من دليل برهن به على صحة دعوته إلى القطع مع التراث والخروج من انغلاقه ومحدوديته النظرية. لذلك سيكون من باب مجانبة الصواب القول، مع بعض الباحثين، إن كتب المفاهيم لم تكن بذلك القدر من الانسجام الذي يجعلها تندرج، منذ بداية تأليفها، ضمن المشروع النقدي للعروي، أو اختزال الجهد النظري الذي تضمنته في بعدها البيداغوجي؛ فهي جزء لا ينفصل عن المشروع النقدي الذي أرسى عبد الله العروي دعائمه الكبرى، تهتجس بهواجسه وأسئلته، وتنتهل من رؤيته في تصديها للقضايا التي تفكر فيها.

ليس مصادفةً، والحال هاته، أن تحمل كتب المفاهيم بين تضاعيفها كثيراً من معالم العقيدة التاريخانية، بل وأن يعتبرها بعض الباحثين حلقةً رئيسة من حلقات المرافعة التي خاضها هذا المثقف دفاعاً عن اختياره الأيديولوجي الرامي إلى استيعاب درس الحداثة الغربية، وإلى الخروج من الأفق الضيِّق للمرجعيات التراثية[11]. لذلك طغى عليها حسّ المقارنة التي ما انفك العروي يعقدها بين التصورين التراثي والحديث للمفهوم. ولعل ما حمله على ذلك رغبتُه في إظهار المسافة التاريخية التي باتت تفصل الأفق التراثي لهذا المفهوم، أو ذاك، عن أفقه الحديث كما رُسمت معالمُه في الحداثة الغربية بما هي «متاحٌ للبشرية جمعاء»[12].

بذلك يكون الوعي بتلك المسافة التاريخية، أي بالقطيعة التي أحدثها التاريخ بين «مفهومنا ومفهومهم» وبين «كلمتنا وكلمتهم»، مُحدداً رئيسياً لفهم موقف هذا المثقف من المفاهيم التي يدرسها، ومن المنهجية التي أعملها في تحليلها؛ فهو بمقدار ما يعمد إلى إظهار محدودية التصور التقليدي قياساً بالتصور الحديث للمفهوم، الذي لم ينِ يصفه بالمفهوم المكتمل[13]، فإنه يدرك مقدار العوز الذي يعانيه الوعي العربي على مستوى استيعابه للمفهوم الحديث، خاصةً في ظل تضخم حضور المنظومات التراثية في مساحات هذا الوعي، وصيرورتِها مرجعياتٍ حاكمة لتلقي الحداثة ومفاهيمها المحورية الكبرى.

واضحٌ، إذاً، أن الأمر لا يتعلقُ بمجرد تأليفٍ في مفاهيم مجردةٍ أسهب الفلاسفة في بيانها كما قد يظن البعض، بل إن ما يعني العروي من طَرْق باب تلك المفاهيم موقعُها ضمن مشروعه التحديثي الذي لم يكن مجرد قولٍ في الأسس النظرية للحداثة، بل تغيا التفكير في معيقات استيعابها وإمكانات استنباتها في الواقع العربي، فكان من الطبيعي أن يتجاوز قولُه في الحداثة ومفاهيمها عقلَ الاسم إلى عقلِ الفعل؛ أي أن يتجاوز مستوى التأصيل النظري للمفهوم، على ما هو عليه من أهميةٍ، إلى مستوى تحليل تجليات المفهوم في الواقع والمفارقات التي يطرحها على مستوى تلقيه وتمثله، بل وتجسيده في الحياة الاجتماعية المعيشة[14].

نقرأ له في معرض حديثه عن مفهوم العقل ما يأتي: «لا أُحلل مفهومَي العقل والعلم إلا في هذا الإطار الذي هو إطار ممارستنا الثقافية اليومية، في محاولة فهم الهوّة الساحقة التي نلاحظها بين ما نراه، حقاً أو باطلاً، من عقلٍ في عقيدتنا، وما نراه، حقاً أو باطلاً، من لا عقلٍ في سلوكنا، الخاص منه والعام»[15].

لا يُخفي العروي أن حسه الواقعي هذا إنما هو سليل نزعته التاريخانية التي اقتضت منه الانتباه إلى الواقع ومتغيراته بدلاً من الإغراق في التأمل والتجريد الذي عابه على الفلاسفة[16]، لذلك لزم أن نفهم مقاربته لمفاهيم الحداثة في سياق هوَسه بهاجس الإصلاح والخروج من وضعية التأخر التاريخي على حد تعبيره. يقول في سياق حديثه عن هذه المسألة؛ «إنني لا أهتم إلا بما يفعله الناس، لا بما ينوون فعله؛ أتكلم دائماً عن منطق الفعل الذي أقابل به، دوماً، منطق القول أو الاسم. وهذه نقطة غالباً ما يُهملها الذين ينتقدونني»[17].

بذلك تتمايز مقاربة العروي للحداثة ومفاهيمها عن المقاربة الفلسفية التي استطاعت احتكار حيزٍ كبيرٍ من القول العربي فيها. فهو لم يكتف بوصف الفيلسوف «بالباحث الذي يتعامى عن محيطه التاريخي والاجتماعي ليتحد ذهنياً مع المادة التي يدرسها»[18]، بل وجدناه يقر بأن «البحث الفلسفي في الحرية تافه جداً لأنه لا يبرهن، ولا يمكن أن يبرهن بحال، على الحرية الواقعية». بل إن العروي ما تردد في القول إن «القارئ العربي يُحس في الظروف القاسية الراهنة أن التحليلات الفلسفية لا تساوي شيئاً»[19].

ما يهم العروي من الحداثة هو أنها «واقع معيش، لا مقولة قابلة للتحبيذ أو التفنيد»[20]، لذلك قد لا يفيده كثيراً الاكتفاء بالتحليل الفلسفي لمفاهيم كالحرية والدولة والتاريخ والعقل، رغم صلة الرجل المتينة بالتقليد الفلسفي وانتهاله منه كثيراً من عدته المفاهيمية والمنهجية[21]، بقدر ما يعنيه التفكير في المعيقات التي تحول دون بلوغ المفهوم اكتماله وصيرورته واقعاً متحققاً. ليس من شكٍ في أن هذا الموقف من القول الفلسفي أملاه موقع المؤرخ الذي فضل العروي أن يُطل منه على قضايا الراهن العربي، أي موقع «الباحث الذي عُدَّته الأساس من الواقعات لا من الأفكار. وهذا موقعٌ معرفي يُعْرض صاحبه، على الأغلب، عن التفكير في الماهيات تفكيراً نظرياً؛ فلسفياً أو تأملياً، لينصرف إلى التفكير في الظواهر المادية والعلاقات بما هي وحدها الموضوعات التي يمكن إنتاج معرفة بها»[22].

علاوةً على ذلك، يمكن القول إن دور العقيدة التاريخانية في توجيه موقف العروي من البحث الفلسفي لم ينحصر، فقط، في تمسكه بموقع المؤرخ في فهم وضعية التأخر التاريخي، بل كانتْ له ترجمته المنهجية كذلك؛ لقد أدرك الرجل أن منطق السياسة لا يمكن أن يُفهم باعتماد مناهج التحليل الفلسفي (كالمنهج التأويلي)، ولم يتردد في القول إنه يشعر «بكل قوة أن أي محاولة لتوحيد المناهج تعسفيةٌ وغير ناجعةٍ (…) [وأن] لكل مجالٍ معرفيٍ منهاج يوافقه. التاريخانية تناسبُ مجال السياسة. التأويلية تناسبُ مجال الحكمة»[23].

من هنا أمكن القول إن الوعي بطبيعة المجال الذي يتحرك فيه العروي، أي مجال السياسة والتاريخ، هو الذي يفسر موقفه من المنظور الفلسفي وإعراضه عن الاكتفاء به في جبه معضلات وضعيته التاريخية التي لم يتردد في وصفها بوضعية التأخر التاريخي، وعندما يعتبر الفيلسوفَ «متطفلاً بطبعه»[24]، فهو لا يعمم حكمه هذا على الفلاسفة كافة، بقدر ما يقصد بهم الفيلسوف المنفصل عن واقعه[25]، القريب من المنظور الثيولوجي على نحو ما شرحه في كتابه السنّة والإصلاح[26].

تمتح التاريخانية مشروعيتها من الاهتجاس بوضعية التأخر التاريخي، بل وتقدم نفسها، مع العروي، في صورة منهجٍ للتحليل يُمكننا من فهم «حقيقة التاريخ»[27]، وهي من هذه الجهة «منهج الحداثة» نفسه[28]. ولعل هشام جعيط لم يجانب الصواب بالقول إن «الحقيقة الأصلية للتاريخانية، باعتبارها التزاماً تجاه ما هو واقعي، إنما تنبع من صيرورتها «المنطقَ الضمنيَ للفعل السياسي»، إنها أنسب ضروب البراكسيس بالنسبة إلى كل المجتمعات التي تعيش وضعية التأخر، وليس فقط بالنسبة إلى المجتمع العربي»[29].

يمكن أن نستنتج من هذا القول إن التاريخانية عند العروي ليست مجرد موقف أيديولوجي يصدر عنه في مرافعته ضد ممثلي الأيديولوجيا العربية الحديثة والمعاصرة، بل هي، بالأحرى، منهجٌ لفهم الواقع السياسي وتحليل التراث الذي تتحدر منه التجربة العربية الإسلامية، الأمر الذي يجعل كل حديث عن القطيعة مع التراث، عن طي صفحته والخروج من هيمنته، أمراً يقتضيه منطق التاريخ والسياسة؛ أي منطق التاريخانية في نهاية المطاف. لذلك حق لنا أن نتساءل عن الكيفية التي تجلى بها الموقف التاريخاني في دراسة العروي للمفاهيم المحورية للحداثة، متسائلين؛ إلى أي حدٍ استطاعتْ كتبُ المفاهيم أن تترجمَ هوس صاحبها بوضعية التأخر التاريخي وهاجس الإصلاح عنده؟

 – 2 –

يقول العروي؛ «إن المفاهيم التي شرحتُها، وتلك التي كان يمكن أن أتمم بها السلسلة، لا تُطابق المجتمعات العربية مطابقةً تامةً (…) ماذا تعني اللامطابقة؟ تعني أننا لو انطلقنا من المجتمعات العربية وحدها، من إنجازاتها الماضية والحاضرة، لاستحال أن نصل بمحض الاستنباط إلى اكتمال المفهوم»[30]. يهمنا هذا القول من حيث إشارتُه إلى الوضعية التاريخية التي على ضوئها كتب العروي ما كتبه عن الحداثة ومفاهيمها، وهي الوضعية التي تجعل الحديث عن اللامطابقة أمراً ممكناً. يتحدث الرجل عن «التأخر التاريخي» الذي يشرط الوعي العربي منذ صدمة اكتشافه للغرب[31]، ويرفعُه إلى مستوى المقدمة الرئيسية التي يُقيم عليها كل استنتاجاته في كتاب الأيديولوجيا العربية المعاصرة[32] كما في أزمة المثقفين العرب، وهو بذلك لا يشكل استثناءً قياساً بأضرابه من المثقفين العرب الذين جبهوا وضعية التأخر التاريخي[33]، وأسهموا في صوغ مشاريع فكرية ترمي إلى الخروج من مأزقها. تعبر اللامطابقة عن مفارقة المفهوم، في صيغته الحديثة المكتملة، لوضعٍ قائمٍ يحاول الوعي العربي عقله من جهة، وللمنظومة التراثية التي يرتكز عليها ذلك الوعي كلما رام استيعاب المفهوم الحديث من جهة أخرى. ليس المفهوم، عند العروي، فكرةً مفارقة للواقع والتاريخ، بل هو محايثٌ لهما بالضرورة، لذلك أمكن الحديث عن مفهومٍ مكتمل وآخر غير مكتمل؛ إذ الاكتمال يحددُه التاريخُ وتقدمه؛ حينها يكون المفهوم المنتسب إلى التراث غير مكتملٍ بمقتضى التاريخ ومنطق تقدمه، ما دام المفهوم الحديث سليلَ التقدم الذي أنجزه العقلُ في التاريخ، وطالما أن المسافة التاريخية التي تفصل بين المفهومين، التراثي والحديث، هي المحدد الرئيسي لفكرة اللامطابقة نفسها.

نقرأ للعروي في هذا المعرض قوله: «يستحيل أن نجد الآن عند الغزالي مفهوم الأدلوجة مكتملاً (…) ولا عند ابن عربي مفهوم الحرية مكتملاً، ولا عند الشاطبي مفهوم الدولة مكتملاً، ولا عند ابن خلدون مفهوم التاريخ مكتملاً، ولا عند ابن رشد مفهوم العقل مكتملاً»[34].

من النافل القولُ، إذاً، إن الحديث عن عدم اكتمال المفهوم في التقليد الإسلامي ليس يصدُر عن أي موقفٍ معياري أو عدمي من هذا التراث[35]، بقدر ما ينم عن وعيٍ بمحدوديته النظرية التي لا يُدركها إلا الذي يَزجُ بالتراث ومفاهيمه في مضمار التاريخ ومساره الكوني. حينها، وحينها فقط، سنُدرك أنه «إذا بقينا في حدود ثقافتنا نستطيع أن نقول الكثير سوى ما يهم البشرية اليوم»[36]. هكذا يكون الموقف من التراث نتيجةً، منطقية وطبيعية، لهيمنة مسألة التأخر التاريخي على فكر العروي، وسيكون من الخطأ محاسبته دونما استحضارٍ لهاجس الإصلاح والتأخر التاريخي عنده، وفي غفلةٍ عن تصوره للتاريخ كتقدمٍ محكومٍ بنفسه الكوني.

 – 3 –

يقتضي التسليم بكونية التاريخ، بالتبعة، التسليم بإمكان الاستفادة من مكتسباته باعتبارها تجسيداً للمتاح للبشرية جمعاء، كما بإمكان الحُكم على الماضي انطلاقاً من الحاضر[37]. في هذا السياق، تحديداً، يمكن أن نفهم موقف العروي من التراث العربي الإسلامي ودعوته المستميتة إلى الوعي بالمسافة التاريخية التي باتت تفصلنا عنه. حديث العروي عن القطيعة مع التراث ليس دعوةً إلى إحداث قطيعة تغيرُ مجرى التاريخ ومسار أحداثه، بقدر ما هو دعوةٌ إلى الوعي بالقطيعة التي أحدثها التاريخ نفسه مع ذلك التراث بأن تجاوز حدود أفقه النظري. بذلك ترتفع مشكلة القطيعة إلى مستوى الذهن، فتلقي بظلالها على المنهج المتبع في التعامل مع التراث ومضمونه، إذ «المشكل الذي نواجهه هنا – يقول العروي – هو هل يضع الدارس نفسه قبل أو بعد هذه القطيعة مع التراث، وهي قطيعة قد حصلت وتكرست. هل يشعر بها، يعترف بها، أم لا؟»[38].

لا ريب في أن التصور التقدمي للتاريخ هو الذي يسوغ القول بمثل هذه النتيجة، والعروي نفسه لا يخفي ذلك عندما يقر بأن «هذا ما يعلمنا التاريخ إياه، وزمنية التاريخ غير زمنية الفرد. يظن المرءُ أنه تجاوز إشكالية معينة، في حين أن مجتمعه ما زال متعثراً متردداً في تناقضاتها»[39]. ما الذي تعنيه القطيعة في مثل هذا الوضع غير التنبيه إلى الانفصام الحاصل بين الوعي والوضع التاريخي! لذلك قلتُ إن القطيعة، عند التاريخاني العربي، مشكلةُ وعيٍ وذهنية أكثر مما هي دعوة إلى قلب مسار التاريخ والحدث. وما يلفت الانتباه الدور الذي يضطلع به الوعي بالقطيعة في تمثل الإصلاح والشعور بالحاجة إليه؛ فبعد أن سجل العروي أن مفارقة محمد عبده، التي هي عينها مفارقة الذهنية الكلامية الحاكمة للعقل التراثي العربي الإسلامي، كانت نتيجة وعيه بالتخارج الحاصل بين عدته الذهنية وواقعه الاجتماعي[40]، وأن من لا يشعر بالحاجة إلى الإصلاح، كابن خلدون، هو من لا يُدرك المفارقة تلك ولا يعي تمفصلاتها، لم يتردد في القول إن المفارقة لا تصح إلا على مستوى الذهن والفكر[41]، وهي نتيجةٌ مباشرة للوعي بالقطيعة التي تفصل عقل الاسم عن عقل الفعل، أي عقل المطلق عن عقل الواقع والنسبي.

ما الذي يعنيه الحسم في هذه الحالة؟ يعني الانتقال من الأول إلى الثاني، والوعي بالمسافة الفاصلة بينهما، وهذا قول العروي؛ إن «الحسم الذي نتكلم عليه قد وقع بالفعل في جميع الثقافات المعروفة لدينا، ابتداءً من القرن 16م إلى يومنا هذا. لم تقبله جماعات محدودة هنا وهناك، لكنها بقيت معارِضة ومحاصرةً ولم تؤثر أبداً في اتخاذ القرارات، لم تثن المسؤولين عن السير في طريق «ما ليس منه بد» حسب عبارة أمبراطور اليابان بعد هزيمة 1945. أما التردد وعدم الحسم بدعوى التوسط فلم نلاحظه على هذا النطاق الواسع إلا في ثقافتنا»[42]. واضحٌ أن الذهنية التقليدية تنهل بعضاً من أسباب وجودها من عدم الإقدام على الحسم والاعتراف بالقطيعة، غير أن ذلك لا يعني أن هذا المفكر يُشرع لنفسه الإعراض عن الاهتمام بالتراث الذي ما زالت تلك الذهنية تعيش فيه دون أن تعي بالمفارقة.

ويبدو أن استحضار هذه المسألة من شأنه أن يساعدنا في فهم هذه الازدواجية التي يتسم بها موقف صاحب مفهوم العقل من التراث؛ إذ هو لا ينقطع عن الاهتمام به كمادة للدراسة والتحليل، في الآن ذاته الذي لا ينفك فيه يشدد على ضرورة القطع مع مضمونه الفكري والخروج من هيمنته. وبين هذا وذاك يثوي تمييزٌ ضمنيٌ بين التراث كمضمونٍ (مادة الدراسة)، والتراث كأفقٍ فكري نظري، بل ويقفُ وراء هذه الازدواجية التي عابها النقاد على هذا المفكر في تعامله مع التراث العربي الإسلامي، خاصة وأنه يعترف بأن القطيعة مع التراث «أي التحرر من هيمنته، لا تتم إلا بدراسته دراسةً تاريخية نقدية»[43].

لم ينقطع العروي عن الاهتمام بالتراث والتفكير في أسئلته، صادراً في ذلك عن اعتقاده بأن الدراسة التاريخية هي الكفيلة بجعلنا نقف على محدودية التراث والخروج من هيمنته، وهو في ذلك لا يختلف، من حيث المبدأ، عن أترابه من المفكرين العرب الذين تصدوا لدراسة التراث؛ إذ رغم موقفه الداعي إلى الانفصال عن هذا الأخير، فإنه يبقى صاحب سهمٍ كبيرٍ في إثراء الدراسات التراثية ولفتِ انتباه الباحثين إلى كثيرٍ من القضايا والإشكالات المُضمرة في التراث العربي الإسلامي[44].

من المؤكد أن اهتمام العروي بالتراث وأسئلته لم يتبدَّ، على نحوٍ واضحٍ، إلا بعد انتقاله من النقد الأيديولوجي إلى التأصيل المفاهيمي للحداثة، وليس في ذلك ما يثير الاستغراب، إذ التحليل التاريخاني يصدر عن مسلَّمة اللامطابقة التي تقتضي الكشف عن محدودية التصور التراثي للمفهوم في مقابل اكتماله في منظومة الحداثة. في مجال النقد الأيديولوجي يمكن للمرء أن يكتفي بالدعوة إلى القطع مع التراث ووصفه بأنه كل شيء ميتٌ ومميت فينا، وبأنه ليس إلا سراباً، وأن «سبب التخلف الفكري عندنا هو غرورنا بذلك السراب[45]، ولا سيَّما وأن الأمر يتعلقُ بدعوة إلى الوعي بوضعية التأخر التاريخي، وبأن «عبارات الرفض تجاه الثقافة الغربية لا يمكن أن تشكل بحد ذاتها ثقافة، والشطحات السلبية لا تعيدها إلى الحياة»[46]، لذلك ما كان العروي بحاجة إلى الوقوف، بالدراسة والتحليل، على التراث ومتونه الفكرية، ولا هو اتخذ منها موضوعاً لدراساته النقدية الأولى.

أما في مقام التأصيل النظري للحداثة ومفاهيمها فالأمر مختلفٌ هذه المرة؛ لم يعد التراث يتقدم في صورة سرابٍ يكبلُ وعينا ويعيق استيعابنا للحداثة ودرسها، بل أصبح مرجعيةً حاكمةً في تحديد تمثل الوعي العربي المعاصر لمفاهيم الحداثة، وهو ما يُفسر شَغلهُ مساحاتٍ كبيرةٍ من كتب المفاهيم. بمقدار ما أراد العروي لهذه الكتب أن تكون قولاً في تأصيل الوعي بالحداثة، فقد كانت، بجهة من الجهات، قولاً في التراث العربي الإسلامي، لذلك قد يكون من الأفيَد أن نقرأ النصوص تلك بعيداً من الأحكام المسبقة التي جعلت من العروي صاحب موقفٍ عدميٍ من التراث، طالما أن القطيعة ما كانت تعني عنده التنكر للتراث ولا الجحود بقيمته التاريخية التي تجعله قميناً بأن يكون موضوع تحليل ودراسة.

 – 4 –

حاول العروي، في أكثر من مناسبةٍ، إثباتَ وحدةٍ جامعة لمختلف قطاعات إنتاجه الفكري، من تأليفٍ تاريخيٍ، وتنظيرٍ فلسفي، ونقدٍ أيديولوجي، وتعبيرٍ أدبي[47]. وهو إذ يقدم على مثل هذه الخطوة فغايته رفعُ كثير من اللبس الذي طال فهم النقاد للعلاقة بين مؤلفاته الناظمة لمشروعه الفكري. أنكر بعض هؤلاء أن تكون تلك المؤلفات خاضعة لوحدة نظرية تجعل منها عناصر لمشروعٍ فكري متناغمٍ، دليلهم على ذلك تطور تأليف مصنفات العروي وتعدد المجالات التي تحرك فيها. وإذا كان مثل هذا الاعتراض لا يجد في كتب النقد الأيديولوجي ما يُعضده، بحكم وحدة الموقف والمنهج الناظمين لها من جهة، والتقارب الزمني في عقدها من جهة أخرى، فإنه لا يجد ضيراً في اعتبار سياق تأليف كتب المفاهيم وطابعها البيداغوجي علامةً فارقةً على بعدها، إن لم نقل غربتها، عن المشروع النقدي للعروي. بيد أن موقف هذا الأخير من وحدة مؤلفاته ومشروعه يكاد لا يترك مجالاً للتخمين في هذه المسألة؛ إذ يرى أن مجموع إنتاجه النظري يخضع لوحدةٍ يُمكن تقسيمها إلى محاور أربعة رئيسية: الأيديولوجيا، البحث التاريخي، التأصيل، التعبير[48]. لذلك لزم على الباحث في فكره أن يعي مظاهر الصلة المتينة التي تجمع كتب المفاهيم بالمقدمات النظرية التي أقام عليها الرجل مشروعه الفكري، على مستوى الموقف الأيديولوجي كما على مستوى المنهج المعتمد في بلورته[49]. فهي تشغلُ مكانة التأصيل النظري والمفاهيمي للحداثة، وغرضُها الرئيسُ التنبيه على مفارقات الواقع والوعي بالحاجة إلى الثقافة الغربية الحديثة، بما يستلزمه ذلك من استيعاب لمفاهيمها الرئيسية[50].

لم يكن إنجاز الكتب المفهومية الخمسة إيذاناً بالانتقال من التاريخانية إلى الحداثة في نظر عبد الله العروي[51]، فهي لم تكن دفاعاً عن الحداثة على حساب الموقف التاريخاني، بقدر ما كانت تكريساً له ومحاولة للبرهنة على سداده من خارج دائرة النقد الأيديولوجي للفكر العربي المعاصر. من هنا ينبغي الإقرار بأن كثيراً من ملامح ذلك النقد يجد لنفسه استمراريةً في كتب المفاهيم؛ الحاجة إلى النقد الأيديولوجي في جبه الأيديولوجيا؛ الدعوة إلى توحيد مجال الفرد والأخلاق والحرية بمجال الدولة والسلطة؛ الحاجة إلى وعي إيجابي بالدولة في الوطن العربي؛ التشديد على الوعي التاريخي بما يقتضيه ذلك من إعادة تحليل لمفهوم التاريخ وبيان فائدته في النهوض بالعمل العربي؛ ثم بيان مظاهر الخلل التي تعتور العقل العربي الإسلامي في مستواه النظري (عقل الاسم) كما في مستواه العملي (عقل الفعل).

لا يملك الباحث أن ينكر أن هذه الهواجس لم تكن بالأمر الطارئ على فكر العروي ولئن هو أفرد لها كتب المفاهيم؛ فهوَسه بالعقل والعقلانية، بالثورة الثقافية، بضرورة إعادة النظر في مفهومنا عن الدولة والسلطة، كما في الحاجة إلى الإصلاح السياسي والاختيار العلماني… إلخ، أقول إن هذه كلها كانت قضايا ومواقف عجبتْ بها كتُبه النقدية الأولى، بل وإن الباحثَ يعثر على تقاسيمها في بعض التأليف الأدبي والتاريخي للعروي أيضاً.

من الصعب، بناءً على ما تقدم، الحكمُ على كتب المفاهيم ببعدها عن المشروع النقدي للعروي لمجرد الأسلوب البيداغوجي الذي اعتُمد في تأليفها، بل إننا نرى أن كل محاولةٍ لفهم أغراض ذلك المشروع، ومظاهر الجِدّة التي حملها بين تضاعيفها، ستكون غير ذات قيمة إن هي ذهلت عما تتضمنه كتب المفاهيم من قيمة نظرية يجسدها نَفَسُها النقدي والتأصيلي. صحيح أن مفاهيم كثيرة ظلت معلقة ولم يفرد لها العروي كتباً على نحو ما فعله مع مفاهيم الأيديولوجيا، والدولة، والحرية، والتاريخ والعقل؛ وصحيح، أيضاً، أن طغيان المنظور التاريخي، مُمثلاً بالاحتكام إلى التاريخ في مساءلة المنظومات النظرية والأيديولوجية، ما كان له إلا أن يحجب مقامات أخرى في النظر كان من شأن الانفتاح عليها أن يخرج مقاربة المفاهيم من بعدها التقدمي الخطي، غير أن ذلك كله لا يطعن في قيمة كتب المفاهيم ولا في صلتها المتينة بالمشروع الفكري للعروي، بقدر ما يطرح أمام الباحثين مهمة الإفادة من تلك الكتب وتوسيع دائرتها النقدية. يتعلق الأمر، إذاً، بوحدةٍ على مستوى الإشكالية والموقف والمنهج في الآن ذاته، لذلك كان من الطبيعي أن يتقاطع في كُتب المفاهيم هاجسُ الإصلاح والتنوير بهاجس التأصيل المفاهيمي والإبستيمولوجي للفكر الحديث.

 

قد يهمكم أيضاً  في نقد الأيديولوجيا: حوار فكري مع عبد الله العروي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #عبد_الله_العروي #الثقافة_العربية #الأيديولوجيا_العربية_المعاصرة #النقد_الأيديولوجي #الفكر_العربي_الحديث #الفكر_التاريخي #الحداثة_الغربية #المثقفين_العرب #دراسات