مقدمة:

هذا البحث هو نتاج ورشة علمية نظمتها وزارة الخارجية في سنغافورة حول دور الدين في المجتمعات المتنوعة في الربع الأخير من عام 2017، وقد حفزتني تلك الرحلة للقراءة والاطلاع من كثب على تجربة سنغافورة في بناء ذاتها، بعدما كانت هذه الدولة مأزومة في وحدتها السياسية والاجتماعية، شحيحة في مواردها المادية والبشرية، وتعيش واقعًا اقتصاديًا متخلفًا.

إن قراءة تاريخ سنغافورة يبين أنها بقيت ردحًا من الزمن دولة متخلفة ومنقسمة وشحيحة الموارد، وحين تبحث في تاريخ هذه الدولة الصغيرة في جنوب شرق آسيا، سيدهشك كيف أن رئيس وزرائها لي كوان يو وقف يبكي أمام البرلمان حينما طُردت دولته من الاتحاد الماليزي عام 1965 [1]، بعدما اعتقد أن دولته لا تتحمل الاستقلال وليس بمقدورها إدارة ذاتها، حتى إن التظاهرات عمّت أرجاء البلاد رغبة في العودة إلى ماليزيا. وبسبب نقص الخدمات والموارد فقد انتشر الفساد المادي والأخلاقي وانتشرت الجرائم والسرقة. لكن عبقرية الإنسان تمكنت، بفضل التخطيط، من استثمار المتاح من موارد بسيطة ومن ثم التأسيس لمستقبل واعد وضع سنغافورة على خارطة الكبار في العالم [2].

لقد انقلبت في عقود قليلة إلى دولة موحدة وذات موارد فائضة ورؤية تنموية أبهرت العالم بعدما حفز قادتها قدرات الإنسان السنغافوري من خلال الاهتمام بالعلم وتطبيق القانون والمساواة ومحاربة الجريمة والفساد، حتى باتت سنغافورة في مقدمة دول العالم في مؤشرات التنمية البشرية والصناعية وتطبيقات التكنولوجيا والحكومة الإلكترونية والطاقة النظيفة والصناعات المتطورة، وأصبحت أهم المراكز المالية والتجارية في العالم، وتضم أكبر مصانع بناء السفن في العالم وثالث أهم موقع لتكرير النفط في العالم. وقد اختيرت في 2004، ضمن العشرة الأوائل الأكثر تقدمًا على مستوى الأسواق المالية عالميًا، وجاء هذا الاختيار ضمن تقرير المنافسة العالمية للملتقى الاقتصادي العالمي، ولديها احتياطي عملات أجنبية يتخطى حاجز الـ 60 مليارًا، وتعَدّ الولايات المتحدة واليابان وماليزيا والصين وألمانيا وتايوان وهونغ كونغ من أبرز شركائها التجاريين، وأصبحت أحد أسرع مراكز إدارة الثروات نموًا في العالم، حيث أعلن البنك المركزي السنغافوري في نهاية 2013، أن حجم الأموال المدارة ارتفع بنسبة 22 بالمئة، ليصل إلى (1.29) تريليون دولار أمريكي[3].

إن هذا البحث يسعى بمنهج تاريخي وتحليلي لطرح جملة تساؤلات عن آليات التعامل مع واقع التنوع العرقي والديني شديد الحساسية في سنغافورة، وعن إجراءات الحد من الفساد المستشري في جسد المجتمع وعن أسس العلمانية وآليات فصل الدين عن السياسة. فهل إن قوة شخصية رئيس وزراء سنغافورة ومؤسسها الأول لي كوان يو أدّت دورًا في تحقيق الاندماج والتعايش بين فئات المجتمع السنغافوري؟ أم إن سياساته الحازمة ضد كل من يوظف الدين في العمل الحزبي هي التي وضعت حدًّا لتوظيف الدين في الحياة العامة؟ وهل كان لمناهج التربية والتنشئة الاجتماعية التي اعتُمدت في التعليم دورًا في تنمية أجيال جديدة تؤمن بهوية سنغافورة الموحدة؟ وهل إن سياسات الردع ضد الفساد والفاسدين هي التي جعلت من سنغافورة في مقدمة دول العالم في موضوع المحاسبة والشفافية؟

أولًا: سنغافورة من الانقسام إلى الوحدة

تتكون سنغافورة من سبع جزر، أكبرها جزيرة سنغافورة التي يعيش عليها ما يقارب خمسة ملايين ونصف مليون مواطن، وتتكون مساحتها من 700 كم2، وبسبب ضيق المساحة فإنها تعد أعلى دول العالم في الكثافة السكانية بعد ماكاو وموناكو الفرنسية[4]، أما شعبها فيتكون من مجموعات عرقية متنوعة، أهمها الصينيون الذين يعدّون الأغلبية وبنسبة 76 بالمئة من السكان ويدين أغلبهم بالبوذية[5]، ومن ثم الملايو المسلمون ونسبتهم تقدر 14 بالمئة من السكان، وهناك الهنود التاميل، الذين يمثلون ما يقارب 7 بالمئة من السكان ويعملون في الإدارة والتجارة، وهناك مجموعات صغيرة من الوافدين الآسيويين المنغوليين والأنغوش والأرمن وبعض الأوروبيين المندمجين تاريخيًا في المجتمع السنغافوري[6]. وبحكم الاختلاط، يتكلم السنغافوريون اللغات الثلاث (الملايو والصينية المندرينية والهندية التاميلية) إضافة إلى اللغة الإنكليزية التي أصبحت لغة البلاد الرسمية بحكم التأثر بالاحتلال البريطاني[7].

إن التنوع العرقي رافقه تنوع أشد في مجال الأديان والمعتقدات، فسنغافورة تعدّ من أكثر بلدان العالم تنوعًا في الأديان والمذاهب، ولكنها من أكثر البلدان في استقرارها السياسي والاجتماعي نظرًا إلى حكمة قادتها السياسيين ودورهم التاريخي في توظيف التعددية الدينية لتكون عامل وحدة بين شعوب سنغافورة. حيث تبنت الدولة والحكومة في سنغافورة سياسة العلمانية في تعاملها مع الأديان بلا تمييز، وسمحت لجميع السنغافوريين بممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية بحرية، وبعيدًا من الإدارة والسلطة والاقتصاد والمرافق العامة الأخرى. وقد كفلت هذه الحرية بغطاء قانوني منع السنغافوريين من إقحام الدين في الحوارات العامة عدا عن الحوارات الرسمية التي تعقد بين القادة الدينيين. ولهذا لم يسمح للأحزاب باستخدام الشعارات الدينية بهدف ضبط مسارات التنافس الحزبي ومنع انفلاته إلى العنف وبما يغير أسس التعايش داخل الدولة[8]. وقد تبنت حكومة لي كوان يو أساليب متعددة لتسهيل التعايش بين السنغافوريين عبر المناهج المدرسية والبرامج الإعلامية ومدونات السلوك الوظيفي وتوفير السكن المشترك، وغلظت العقوبات على من ينتهكون حريات الآخرين الدينية والقومية. وبعد عقود من التنشئة الاجتماعية والمدرسية ولدت أجيال تؤمن بهوية سنغافورة الواحدة، ولديها رغبة مشتركة للعيش والتضحية للمجتمع والدولة.

ثانيًا: القيادة وسنوات الاستقلال

إن أهم معيار لنجاح الدول واستقرارها ونموها هو وجود نخبة سياسية متعلمة ولها خطة استراتيجية واضحة لإدارة البلد وتطويره. ولعل وجود قائد ملهم (كاريزمي)، يقود الأمة وقت أزماتها هو ضرورة قصوى لنهوض الأمة وتقدمها. ومما لا شك فيه أن سنوات الاستقلال لشعب سنغافورة في 9 آب/أغسطس 1965، كانت قاسية وصعبة، حيث ولدت ولادة قيصرية. وكانت مهمة قادة سنغافورة أن يجعلوا منها دولة قابلة للحياة، وأن يخلقوا هوية جديدة بين أعراق متباينة في ثقافتها وأصولها.

لقد وصف رئيس وزراء سنغافورة لي كوان يو مراحل استقلال بلاده بأنها الأصعب في حياة السنغافوريين؛ فإلى أي درجة كانت سنغافورة الستينيات قاسية: فقر ومرض وفساد وجريمة، بيعت مناصب الدولة لمن يدفع، خطف الشرطيون الصغيرات لدعارة الأجانب، وقاسموا اللصوص والمومسات فيما يجمعون، احتكر قادة الدفاع الأراضي والارزّ، وباع القضاة أحكامهم، قال الجميع إن الإصلاح مستحيل لكنني التفتّ إلى المعلمين وكانوا في بؤس وازدراء ومنحتهم أعلى الأجور وقلت لهم أنا أبني لكم أجهزة الدولة وأنتم تبنون لي الإنسان)[9]. كان المنهج الأول لرئيس الوزراء هو بناء الانسان، باعتباره صانع النهضة ومحتكرها، وهو ما يعني الاهتمام بالتعليم وتربية النشء الجديد على مفاهيم المواطنة والهوية الموحدة التي تنتزع منهم لاحقًا مفاهيم الولاء للدين والعرق والطائفة، وبعد عقود من الاستثمار في الأجيال الجديدة ظهر جيل من الشباب السنغافوري مغاير لجيل الاستقلال الملوث بأدران الانقسام والتخلف؛ جيل يؤمن بوحدة شعب سنغافورة وبقيم التعايش والتلاحم بين الجماعات المكونة له بلا إقصاء أو تمييز[10]. لقد كان هذا المنهج يحتاج إلى إرادة وتصميم وقوة شخصية وضبط للموارد وتوجيه صحيح لأموال الدولة, وهذا ما فعله لي كوان يو طوال ثلاثين عامًا من حكمه، فعلى عكس الكثير من الدول المنقسمة التي اتجه قادتها إلى تعزيز قبضتهم الأمنية لمنع أي تدهور في الانقسامات الاجتماعية اتجه لي كوان يو إلى دعم قطاع التربية وبناء المدارس والجامعات ودعم البعثات الدراسية إلى أوروبا وأمريكا بهدف خلق قاعدة علمية تساهم في نهضة سنغافورة الصناعية، وهو ما مكّن هذه الدولة الصغيرة من أن تصبح أقوى القوى الاقتصادية الاسيوية نموًا وازدهارًا حيث باتت مركزًا لأكبر مصانع إنتاج السفن والبواخر في آسيا ووفرت البيئة السياسية الآمنة ملاذًا للاستثمار الأجنبي. كما عمل على محاربة الفساد والقضاء على رؤوسه الكبيرة في السلطة وخارجها، ولم يلتزم، بأي نظام اقتصادي أو نظرية سياسية، بل كان منفتحًا على كل النظريات العالمية بهدف الاستفادة منها في تطوير واقع بلاده وفي هذا يقول: “لم أكن سجين أيّ نظرية. ما وجّهني هو المنطق والواقعيّة. الاختبار الذي كنت أطبّقه على كلّ نظريّة أو مشروع مهما يكن هو: هل ينفعنا أم لا؟”[11].

لقد وصف حكم لي كوان يو بالدكتاتوري ولكنه لم يكن يشابه دكتاتوريات فاسدة وعنيدة في الشرق الأوسط. فقد كانت دكتاتورية لي كوان يو تنموية ومحفزة لبناء اندماج اجتماعي وسياسي بين مكونات فاقدة لأي نوع من التجانس. وقد احتاج لي كوان إلى ممارسة نوع من الضبط والقوة لمنع انفلات المشاعر الإثنية بشكل يؤثر في استقرار البلاد. فقد منع لي نشوء أي حزب سياسي على أساس إثني ورفض نظام المحاصصة الدينية وفسح في المجال للجميع أن يتسلموا مناصبهم الإدارية والسياسية على أساس الولاء والكفاءة وليس على أساس الولاء الإثني، وكان يراقب وزراءه ومسؤولي الدولة ويعاقبهم إنْ أساؤوا استعمال السلطة وكانت مقولته الرائدة “لا بد أن نضرب والحديد ساخن” منهجًا في معاقبة الفاسدين مستفيدًا من شعبيته الانتخابية ودعم الجماهير له[12]. وعزز من مشاركة المرأة في الإدارة والحكم وكان يعتقد بأن الناس تواقة للتغيير وراغبة في تحسين واقعها والتخلص من التخلف والانقسام[13].

لقد كانت نتيجة القيادة الحازمة لرئيس الوزراء السنغافوري، أن نشأت أجيال جديدة من السنغافوريين مسلحة بالعلم والمعرفة مع ثقافة وطنية واحدة تؤمن بالخصوصيات الذاتية لسكان سنغافورة في إطار المجتمع الوطني الواحد. ولا تزال سنغافورة في عهد رئيس الوزراء الحالي هو سين مستمرة في تحقيق المزيد من النجاح والتقدم على صعيد التنمية البشرية والتقدم الصناعي.

ثالثًا: العلمانية ومدنية الدولة

لا يمكننا في هذا البحث أن نصف المجتمع في سنغافورة بالمثالي، فالتنافس بين الجماعات على السلطة والثروة والوظيفة يبقى غريزيًا ويترافق أحيانًا بسلوكيات غير حضارية. وعليه، فلا تزال الألفاظ والسلوكيات العنصرية والإشارة إلى لون البشرة والانتصار للجماعة من الأمور المعتادة في سنغافورة والتي لم تستطع سياسات لي كوان يو أو خلفاؤه من القضاء عليها نهائيًا. ويؤكد البروفسور تان من جامعة سنغافورة الوطنية أنه “لا يمكن في سنغافورة تجاهل الانقسامات القوية المبنية على أساس الدين والعرق، ولكن من الملاحظ أيضًا أن العولمة قد خلقت انقسامًا طبقيًا حادًّا قاد إلى عدم المساواة بين السنغافوريين[14].

لقد كانت بدايات الاستقلال معقدة وطريق بناء الدولة صعبًا أمام قادة سنغافورة. ومنذ البداية كان عليهم أن يختاروا بين استمرار الانقسام بين الجماعات أو أن يتبنوا طريق التعايش بينها. ولم يكن أمام قادة الاستقلال سوى اختيار العلمانية كطريق واضح لإعادة إنتاج الهوية الوطنية ولكن ليس أي نوع من العلمانية؟ لقد كان لي كوان يو في محنة بين أن يختار العلمانية الليبرالية التي تأثر بها بحكم دراسته القانون في إنكلترا في أربعينيات القرن العشرين، وبين العلمانية المتشددة التي يؤمن بها الشيوعيون الصينيون، وبين الليبرالية المتدرجة التي تؤمن بمدنية السلطة وتنوع المجتمع[15]. لقد اختار يو المضي في طريق تسهيل التعايش بين الجماعات فأقر بالمعاملة المتساوية بينها، واعترف بحقوقها الدينية ورفع شعار الأديان الصديقة وحق الفرد بالتحول الديني[16]. ونظرًا إلى الحماسة الدينية لبعض الجماعات، ولا سيما التبشير الإنجيلي للمسيحيين، فقد أقر عام 1986 قانون الوئام الديني الذي يهدف إلى تنظيم عملية الدعوة الدينية ومنع بعض الجماعات من خلط التبشير الديني بالسياسة. كما أنشأ المجلس الرئاسي للوئام الديني كهيئة استشارية تتألف من قادة علمانيين ودينيين لتقديم المشورة للرئيس بشأن المسائل التي تؤثر في تعايش الأديان[17].

لقد دافع لي كوان يو عن منهجه العلماني في إدارة الدولة وبقي يعتقد أن العلمانية السنغافورية لا تسعى إلى تطويق الدين وحَيْده من الحياة العامة، وإنما إلى حماية الدولة من الأديان وحماية الأديان من الدولة والسلطة، وهذا الفهم يعَدّ جديدًا في تجارب العلمانية في العالم، فسنغافورة تريد أن يكون للأديان دور في بناء الأمة شريطة أن لا تتعدى على المجال السياسي[18]. فالتحكم في قواعد الأفراد الإيمانية وقيمهم هو طريقة حديثة لإعادة إنتاج الشخصية الوطنية. فالدين هو شكل من اشكال العمل الجماعي الذي يمكن من خلاله للجماعات الدينية أن تدعم أو تعرقل مختلف التفاعلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المجتمع. ولهذا فيجب على القادة السياسيين أن يوظفوا فضائل الدين في بناء المجتمع وتقوية روابطه الوطنية[19]. ولتحقيق صيغة معقولة من الانسجام الديني سعت الحكومة السنغافورية إلى تعزيز النشاطات والمؤتمرات المشتركة بين القادة الدينيين وكذلك قادة المجتمع بهدف بناء الثقة المتبادلة بينهم والاستجابة إلى الأزمات التي تهدد الأمن المجتمعي، إضافة إلى بث الوعي بالقيم المشتركة بين السنغافوريين[20].

لقد حرصت الحكومات في سنغافورة على تطبيق مبادئ العلمانية ومنع الإخلال بها، ولهذا طبقت في فترات مختلفة عقوبات تأديبية لأفراد ومنظمات روّجت قضايا دينية خلافًا للقانون وبصورة تخل بامن المجتمع ووحدته[21]. فقد تم اعتقال مجموعة من المتهمين بالإرهاب من الجماعة الإسلامية بعد هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر2001، وقبلها اعتُقل عدد من المسيحيين الذين اتهموا بأنهم مدعومون من جماعات شيوعية عام 1987. وقد عززت الحكومة في سنغافورة إجراءاتها بدعم الوئام الديني بتشديدها على تطبيق قانون العقوبات والذي ينص على اعتبار تدنيس أماكن العبادة أو إزعاج جماعة دينية والتهكم من معتقداتها بألفاظ أو منشورات تروج العدائية، جرائم جنائية استنادًا إلى قانون التحريض على الفتنة. كما تم إقرار قانون الحفاظ على الانسجام الديني عام 1989، والذي سمح لوزير الداخلية إصدار أوامر قبض ضد أي قائد ديني أو مجاميع دينية تروّج قضاياها الدينية على حساب الصالح العام. واستنادًا إلى هذا القانون اعتقلت الحكومة في 2005 ثلاثة مدوّنين بسبب نشرهم تعليقات على شبكة الإنترنت اعتبرت معادية للمسلمين، إلى جانب ذلك أصدرت الحكومة سلسلة قوانين وسياسات لحماية الأقليات فشكّلت المجلس الرئاسي لحقوق الأقليات ليكون مسؤولًا عن فحص الغرامات والعقوبات التي يفرضها البرلمان للتمييز ضد أي طائفة أو دين[22].

لم تسعَ الحكومة إلى فرض العلمانية، وإنما إلى جعل الدين وسيلة فعّالة في بناء الهوية الوطنية، ولم يكن من السهل إقناع العلمانيين والملحدين بفكرة أن يدخل الدين في الفضاء الوطني العام وأن يكون مساهمًا في تقوية النسيج الاجتماعي بين الجماعات المتباينة[23]. فمبادئ الديانات في سنغافورة قريبة من مبادئ حقوق الإنسان. وكان من المهم فتح حوار مع القادة الدينيين حول أولوية القيم الدينية التي تصلح لأفراد المجتمع[24].

ورغم كل هذه الإجراءت فإن السؤال الأبرز هل إن تطبيق العلمانية قد أضعفت من تأثير الدين في سلوك الأفراد، وهل إنها قللت المنافسة بين الأديان؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتسم بالغموض، وهي تطرح إشكالية واضحة حول قدرة الحكومة على إذابة أثر التناقضات الدينية على الانسجام المجتمعي. ولهذا لا يمكن تخيُّل أن الحكومة السنغافورية بعد خمسة عقود من التنشئة على المبادئ العلمانية قد تمكنت من إيصال مجتمعها إلى المثالية في التسامح والتعايش؛ إذ لا يمكن إنكار وقوع حالات خرق ومخالفات لقوانين المساواة وعدم التمييز. فالتمييز والنمطية لازالت موجودة في سنغافورة ويتم التصريح بها من مختلف الاشخاص والانتماءات في وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل إعلامية أخرى مثل السخرية من آذان المسلمين من جانب بعض الصينيين أو الشكوى من رائحة بعض الهنود والتهكم من أشكالهم السمراء، أو محاولة الربط بين الإسلام والإرهاب وإثارة الخوف من الإسلام لاستفزاز الملايو المسلمين[25].

وفي سنغافورة، كما في غيرها من المجتمعات في آسيا وأوروبا، لا يزال يُنظر إلى الإسلام والقضايا المتعلقة به مثل الحجاب وتعدد الزوجات واندماج المسلمين في المجتمعات المتنوعة على أنها تحدٍّ كبير لقدرة الحكومة على تحقيق انسجام وطني. وقد عززت أحداث داعش، وما ارتبط بها من قيم التكفير والنظرة السلبية إلى الآخر المختلف دينيًا، من شكوك غير المسلمين حيال أقلية الملايو المسلمة[26].

 

رابعًا: لي كوان يو الدكتاتور التنموي

إن الشعوب المأزومة والتي تعاني انقسامات اجتماعية ومشاكل اقتصادية لا يجب أن تعطى جرعة مفاجئة من الإصلاحات الديمقراطية. فالحديث عن الديمقراطية سيكون بمثابة من يعطي مريض السرطان دواءً لمعالجة الصداع حيث تكون النتيجة أن السرطان لا يتوقف وإنما يواصل الانتشار في الجسم حتى الموت. وكذلك هي الديمقراطية التوافقية في المجتمعات التي تفتقد الانسجام الوطني بين مكوناتها، فان الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان يكون بمثابة من يصبّ الزيت على النار حيث إن المواطن المشحون بعواطف عنصرية ونظرة سلبية لمجتمعه ستكون الديمقراطية فرصة له لتعزيز مصالحه الشخصية ومصالح الجماعة التي ينتمي إليها على حساب الهوية الوطنية. وعليه، فان التركيز يجب أن ينصبّ على معالجة مشكلات الهوية والاندماج الاجتماعي وتنشيط الصناعة والزراعة لتوفير فرص عمل للعاطلين ومساعدة الفقراء وتحقيق تنمية مستدامة، وفي دولة منقسمة يكثر فيها الفساد والرشوة والأمية، يصبح الحديث عن الديمقراطية ضربًا من الوهم. ولذلك كانت الفرصة الوحيدة أمام قادة سنغافورة لإنقاذ بلدهم هي الإرادة السياسية الصلبة والنضال المستمر لمواجهة التحديات الاجتماعية والمشاكل الاقتصادية[27]  وتأهيل البلد كدولة بالمعنى المتعارف عليه. ولهذا فإن قراءة مسيرة لي كوان يو تظهر أنه لم يكن دكتاتورًا مشابهًا للدكتاتوريين الموجودين في دول أخرى من العالم. فقد اتجه لي كوان يو في بداية الاستقلال لتبنّي سياسات قوية لإعادة بناء اقتصاد قليل الموارد وتنمية طبقة علمية مثقفة تقود عملية التنمية كما ركز على بناء اجيال مؤمنة بوحدة سنغافورة وتعايش هوياتها المختلفة ويعملون لأجلها، ولهذا فقد حث الشباب على العمل التطوعي لتنظيف المدن والسواحل من الأوساخ وإزالة الأنقاض والمحافظة على الأملاك العامة، وعمل بنفسه مع وزرائه في شوارع المدن وتنظيف الأماكن القذرة وحثهم على عدم الاغترار بالسلطة والتواضع في التعامل مع المواطنين والاستجابة لمطالبهم، وأن يعملوا مع المواطنين حتى لو اتسخت ملابسهم وأيديهم[28].

كان لي كوان يو يؤمن بالعدالة الاجتماعية وتحقيق المساواة بين الناس وتقليل الفوراق بينهم في الثروة والسلطة في وقت حرص كثيرًا على إعطاء ذوي الشهادات والمواهب مكانتهم في الدولة والسلطة، استندت رؤية لي كوان يو إلى انه كلما كان عدد الموهوبين الذين يشغلون مناصب الوزراء والمديرين والمهنيين كبيرًا كلما كانت سياسات الدولة أكثر تأثيرًا وتحقق نتائج أكبر[29].  وتلك بلا شك مبادئ فيها نكهة اشتراكية ربما تأثر بها لي كوان يو خلال دراسته في بريطانيا واستماعه إلى محاضرات المفكر الاشتراكي هارولد لاسكي حيث استخلص منها العبر المفيدة خلال تسلمه السلطة[30].

لم تكن إصلاحات لي كوان يو تمر دون أكلاف سياسية أو احتجاج من قبل المعارضين، ولا سيما الشيوعيين الذين كانت نواياهم تعطيل أي عملية إصلاحية يقوم بها، فاتهموه بأنه كان دكتاتورًا وقاسيًا في التعامل مع خصومه السياسيين، وكان يسعى إلى إبعادهم عن السلطة تحت دعاوى الإصلاحات والتنمية، ولا سيما في الستينيات والسبعينيات حيث أعاد إصدار قانون الأمن الداخلي، والذي صدر أيام الاحتلال البريطاني. وحينما كانت سنغافورة جزءًا من ماليزيا 1963، حيث صدر في المقام الأول للتعامل مع التمرد الشيوعي في ذلك الوقت، وسمح للشرطة بالقبض على أي شخص يشتبه في أنه تصرف بطريقة تهدد الأمن الوطني، وغالبًا ما تم احتجاز أشخاص دون مذكرات قبض وبمعزل عن العالم الخارجي، ويستمر احتجازهم إلى أجل غير مسمى دون أن توجه إليهم تهمة ارتكاب جريمة أو محاكمتهم في محكمة قانونية، حيث أمر لي، بموجب قانون الأمن الداخلي، باحتجاز الكثير من الشيوعيين لفترات طويلة وبلا محاكمة وأساءت قوات الأمن معاملتهم. كما تم تقييد الصحافة ونشاط الصحافيين المعارضين وفرضت عقوبات قاسية على المسيئين إلى الحريات العامة. وقد وجهت إلى لي كوان يو اتهامات بإساءة استخدام الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان، فقد اتهم المحامي فرنسيس سيو والذي اعتقلته الأجهزة الأمنية بموجب قانون الأمن الداخلي لمدة 72 يومًا، اتهم لي كوان يو بالسلطوية والإساءة لحقوق الإنسان وقمع الحريات العامة بهدف الانفراد بالسلطة. ووصف في سيرته الذاتية (منشق في سجن لي كوان يو)، الحكومة السنغافورية بأنها قوضت حرية الإعلام وحولت وسائل الإعلام إلى أبواق مؤيدة للحكومة[31].

لقد دافع أنصار لي كوان يو عن سياساته المتشددة مؤكدين أن التقدم الاقتصادي ومستوى التنمية الذي بلغته سنغافورة في فترة حكمه الطويلة وسياساته الفعالة للقضاء على الفقر والفساد وتطوير قدرات العلماء وتفعيل دور القطاع العام والخاص في التنمية وزيادة الشفافية والمحاسبة للمسؤولين المتورطين بالفساد وإجراء تقارب اجتماعي بين المجموعات العرقية والدينية كفيلة بإزالة تهمة الدكتاتورية عن لي كوان، ويتساءل تونغ يوكاثرين، في مقال له نشره في آذار/مارس 2015 ما إذا كان لي كوان يو دكتاتورًا وكيف أنه قاد سنغافورة إلى ما هي عليه من تقدم تكنولوجي واقتصادي، حيث يؤكد أن المفهوم الخاطئ الشائع لدى الكثيرين هو أن الانظمة الدكتاتورية أو الاستبدادية هي نظم سيئة، ولكن إذا فكرت في الأمر فعليًا، فإن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تتمتع بأقصى إمكانات للفعالية والضبط حيث يتم تمرير القوانين بصورة أسرع، ويتم اتخاذ الإجراءات بغضّ النظر عن كيفية تفكير الجماهير الجاهلة. وهذا هو السبب الذي جعل سنغافورة تتحول كليًا خلال جيل واحد من دولة من العالم الثالث إلى دولة من العالم الأول. ولهذا سعى بعض الكتاب المناصرين لـ لي كوان يو إلى وصفه بـ”الدكتاتور التنموي”، الذي تحتاجه كل المجتمعات التي تمر بأزمات تنموية واجتماعية[32]. فقد يكون لي كوان يو دكتاتورًا، ولكنه دكتاتور تنموي، أو ربما بتعبير الكاتب أدريان هو(Adrian Ho)  دكتاتور مستقيم، حيث لم يكن دكتاتورًا مخادعًا صادر الحريات العامة للشعب[33]. فقد سمح بنوع من الديمقراطية التمثيلية التي تجمع بين الشفافية والفعالية وكانت نظرته إلى الحياة السياسية والاجتماعية متوافقة مع الطبيعة البشرية، وكان يعتقد أن النظرية الكونفوشيوسية تحسِّن من إيمان الرجل ولكن يبقى بحاجة إلى التدريب ليكون منضبطًا. وهذا يعني وفقًا لرؤية لي كوان يو الكثير من قواعد الضبط للمواطنين كحظر رمي القمامة والبصق على الأرصفة وعدم الإساءة للممتلكات العامة وفرض العقوبات والغرامات القاسية واستخدام الصحف للتشهير بمن يخرقون النظام العام إضافة إلى استخدام وسائل تثقيف الشعب وتحويلهم من أشخاص عاديين إلى مصنّعين للتكنولوجيا العالية في غضون بضعة عقود[34].

لقد دافع لي كوان يو عن اتهامات خصومه بالدكتاتورية، فمن وجهة نظره لم يكن لسنغافورة أن تحقق النمو الاقتصادي لو لم يتم التدخل بالتفاصيل، فقد كان التدخل ضروريًا جدًا حتى في المسائل الشخصية للأفراد كاختيار الجار وطريقة العيش وأين يجب أن توضع القمامة وأين يتم البصق وعدم التسبب بالضجيج للحي السكني أو في الأماكن العامة. وبقي لي كوان يو يدافع عن أفكاره ورؤيته لمستقبل سنغافورة، وكان إلى حد كبير معجبًا بأفكار الفيلسوف الإيطالي ميكافيلي حول السلطة وحتمية تحجيم المعارضة إلى اقصى قدر ممكن. ففي كتابه قصة سنغافورة كتب لي كوان يو: “كنت دائمًا أعتقد أن ميكافيلي على حق، فإذا لم يكن هناك أحد يخشاني، فأنا بلا معنى”، ولهذا بنيت سياسته اتجاه المعارضة على ضرورة تفكيكها وهدمها قبل أن يشتد عودها لأن هدمها فيما بعد سيكون صعبًا. كما اعتقد يو أن فرض السياسات الحادة والقاسية هو أمر ضروري جدًا من أجل الوصول إلى الأوضاع الصحيحة، وهو ما حصل في نهاية المطاف حيث باتت سنغافورة في مصاف الدول الناجحة والمتطورة[35].

لقد تمكن لي كوان يو وبقوة القانون والعدالة من أن يغير من واقع الحياة في سنغافورة، وكان حازمًا حيال قضايا المحسوبية والرشوة والفساد[36]، ومثّل أسلوبه في القضاء على الفساد منهجًا لا بد من اعتماده في المؤسسات والدول التي تعاني فسادًا وتخلفًا. فقد اعتقد لي كوان أن أي عملية إصلاح اقتصادي وسياسي لا يمكن أن تنجح دون مواجهة جذرية للفساد بكل أشكاله. إذ إن الفساد يقوض المشروعية السياسية لأي حزب، ويعصف بالإيرادات الحكومية ويشوّه التجارة والاستثمار، ويسهم في انتشار الجريمة والمخدرات وتجارة الأسلحة وغسل الأموال وهروب رؤوس الأموال إلى الخارج فضلًا عن تفاقم معدلات الفقر والبطالة ومن ثم الجريمة المنظمة وعدم الاستقرار السياسي ومن ثم الثورات والحركات الاحتجاجية[37].

ولهذا فقد تبنى عدة خطوات في هذا الاتجاه، لعل أهمها التخلص من المسؤولين الفاسدين، وتفعيل عوامل المراقبة والمتابعة لكل شخص في موقع المسؤولية. حيث كان يؤمن بأن تنظيف الفساد مثل تنظيف الدرج يبدأ من الأعلى نزولًا إلى الأسفل[38].

لقد تبنى لي كوان يو طوال عمله السياسي خطوات فاعلة لمكافحة الفساد تمثلت بأربع خطوات تجدر الإشارة إليها:

1- إعادة تشكيل هيئة مكافحة الفساد (BCI)، وتعزيز صلاحياتها وتغيير أسلوب عملها ولا سيما لجهة إنكار حصانة المسؤولين الحكوميين وعائلاتهم، فكانت النتيجة أن الكثير من الوزراء والمسؤولين تعرضوا للمسائلة والتحقيق من قبل وكلاء (BCI) بمن فيهم لي كوان يو نفسه وعائلته، بل إن بعضهم تم زجه في السجن بناءً على نتائج تحقيقات أثبتت تورطه بقضايا فساد مثلما حصل مع وزير البيئة وون تون بون عام 1975 والذي سُجن لأربع سنوات ونصف بسبب اتهامه بتلقي رشاوى نتيجة تسهيلات قدمها لشركات تجارية تعمل في البناء[39].

2- الحرص الشديد على تطبيق مبدأ عيش في حدود إمكاناتك، وقد صدر في عام 1960، قانون يسمح بالنظر في حقيقة أن المتورطين في قضايا فساد كانوا يعيشون خارج حدود مرتباتهم، وفي حالة إثبات أن المسؤول مذنب وأنه تلقى رشوة أو هدية مقابل عمل يؤديه لشخص خارج السلطة، فإن ممتلكاته ستصادر وسيدفع غرامة كبيرة ويُسجن[40].

3- أما العنصر الثالث فكان زيادة رواتب المسؤولين العاملين في القطاع العام بهدف منعهم من الانخراط في ممارسات فاسدة[41].

4- تفعيل الإعلام الجماهيري لتغطية حالات الفساد وفضح المسؤولين الفاسدين. وقد شكل هذا نوعًا من الضبط الاجتماعي تغلغل بمرور الوقت في سلوكيات المسؤولين والمواطنين[42].

وقد رافق هذه الخطوات التنظيمية الأربع وسائل نظرية تمثلت بتفعيل القيم الاجتماعية التي تحارب الفساد، وكذلك تنشئة الأجيال الجديدة في المدارس والكليات على احترام المال العام وحب الوطن، ونبذ الاشخاص الذين يتعاطون الرشوة. وهذه القضايا هي التي حولت سنغافورة من دولة فقيرة وبلا موارد إلى واحدة من الاقتصادات الرائدة في العالم في أقل من 40 عامًا[43].

خاتمة

إن دراسة نموذج سنغافورة التنموي وكيف استطاعت أن تشق لها طريقًا فريدًا في التنمية والتطور الاقتصادي، يمثل أداة فاعلة لدراسة مسارات النهضة التي ينبغي للدول المأزومة سلوكها للنهوض بواقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، إذ إن تجربة سنغافورة وغيرها من الدول المنقسمة والقليلة الموارد قدمت الكثير من الرؤى والأفكار التي ينبغي لقادة ومفكري الدول التي لا تزالت تتعثر في طريق النمو. ومن هذه الأفكار:

  • إن التعددية الاجتماعية والانقسامات الإثنية ليست سيئة بالمطلق، فبمقدور القادة السياسيين في الدول المتعددة أن يوجدوا نظامًا توافقيًا وميثاقًا وطنيًا يًجمع عليه القادة المحليون يمكن أن يمثل أساسًا للانطلاق في بناء الهوية الوطنية طالما استند إلى المساواة والعدالة في توزيع منافع السلطة بين السكان بعيدًا من أي انحيازات أيديولوجية ومصالح سياسية.
  • إن نهضة سنغافورة التي تخلو من الموارد الطبيعية تؤكد أن شروط النهضة تعتمد على إرادة الإنسان وليس على ما يتوافر للدولة من موارد وإمكانات مادية، فالثروة هي في الإنسان المتعلم والممكّن والخالي من العقد والرواسب الاجتماعية والذي يستطيع أن يطور ويبدع في أجواء من الحرية والشفافية بعيدًا من الصراعات الحزبية والانحيازات الأيديولوجية.
  • إن نهضة سنغافورة لم تكن تتحقق بشخصية الرئيس لي كوان يو وقوة شخصيته، وإنما برؤيته التنموية، فقد يكون الرجل في بعض مراحل حكمه مارس نوعًا من القسوة حيال معارضيه الشيوعيين المدعومين من الصين والاتحاد السوفياتي، إلا أن إصلاحاته التنموية على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وقضاءه على الفقر والأمية والبطالة ومحاربته الفساد وتطبيقه القانون على الجميع وبلا مجاملة وسعيه لتحقيق انسجام وتلاحم بين فئات المجتمع السنغافوري كان لها أثرها الواضح في نهضة سنغافورة، ومما لا شك فيه أن أهم درس يمكن الاستفادة منه هنا هو أن وصول رجل دكتاتور ومستبد إلى السلطة قد يكون سببًا لمزيد من التصدع السياسي والانشقاق الاجتماعي ما لم يترافق مع رؤية تنموية لذلك المستبد تسعى إلى انتشال البلد من حالة الانقسام السياسي والاجتماعي إلى مرحلة التطور والتنمية في كل المجالات.
  • واستكمالًا لِما تقدم، فإن محاولة تطبيق الديمقراطية في مجتمعات لم تستكمل مقومات الديمقراطية من تعليم وتنمية هو أمر محفوف بالمخاطر. فالديمقراطية في مجتمعات جاهلة لم تستكمل بعد شروط نهضتها هو اتجاه محفوف بالمخاطر، إذ إن ممارسة نوع من الضبط مهم في المراحل الانتقالية من حياة الشعوب بهدف تثبيتها في الطريق التنموي الصحيح، وإلا فإن الديمقراطية تصبح محلًا للتنازع والتشاحن وضياع موارد البلد. وهذا ما عمل عليه لي كوان يو وغيره من قادة البلدان التي تدرجت في الانفتاح السياسي والديمقراطية.
  • إن تجربة سنغافورة وغيرها من النماذج التنموية الرائدة في جنوب شرق أسيا لم تكن لتنجح لولا الرعاية الدولية. فقد لعبت بريطانيا دورًا مهمًا في نشوء سنغافورة وبناء نظامها السياسي وتخطيط نهضتها الاقتصادية، ودخلت الولايات المتحدة لاحقًا على خط المساندة والحماية لنظام الحكم في سنغافورة، الأمر الذي ساهم في سرعة تدفق الاستثمارات الأجنبية لسنغافورة والتي قُدرت بأكثر من 150 مليار دولار. وفي عالم اليوم حيث تتداخل المصالح السياسية والشراكات الاقتصادية، وتتغلغل مصالح الشركات المتعددة الجنسية، وتتنوع وسائل التواصل بين الشعوب، لا يمكن الانفراد بنموذج تنموي لدولة ما دون الاقتباس من التجارب التنموية المتسارعة في العالم وتطبيق بعض أوجهها المتشابهة، وهو ما فعله لي كوان يو إبان حقبة حكمه والمراحل التي تلته.
  • إن تجربة سنغافورة المنقسمة والفقيرة الموارد والمشرذمة القوى والتوجهات تقدم دليلًا على إمكانية نهضة الشعوب والأمم التي تعاني الانقسام واستفحال المشكلات الداخلية إذا ما توافرت لها شروط النهضة من قيادة تنموية وطاقات علمية خلاقة تقود البلد نحو التنمية والتقدم الصناعي والإنساني، وهذا بلا شك شرط ثابت في تقدم الأمم ونهضتها. فمن سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم كما يقول مالك بن نبي، والعكس صحيح حينما تتوافر الأمة على مقومات العلم والإبداع فإن طريق طرد التخلف والانقسام يكون قصيرًا ومعبّدًا.

 

قد يهمكم أيضاً  تقييم أداء الاقتصاد الجزائري في تعزيز المناخ الاستثماري

اقرؤوا أيضاً  الخيار الأوراسي وسؤال الأمن والهوية في غرب آسيا

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #سنغافورة #التنمية_في_سنغافورة #العلمانية #الاقتصاد_السنغافوري #صعود_سنغافورة #جنوب_شرق_آسيا #العلمانية_في_سنغافورة #مدنية_الدولة_في_سنغافورة #النهوض_الاقتصادي_في_سنغافورة #المسار_التنموي_في_سنغافورة #النهضة_في_سنغافورة #نموذج_سنغافورة_التنموي