أن تُجرِيَ حواراً فكرياً مع عبد الله العروي، اليوم، فأنت تصنع حدثاً ثقافياً بامتياز؛ وهو حدث ثقافي، لأن الرجل قامةٌ كبيرة في الفكر العربي خاصة، وفي الفكر الإنساني عامة، ولأن الحوار معه يُنضِج، أكثر، أسئلةً تطرحها كتاباتُه على قرّائها، وتفتح أمامهم بواباتٍ جديدةً لفهم ما استغلق فهمُهُ عليهم. وهذا، بالضبط، ما تميّز به هذا الحوار مع عميد الفكر العربي المعاصر.

شاء العروي أن يُفصح فيه عمّا لم يكن في الوسع إدراكُه، لدى السواد الأعظم من قرّائه، في ما خصَّ استراتيجيته الفكرية والمعرفية التي يخوض فيها منذ قريبٍ من خمسة وخمسين عاماً. وإلى ذلك، فإن هذا الحوار يُطِلُّ على مجمل الإنتاج الفكري للعروي، وهو مّا نَدَرَ حصوله في سوابق الحوارات الفكرية التي أُجريت معه.

وقد شاءت مجلة المستقبل العربي أن تنشر هذا الحوار الفكري مع عبد الله العروي حول نقد الأيديولوجيا كي يكون مدخلاً إلى التعريف بمعظم أعماله.

***

قبل الإجابة عن الأسئلة، استهلّ العروي اللقاء بتوطئةٍ أرادها بياناً لإنتاجه الفكري خلال مساره العلمي، منذ مستهل الستينيات من القرن العشرين حتى اليوم، ولما بين كتبه من صلاتِ تَرابُط. ولقد كانت هذه التوطئة التي تفضَّل بها عميد الفكر العربي مشكوراً، إضاءةً في غاية الأهمية لعالمه الفكري، وللوشائج القائمة بين نصوصه، كما سيلاحظ القراء ذلك.

توطئة

العروي: قبل أن أجيب عن الأسئلة المفصّلة، أريد أن أقول كلمة حول مجموع إنتاجي الفكري، مشدّداً على أنه يمثل وحدة تتجاوب وتتكامل أجزاؤها.

دليل هذه الوحدة هو الآتي: أول عمل نشر لي هو الحوار التلفزيوني المعنون بـ «رجل الذكرى»، الذي كتب في سنة 1961، والذي سيعاد نشره هذه السنّة. يتناول هذا الحوار موضوع الذاكرة. وقد تناولت الموضوع نفسه بعد عقود في قصة الآفة، وفي كتاب السنّة والإصلاح.

ينقسم كتاب الأيديولوجيا العربية المعاصرة إلى أربعة فصول:

ـ العرب والأصالة.

ـ العرب والاستمرار التاريخي.

ـ العرب والعقل الكوني.

ـ العرب والتعبير عن الذات.

ويمكن تجزئة أعمالي إلى أربعة محاور، وكل محور مرتبط بأحد هذه الفصول: الأيديولوجيا، والبحث التاريخي، والتأصيل، والتعبير.

المحور الأول: وصفٌ وترتيب لمقالات العرب عن أنفسهم في العصر الحديث. لم أدرس الفكر العربي أو الفلسفة العربية أو الثقافة العربية، بل الأيديولوجيا فقط. هذا موضوع محدّد. اخترت من الإنتاج الفكري العربي المعاصر ما اعتبرته أيديولوجياً.

من يُسَمّ هذا الفكر أو ذَاكَ بالأيديولوجيا، عليه أن يبرّر هذا الحكم. بالنسبة إلى أي شيء يكون الفكر أيديولوجياً؟ ثم، قبل أي شيء، ما الذي تعنيه هذه الكلمة؟

هذا ما فعلته في ثلاثة مؤلفات: مفهوم الأيديولوجيا، ومفهوم الحرية، ومفهوم الدولة. وزِدتُ الأمور توضيحاً في عدة مقالات جمعتها في كتابيّ أزمة المثقفين العرب، وثقافتنا في ضوء التاريخ. زد إلى هذين المؤلفين المحاضرة التي صدرت تحت عنوان «عوائق التحديث». هذا الجزء الأول من أعمالي يُكوِّن وحدةً حول الأيديولوجيا وما يميّزها من الواقعية والموضوعية.

الجزء الثاني يتعلق بالبحث الموضوعي في المجتمع الذي تسود فيه تلك الأيديولوجيا. والغرض منه إظهار أن الأيديولوجيا أيديولوجيا بالفعل، أي تصور خاطئ غير مطابق للواقع. دراسة الأيديولوجيا يجوز أن تكون عامة، تشمل كل البلاد العربية، لكن البحث التاريخي يمسّ بالضرورة بلداً بعينه، أي المغرب في ما يخصّني. لذلك كتبتُ مجمل تاريخ المغرب، وجذور الوطنية المغربية، والمغرب والحسن الثاني، ومقالات جمعتها في مؤلف مباحث تاريخية.

الجزء الثالث من أعمالي هو تعميقٌ للقسم الثالث من الأيديولوجيا العربية المعاصرة، أي تأصيل للتاريخانية. وهنا لا بد من تجاوز التأريخية إلى التاريخانية. نقول إن هذه التحليلات [تحليلات الشيخ ورجل السياسة والمولع بالتقنيات] أيديولوجية، لأنها لا تطبق المنهج السليم لدراسة الحاضر والماضي. لولا أننا نذهب أبعد من هذا الاستنتاج، نقول إن هذه التحليلات إذا تحوّلت إلى سياسة تُخفق لا محالة، وإن التحليلات المناقضة لها تضمن وحدها النجاح. هذا الاستنتاج الثاني هو الذي أسميه أنا «تاريخاني». فوجب أن أبرّره، وأن أُؤَسّس له. وهو ما فعلته في مفهوم التاريخ، ثم مفهوم العقل. يُضاف إلى هذين الكتابين السنّة والإصلاح، ومن ديوان السياسة. هذه محاولة مني في تأصيل التاريخانية بوصفها بوصلة العمل السياسي الهادف.

وأخيراً الجزء الرابع الذي يتقاطع مع محتوى الفصل الرابع من الأيديولوجيا العربية المعاصرة، يُعنى بالتعبير. وهو يتكوّن من خواطر الصباح التي تسجل وقْعَ الأحداث اليومية في النفس من دون أدنى تنظير أو تعقيل. ومن الأعمال الأدبية، تستحضر الغربة واليتيم وأوراق بكثير من الحنين إلى ذكريات الصبا، في حين يصف الفريق وغيلة أوضاع الحاضر، وتستكشف الآفة آفاق مستقبل مظلم. لا دور هنا للعقل، كل شيء مبني على الحدس والخيال.

انكبّ جلّ المحلّلين العرب على الجزء الأول فقط، ظنّاً منهم أن الباقي كله شرحٌ وتوظيف لما جاء فيه. تصرّفوا كما لو كنت أقدم أيديولوجيا جديدة عوض الأيديولوجيات التي انتقدتها. لم أقدّم التاريخانية كأيديولوجيا بديلة، بل كوسيلة للتخلص من كل أنواع الأيديولوجيا، وللالتصاق بالواقع لنضمن بعض النجاح لما نقدم عليه من تدبير.

لذلك أقترح أن نخصّص هذا الحوار لمسألة نقد الأيديولوجيا بما أنه يمثل 90 بالمئة مما كتب عن أعمالي.

***

دعوتَ إلى التاريخانية كمنهج للتفكير، وكنظرةٍ تحترم موضوعيةَ التطور التاريخي، في مقابل نمطٍ سائدٍ في التفكير يعاني نقصاً فادحاً في الحسّ التاريخي (بنيوي، نصّي، أيديولوجي، طوباوي…). بعد قرابة نصفِ قرنٍ من هذه الدعوة؛ هل لا يزال لها ـ اليوم ـ من شرعيةٍ لكي يُسْتَأنَف القولُ بها؟

العروي: عارضتُ بين التحليل الأيديولوجي والدراسة التاريخية ذات الأفق التاريخاني بهدف التمسك بالواقع. طبقتُ المنهج المقترح على وضعية الستينيات وخرجت بنتائج. من يطبّق نفس المنهج على الوضع الحالي يخرج بنتائج مغايرة. هذا واضح: عالم الفيزياء يخرج بنتائج مختلفة كلما اختلفت الظروف. هل يُطلب منه أن يغيّر منهاجه كل مرة؟

هنا لا بد من توضيح مسألة. بعدما رسمت الخطوط العريضة للذهنية التاريخانية الحديثة، انكببت على دراسة حالة معيّنة، مغرب القرن التاسع عشر. ولم أدّع أبداً أن ما استخلصته من هذه الدراسة العينية ينطبق على البلدان العربية الأخرى. وحتى في الأيديولوجيا العربية المعاصرة لم أتطرّق إلى أوضاع مصر إلا لأن الزعماء المغاربة كانوا يتخذون مصر مثالاً… كان محمد عبده بالنسبة إليّ مفتاح فكر علال الفاسي.

من العبث مقابلة التاريخانية بمناهج أخرى مثل التفكيكية أو البنيوية مثلاً. هل أنصار التفكيكية وضعوا نهجاً لفهم السياسة؟ كل منهاج صالح لمجال معرفي خاص به.

قيل منذ القديم إن التاريخ مختبر السياسة. القائد السياسي يتّبع حتماً في تصرّفه الفعلي المنهج التاريخاني. وأنا لم أهتم إلا بانكباب الفكر على العمل السياسي.

 

بَدَا لك نقد التأخر التاريخي الذي يعانيه المجتمع العربي، المدخلَ الموضوعيَّ والضروري إلى إعادة تمثُّل معضلات الدولة والسلطة والنخب والتنمية والأيديولوجيا، والمدخلَ إلى نهوض الفكر والثقافة بالدور المنتظَر منهما اجتماعياً. وكان ذلك في أساس عنايتك بمركزية المسألة الثقافية في أيّ تحليلٍ للاجتماع مقابل طغيانٍ للتحليل الاقتصادوي في الوعي العربي آنئذ. هل ما زلتَ تَحْسَب مسألةَ التأخر التاريخي أمّ المسائل في المجتمع العربي؟ وهل ما زالت عوامل الشبه بين حالتيْ ألمانيا وروسيا وحالة المجتمع العربي قائمة في تقديرك، أم أن إدخالَكَ الحالةَ العربية ـ قبل أربعة عقود ـ في دائرة المقارنة بألمانيا في القرن التاسع عشر، وروسيا البلشفية، أتى محاولةً منك لتبرير دعوتك التي أطلقتَ عليها اسم «الماركسية الموضوعية»؟

العروي: كلامنا على المجتمعات التاريخية، كلها في اتّصال بعضِــها ببعض. إذا أخذنا مجتمعاً بعينه في لحظة معينة، فهو إما متفوّق على المجتمعات المحيطة به، وإما متكافئٌ معها أو متخلفٌ عنها. مقياس ذلك نجده في الحرب أو في التجارة. أيام الجاحظ كان العرب يشعرون بالتفوّق، أيام ابن خلدون بدأوا يشعرون بالتخلّف. العبارة عن هذا الشعور واضحة عند هذا وعند ذاك.

كتبتُ عمّن يعي التخلف، يعترف به ويبحث عن وسائل استدراكه. ولم ألتفت إلى من يتجاهله أو ينفيه. من خصائص الفكر الأيديولوجي الانكباب على هذه النقطة وحدها.

هذه إذن حالةٌ عادية في التاريخ. من الطبيعي أن نجد لحالة العرب ما يماثلها في مجتمعات أخرى. لستُ أول من تكلم على التجربة الروسية أو الألمانية أو الإيطالية، بل سبقني إلى ذلك كُتّاب عهد النهضة. كل ما فعلتُه هو أني زدت الأمر تدقيقاً.

هذا التدقيق هو الذي جعلني أخلص إلى أن التفكير في التخلف والإصلاح يؤدي إلى فهم «حقيقة» التاريخ، وهذه ترادف معنى الماركسية الموضوعية.

تبيّن لي عن بَحْثٍ وتمحيص أن الماركسية الموضوعية ليست موضوعة (proposition) تُناقش، بل هي وضعية (situation) تُشاهد وتوصف.

 

أدركتَ مبكّراً أن دراسـاتك دارت ـ سنوات الستينيات والسبعينيات ـ على سؤالٍ إشكالي هو: كيف يمكن استيعاب مكتسبات الليبرالية قبل ـ ومن دون ـ المرور بمرحلة ليبرالية؟ هل ما زالت الإشكالية دقيقة اليوم، أم أن «المرور بمرحلة ليبرالية» أمرٌ لا غنًى عنه، ولا مَهْرب منه؟

العروي: يعتقد الكثيرون أن المواجهة بين الماركسية الشيوعية والرأسمالية الليبرالية انتهت بانتصار هذه الأخيرة، والانتصار تجسَّد في العولمة. فلم يعُد هناك مبرّرٌ للقول إن في إمكان مجتمع ما اختزال المرحلة الليبرالية والدخول رأساً إلى الاشتراكية، إذ لم يعُد لهذا النظام أي مستقبل. أرى أن الموضوع ليس بهذه البساطة. لم يختف التطلع إلى العدالة والمساواة، وليس في إمكان العولمة أن تحققه فعلاً.

قلت في مقالي عن الماركسية والعالم الثالث إن الماركسية الموضوعية [وهي وجه من أوجه العولمة] ليست بوّابة إلى الاشتراكية، بل إلى تعميم القيم الليبرالية في مجتمع متخلِّف مرّ بثورة تقول عن نفسها إنها اشتراكية أو شيوعية.

حتى لو تصورنا أن المجتمعات كافة انخرطت بنجاح في العولمة، وهذا غير مضمون البتة، سيظلّ بعضُها يحتفظ بميزة السبق.

 

آخذْتَ على فكر الشيخ، وعلى الفكر العربي عموماً، أنه يعمد إلى الإجابة عن الأسئلة التي يطرحها عليه الآخر (= الغرب)، هل ما بَرِحَ الفكر العربي يفكّر، اليوم، من داخل الأطر الإشكالية التي يرسمها له الآخر ويحدّدها، أو نَحا منحى توليد أسئلته من رحم واقعه المجتمعي والثقافي؟

العروي: أكّد ابن خلدون أن المغلوب مولع بتقليد الغالب. والغالب في عينه كان الإسلام. القاعدة عامة، غير متعلقة بهوية الغالب أو المغلوب.

الغالب هو الذي يملك المبادرة. يطرح السؤال الذي يتولى المغلوب الإجابة عنه. إذا لم يع المغلوب المسألةَ، فإنه يصبح على التوّ خارج التاريخ، كحال هنود أمريكا. من ينحو هذا المنحى يلجأ إلى الفن أو الفلسفة، يحتمي بالأزل ليتحرر من ربقة الزمن. كان يقال الغالب هو الله، واليوم نقول الحاكم هو التاريخ. المعنى واحد.

المفكّر الجادّ عندما يطرح مسألة التخلّف، ويحاول تصور حلّ لها، لا يحاور غيره بقدر ما يحاسب نفسه. يستنتج من حكم التاريخ ما يستنتج. أما خصمه فإنه ينفي المسألة من الأساس. له الحق في ذلك، لكنه ينطق بمنطق غير سياسي، ومع ذلك يظن أنه يقول كلاماً سياسياً!

 

هل كان الشروع في إنجاز الكتب المفهومية الخمسة إيذاناً بالانتقال من التاريخانية إلى الحداثة، أم أن خيط الاتصال بين اللحظتين المعرفيتيْن ظل مستمراً؟

العروي: التاريخانية هي منهج الحداثة. إذا كانت هذه محقّقة صار المنهج التاريخي عادياً يُفهم بكيفية عفوية، بل لا يُتصور اللجوء إلى غيره في مجال السياسة بالذات. أما في غير السياسة، فالأمر مختلف.

إذا كان المجتمع غير حداثي، أو ناقماً على حداثة مفروضة عليه، فلا مناص من حملة توضيحية، وهي حملة صعبة. ما يبدو بديهياً للفكر التاريخي يبدو متهافتاً لغيره، لأن التاريخاني يميّز بين مجالات المعرفة، في حين أن خصمه يرفض التمييز.

 

بدوتَ منصفاً، كثيراً، للمقالة الليبرالية العربية، على الرغم من تسجيلك مفارقتَها، وخلطَها بين لحْظات الليبرالية الغربية الأربع (كما عند أحمد لطفي السيد)، وغياب المنظومية أو الاتساق النظري فيهما. هل كانت وظيفتُها ـ التي وصفتَها بالايجابية ـ كافية وحدها لإنصافها على النحو الذي فعلتَه في مفهوم الحرية؟

العروي: نشأت الليبرالية العربية في إطار المواجهة بين مجتمع متغلّب، وآخر يشعر بالضعف والاستغلال. كانت مواجهةٌ، ولكن كان كذلك تلاقح. تكوّنت جماعة، قليلة العدد، قامت بدور الوسيط المفاوض. ثم انتهى دورها بانتهاء الوضع الاستعماري.

لكنها ظلت تحمل سمات الدور الذي قامت به. ظلت ضعيفة اجتماعياً، وبالتالي فكرياً، متهمةً معزولة في الداخل، ومحتقرة في الخارج. الجميع يرميها بانعدام الأصالة.

لذا تكلّمت على مأساتها.

 

وقفْتَ في مفهوم الدولة على كابحٍ معرفي في الوعي الإسلامي للدولة أسميْتَه طوبى الخلافة عند الفقهاء، وهي طوبى لا يضارعها في الغربةِ والبرَّانية عن واقع الدولة التاريخي سوى ما دَعَوْتَه بـ «فردانية الفيلسوف/المتصوّف». ولكن ألم تكن دولة الفقهاء أكثر واقعيةً من دولة الفلاسفة والمتصوفة وعلماء الكلام، بل حتى من دولة كتّاب الدواوين في الآداب السلطانية؟ أين دولة المؤرخين التي لم يتناولها تصنيفُك في الكِتاب ما خلا حالة ابن خلدون؟

العروي: مارس ابن خلدون السياسة، أعني الكتابة الديوانية، ثم القضاء. وفي الحالين تصادم مع الواقع، فاكتسب نزعة ذهنية نستطيع أن نسمّيها تاريخانية. فميّز باستمرار بين الوعي بالواقع وتخيّل البديل.

من تخيّل البديل؟ أولاً المحدّثون الذين تشبّثوا بدولة الرسول، خليفة الله في الأرض. من هنا الخلافة، أي حكم الناس بتكليف إلهي.

ثانياً، الفلاسفة والمتصوفة في صورة مدينة فاضلة مكوّنة من أفراد كلهم فضلاء أتقياء، لا سلطان للشهوات والغرائز الدنيئة على نفوسهم.

لكن هذا الخيال لم ينل شيئاً من الدولة القائمة، دولة الملك أو الغلبة أو العصبية أو التسلط.

كان ابن خلدون متصوفاً أيضاً، لكن بعد أن ترك السياسة، ولم يعد يفكر فيها. عندما كان يفكر فيها لم يخطر بباله أبداً أن يطبق عليها مقاييس الحكمة أو الورع.

 

ألا يعيش الوعي السياسي العربي، اليوم، طوبويات أخرى: طوبَى الدولة الوطنية، طوبى الدولة القومية، طوبى الدولة الديمقراطية، أو الاشتراكية ..؛ ما الفرق بين طوبى الأمس وطوبى اليوم؟

العروي: لا يزال الكثيرون يمزجون الأماني بالواقع. فهم بين الخوف من الوضع القائم والرجاء أو التطلع إلى البديل المحبّب.

يتكلّمون على الدولة القومية أو الدولة الوطنية أو الدولة الديمقراطية، كما لو كانت قائمة أو على وشك القيام، تماماً كما كان يفعل الفقهاء مع دولة الخلافة والحكماءُ مع المدينة الفاضلة، والصوفيون مع رباط الأخيار. هكذا تكلم طويلاً الشيوعيون والقوميون، وهكذا يتكلم اليوم أنصار حقوق الإنسان، أي الليبراليون الجدد.

إلى جانب الرجاء الخوفُ من الدولة القائمة. لكن الواقع لا يُغَيَّر بالتخيّل. لا سلطان للخيال الصرف على السياسة. الواقع يُغيَّر بالواقعية. هذا هو درس التاريخانية لمن يفهمها على وجهها.

 

حلَّلتَ ظاهرة الحدّ والحصر في اشتغال العقل في الثقافة العربية، لاحظتَ أن عقلَ المطلق (= الكلامي) هو العقل المطلق في هذه الثقافة، وأن الخلط استمرّ فيها بين العقل والمعقول، وأن بين عقل العدد وعقل الكسب وعقل الجهاد… مشتَرَكٌ جامعٌ هو العقل المعقول: عقل الاسم، لا عقل الفعل، وأن العقل عند العرب المسلمين لم يتحول ـ لذلك السبب ـ إلى عقلانية… إلخ. هل نفهم من هذه القراءة أن العقل الإسلامي عقل نصّي: يعْقِل النصّ لا الواقع؟ وهل الحدّ والحصر فيه من آثار نزعته النصّية، أم من تأثير الواقع التاريخي الذي كان يرسم له حدوداً لا يستطيع تخطيها؟

العروي: في أي مجتمع تقليدي العلم الكلي سابق على المعلوم الجزئي. هذه قاعدة منطقية لا تعارض. من هنا تساؤلُ فلاسفة القرون الوسطى، مسلمين وغيرهم، هل يعلم الخالق الجزئيات؟

لم يتمكّن أحد من حلّ هذه المعضلة، لا ابن رشد، ولا توما الأكويني. الحلّ عملي. وهو ما قام به غاليليو عندما درس قانون الحركة مفصولاً عن أية مسألة أخرى لفصل المعلوم الجزئي عن العلم العام. العلم المطلق، بالنسبة إلى الإنسان، لا يفيد الجزئيات، والمعلوم الجزئي لا يفيد العلم المطلق.

العقل هو المنهاج الذي يمكِّن من عقل المعقول الجزئي. ليس العقل، كما كان، هو بيان المطلق وتأويلُه كشرطٍ لمعرفة حقيقة كل جزء.

عندما يكون منطق المطلق هو المتغلّب في مجتمع ما، كما كان عندنا في الماضي، يصبح كل مفكّر خاضعاً له: الحكيم، أي الطبيب، أو الفيلسوف، والمتصوف، والفقيه، والمتكلم، كلهم يتبعون نفس المنهج. لاحظ أن ابن رشد الفيلسوف يشرح أرسطو، كما يشرح ابن رشد الفقيه موطأ مالك.

عندما نُبدِل عقلاً بآخر، نظرة لأخرى، كما فعل غاليليو، يغزو المنطق الجديد مجالات المعرفة الواحد تلو الآخر، الفيزياء، الفلسفة مع ديكارت، القانون مع مونتسكيو، السياسة مع روسو، الأخلاق مع هيوم، الاقتصاد مع آدم سميث، علم الحياة مع داروين… إلخ.

إذا أردنا اليوم أن نستنير بعقل الماضي، فإننا نُحْيي بالتبعية عقلَ المطلق. لا ضرر في أن نفعل ذلك في الفلسفة أو الأخلاق الفردية أو الفن، لكن الضرر كبير عندما يتعلق الأمر بالسياسة، بالأخلاق العامة، بالطب… إلخ. والضرر ملاحظ.

استعدْتَ محمد عبده مدخلاً إلى طرح مسألة العقل في الإسلام، وحدودِه، في: مفهوم العقل، بعد أن كنتَ درستَه، في إطار نمذجتك الشهيرة للأيديولوجيا العربية المعاصرة في الكتاب الذي حَمَل العنوانَ نفسَه؛ ما الذي تغيَّر في الوعي الإسلامي المعاصر بين عبده الستينيات، وعبده التسعينيات، وهل تغيرت صورتُه ـ بالتالي ـ في وعيك؟ ولماذا الإلحاحُ المستمرُّ منك على نموذجيْ محمد عبده وعلاّل الفاسي في كل ما تكتبه عن الفكر الإسلامي والفكر الإصلاحي؟

العروي: شيخ اليوم يحاكم شيخ الأمس ويتهمه بالتخلي عن الثوابت وبالتقاعس أمام العدو، ويذهب البعض إلى اتهام عبده بالتآمر على الإسلام.

قلت إن أفق عبده والفاسي كان محدوداً، وإن هذه المحدودية هي ما يسِم فكرهما بالأيديولوجيا.

قد يكون شيخ اليوم أكثر اطلاعاً على منتوج الغرب، لكن في شِقِّه المحافظ، فينقده ويصبح بذلك أكثر محافظة. أصولية العرب، أصولية الشرق عموماً، ليست سوى انعكاس، من عدة وجوه، لأصولية الغرب. الدليل هو أن شيخ اليوم أقلُّ ارتباطاً من شيخ الأمس بالإنتاج العربي القديم. يرجع إلى السلف، ويتخطى قروناً من التأويل والاجتهاد.

 

انشغلتَ طويلاً بالتاريخيات العربية الكلاسيكية، وكتبتَ فيها، في مناسبات متعدّدة: «العرب والتاريخ»، وLa crise des intellectuels arabes، و«مفهوم التاريخ»، و‍Islam et histoire…؛ هل وجدتَ في المدوَّنة التاريخية العربية صورةً ما للثقافة والمجتمع تثوي وراء التفاصيل؟

العروي: لم يكتشف المجتمع العربي علم الطبيعيات الحديث. فما كان في وسع الثقافة العربية توظيف اكتشافاته في البحث التاريخي، كما فعل الغرب في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي.

ما كان في وسع المؤرخين العرب أن يحلُّوا لغز الكتابة الهيروغليفية أو المسمارية، أو أن يؤرخوا لطبقات الأرض. ظلوا حبيسي الوثيقة المكتوبة التي تعود إلى ستة آلاف سنة، أي بداية الكون في عقيدتهم. المنهجية العلمية عندهم هي منهجية الجَرْح والتعديل، منهجية علم الحديث. ثم عمّموا هذه الطريقة النقدية على كل المجالات المعرفية، حتى العلوم العقلية. في هذا الإطار المحدود، تمكّنوا من وضع نظرية متكاملة عن شروط صحة الرواية، وبالتالي عن معنى السنّة. نظريتهم هذه لا تخصّ السنّة الإسلامية، بل تنطبق على كل سنّة. في هذا الإطار، تفوَّق الإنتاج العربي في تدوين التاريخ، على غيره، شرقاً وغرباً. أظهرتُ حدوده، وفي نفس الوقت بيّنتُ عمقه في إطاره المذكور.

 

لماذا لم تتطور صناعة التاريخ عند العرب من الإستوغرافيا إلى فلسفة التاريخ؛ هل كان ابن خلدون يستطيع ذلك ـ معرفيّاً ـ ولم يفعل؟

العروي: بل توجد عند المؤرخين المسلمين فلسفةٌ واعية بنفسها، إلا أنها متجذرة في العقل المطلق. التاريخ ظهورٌ وإظهار لباطن. والباطن مرسوم منذ الأزل. هذه الفلسفة قريبة مما يقول به بعض الفلاسفة. نعود، إذن، إلى ما قلناه سابقاً. العلم المطلق مقدَّم على علم الجزئيات، كذلك معرفةُ غاية التاريخ مقدَّمة على رصد أطواره.

 

اعتنيتَ بابن خلدون كثيراً، منذ رسالتك الجامعية عن «شفاء السائل»، في أوائل الستينيات، حتى «مفهوم العقل» في أواسط التسعينيات؛ لماذا ظل يغريك بمقارنته بغيره من الغربيين اللاحقين (مكيافيلي، بودان، مونتسكيو، أوغست كونت، ماكس ڤيبر)؟

العروي: كان ابن خلدون واعياً بنبوغه، لكنه لم يدرك إلى أي حدّ كان نابغة. لذلك كلما طالعنا أعمال غيره وعُدنا إليه، وجدنا آثاراً جديدة لهذا التفوق.

محدودية فكره مرتبطة بمحدودية مجتمعه. وهذه المحدودية هي التي تبرز مدى عبقريته. الأمر نفسه ينطبق على كل من أقَارنُهُ به، أرسطو، مكيافيلي، مونتسكيو. أفق كل واحد من هؤلاء محدود تاريخياً، فيظهر النبوغ والتبريز بالنسبة إلى هذا الحصر. لذا، لا يخطر ببالي أن أقارنه بداروين أو آينشتاين الكوسمولوجي مؤلف كتاب كيف أرى الكون.

لو فعلت ذلك لأخطأت في حقه ولتحول نبوغه إلى قصور.

 

بعد ما يزيد على خمسة وأربعين عاماً على كتابك «تاريخ المغرب»، هل تشعر أن التأليف في هذا الموضوع، في نطاق الدراسات التاريخية في مجمل المغرب العربي، حقَّق تقدُّماً علميّاً يُذكَر، ويستحق معه أن يُقال إن المغاربة انتزعوا تاريخهم من أيدي مَن كانوا يكتبونَه ـ من الغربيين ـ نيابةً عنهم؟ هل نحن على أعتاب كتابةِ تاريخ وطني في المغرب خاصة، وفي المغرب العربي عموماً؟

العروي: تَنَاقَص عددُ الباحثين الأجانب في تاريخ المغرب. وخَلَفهم باحثون محلّيون حققوا مكاسب مهمة، ولا سيَّما في ما يتعلق بتاريخ القرن التاسع عشر الميلادي.

لكن بما أن الوثائق المتاحة استُغِلت كلُّها، عاد الدارسون الجدد إلى النصوص التقليدية [كتب المناقب] فتأثروا بذهنيتها. لذلك نلاحظ أن ما صدر في السنوات الأخيرة حديثٌ في مظهره وتقليدي في محتواه. أشير بالطبع إلى الإنتاج المكتوب بالعربية.

 

انشغلتَ في الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية بتحليل سياقات تطوّر الاجتماع المغربي الحديث، في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتبلوُر الفكرة الوطنية في ذلك التطور، لكنك اعتنيتَ فيه كثيراً بموضوعات الإصلاح وأسباب إخفاقات مشاريعه المتعاقبة، وصولاً إلى لحظة الاحتلال الكولونيالي. هل استفاد المغرب من دروس الماضي في هذا المجال، منذ الاستقلال الوطني؟ هل قطع شوطاً في الإصلاحات على طريق بناء الدولة الوطنية؟

العروي: قلت مرة إن المؤرخ لا يتعاطف مع رجل السياسة. البحث التاريخي الدقيق والموضوعي لا يخدم دائماً أهداف الدولة القومية، بل قد يضعفها بالكشف عن هويات غميسة. وهذا ما حصل في القرن التاسع عشر الأوروبي.

لقد عارض الكثيرون معارضة محتشمة ما جاء في كتابي جذور الوطنية المغربية. مفهوم الدولة القومية لا يفيد بالضرورة وحدة الأصول والمرامي. قد يكون تعددٌ ولا تتحقق وحدة الانتماء والخضوع لسلطة واحدة إلا بشروط، ضمنها التقيد بالذهنية التاريخانية.

 

فُهِمتْ دعوتُك في «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» إلى القطيعة مع الماضي والقرون الوسطى خطأً؛ ظُنَّ أنك تدعو إلى موقفٍ عدميّ من التراث، بينما قصدْتَ بهذه القطيعةَ المعرفية مع عقل الماضي. بعد الذي كتَبْتَه في «مفهوم الدولة»، و«مفهوم العقل»، و«الإسلام والتاريخ»، و«السنّة والإصلاح»، تبيَّن أنك تناولت القضايا التي تناولتها مستصحباً نصوص التراث ومتونه. إلى أيّ حدٍّ يمكن تناوُل التراث والانفصال عنه في الوقتِ عينِه؟ وهل التفكير فيه من شروط الحداثة؟

العروي: لا تتم القطيعة مع التراث، أي التحرر من هيمنته، إلا بدراسته دراسةً تاريخية نقدية. نلاحظ أن من يتشبّث بالتراث هو، في الغالب، أكثر الناس جهلاً به. يختزل الثقافة العربية في الإنتاج الديني، وهذا في الإنتاج الفقهي، وهذا في الإنتاج السنّي … إلخ، بل من الأصوليين من لا يعرف من التراث إلا فتاوى ابن تيمية.

بدأت الحداثة في الغرب بتحقيق نص التوراة والإنجيل، ثم مؤلفات أرسطو وأفلاطون وسائر مؤلفي يونان واللاتين. وهذا العمل لا يزال مستمراً إلى اليوم. كل جيل يؤوّل التراث تأويلاً جديداً، وهذا التجديد المستمر مقبول ومطلوب، لا أحد ينعته بالزيغ أو العقوق.

تختلف التأويلات، منها المحافظة ومنها الثورية. لكن الجميع، بما أنهم يعيشون في مجتمع حداثي، يلجأون في المرحلة الأولى، مرحلة التحقق من النصّ، إلى المنهج النقدي. إذا أجمع علماء الحفريات على أن الآثار الفلانية تدل على مرور النبي الفلاني بالقرية الفلانية، لا أحد، حتى من أعضاء الكنيسة، يجرؤ على ردّ الإجماع اعتماداً على قول أحد القديسين.

لا جدال في منهجية التحقيق. يكون الاختلاف في التأويل، وذلك بحسب المجالات. طرائق تأويل النصّ الديني مخالفة لطرائق تأويل النصّ الشعري أو الفلسفي أو النقدي.

 

هل ما زلت تعتقد أن على العرب أن يتجرّعوا الحداثة كما تجرّعتْها أممٌ قبلهم؟ وماذا لو كان ثمنُ تجرُّعها قاسياً: أعني من قبيل توليد نقائضها! ألا تزدهر الأصولية في سياق التحديث واللَّبْرَلة والعولمة؟

العروي: الحداثة واقع اجتماعي معيش، لا مقولة قابلة للتحبيذ أو التفنيد. تظل المعارضة للحداثة في كل الأحوال لفظية.

ما يهم المؤرخ، وأكثر منه رجل الدولة والمسؤول السياسي، هو كيف التعامل مع هذا الواقع الجاثم. يقول البعض: الحداثة هي صورة من الاستعمار، استعمار روحي بدلاً من أن يكون مادّياً فقط. طيّب، كيف تعامل الوطنيون مع استعمار الأجساد؟ هل قالوا: لا قيمة له، لا وجود له، نعيش على هامشه ولا نلتفت إليه؟ لو فعلوا ذلك لكانوا اليوم في وضعية هنود أمريكا. هل كان ينفع في مدافعة الاستعمار النفي والتجاهل أم التعرّف إليه، التعمق في ماهيته ثم تجريده من بعض وجوه نفوذه؟ تجسدت الوطنية في التكيف مع الاستعمار سياسياً، وفكرياً، وسلوكياً، عندما اقتنع الجميع أن لا جدوى في المقاومة العسكرية وفي الانكفاء على النفس.

الحداثة مثل الاستعمار، حالة قائمة، إما مفروضة ومرفوضة قولاً وعقائدياً، وإما معترف بها، متحكَّم فيها.

الأصولية لا تمنع ولا تمانع، إنما هي انعكاس باهت لأصولية رافقت كل أطوار الحداثة في الغرب. هذه هي الحقيقة المرّة.

نرى اليوم صراعاً بين تيارين، أحدهما يريد أن يتحكم في الحداثة حتى يستطيع أن يوجهها توجيهاً مفيداً للمجتمع، والآخر يتظاهر بالرفض والممانعة، فيترك الحداثة تسير في صالح الغير. الكل يخشى المواجهة، فتُترك الساحة للتيار الأكثر تعلقاً بالماضي.

يقلّ الحسم، يعمّ التردد والتردّد دائماً خسارة.

 

هل الإصلاح أفقٌ مُقْفَل في المنظومة السنّية، كما يوحي بذلك كتابُك: «السنّة والإصلاح»؟

العروي: تتكون السنّة على مراحل عبر الزمن. في كل مرحلة تقول السنّة عن ذاتها إنها إصلاح، أو بعبارة أدق صلاح، أو استحضار الأصلح. تسير مع الزمن لكن تنظر إلى الخلف، لا إلى الأمام. لا تحيد عن الاتجاه المعاكس. لذلك تقول عن كل ما لا تتوقعه إنه نابتةٌ. منطق السنّة هو دفن النابت أو المستنبت.

إذا أردنا تصور إصلاحٍ من نوع آخر، يساير الزمن الفعلي، لا بد لنا من إبطال مفعول هذا الجهد المعاكس.

كيف؟ بالنبش عن الجذور. لا بد من الكشف عن كل مرحلة من مراحل تكوين السنّة وإعادة الاعتبار، على مستوى الفكر، إلى ما تصفه هي، أي السنّة المكونة، بالبدعة النابتة. البحث التاريخي الصرف، ما يسميه المحدّثون أسباب النزول، هو فقط فهم ما حصل والإبانة عن معقولية السنّة. لا بد، إذن، من الارتقاء من هذه النقطة إلى ما أسميه أنا الموقف التاريخاني. هذا يعتمد على مكاسب البحث التاريخي، ثم يتجاوزه إلى التصميم على قلب الاتجاه المعاكس للتطور الطبيعي. لا تظهر بدعةٌ إلا لسبب، ولا توصف بأنها بدعة سيئة يجب استئصالها إلا لسبب. ففضح ذلك السبب هو في آن كشفٌ عن منطق السنّة ونزع صفة الإطلاق عنها.

هذا ما فعلته في كتاب السنّة والإصلاح، مركزاً على الفرق بين مرحلة البحث التاريخي والحسم التاريخاني الذي هو أساس التجديد الحقيقي.

 

منطقُ العقيدة غيرُ منطق السياسة؛ ذلك ممّا يستفاد من كتابيْ: «السنّة والإصلاح»، و«من ديوان السياسة». هل نحن أمام منطقيْن متعارضين: الوجدان والعقل؟

العروي: قلت في خاتمة كتاب السنّة والإصلاح: إما مجاهدة وإما تذوق. وفي النصّ الفرنسي قلت Militantisme ou esthétisme. الكتاب كلُّه مؤسَّس على هذه الثنائية التي هي، في الوقت ذاته، واقعٌ ملموس (الروح مقابل الجسد) وأحد مكاسب أوائل الفلسفة (theoria vs. praxis). كما يقابل ابن خلدون قوةَ التميز وقوةَ الإنجاز أو الإنشاء.

من أين تنشأ الأيديولوجيا؟ من الإصرار على التوحيد القسري، تغليب النظر على العمل أو تغليب العمل على النظر.

بما أنني أرفض الأيديولوجيا، فإنِّي أقبل الثنائية وأعمل على توظيفها.

أقول إن الأفضل والأنجع، نظراً إلى محدودية معارفنا، أن نعمل على ملاءمة منهاج التفكير مع المجال الذي نفكر فيه.

نفكّر في نطاق الزمن، ونتأمل إنجازات الإنسان بهدف الإنشاء، بحسب عبارة ابن خلدون. علينا أن نمسك بالمنطق الملائم لهذا الغرض. لا يمكن لهذا المنطق الهادف أن يفرط في الموضوعية والواقعية، وإلا حاد عن خطّه. أستنتج أن هذا الشرط لا يتحقق إلا في المنهاج التاريخاني.

ما الذي دعا ابن خلدون إلى التحلّي بالواقعية؟ التفكير في الحضارة، والحضارة إنجازٌ بشري خاضع لسيرورة الزمن؟

ماذا يحصل عندما نطلّق الزمنَ والتاريخ والعمل الهادف، وما يرتبط بكل هذا؟ نعود إلى النفس، ننفصل عن الزمن، نتجرّد، نتوحّد … هذه مفردات من قاموس الحكمة، أكانت فلسفةً إلهية أو تصوفاً ربّانياً.

يتكلم ابن باجة على تدبير المتوحّد. التدبير عمل وإنجاز، لكن بهدف سعادة الفرد المنعزل، الذي لم يعُد يهتم بما وبمن حوله. لا يتطلع إلى تغيير أي شيء من الدنيا وترك آثار باقية. لا غرابة أن يصاحب هذا الموقفُ منطقاً غير الذي يلجأ إليه محلّل الإنجازات التاريخية.

يقرر الحكيم الانفصال عن الزمن، التاريخ، المجتمع، ماذا يهمه من أمر «الخارج» البرّاني؟ كل ما يهمه هو الوعي الجواني. كل العبارات والمفاهيم تؤخذ على وجه النقيض. من هنا اللجوء إلى منطق التأويل (herméneutique). المنهج التأويلي صالح لفهم ما «يُلقى في النفس»، وغير صالح لفهم ما يفعله الإنسان في «الخارج».

أشعر بكل قوة أن أي محاولة لتوحيد المناهج تعسفيةٌ وغير ناجعة. فأقِف عند الثنائية ولا أتخطاها. لكل مجال معرفي منهاج يوافقه. التاريخانية تناسب مجال السياسة. التأويلية تناسب مجال الحكمة. هذا ما دعاني إلى القول بالعلمانية التي لا تنفي في نظري الروحانيات. من يقول ذلك لا يعي ما يقول.

الحكيم نفسه يميّز بين طب الأجساد وطب النفوس.

 

تناولتَ مسألتيْ اللغة والتمثيل الديمقراطي ـ في جملةِ ما تناولتَه ـ في كتابك «من ديوان السياسة»؛ هل وجدتَ في التعديلات الدستورية (2011)، وفي الجدل الذي دار حول اللغة العربية الفصحى والعامية، بَصْماتٍ ما لأفكارك، أم أنك شعرت باستمرار حالةِ تجاهُلِ «المجتمع السياسي» للفكر؟

العروي: أصفّق بالطبع للتعديلات التي أدخلت على النظام السياسي في بلادنا. لا أنسى أن الدستور الجديد جاء نتيجة توافق بين الأحزاب، وبالتالي لا يلبّي رغبات كل الجهات. أرى أنه لا يرقى إلى ما تتطلبه وضعية المغرب في عالم اليوم.

البعض يقول إن الشعب المغربي، بمكوّناته جميعِها، غير مهيأ لإصلاحات أعمق وأشمل. كما يقال: لسنا في السويد. قد يكون الأمر كذلك. علينا، إذن، أن نتسلح بالصبر.

 

لماذا اخترتَ المواجهة المباشرة ـ بالكلمة والصورة ـ في المعركة حول اللغة، بينما ركنْتَ إلى الصمت حين اندلعت أحداث ما يُسمّونه «الربيع العربي»؟

العروي: في الجزء الرابع من كتاب الأيديولوجيا العربية المعاصرة تكلمتُ بإسهابٍ على الثقافة، مشدّداً على أن الفولكلور لا يمكن أن يحلّ محلّ الثقافة الكلاسيكية، أو ما يسمّى أحياناً الثقافة العليا (Haute Culture).

من لا يعرف هذه الثقافة، أو يعرف شذراتٍ منها عبر الترجمة، يعتبر أن المجتمع المغربي مجتمع إثنوغرافي، عارضتُ بشدة هذا الموقف، فلم يعجب ذلك الكثيرين. فانتقد بعضهم كتاباتي لا بعد تمحيص نظري، بل انطلاقاً من اشمئزاز نفساني، اشمئزاز الشاعر من تأكيدات المؤرخ.

الحق هو أني لا أعادي الثقافة الفولكلورية، ولا الأدب الشعبي، ولا أعارض التأليف باللهجة المحلية، أياً كانت، ولا البحث في أبْنيتها، لكني أرفض أن نتصرّف وكأننا أمّةٌ أمّية. خرجنا من الأمّية منذ قرون، وازدواجية اللغة بين مكتوبةٍ ومحكيةٍ ليس دليلاً على أننا ما زلنا أمّيين. هذه مفاهيم مغلوطة ورثها البعض عن كتّاب جُهَّال أو مغرضين. الرأي حرّ. من يعتقد أننا كنا وما زلنا أمّة أمّية، وأنّ علينا أن ننشئ ثقافة خاصة بنا مبنيةً على وضعنا الحالي، من دون أن نعبأ بما أنجز من قبل، وفي غير بلدنا، له ذلك. لكن ليس له أن يفرض نظرته على الجميع. وهذا بالضبط ما جاء في الدعوة الأخيرة، التي كانت تتمّةً لدعوة سابقة كُتب لها قسطٌ من النجاح. أراد البعض الاستفادة من هذه الخطوة وإحراز مكسب جديد يُرسّخ الوضع اللغوي بترسيم اللهجة الدارجة من دون اعتبار للتكلفة وللنتائج.

لو نجحتِ المحاولة لعُدنا بالفعل إلى حظيرة المجتمعات التي انتقلت، أو تحاول أن تنتقل، من البداوة إلى الحضارة، بحسب التعبير الخلدوني، كما لو لم يحصل هذا الانتقال، بالنسبة إلى كثير من أبناء شعبنا، أثناء القرن الثاني الهجري، ونتج منه تراث غزير.

يبدو المقترح تربوياً صرفاً، لا يمسّ في شيء الثقافة العامة. هذه مغالطة. لا بد من أن يُؤدّي تطبيق المقترح إلى نتائج ثقافية على المدى المتوسط. بعد سنوات قليلة تضمحلّ علاقتنا بالتراث العربي الكلاسيكي. كنا، وربما لا نزال، على وشك ارتكاب هذه الخطيئة الجمّة.

 

ما الذي دفعك إلى خوض تجربةِ ترجمةِ بعض مصادر الفكر الحديث إلى اللسان العربي؟

العروي: الدافع الأساس هو محدودية اطلاع المؤلفين العرب المعاصرين على الإنتاج الغربي المفيد. يكتفون بالملخصات. عادتهم الاعتماد على المراجع الثانوية، حتى عندما يتعلق الأمر بالمؤلفين المسلمين.

عنوان الفكر الحديث هو العودة إلى النصوص الأصلية، نصّ التوراة، لا ما قاله آباء الكنيسة، نص أفلاطون وأرسطو، لا ما قاله شُرّاح الإسكندرية.

قارن ما جاء في عقيدة روسو، وما جاء في السنّة والإصلاح، قارن ما جاء في تأملات مونتسكيو، وما جاء في من ديوان السياسة، ترى الفائدة من الترجمة.

أتمنى أن يقوم آخرون بترجمة نصوص من هذا المستوى، ولا يكتفون بتعريب روايات أغاثا كريستي.