المؤلف: فريدريك معتوق

مراجعة: منى سكرية(**)

الناشر: منتدى المعارف، بيروت

سنة النشر: 2017

عدد الصفحات: 192 

 

– 1  –

أمران دفعا د. فريدريك معتوق  – عميد كلية العلوم الاجتماعية السابق في الجامعة اللبنانية  – إلى تأليف الكتاب الذي بين أيدينا وعنوانه سوسيولوجيا الفن الإسلامي، وهما كما يذكر في المقدمة: أُلفتي الطويلة مع الفن الإسلامي، لكوني أعيش في عالم مُشبع ثقافياً بهذا الفن الذي يحاكيك من الداخل قبل أن يحاكيك من الخارج، والثاني: الزمن السياسي الرديء الذي يحيط بنا والذي يعمل على تشويه مُتعمّد لأوجه النقاء والجمال الكامنة في التراث الفني والثقافي والاجتماعي الخاص بالتجربة الإسلامية» (ص 9)، الأمر الذي تستحضره ذاكرتنا القريبة من محاولات محو، كما في إحراق إسرائيل للمسجد الأقصى عام 1969، والحفر  – الهدم تحت بُناه وأسسه بحجة التنقيب عن هيكل سليمان، والذي أكدت منظمة اليونسكو عام 2016 أن المسجد الأقصى تراث إسلامي خالص، أو في هدم الحركات الأصولية المتطرفة لأضرحة تميزت بجمالها المعماري، عَبَرت الأزمان، وشهدت لتواريخ من غزو واجتياحات متعاقبة لبلداننا وصمدت، ومثلها في سرقة المتاحف كما فعل الاحتلال الأمريكي للعراق بعد عام 2003، أو ما قامت به منظمة طالبان بتدميرها تمثالي بوذا عام 2001.

هذا الفن الإسلامي الذي يرى معتوق أنه «صنف خاص من الفنون، في مجاله وموضوعاته، ومعناه، يدين بوجوده، جوهراً، للدين الإسلامي».. فهو فن جوهراني يوحي برسالة روحانية من دون الكشف عن مضمونها، تاركاً للمشاهد مهمة الاستكشاف. فالفن الجوهراني لا يتحقق إلا بوجود مشاهد جوهراني يشاركه نظرته إلى العالم والكون» (ص 157).

لقد شكّلت وحدة الربط بين الفن الإسلامي بمجتمعاته الإسلامية الأس في بحث معتوق، مُظَهِّراً هذا الترابط، مؤكداً «أن التوحيد هو أبرز سمات الفن الإسلامي» (ص 9). وبناءً على استنتاجه هذا، دخل في صلب الموضوع لجهة ربط هذه الإبداعات  – التميز، وبين سنده المركزي، ألا وهو الدين، وما حمله من روحانيات تخطّت المحلي إلى الكُلّي، وتقولبت في قوالب هذا الفن في أي مكان انتشرت فيه جغرافياً، وتعددت فيه أعراقها وإثنياتها، وتنوعت لغاتها، ولهجاتها، وإن كانت قد خضعت لشرط التغيرات والتحولات الاجتماعية  – السياسية، فأبدعت عند الصعود الحضاري، وتقهقرت انحطاطاً في الانحدار الملحوظ لهذه الحضارة، وهو ما بيّنه معتوق، مستعيناً بابن خلدون وغيره من علماء الاجتماع، ومُراقبي تبدلات الدول والمجتمعات، «فالصنائع ما هي إلا توابع للعمران واتساع نطاق الدولة» وهي ملاحظة سوسيولوجية ابن خلدونية، رأى المؤلف أن «فائدتها الإيبستمولوجية تقوم على أن حيوية الفن الإسلامي ارتبطت شئنا أم أبينا بعمران المجتمع والدولة» (ص 91).

– 2  –

تحت عنوان «الجبال لا تُرى إلا من بعيد»، يعالج الفصل الأول مسألة تقييم الغرب لفنون الحضارة الإسلامية، والتي تراوحت استراتيجياً على نهجين أساسيين: قام الأول على المساهمة الصادقة في نفض الغبار عن روائع هذه الحضارة كإظهار عظمة الزخرفة في الفن الإسلامي على يد الفرنسي بريس دافين، أو تبيان عمق الإبداع في الهندسة الإسلامية على يد البريطاني كريسويل، والثاني على قراءة ملتوية للفن الإسلامي (ص 12)، وهو ما يأخذه المؤلف على عاتقه ببدء مناقشته وتفنيده، لدحض الطعن بالفن الإسلامي، باتهام هذا الفن «بالانتحال»، و«بالنقل» وبأنه قائم على «إنكار الإبداع فيه»، ودلالة «هذه التهمة المتسرعة أنها تنبع من موقف أيديولوجي يدفع صاحبه إلى ما يشبه الزَيغ الفكري» (ص 13)، فيذكر معتوق «أن الإصرار على التميز من الفن البيزنطي في العمارة الإسلامية المبكرة هو تميُّز في المعنى» (ص 16)، وهو ما وصفه بالكسر الإبستيمولوجي، متابعاً دحضه تلك الاتهامات، ومنها قولهم بالتحريف في الفنون الإسلامية، عبر طرح الإسباني باسيليو مالدونادو الذي «ينطلق كلامه من مفهوم الفن الإسباني  – الإسلامي ليعلن جهاراً ومباشرة أن هذا المصطلح ليس مجرد تسمية، بل مفهوم يشير بوضوح إلى أولوية المحلي على العام، وأولوية الإسباني على الإسلامي حيث يغدو هذا الأخير وافداً على أصالة تأسيسية» (ص 17).

ويعرض في الفصل الثاني لـ «مرتكزات الفن الإسلامي»، ومنها المرتكز الروحاني، ومرتكزه تعبير جوهراني، فيقول: إن كلمة القرآن الكريم تكفي لذاتها وبذاتها، بمعانيها الروحانية ليست بحاجة إلى صورة عند الفنان المسلم، «المُشبع بفضاء مفاهيمي يقوم على قاعدة ثلاثية من التوحيد الإيماني، والتجريد الفني، والتحديد الفلسفي» (ص 28). أما المرتكز الاجتماعي فيذكر «أن الإسلام أضاف إلى الوعي التقليدي الموروث المتماسك غريزياً والقائم على قاعدة الغُلب والولاء القسري عنصراً فكرياً جديداً هو التسليم، حيث إنه ربط الوعي الجماعي بالجماعة وأبعَدَه عن القبيلة» (ص 29)، متسائلاً عن سبب عدم ظهور الفنون الإسلامية في عصر الجاهلية، وظهرت بعد انتشار الإسلام؟ ويقول «لقد أحدثت الدعوة الإسلامية كسراً لشكل من المعرفة، فأنشأت لحظة إبستيمولوجية جديدة» (ص 30)، و«فَتَح الدين الإسلامي صفحة جديدة أمام العرب، جعلت الفنون أسلوبَ تعبير سلمي وإنساني جديد، بنّاء ولافت وراقٍ».

كما يشير المؤلف إلى مرتكز آخر، وهو التمايز الخلّاق، فبدأ «التمايز العمراني الفني في قبة الصخرة في القدس (692 م)، ثم في الجامع الأموي في دمشق (714 م)، حيث بدأ التمايز الديني يتحقق بلغة الفن. هنا بدأ سبك الشخصية الفنية الإسلامية بالقطع مع التراث التشكيلي المسيحي والأيقوني البيزنطي من ناحية، ومع اقتباس بعض العناصر الموجودة وتطويرها إلى أقصى حدود المهارة والجمال: كالقبة البيزنطية مثـلاً حيث أضحت بعدها من أساسيات فن العمارة في الإسلام، بحلة جديدة وجمالية جديدة» (ص 37).

هذا الفن الجوهراني، هو عنوان الفصل الثالث، إذ «إن الفن الإسلامي هو علم وفن وفلسفة روحانية  – اجتماعية» (ص 39)، مبيناً أنه عِلمٌ، بقوله «إن العلم هو في أساس الفن في ثلاثة مجالات أساسية: هندسة العمارة، والزخرفة  – الأرابسك، والخط، فلولا إتقان علوم هذه التعابير وصناعتها ما ظهرت وتبلورت هذه الفنون بكل بساطة» (ص 39) مستعيناً مرة جديدة بتفسير ابن خلدون حول هذه الفكرة، والقائل بأن الإسلام غلّب «العمران الحضري على العمران البدوي»، وعلى أساس هذا العنصر السوسيو  – المعرفي الجديد نشأ ونما الفن الإسلامي الجديد» (ص 40)، وتكونت فيه ومنه «وِضعة فلسفية للتعبير عن اللامحسوس الإلهي»، وهذه النزعة الفلسفية «تكررت في اختيار الألوان المفضلة في الفن الإسلامي وهي الأزرق والأخضر والذهبي لدلالة اللونين الأولين إلى السماء والجنة، أما الذهبي فيليق بتزيين المصاحف، ما يدل على «أن الفنان يرسم بالألوان أفكار الإيمان» (ص 53)، معدداً خصوصيات الفن الإسلامي، إذ يشير إلى نبذ هذا الفن للرمزية «لأنه فن يذهب إلى الروحانية»، وإلى استحالة الفردانية فيه، و«لأنها تأتي عبر هذه الذات الإنسانية وليس من هذه الذات»، وأيضاً في «عشق هذه الفنون للجوهرانية».

ويتناول في الفصل الرابع «التوأمة بين الفن والمجتمع»، لأن «المجتمع الإسلامي كان الشريك المعنوي والمادي الأول للفنان في إنتاجه وإبداعه الفني» (ص 61)، متوقفاً عند دور المؤسسات الدينية  – الاجتماعية وبخاصة الأوقاف، وأيضاً إلى الفن المجتمعي لجهة التقاليد(1).

ويتناول الفصل الخامس مسألة «أخلاقيات أصحاب الصنائع» وتأكيدات رسائل إخوان الصفاء للواجب الأخلاقي أولاً «فالصانع هو عالم وفنان ومؤمن». ويعرض الفصل السادس لجماليات فن الأرابسك «الذي كان أساساً في نشأة التخصص الأكاديمي الغرافيك ديزاين»، ولكن قيمته «تأتي من فرادته ومن قدرته على محاكاة روح المشاهد عن طريق تحريك بصره تحريكاً جاذباً يدفعه إلى الدخول في حوار مع نفسه»، إضافة إلى الحيرة الناشئة عن تسميته «لتشابك المهمات والوظائف التي قام عليها فن الأرابسك» (ص 98)، وهو قد «فرض نفسه بالقوة الناعمة»، وعمل «فنانو الأرابسك من كل الصور وفي جميع البلدان بنَفَس تجريدي وجوهراني واحد» (ص 110).

ويظهر في الفصل السابع بعنوان «عمارة العمران» و«التي هي ظاهرة اجتماعية متكاملة العناصر (المسجد، المدرسة الحمام الزاوية، السوق)، كما «أن العمارة جوهر اجتماعي، وتطورها وفنونها جوهر اجتماعي أيضاً، حيث لا تستقيم العمارة إلا بالعمران البشري والعكس صحيح» (ص 112).

يتناول الفصل الثامن «الخط.. هذا الناطق الصامت»، ثم في الفصل التاسع إلى «الأدب العربي والفن الإسلامي والفرق بينهما؟ ويختم مع الفصل العاشر بعنوان «الدين والمجتمع والفن» وفيها يخلص إلى أن العقيدة الإسلامية شكّلت نقطة تحول في بُنى المجتمعات العربية، وطالت عمق السلوكيات الاجتماعية وطرائق التفكير والأذواق الثقافية، وعاش العرب والمسلمون في بيئات جديدة من صنع أيديهم (ص 159)، كما ساهم الفن الإسلامي في «… نشر وتعميم نظرة جديدة إلى العمران البشري تتوافق مع مبادئ العقيدة الجديدة» (ص 160)، كما ساهم في مؤازرة الدين على نشر وتعميم نظرة جديدة للعمران الكوني» (ص 161)، وتماهي الدين بالفن مثلما تماهي الفن بالدين» (ص 163)، وأدّى «هذا التواصل المعرفي العميق والمُستدام إلى إنشاء دائرة بصرية واحدة يتحرك فيها الإسلام والفن والناس» (ص 164)، ذلك «أن الفنان يسعى دوماً إلى التأمل الجمالي وصولاً إلى المتعة الروحية» (ص 165)، لافتاً إلى «غياب لمفهوم مُحدّد للفنان في الفن الإسلامي» (ص 165)، وأنه في الفن الإسلامي «لا يحتل التحقيب المعنى الإبستمولوجي الذي يحتله في الفنون الغربية، ذلك إن الفن الإسلامي لا يتأثر بالتاريخ، فالأساليب والأنماط الفنية التي ظهرت في القرن الأول هجري/السابع للميلاد في بلاد الشام، في العمارات الأولى المعروفة، هي نفسها التي نجدها في الأندلس إبّان القرنين السادس والسابع هجري/الثاني والثالث عشر للميلاد، وهي التي نجدها بعد قرنين في سمرقند، ثم بعدها بقرنين في الهند» (ص 169).

– 3  –

لقد حقق معتوق بمهنية عالم الاجتماع البحثية تشريح جوانيات الفن الإسلامي، بأبعادها السوسيولوجية، وأعطى باستخدامه المصطلحات الدالة وسلاسة الأسلوب جمالية تناسبت مع طبيعة هذا الفن وغنى مبدعيه، ربطاً بالعقيدة الدينية الإسلامية التي نشرت بين الناس روح الإيمان، فغرفوا منها جوهرانية التأمل، وكونية الإبداع الفني، على مديين جغرافي وزمني.

صحيح أنه اعتمد مركزية محددة في معالجته الموضوع، لكننا لحظنا غياب مناقشته تأثير المجتمعات غير العربية التي انتشر فيها الإسلام على الفنون الإسلامية، وأيضاً غياب أسماء لامعة للفنانين المسلمين المبدعين، إذ ورد اسم سنان (وهو من هو) مرة واحدة ومن دون أن يثري النص بجماليات ما أبدعه هذا الفنان في فن العمارة، أو سواه.

لقد استخدم المفردات التي تساوقت مع روح النص، فبرزت أناقة اللغة مع روح الموضوع بما يتناسب (الجوهرانية، التأمل، روحانية الفن، كونية الإبداع، روعة الأرابسك)، ولكن من جهة ثانية غاب الكثير من المصطلحات والمعلومات الفنية المتخصصة، إذ لم يقرب من خصوصية كل مجتمع إسلامي وفقاً لإرثه الثقافي السابق على دخول الإسلام فيه، مثـلاً (المنمنمات، الفسيفساء، الخزف، السجاد، الموسيقى، الفن الرسم… إلخ)، أو في ملاحظة اللمسة المعمارية لفناني الشرق الأقصى في فنون العمارة الإسلامية هناك، ومثلها في تجسيد الفنون كالنحت في إيران وتركيا، أو سماح بعض المراجع الدينية الإسلامية بفن التصوير ورسم الشخصيات الدينية(2).

لقد حصر استخدام الفنانين المسلمين لألوان الأزرق والأخضر والذهبي حصراً، وابتعادهم عن اللون البني لصحراويته، ولكن الذين أبدعوا في الفنون التي تطرق إليها نلحظ اللون البني وهو لون الخشب (الحفر، المحراب، في فن الخط، الفيروزي في العمارة الفارسية والمغولية).

لم تكن إشارته إلى الكسر الإبستيمولوجي في فن عمارة المباني الدينية، وتحقيق انتقالها من معنى إلى معنى آخر مجرد لمعة ذهنية، بل إنها شكّلت جديداً في القراءة السوسيولوجية لهذا الفن الإسلامي بإضاءته على الجماليات القائمة في الفن الإسلامي، إنما يضيء معتوق شعلة  – صرخة بوجه ما تقترفه بعض أيدي المسلمين، وكأنه يقول لو أن نفوس هؤلاء المعتمة تشبه فنون إسلامهم المنير.