مقدمة:

مثّل القانون التوجيهي للتربية والتعليم المدرسي المؤرخ في 23 تموز/يوليو 2002 في تونس مشروعاً تغييرياً وتحديثياً مهمّاً. وقد استند في مضامينه إلى عديد المبادئ والمستحدثات التربوية العالمية المرتبطة بسياق اللحظة التاريخية الجديدة، لحظة العولمة بكل رهاناتها وتحدياتها. لكن بقيت مضامين هذه النصوص التشريعية ومجالات التجديد فيها بعيدة من الواقع التربوي التونسي، ولم يتم تصريفها عملياً إلى حد اليوم لأن المسألة لا تتوقف على النيات والرغبات، بل ترتبط أساساً بمستوى الوعي الذي يمتلكه الفاعلون الاجتماعيون والقادة التربويون بوجاهة هذه التجديدات، وكذلك بمدى توافر الإمكانات المادية والبشرية والقدرات الذاتية والموضوعية التي يمكن أن تساعد على إنتاج منظومة تعليمية وتربوية جديدة تؤدي فعلاً إلى إعادة بناء المؤسسات التربوية وفق المقاييس العالمية.

لقد ركّزت السّياسات التربوية التونسية منذ الاستقلال اهتمامها على التّطوّر الكمّي وعلى استيعاب عدد من التّلاميذ الذين هم في سنّ الدّراسة كأولى الأولويّات، وما زال الخطاب الرّسمي إلى حدّ اللّحظة، يمجّد إنجازاته الكمّية ويركّز على بعض المؤشّرات الإحصائيّة، ولا يأخذ في اعتباره الأبعاد الكيفيّة أو النّوعيّة في النّهوض بالتربية.

لهذا يُطرح التساؤل اليوم حول مدى نجاعة هذه المرجعيات القانونية وأطرها المؤسساتية في تحقيق أهداف الإصلاح التربوي في المستقبل؟ أي إلى أي مدى يمكن الاستئناس بها واعتمادها منطلقاً للنهوض بالمرفق العمومي للتربية في تونس؟

أولاً: مدرسة الغد وتحديات الجودة

يتنزّل هذا الاهتمام بمقاربة جودة التربية ضمن البحث العالمي في مسألة التّكلفة لهذا الحقل. فقد ظهر منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي مجال جديد يدعى «اقتصاديات الجودة» الذي يحاول من ضمن اهتماماته أن يبيّن تأثيرات الجودة التّربوية بالمال والجهد والوقت. وكشف عديد الباحثين أنّ مجرّد توسيع التّعليم وانتشاره لا يضمن عوائده، وإنّما تتوقّف العوائد كماً وكيفاً على مدى دقة تخطيط التّعليم وحسن إدارته.

ولكي نسيطر على هذا المفهوم في مجال التّربية والتّعليم ونوظّفه لفائدة تطوّر مؤسّساته، لا بدّ من ترجمته إلى مؤشّرات مدرسيّة قابلة للملاحظة والقياس.

هل إنّ قضيّة الجودة في المدرسة – كما في الاقتصاد – هي قضيّة تقنيّة «السّيطرة على التّكنولوجيا» وكمّية «زيادة الإنتاج وتحسين النّتائج…»؟ أم هي قضيّة كيفيّة تتمثّل بالأساس بتغيير عقليات العاملين في المؤسّسة؟

إنّ متابعة مفهوم الجودة في المدارس والمعاهد، تقتضي دراسة الوضع التّربوي التّعليمي في هذه المؤسّسات، ووضع الخطط والبرامج (السياسات) التّطويرية الشّاملة للاستجابة إلى مختلف متطلّبات مواصفات الجودة. ولن يتمّ ذلك إلّا وفق إعداد «دليل» (guide) للجودة المستهدفة في هذا الحقل.

1 – نظام التّقييم المدرسي

من خلال استقرائنا للواقع التعليمي والقيام بجرد تاريخي لمختلف محطّات الإصلاح التّربوي في بلادنا، تبين لنا أن اهتمام الدولة تركّز في السابق على المقاربة الكمية لتقييم نجاحات المنظومة التربوية وإخفاقاتها، وأهمل جوانب أساسيّة أخرى فاعلة ومؤطّرة للمشهد التّربوي؛ من أهمّها الإدارة المدرسية ونوعيّة كفاياتها التّنظيميّة والإنسانيّة. وكان النّموذج المتبع لتقييم مؤشّرات جودة الفعل التّربوي ومضامينها هو النّموذج «الفنّي» الذي طغت عليه لغة الأرقام والإحصاءات واستمارات الرّصد كوسائل لإحداث التّغييرات المستهدفة، والتّأكّد من مدى تطبيق أهداف الخطط الإصلاحيّة في واقعنا التّربوي منذ الاستقلال. أمّا النّموذج المغيّب تماماً فهو النّموذج الإنساني والثّقافي (الكيفي) الذي تتمّ متابعته من خلال التّفاعل مع المحيط المحلّي والوطني ويتمّ رصد تجليّاته الحقيقيّة من خلال دراسة الوقائع الميدانيّة. كل هذه الإشكاليات وغيرها تجعلنا أمام مأزق مفهومي لا يمكن الخروج منه لمقاربة مفهوم الجودة ومجالاتها أو مؤشراتها في الحقل التربوي.

لم ترافق التّطوّر الكمّي لعدد التّلاميذ في تونس سياسة تربويّة نوعيّة في مستوى تطوير الوسائل والمؤسّسات التّربويّة، وفي مستوى التّأطير والإحاطة التّربوية والاجتماعيّة والبيداغوجيّة. فقد تكون شعارات المساواة وديمقراطيّة التّعليم سبباً مباشراً في تراجع مستوى التّعليم، «لأنّ الإفراط في طلب المساواة وتجاوز النّخبويّة، ثمنه تدنّي التّعليم»[1].

كما إنّ توسيع التّعليم وفتح باب الالتحاق بالمدرسة للفتاة ولأبناء الفئات الضّعيفة، لا يعني أن جميع المتعلّمين توافرت لهم حظوظ متكافئة في التمتّع بهذا الحقّ، لأنّ الاعتراف بالحقّ في التّعليم لا يعني توافر جميع شروط ممارسة هذا الحق في الواقع. إنّ تبنّي مبدأ «تكافؤ الفرص التّعليميّة» يقتضي فتح المدرسة أمام الجميع وتمكينهم من المعارف نفسها وفي الظّروف نفسها المادّية والمعنويّة، أي الالتزام بمبدأ «الاستحقاقيّة» حتى يكون النّجاح مرتبطاً بقدرات المتعلّم وانعكاساً حقيقيّاً لكفاياته التّعليميّة وقدراته الشّخصيّة (انظر الجدول الرقم (1)).

الجدول الرقم (1)

تطوّر نسبة التّمدرس في تونس خلال عشر سنوات

السّنة الدّراسيّة1998/19992008/2009
الفئة العمريةذكورإناثالجملةذكورإناثالجملة
أطفال 6 سنوات99,199,199,199,299,299,2
6 – 11 سنة97,296,897,097,498,097,7
6 ـ 18 سنة88,287,287,790,492,491,4
12 – 18 سنة68,868,068,472,178,975,4

المصدر: «إحصائيات التربية والتكوين، للسنة الدراسية 2008 – 2009،» وزارة التربية والتكوين (الجمهورية التونسية) (2009)، ص 6،       <http://www.education.gov.tn/article_education/statistiques/stat_educat ion_ar.pdf>.

 

على الرّغم من أهمّية هذه المؤشّرات الإحصائية والكمّية الرّسمية وما ترمز إليه من دلالة على ارتقاء تونس في أدائها التّعليمي الكمّي، وتحسّن في نتائج التّلاميذ في مختلف مستوياتهم التّعليمية وفئاتهم الاجتماعيّة، فإنّ مَواطن الضّعف فيها ما زالت قائمة وتمثّل مشاكل حقيقيّة وحجر عثرة أمام تحقيق الجودة في التربية والتعليم. إذ إنّ ارتفاع نسبة التّمدرس في مختلف المراحل التّعليمية، لا يحجب عنّا استمرارية ظاهرة الانقطاع المدرسي، سواء كان بشكل إرادي من قبل المتعلّم نفسه أو لأسباب قاهرة أحياناً مثل الرّفت لأسباب مختلفة. كما إنّ هذه المؤشّرات أو النّسب والمعطيات لا تمثّل حقيقة المشهد التّربوي التّونسي الذي تخترقه عديد التّناقضات والتّفاوتات. إذ يتميز المشهد التربوي بالتفاوت بين الجهات والمؤسّسات وبين الأقسام في مستوى توزيع عدد التّلاميذ سواء في التّعليم الابتدائي أو الثّانوي.

وطالما بقيت عناصر التّقييم التّربوية أُحاديّة الاتّجاه تركّز على بعض المؤشّرات الكمّية ولا تهتمّ بمَواطن الضّعف والاختلالات النّوعية فلا يمكن لأيّ مشروع إصلاحي جديد أن يفعّل، أو يحقّق، النّتائج الحقيقيّة في التّغيير التّربوي والتّعليمي. فالنّوعيّة صفة دائمة التّجديد والتحوّل والتّطوّر، تقتضي إرادة صادقة من القائمين على الشّأن التّربوي وبمشاركة مختلف الأطراف من داخل المدرسة ومن خارجها في عمليّة مركّبة بدءاً من نوعيّة البرامج والأهداف التّعليمية، ونوعية الطرائق والمنهجيات، ونوعية التّسيير والتنظيم وكذلك نوعية التكوين والتقييم.

تكتسي جودة المؤسّسة التّربوية في مستوى التّقييم التّعليمي، أهمّية في المنظومة الإصلاحية الجديدة، سواء في مستوى نظام الامتحانات العادية أو الوطنيّة. إذ إنّ طرق تنظيم إجراء مختلف الاختبارات تؤثّر في جودة الفعل التّربوي ككلّ وفي نوعيّة المتخرّجين في المدرسة التّونسية بشكل خاص.

وحتى تكون عمليّة التّقييم التّربوي والتّعليمي سليمة ينبغي أن نحدّد ما نريد تقييمه حتى نستطيع بعد ذلك أن نضبط الأهداف والطّرق التي يتمّ من خلالها تشخيص مواطن الضّعف والخلل في المنظومة التّربويّة، وتحدّد من خلالها أيضاً طرق العلاج المناسبة.

أ – الجوانب التّنظيميّة للتّوزيعات البيداغوجية: نعني بالجوانب التّنظيميّة والإداريّة عمليّة الإعداد لهذه الاختبارات وتنظيمها إداريّاً وتسييراً ومراقبة. إذ تمثّل هذه العمليّة من المسائل المعقّدة وتعترضها بعض الصّعوبات والضّغوط الدّاخليّة والخارجيّة التي تؤثّر في مستوى جودة تنظيمها وتنفيذها وفق المعايير البيداغوجيّة والإداريّة النّاجعة. ويعتمد نظامنا التّربوي على نظام الأسابيع المغلقة لإجراء الامتحانات الجزئيّة أو الدّورية ضمن كلّ ثلاثيّة. ويشمل هذا الإجراء مختلف المستويات التّعليمية (أساسي، إعدادي، ثانوي)، إلّا أنّ اتّباع هذا النّظام أدّى إلى انتشار عدّة ظواهر سلبيّة شملت مختلف الجوانب المعرفية والسّلوكيّة ومستوى التّحصيل الدّراسي.

ب – في مستوى إعداد روزنامة الامتحانات: تطرح هذه العمليّة التّنظيميّة، إشكاليّات كبيرة على مستوى تجسيد الضّوابط والمقاييس التّربوية. وأهمّ إشكال ناتج من عدم وجود ضوابط محدّدة ومتّفق عليها في عمليّة إعداد هذه الروزنامة، وبخاصّة بالنّسبة إلى المستويات التعليمية دون الباكالوريا. وعدم وجود مقاييس موحّدة تنتج منه عدّة توتّرات في المؤسّسة وبخاصة بين الإدارة والمدرّسين. مثال في ما يتعلّق بتوزيع ساعات المراقبة على هؤلاء المدرّسين لا يتسم بالشّفافيّة والوضوح اللّازمين. فكلّ مؤسّسة تعتمد طريقة خاصّة وفق معطياتها الخاصّة بها. ولهذه الحالة القائمة تأثير سلبي في المناخ العام للمؤسسة والذي تتم فيه الامتحانات وكذلك في مستوى العلاقات بين مختلف الفاعلين من إداريين ومدرّسين وتلاميذ.

ج – في مستوى توزيع المواد التّعليمية: وهي مسألة شديدة الأهمّية لتأثيرها في المناخ داخل المدرسة وفي نظام الامتحانات في المؤسّسة. إذ إنّ هناك صراعاً خفيّاً ومسكوتاً عنه حول كيفيّة توزيع اختبارات المواد خلال الأسبوع المغلق. فكلّ مجموعة أساتذة لمادّة تعليميّة معيّنة، يريدون أن تجرى اختبار مادّتهم في الأيّام الأولى من هذا الأسبوع. وهذا الصّراع بين المدرّسين يجعل الإدارة في موقف صعب لا يمكنها في بعض الأحيان أن تجد حلّاً توفيقيّاً بين مختلف المواد.

كلّ هذه العناصر وغيرها، تؤكّد عدم نجاعة نظام الامتحانات في مؤسّساتنا التّربوية سواء في مستوى غياب المقاييس الدّقيقة والإجراءات التي تنظّم هذه المسألة، أو في مستوى مردود المؤسّسة التّربوي التّعليمي الذي يشهد تراجعاً معرفيّاً وسلوكيّاً لافتاً.

2 – نظام الامتحانات وسؤال الجودة

كيف يمكن إجراء التجديد البيداغوجي في ميدان التقييم الجزائي؟ وكيف يمكن أن يكون تقييم مكتسبات المتعلمين من حيث هو تصور وإحدى آليات تطبيق التوجهات الجديدة للمدرسة التونسية التي تنزع إلى الانتقال بمسألة التعلم من مجموعة معارف إلى سلسلة من الكفايات؟

يتفق أغلب الدارسين لواقع التعليم في بلادنا على أن مجال التقييم – بقسميه التكويني والجزائي – لم يشهد أي تحول أو نقلة نوعية تحرّره من المعوّقات وتدفع به إلى ضمان التغيير الحقيقي المنشود وذلك لأسباب عديدة أهمها:

أ – لم توفر مدارسنا إلى اليوم للمدرّس أي وثيقة رسمية تفصّل فيها أشكال التقييم وأبعاده المختلفة وأوجه الاستفادة منها في تجويد ممارساته البيداغوجية.

ب – لا تتعدّى وظيفة المناشير المتعلقة بالمراقبة المستمرة التي تصدر عن وزارة التربية منذ سنة 1973 حدود ضبط مواعيد الاختبارات ومدة كل واحد منها وظروف إنجازها ومواقيت إصلاحها.

ج – ما زالت العملية التعليمية في مؤسساتنا التربوية تركّز على التقييم التحصيلي والجزائي على حساب التقييم التكويني، وظلّ الهاجس المركزي للتقييم هو إسناد الأعداد من أجل احتسابها في المعدلات وتحديد مصير المتعلم سواء بالارتقاء أو بالرّسوب. والارتقاء بجودة التّربية والتّعليم وفق الخطاب الرّسمي لوزارة التّربية لا يمكن أن يكون إلّا من خلال مؤشّر واحد وهو الرّفع من نسب النّجاح[2] وإهمال الجوانب المعرفيّة والمكتسبات (الكفايات) الحقيقيّة الحاصلة لدى المتعلّم في نهاية كلّ مرحلة دراسيّة.

لهذا ظلّت عملية التقييم تعتريها عدة مشاكل، ولعل من أهمها انتشار ظاهرة الغشّ في الامتحانات بشكل لافت ومؤثّر في نزاهة عمليّة التّقييم المدرسي. فقد أدّت هذه الظاهرة إلى تراجع مكتسبات المتعلّم المعرفيّة والسّلوكية. وترسّخت لدى أغلب المتعلّمين ثقافة المصلحة وثقافة «الارتقاء» بطرق شتّى نتيجة العوامل التالية:

  •  تراجع فاعليّة آليّات المراقبة والتّقييم لهذه الامتحانات، باعتبار أنّ فترة القيام بهذه الامتحانات يمثّل لدى البعض (الأساتذة والإدارة) أهمّ مرحلة تشهد فيها المؤسّسة توتّرات وصراعات بين المدرّسين والتّلاميذ، وكذلك بين الإدارة والأولياء.
  •  انتشار ظاهرة التّواكل واللامبالاة في صفوف المتعلّمين، وغياب الجدّية في متابعة الدّروس اليوميّة، وبخاصّة بالنّسبة إلى الميسورين مادّياً؛ إذ يمكنهم تعويض حصص الغياب بالدّروس الخصوصيّة، سواء من قبل مدرّسيهم الرّسميّين أو مدرّسين آخرين.
  •  أصبح كلّ من المدرّس والمتعلّم يعيش حالة ضغط وتوتّر كبيرين أثناء إجراء الامتحانات وأثناء إصلاحها (خلال أسبوع الإصلاح). وهو ما يؤدّي أحياناً إلى استعمال العنف بمختلف أشكاله (المادّية وغير المادّية) من قبل التّلاميذ ضدّ المدرّسين.

إنّ نظام الامتحانات الحالي مرهق للمدرّس والتّلميذ معاً ويتجلّى ذلك بخاصّة في المستويات التالية:

(1) كثرة الاختبارات في كلّ ثلاثيّة وكثافتها.

(2) عدم اعتناء المتعلّم لمدّة ثلاثة أسابيع كلّ ثلاثيّة ببعض المواد على حساب أخرى.

(3) إثقال كاهل المدرّس بما تتطلّبه الامتحانات من إعداد لنصوص الاختبارات والمراقبة وما تقتضيه من إصلاح وتنزيل للأعداد خلال فترة قصيرة جدّاً.

وبالتالي تحوّلت الامتحانات المدرسيّة إلى مناظرات وبدأت تتشكل معها ثقافة مدرسيّة جديدة بالنّسبة إلى التّلاميذ والأولياء معاً. فقد أصبح الهدف الأوّل والأخير للتّعليم في نظر المعلم والمتعلم هو الحصول على أفضل النّتائج وضمان الارتقاء من مرحلة إلى أخرى من دون الاهتمام بالجوانب المعرفيّة والقيميّة من العملية التّعليميّة. وكان من نتائج هذه الثّقافة الجديدة أن انتشرت ظاهرة الدّروس الخصوصيّة لبعض المواد المدرسية ذات الضّوارب المرتفعة، وبخاصّة بالنّسبة إلى تلاميذ الأقسام النّهائية مثل التّاسعة أساسي والرّابعة ثانوي، فأصبح هؤلاء المتعلّمون مهتمين بالدّروس الخصوصيّة أكثر من اهتمامهم بالحضور والمواظبة بالمؤسّسة.

ولمّا كانت آثار هذه الظّاهرة على المستوى الأخلاقي والسّلوكي مؤكدة، فقد أصبحت تداعياتها على نسق الفعل التربوي والتعليمي ومخرجاته أكثر وضوحاً وخطورة. إذ أدّت إلى احتقار المعرفة وحاملها وإلى تقديس الانتهازيّة والنّفعيّة في صفوف المتعلّمين وبعض المدرّسين.

3 – في المجال البيداغوجي

عرف المجال البيداغوجي خلال النصف الأخير من القرن العشرين عديد الأبحاث والمقاربات البيداغوجيّة من أجل رفع فاعليته التّربوية والتّعليمية. إذ تسعى سلطة الإشراف التّربوية في المجال البيداغوجي إلى ضبط مجموعة من المعايير والتصوّرات والسلوكيات للارتقاء بالمستوى التّعليمي المدرسي، وحتى تتوافق مع أهداف الإصلاح التّربوي عموماً.

أ – الموازنات: الضوابط والمقاييس

تخضع عمليّة ضبط الموازنات لمقتضيات تربويّة وتراتيب إدارية تضمنتها مختلف النّصوص القانونية ذات العلاقة. وتقوم هذه الموازنات على أساس مبدأ التّوفيق بين رغبات المدرّسين والمصلحة البيداغوجية للمتعلّمين، وما تسمح به الإمكانات البشرية والمادية المتوافرة في المؤسّسة التربوية.

وتقتضي هذه العملية جملة من الضّوابط أهمّها:

  •  ضرورة التّأكّد من عدد السّاعات المقرّرة لكلّ مادة بالنّسبة إلى كلّ قسم ومستوى، وتحيين المعطيات بالنّسبة إلى التّوقيت للأستاذ وللتّلميذ.
  •  توزيع الحصص على كامل أيّام الأسبوع ولا يجوز مراعاة رغبة الأستاذ على حساب التّلميذ.
  •  تجنّب أن يكون تدريس المواد الرّئيسيّة في حصص متتالية.
  •  اجتناب السّاعات الجوفاء والمنعزلة في جداول التّلاميذ، وبخاصّة في المؤسّسات التي تنعدم فيها قاعات المراجعة.

ب – أزمة التّوزيع البيداغوجي

إنّ توزيع المستويات التّعليميّة على المدرّسين مسؤوليّة كبيرة ومرحلة دقيقة وحسّاسة وصعبة في العمليّة التّعليميّة والتّربويّة. وعلى الرّغم من وجود التّراتيب والمناشير الوزاريّة التي تحدّد ضوابط التّوزيع البيداغوجي ومقاييسه، فإنّ «الحالة التّعليمية» في مؤسساتنا التربوية الإعداديّة والثانوية ما زالت تتميّز بعدّة اختلالات في مستوى تنظيم هذه الموازنات. وهو ما نلاحظه في غياب أيّ توازن في مسألة التّقسيم الحالي للسّنة الدّراسيّة، وبخاصّة بالنّسبة إلى المرحلة الثّانية من التّعليم الأساسي والتّعليم الثّانوي. إذ تعتمد مؤسّساتنا التّربويّة نظام الثّلاثيات لكن ليس هناك توازن بينها حيث يعُدّ الثّلاثي الأوّل 74 يوماً، في حين لا يتجاوز الثّلاثي الثّالث 50 يوماً ويصل الفرق بينهما إلى 24 يوماً أي بنسبة 13,4 بالمئة مثلما يبيّنه الشكل.

نظمت وزارة التّربية «الاستشارة الوطنيّة حول الزّمن المدرسي» سنة 2001 في غياب مشاركة فعليّة للأطراف التّربويّة من منظّمات وأحزاب وجمعيّات ومربّين وتلاميذ وأولياء، لذلك تضمنت هذه الوثيقة مثل غيرها من الوثائق والبرامج مقترحات الوزارة دون موافقة بقية الأطراف المتدخلة في الحقل التربوي واعتمدت فيها على مقارنة وضع المدرسة التّونسية بنظيراتها الأوروبيّة، وكأن من خلال هذه المقارنة تتولّد الحلول. لذلك فمشروع الزّمن المدرسي لم يستند إلى الظّروف التعليمية الوطنيّة الخاصّة، وبالتّالي لم يستطع حلّ المشاكل الحقيقيّة للمدرسة التّونسية باعتباره مشروعاً قائماً على التّعجّل والتسرّع والارتجال. فنتائج الاستشارة الوطنيّة حول الزّمن المدرسي لم تقدّم حلولاً واضحة فبقيت هذه المسألة خاضعة لاجتهادات المسيّرين وتختلف باختلاف البيئات المدرسية والاجتماعية.

فهناك حالة من التّعارض والتناقض أحياناً بين بعض اللّوائح والمناشير المنظمة لحصص العمل في المؤسّسات التربوية. فمنها ما يدعو إلى ضرورة اعتماد أنظمة تراعى فيها مصالح مختلف الأطراف المدرسيّة، ومنها ما يدعو إلى منح مدير المؤسّسة التّربوية حرّيّة في اتباع نظام زمني دراسي يتوافق مع طبيعة المنطقة ومحيطها المجتمعي، وذلك وفق المقاربة الإداريّة الجديدة التي تستند إلى مبادئ اللّيونة والتّكيّف… إلخ.

أدى اعتماد هذه المقاربة «المرنة» في مسألة التّوزيعات البيداغوجية في كثير من الوضعيّات إلى الإخلال بمبدأ التّوفيق بين مصالح مختلف الأطراف في المدرسة، وبخاصّة بين التّلميذ والأستاذ. وهي من أكثر المسائل المسبّبة لعدم التّوافق بين المدرّسين والإدارة. وتقتضي هذه العمليّة تكييف النّظام الإداري مع المطالب الحقيقيّة لمختلف الفاعلين الاجتماعيّين، وتشريكهم في اتّخاذ القرارات المدرسيّة، وكذلك في عمليّة الضّبط والرّقابة لكلّ ما يحدث في مجال العمل من أنشطة إدارية وبيداغوجية.

فمن أهمّ التّوصيات البيداغوجية التي أكّدتها مختلف المناشير هي تجنّب ظاهرة «السّاعات الجوفاء» – بالنّسبة إلى التّلميذ والأستاذ معاً – التي ما زالت قائمة وبشكل واضح سواء بالنّسبة إلى جداول أوقات المدرّسين أو المتعلّمين. فهناك بعض المؤسّسات التي تعتمد توزيعية بيداغوجية صوريّة يتم إرسالها إلى المندوبيّة الجهويّة للتّعليم في مفتتَح السّنة الدّراسيّة، ثم بعد ذلك تُحدث ما تريده من تغييرات على هذه التّوزيعيّة، ولا يتمّ الإعلام عنها لأنّها لا تتوافق مع المعايير والضّوابط القانونيّة. وقد وجدنا هذه الحالات بكثرة في بعض المناطق «الشّعبيّة» والمناطق الدّاخليّة من البلاد. فإذا كانت المؤسّسة تنتمي إلى منطقة شعبيّة أو ريفيّة فإنّ السّاعات «الجوفاء» تكون من نصيب جداول أوقات التّلاميذ أكثر من المدرّسين. أمّا إذا كانت هذه المؤسّسة في منطقة حضرية وروّادها من أبناء الطّبقات الغنيّة والمتنفّذة في المجتمع، فيكون النّصيب الأكبر من هذه السّاعات الجوفاء من المدرّسين.

ج – غياب مبدأ الإنصاف

يقتضي مبدأ «تكافؤ الفرص التّعليمية» فتح المدرسة أمام الجميع وتمكينهم من المعارف والمهارات نفسها، ومن فرص التّعليم والنّجاح نفسها، وذلك وفق خطط استراتيجية متكاملة للرّؤية التّربويّة في مختلف المناحي المنهجيّة وأساليب التّدريس والكتب والبنية التّحتيّة… إلخ.

يمثّل غياب مبدأ «الإنصاف» في المدرسة في مختلف مستوياته أحد الإفرازات السّلبيّة للنّظام الإداري «اللّامركزيّ» الذي عمّق التّفاوت بين المناطق والجهات وبين المدارس. فالاعتراف الرّسمي بتعدّد الوضعيّات التّعليمية، مثّل في نظر البعض آليّة من آليات شرعنة هذه التّفاوتات وأدّى إلى استدامتها. أما على مستوى النّتائج النّهائية فيطالب جميع رؤساء المؤسّسات التربوية بأن يحقّقوا نتائج مدرسية متساوية أو متقاربة. بل تُقيّم كفاياتهم الإدارية وفق هذه النّتائج.

(1) في مستوى توزيع الفصول على المدرّسين: جرت «العادة» أن ترسل إدارة كلّ مؤسّسة تربويّة قبل افتتاح السّنة الدّراسيّة، مقترحاتها حول التّوزيع البيداغوجي لمختلف المواد التعليمية إلى الإدارة الجهويّة للتربية حتّى يوافق عليها إطار التفقّد البيداغوجي في تلك الجهة. وأهمّ معيار يتمّ الاستناد إليه في هذه التّوزيعيّة هو خبرة المدرّسين والأقدميّة في التّدريس والشّهائد العلميّة… إلخ، وهي معايير ذات بعد موضوعي وتعتمد الشّفافية والوضوح.

لكن في الممارسة العمليّة أصبحت هذه المسألة غير واضحة ولا يتمّ فيها تشريك أو أخذ رأي المدرّسين حولها. فلمدير المؤسّسة معاييره ومقاييسه الخاصّة، بل هناك من المديرين من لا يلتزم برأي متفقّد المادّة في الموضوع. وقد أدّت هذه العمليّة إلى حدوث مشاكل بين المدرّسين الآخرين الذين تمّ إقصاؤهم من تدريس تلاميذ الباكالوريا وبين مدير المؤسّسة، حيث تؤكّد هذه الحالات والمواقف التّربوية، أنّ بعض مديري المؤسّسات التّربوية لا يهتمّون بتحقيق مصلحة التّلاميذ ومختلف العاملين معهم بقدر اهتمامهم بتحقيق مصالحهم الشّخصيّة.

(2) في مستوى حجم الفصول الدّراسيّة: تتحدّد عمليّة بناء الفصول الدّراسيّة وفق معيار ضمان التّوازن بينها من حيث «الحجم» و«النّوعيّة». فمن خلال الكثافة البشريّة، لا بدّ من توزيع المتعلّمين بشكل متساوٍ بين مختلف الفصول. وقد ضبطت الوزارة، وبخاصّة بالنّسبة إلى بعض المستويات مثل «التّاسعة أساسي» والرّابعة ثانوي»، عدداً لا يمكن تجاوزه. أمّا في ما يتعلّق بنوعيّة التّلاميذ فهي مسألة هامّة باعتبارها تستهدف التّقريب بين مختلف الفصول من حيث مستوياتها العلميّة والأخلاقيّة، ومن ثمّ ضمان التّقارب بينها من حيث ظروف التّدريس ومن حيث مستوى النّتائج.

فحالة التّمييز بين التلاميذ والمدرِّسين استشْرت في مؤسّساتنا التّربويّة سواء كان هذا التّمييز يتمّ بشكل مباشر أو غير مباشر. فإذا كان الصّنف الأوّل ينشأ من خلال اعتماد رئيس المؤسّسة ممارسات الاستبعاد لبعض الأفراد ويمنح للبعض الآخر «الأفضلية» في الشّغل وفق معايير شخصيّة، فإنّ الصّنف الثّاني يتمّ من خلال الآثار غير المتناسبة التي تتركها المعايير والممارسات في العلاقات بين مجموعة من الأفراد الذين ينتمون إلى السّلك الوظيفي نفسه في المؤسّسة، وما يتّصل به من آثار للمحسوبيّة والاستبعاد المهني والاجتماعي والإحساس بمشاعر الخيبة والحرمان والانطواء لدى المدرّسين والمتعلمين وتراجع قوّة الحافزيّة للعمل والتعلم وعدم الاندماج في المؤسّسة.

إنّ البديل المدرسي الذي يقترحه الإصلاح التّربوي الجديد، وإن لامس بعض المشكلات التي يواجهها التّلميذ والمدرّس وسائر أعضاء المؤسّسة، كانت حلوله العمليّة غير ملائمة للحالة التّربوية والتّعليميّة التي تعيشها مدارسنا ومعاهدنا في تونس. ما زالت المؤسّسة عاجزة عن التّكيّف مع التّحوّلات الكبرى التي يمرّ بها المجتمع، وما تتطلّبه من تطوير في أنماط التّسيير والتّعامل مع العاملين. كما بقيت العقليّات والبرامج «الإداريّة» لا تعطي أهمّية للاعتبارات الإنسانيّة وتقف حجر عثرة أمام التّطوّر التّنظيمي للمؤسّسة التّربويّة مثلما عبّر عن ذلك مختلف الفاعلين الاجتماعيين.

ففي غياب البيئة الثقافيّة التّشاركية لا يمكن للفاعلين التّربويين والمهتمّين بالشّأن التّربوي أن يكتسبوا الاتّجاهات والقيم الجديدة المحفّزة لعمليّات التّطوير، ومن ثمّ الانخراط الجماعي والطّوعي في تحقيق أهداف مشروع المؤسّسة. كما إنّ هذه الثّقافة التّشاركيّة تتطلّب من ناحية أخرى، إعادة النّظر في الممارسات والترسّبات الماضية سواء في مستوى العلاقات الإنسانيّة أو في مستوى النّظم الرّقابيّة والقياديّة، أو في مستوى منظومات التّحفيز حتى نضمن التحوّل من مستوى الخطاب إلى مستوى تمثّل العلاقة بين مختلف هذه العناصر في مختلف مؤسّساتنا التّربويّة في المستقبل.

لهذا، نعتقد أنّه يجب إعادة مراجعة معايير التّقييم الكمّية المعتمدة، واعتماد مقاربة جديدة شاملة من حيث أبعادها الأفقيّة والعموديّة للإصلاح التّربوي. وكذلك من حيث القيم والعلاقات والتّواصل بين الفاعلين، وضرورة متابعة تنفيذ أيّ مشروع إصلاحي عبر الهياكل والمجالس الحقيقيّة حتى تتحوّل المؤسّسة التّربوية إلى قطب تنموي حقيقي من حيث المأسسة والتّنظيم والتّقييم.

د – أهمية الوسائل التكنولوجية في عملية التعلم

لم يعد من الممكن للمدرسة أن تشتغل بالطريقة نفسها في بداية القرن العشرين. لذلك بات من الضّروري استنباط مبادئ وأساليب جديدة، وأنماط فعل حديثة، من غير أن يعني ذلك إقصاء كلّياً للأشكال القديمة القابلة للاستعمال.

يمكن الانطلاق من التساؤل البسيط التالي: كيف يمكن الاستفادة من التكنولوجيا في مجال تحسين أداء المدرسة واندماج المتعلمين في العملية التعليمية داخل الفصول وخارجها؟

وكيف يمكن أن نحوّل الوسائل التكنولوجية إلى آليات للتنشيط على أساليب التفكير والتنظيم والبحث التربوي التعليمي في تونس؟

لقد بيّنت عدة دراسات أمريكية وغربية أن أغلب المتعلمين في الإعدادي والثانوي يُظهرون، وبشكل تلقائي، اهتماماً كبيراً لأغلب الأنشطة التعلمية التي تعتمد التكنولوجيا الحديثة، ويحصل العكس عند استعمال المقاربات التقليدية. ففي تقرير نشره «مكتب تقويم التكنولوجيا» (Office of Technology Assessment) سنة 1995، أكد فيه أهمية التّحفيز التي يحدثها استعمال التكنولوجيا وسط التلاميذ من مختلف الأعمار. ومن أبرز العوامل المحفزة للتلاميذ هناك المحيط والوسائل التكنولوجية والمضمون الذي تقدمه بشكل يثير اندماج التلاميذ مباشرة في العملية التعليمية ومن المشاركة في بناء المعرفة بشكل فاعل.

فالمعلومات عبر هذه التكنولوجيا ونظام الاتصال يسهلان العمل التفاعلي والعمل في إطار المجموعات يساهمان في تغيير المناخ الداخلي للفصل، ويحفزان المتعلمين على المشاركة في بناء المعرفة، ويصبح المدرس قائماً بدور المرشد والوسيط والمرجع في بناء عمليات التعلم التي أصبحت تتقوى بوجود هذه التقنيات الحديثة.

(1) البنية التحتية للتجديد البيداغوجي: الفضاءات والتجهيزات: يتطلب تحقيق الأهداف التّربوية والتّعليمية والتأهيلية ضرورة مراجعة الطرق البيداغوجية بالابتعاد عن المناهج التلقينية وتعويضها بالمناهج التنشيطية التي يكون فيها المتعلم محور العملية التّربوية. وتتطلب هذه المقاربات البيداغوجية الجديدة (بيداغوجيا المشروع، التعلمات الاختيارية، المقاربة بالكفايات) – بدورها – توفير فضاءات وتجهيزات وبنية تحتية مدرسية خاصّة ومتطورة، وهي ما زالت غير متوافرة في مدارسنا إلى الآن. إن هذا الجانب المادي وهو الأساسي لتطبيق هذه المقاربات البيداغوجية قد سكتت عنه «الخطة التنفيذية حول مدرسة الغد» وكل المشاريع التّربوية الأخرى.

فالطرق البيداغوجية النشيطة، باعتبارها إحدى آليات تجويد نوعية التعلم وطرق التقييم لا يستقيم إقرارها في حالة اكتظاظ الأقسام وفي غياب الفضاءات المدرسيّة الملائمة لها (أقسام ومخابر وقاعات خاصّة…).

(2) وسائل التّدريس والتّقنيّات الحديثة: تُعِدّ وزارة التّربية في تونس، في مفتتح كلّ سنة مدرسية، قائمة رسميّة في الكتب والوسائل التّعليمية المرخّص باستعمالها في المؤسّسات التّربوية. لكن في السّنوات الأخيرة بدأت تظهر بعض الإشكاليات حول مدى تعميم بعض الأجهزة المدرسيّة على جميع المؤسّسات، ومدى فاعليّة بعض الوسائل البيداغوجيّة الحديثة وانتشارها لدى مختلف المتعلّمين والمدرّسين.

لئن بقي الكتاب المدرسي أهمّ وسيلة تعليميّة في مدارسنا، فإنّ انتشار البرامج الإعلامية وتكنولوجيا المعلومات مثّل تحدّياً حقيقياً لضمان نجاعتها في عمليّة التّعليم والتّعلّم من قبل التّلميذ. تشكّل تكنولوجيا المعلومات والاتّصال خياراً استراتيجياً في مشروع مدرسة الغد، وإحدى أهمّ ركائزها، ذلك أنّ التّحكّم في هذه التّكنولوجيا يعتبر من أبرز سبل تأهيل النّاشئة لمواجهة تحدّيات المستقبل[3]. كما تمثّل هذه الوسائل الحديثة في نظر سلطة الإشراف أداة رئيسيّة للنّهوض بالتّعليم وتحقيق الجودة الشّاملة، وذلك من خلال:

  •  التّقليل من زمن التّعلّم وتنمية مهارات التّلميذ في حلّ المشكلات وتنفيذ بعض التّجارب العلميّة.
  •  توظيف هذه التّكنولوجيا يساهم في زيادة المشاركة الإيجابيّة للتّلاميذ ورفع مستوى أدائهم التّعليمي.

أهمّية استخدام هذه التّقنيات والوسائل في تقديم المواد التّعليمية للمتعلّم بصيغ جديدة تعتمد الصّور والمؤثّرات الصّوتية وهو ما يثير الانتباه لدى المتعلّم للمشاركة والحضور الذّهني في الفصل. وحتى تصبح التّقنيات الحديثة وتكنولوجيا الاتّصال والمعلوماتيّة إحدى مقوّمات الجودة في التعليم، فالسّؤال الملح هو: هل إنّ توفير هذه التّقنيات واستعمالها من شأنه أن يراعي الفروق الفرديّة ويزيد من التّحصيل الدّراسي واكتساب مهارات التّعلّم لدى التّلميذ أم أنّه يعمّق هذه الفوارق وهذه المشاكل التّعليميّة؟

يتوقف نجاح هذا الرّهان في المستقبل على مدى إدماج تكنولوجيا المعلومات والاتّصال في عمليّة التعلّم، ذلك أنّ إدراج هذه التكنولوجيا لا يتّخذ شكل إضافة مادّة تعليميّة تتعلّق محتوياتها بالحاسوب وبمكوّناته وبرمجيّاته، وإنّما هو توظيف للمهارات والمعارف المتّصلة بتكنولوجيا المعلومات والاتّصال في أنشطة التّعلّم بهدف البحث وبناء المعرفة المدرسيّة. ومن هنا تمنح هذه التّكنولوجيا بعداً إضافيّاً لعمليّة التّعلّم لدى الّنشء، من شأنها أن تجعل المتعلّم يبني مسار تعلّمه بصفة فعليّة ويبحث بنفسه عن المعلومة أينما وجدت حتى يغني مكتسباته ويطوّر كفاياته.

لكنّ واقع استخدام هذه التّقنيات وتوظيفها من أجل خدمة العمليّة التّعليميّة والتّعلّمية ما زالت تعترضها عدّة صعوبات ومعيقات. إذ يعتقد أغلب المدرّسين (إعدادي وثانوي) أنّ هذه الوسائل ما زالت تمثل عائقاً لدى أغلب المتعلّمين المنتمين إلى عائلات فقيرة، كما تمثّل لدى البعض الآخر عائقاً أمام المثابرة والاجتهاد. وأثارت هذه الوسائل «الرّقمية» قضيّة اجتماعيّة على قدر كبير من الأهمية، وذات تأثيرات سلبيّة وتبعات جدّ متشعّبة، وبخاصّة على المستوى البيداغوجي والمعرفي. لعلّ من أهمّها:

1 – تكريس ظاهرة التّفاوت والتّباين بين المتعلّمين في التّحصيل الدّراسي.

2 – التّأثير السّلبي في كفايات المتعلّمين، لأنّ اعتمادها بشكل غير منظّم يؤدّي إلى تراجع مكتسبات التّلميذ، ويشجّعه على التّواكل وعدم الاجتهاد في البحث عن المعلومة. كما أنّ هذه التّقنيات لا تتماشى مع واقع القسم المكتظ والتي تغيب فيه التجهيزات البيداغوجية التقليدية.

3 – تدهور كبير في نوعيّة التّعليم وتراجع كفاياته الأساسيّة.

4 – تعويد التّلاميذ على الغشّ والمراوغة وهي تصرّفات ما انفكّت تتفشّى في السّنوات الأخيرة لتصبح قيما اجتماعيّة عامّة.

5 – القفز على الواقع المفكّك للمدرسة من حيث تخلّف أساليب التّدريس ووسائله وتجاهل المعوِّقات الحقيقيّة لتطوير التّعليم في ضوء التّغييرات الرّاهنة.

فإذا كانت الغاية من هذه التّقنيات جَسْر الفجوة العلميّة والمعرفيّة بين المتعلّمين، فإنّ سوء توزيع هذه التّقنيات سوف يعمّقها؛ لأنّ من شروط تركيز «مجتمع المعرفة» القضاء على أسباب التّفاوت بين المتعلّمين في الحصول على المعرفة واستثمارها. لكن هذه التّقنيات عمّقت منطق الإقصاء والتّهميش المدرسي لدى أبناء الفئات الضّعيفة والمتوسّطة، وكرّست التّناقضات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة بين الذين يندمجون في الفضاء الإلكتروني الجديد، والذين يزداد تهميشهم خارج هذا الفضاء[4].

كما إنّ ما هو مطلوب من المدرّس غير ممكن إنجازه في ظلّ غياب وسائل تعليميّة متنوّعة تستجيب لمختلف الأنشطة الإدماجيّة للمتعلّمين. إذ تتطلّب وضعيّات التّعلّم عبر «التّقنيات الجديدة للمعلوماتيّة والاتّصال» بنية مدرسيّة متطوّرة من حيث القاعات والإطار البيداغوجي والتّقني المساعد لاستثمارها بشكل حقيقي في الوضعيّات التّعليميّة.

ربما تساهم هذه الوسائل في تجويد ممارسة النّشاط التّعليمي التّعلّمي التّفاعلي داخل الفصل، وتشجّع على التّعاون ضمن المجموعات في بناء المعرفة المدرسيّة، لكنّ نشر هذه التّقنيات واستغلالها في مؤسّساتنا التّربويّة ما زال محدوداً جدّاً أمام إمكاناتها المادّية والبشريّة المتواضعة.

ما زالت مؤسساتنا التربوية في أغلب المناطق تفتقر إلى الفضاءات التعليمية الملائمة لسائر المواد الدّراسيّة، وقلّة الوسائل البيداغوجية، وهو ما يزيد في إرهاق المدرّس والتّلميذ. هذا عدا عن حالات الاكتظاظ في الأقسام التي تزيد في تعقيد الوضعيّة التّعليمية وفي تراجع نسبة التّأطير التّربوي. فمن أجل ضمان إدماج تكنولوجيات المعلومات والاتّصال في عمليّة التّعلّم الفعّال لا بدّ من الانتباه إلى بعض المزالق التّالية:

أ – غياب البيئة المدرسيّة المناسبة التي تستخدم فيها التّقنية لدعم التّعليم الهادف.

ب – من شأن استخدام هذه التّقنيات أثناء التّدريس والبحث أن يكرّس المفهوم التّقليدي للتّقنية والوسائط التّعليمية. وهذا يعني أنّ المعرفة تصبح متضمّنة في هذه الوسائل ويكون دور المدرّس هو نقل هذه المعرفة بشكل مباشر إلى المتعلّم.

ج – لا يمكن لهذه التّقنية أن تكون ناجعة في عمليّة التّعليم والتعلّم إلّا إذا استخدمت لدعم بناء المعرفة وكوسيط يتعلّم معها المتعلّم وليس فيها.

كذلك تتطلّب الدينامية الجديدة التي تخترق جميع مفاصل الفعل التّربوي، في نظم الاتّصال وتكنولوجيا المعلومات والبرمجيّات، تغييراً لأساليب عملها وطرق تواصلها، قيماً وتفاعلاً، حتى يتمكّن جميع الفاعلون داخل المدرسة من المشاركة والانخراط الفعلي في الاستفادة من هذه التّقنيات، ومن ثّم يتحقق التغيير في مختلف جوانب عمل المؤسّسة التّربوية. فالتّكيّف مع المتغيّرات الدّاخليّة (التّنظيم الدّاخلي، أسلوب الإدارة، خصائص الموارد البشريّة المتوفّرة) والخارجيّة (سوق العمل، الثّقافة، القوانين، التّمويل..) يتطلّب تغييراً في تصرّفات الأفراد والمجموعات وممارساتهم وإدخال مواقف جديدة للتصرف في الموارد البشريّة والمادّية في المؤسّسة.

 

ثانياً: معوقات اندماج المتعلم في الوسط المدرسي

عندما تقتصر دراسة الفعل التربوي على تحليل الممارسات الظّاهرة والرّسميّة أو المكتوبة من خلال القوانين والمناشير والقرارات، فإنّها تكون قد حصرت الظّاهرة المدروسة في بعدها الظّاهر، ولن تتجاوز بالتّالي عمليّة الوصف دون النّظر إلى ما يسمّى «الطّبقات العميقة» للظّاهرة المدروسة.

لا يخلو البحث في استتباعات تغير الأنساق الاجتماعيّة والثّقافيّة والقانونيّة على مستوى المعيش المهني والعلائقي لمختلف الأطراف المدرسيّة من تشعّب، وبخاصّة في سياق التحولات العالمية الرّاهنة. والتّحوّل النّاتج من تغير هذه الأنساق الذي نبحث عنه ليس في مستوى التّنظيم فقط، بل أيضاً في مستوى تشكيل نسق الفعل التّربوي. أي كيف يشكّل النّسق في مجموعه ويجسّد الفاعلون داخله فعليّاً علاقات جديدة وأشكالاً جديدة للمراقبة الاجتماعيّة[5]. فكلّ تحليل للصّيرورات أو لوضعيّات التّغيير أو التّجديد التربوي تعود إلى سؤال التّدرّب الجماعي للفاعلين على إعادة بناء قواعد التفاعل والعلاقات الجديدة.

لا بدّ إذاً، من وضع الفاعليّة التّعليميّة في مختلف تجلّياتها وأبعادها موضع مساءلة، وما تستوجبه هذه المساءلة من تشخيص موضوعي للممارسة التّعليميّة في ضوء المسار «الإصلاحي» الجديد للحقل التّربوي وذلك بالاعتماد على بعض الانشغالات والقضايا الّتي نتجت منه، والانتظارات المجتمعيّة حول دور المدرسة في المجتمع وحول المسألة التّربويّة بشكل عام.

1 – أهمية التواصل الاجتماعي

يعتبر موضوع التّواصل الاجتماعي من المباحث الحديثة في علوم التّربية والإعلام والعلوم الإنسانيّة بشكل عام. فهو يمثّل إحدى ركائز العلاقات الإنسانيّة في المؤسّسة الحديثة. فالمقاربة البسيكو – سوسيولوجيّة ركّزت أبحاثها على بعده الإنساني والاجتماعي لأنّه يمثّل آليّة بواسطتها تتشكّل العلاقات البشريّة، وذلك من خلال علاقات تبادل المعلومات والأفكار والتّصوّرات. لذلك يعتبر التّواصل بعداً رئيسيّاً في العمليّة التّربويّة، وآليّة مركزيّة في تحقيق عمليّة التّوافق والفهم بين مختلف الفاعلين الاجتماعيّين. فهو كعمليّة اجتماعيّة وتفاعليّة يعتمد على قيم المشاركة في معاني الفعل التّربوي ودلالاته بين المرسل والمتقبّل.

فالتّواصل داخل المدرسة ليس عمليّة بسيطة، مثلما يبدو ظاهريّاً، بل إنّ نسق هذا التواصل هو الذي يحدّد طبيعة العلاقات القائمة بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين داخل المؤسسة التربوية وخارجها. لأن عملية التواصل الاجتماعي لا تحدث في فراغ، بل تمثل أحد المكوّنات الأساسيّة للجماعة. فقد أصبح مبدأ «الشّراكة» أو «المبادلة» أساس بناء أي علاقة تواصليّة بين النّاس. وتتحكّم في هذه العمليّة وضعيّات اجتماعيّة ومناخات حوار وصراع. أي إنّ مناخ التّواصل داخل المؤسّسة هو الذي يشكّل ديناميّة المجموعة سواء في اتّجاه التّطوّر أو في اتّجاه التّراجع.

وبالتالي فإنّ استخدام العلاقات الإنسانيّة كقوّة دفع وتأثير في الأداء يتوقّف بالدّرجة الأولى على فلسفة الإدارة المدرسية في نظام الاتّصالات (يؤثّر في أنماط العلاقات الدّاخليّة والخارجيّة) وكذلك في نظام الحوافز (الحافز كوسيلة لإشباع حاجات إنسانيّة) مثل الظّروف المشجّعة أو المحبطة للدراسة. فالتّوافق بين الحاجات التي يشعر بها الفرد (دوافع الدراسة مثلاً) ووسائل إشباع تلك الحاجات هو الذي يحدّد الحالة المعنويّة للمتعلمين ودرجة رضاهم عن المدرسة وكفايتها الإنتاجيّة.

فللمناخ الاتّصالي في المؤسّسة التربوية دور أساسي في تشكيل الثقافة المدرسية وفي تحديد نسق التمثّل لها سواء بالنّسبة إلى الفرد أو المجموعة. فالمكان ينتج معاني ودلالات تبادليّة بين الفاعلين، ليس كمعطيات واقعة سابقاً، بل أيضاً كـ «انبثاقات» (Des Émergences) ناتجة من نسق التّفاعل داخل المؤسّسة وخارجها. وليست عمليّة الاتّصال داخل المؤسّسة وخارجها بين الفاعلين الاجتماعيين عمليّة بسيطة، مثلما يبدو ظاهريّا، بل إنّها تحدّد طبيعة العلاقات القائمة بينهم لأنها لا تحدث في فراغ، بل هي أحد المكوّنات الأساسيّة للجماعة[6].

أصبحت البيئة المدرسيّة، اليوم، بيئة اجتماعيّة مفكّكة بفعل عوامل أيديولوجيّة وثقافيّة وإعلاميّة. هذا الفضاء الذي كان في الأمس القريب مكاناً لتكوين الأفراد وبناء اجتماعيّتهم، تغلب عليه اليوم قيم المصلحة الشّخصيّة وتنعدم فيه ثقافة «الضمير الجمعي» على مستوى التّمثّلات والتّصوّرات، وهو ما أدى إلى انتشار عديد الظواهر النفسيّة السلبيّة، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي لدى المتعلمين. لذلك، يحتاج المسيّرون لمؤسساتنا التربوية إلى تطوير أساليب التّفاعل في ظلّ المناخ العالمي الجديد من أجل الحفاظ على جسور التّواصل وأساليبه المناسبة مع مختلف المجموعات المهنيّة والاجتماعيّة في المؤسّسة.

2 – التّفكّك الرّمزي للفضاء المدرسي

يؤدي الفضاء المدرسي، مثل بقيّة فضاءات المجتمع الأخرى، دوراً رئيسياً في نشر القيم أو انحلالها. فهو يشكّل إحدى المرجعيّات الثّقافيّة والفكريّة لبناء الإنسان وتنشئته اجتماعياً، سواء عبر السّلوكيات والخطابات أو عبر نظام التّفاعلات بين مختلف عناصره الدّاخليّة والخارجيّة. إذ يحدّد الفضاء المدرسي عبر ثقافته الخاصة الكيفيّة التي يفكّر بها المتعلمون في إطار علاقاتهم الاجتماعيّة بينهم وبين مختلف العاملين في المؤسسة. فالصّور والآراء ـ المعبّر عنها – ضمن هذا الفضاء، تترجم الوضعيّة أو الحالة التي يوجد فيها الفرد من ناحية، ويحدّد سلّم القيم الخاص الذي يتبعه من ناحية ثانية. وبقدر ما تتّخذ وسائل الاتّصال داخل المؤسسة التربوية شكلها الثّابت تترسّخ وتستبطن وتمكّن التلاميذ من رسم شكل تمثّلاتهم حول مواقعهم وحقوقهم وواجباتهم وتمكّنهم الآليات التواصلية المعتمدة من إدراك واستبطان قيم الجماعة ومعاييرها. وتحد من انتشار سلوكيّات اللّامبالاة أو قيم الفردانيّة وحالات الانطواء على النّفس لدى المتعلمين.

فالمؤسّسة التّربويّة من الأماكن والمراسي لبناء التّجارب المشتركة بين روادها وأحد فضاءات التدرب على المعيش المشترك بينهم وللحفاظ على اجتماعيّتهم (Sociabilisation). وإذا ما تمّ تقويض العلاقات بالأماكن، سيتمّ من ثمّ تقويض الجماعات وهويّات النّاس الذين يوجدون فيها[7]. ومن ثمّ تفقد الثّقافة الجماعيّة تماسكها وقوّتها التّأطيريّة لأعضاء هذه المجموعة. وفقدان المجموعة الإحساس المشترك من خلال علاقاتها المتبادلة مع المكان، سيجعلها أكثر استلاباً، باعتبارها ستصبح أكثر إحساساً بالعزلة والتّفرّد.

لقد تحوّلت مدارسنا ومعاهدنا إلى مجرّد فضاءات فيزيائية للحضور المشترك، ولم تعد فضاءات للتّبادل الفكري والاجتماعي ولبناء المعيش المشترك. فسوء التّفاعل الاجتماعي داخل المؤسّسة ومع محيطها الخارجي من أهمّ عوامل التّهديم والخلط الذي تتعرّض له هذه المؤسسات اليوم. كما هيمنت على مناخ المدرسة مفاهيم ذات أبعاد مادّية وبراغماتيّة، وتلاشت القيم والمفاهيم ذات البعد الإنساني في العمل التّربوي ككلّ.

بيّنت أغلب الدّراسات في علم النّفس الاجتماعي، أنّ الشّخصيّة المضطربة هي نتيجة محتملة لمحيط اجتماعي يتّصف بصراع القيم وبالتّفكّك الاجتماعي والرّمزي لمؤسّسات التّنشئة الاجتماعيّة. ففي دراسة ظاهرة «العنف» أعطى أغلب المختصّين في علم الاجتماع[8] والتّربية أهميّة لمسألة التّربية الأسريّة في مرحلة أولى، ثمّ تأتي خصائص المناهج التّربوية المتّبعة في المؤسّسات التّعليميّة في مرحلة ثانية. إلّا أنّ هذه المكانة شهدت اليوم تراجعاً نتيجة تراجع دور المدرسة في تحقيق رفاه الفرد ورقيّه الاجتماعي، ونتيجة العوامل التالية:

  •  إنّ اشتغالها وفق أيديولوجيّة الدّولة وسياستها قلّص من فاعليّتها التّربويّة وتأثيرها في نسق القيم وضبط سلوكيات الطّفل على مستوى التّنشئة عموماً، وباعتبارها مقيّدة بالنّموذج الذي تضبطه البرامج الرّسمية والأنشطة المرافقة لها، فإنّ أهدافها تتعارض أحياناً مع أهداف الفاعلين الاجتماعيّين الآخرين مثل الآباء ووسائل الإعلام. وهو ما أدّى إلى تراجع دورها في الفعل التّربوي، بل إنّ المدرسة اليوم، تلقّن وتعلّم وقلّما تربّي بالمعنى الإسلامي للكلمة[9].
  •  إنّ تعدّد مصادر الثّقافة التي تشتغل بشكل تلقائي في المجتمع مثل׃ وسائل الإعلام والنّوادي ومنظّمات المجتمع المدني الأخرى التي أصبحت تمتلك فعاليّة أكبر في التّنشئة الاجتماعيّة، أدّى إلى تراجع صورة المدرسة في تمثّلات الطّفل التّربويّة والعلميّة. ففي زمن كانت فيه المعلومات محدودة، كان المعلّم يمثّل بالنّسبة إلى الأطفال ولأهلهم رسولاً يفتح أمامهم أبواب المعرفة، لم يعد لهذا المعلّم الدّور نفسه اليوم، ولم يعد من الممكن أن ينظر إليه كمرشد وحيد إلى المعرفة[10]. فالسّلطة العلميّة المتناقصة للمدرسة، جعلت الطّفل أكثر اعتماداً على المؤسّسات الأخرى في توجيه سلوكه من خلال نماذجها ومبادئها، وهو ما أدّى إلى تراجع دورها في الدّفاع عن خصوصّية علاقاتها الدّاخليّة – الثّقافيّة والأخلاقيّة – وعلاقاتها الخارجيّة التي تربطها بمختلف مؤسّسات المجتمع الأخرى.
  •  على الرغم مما توفّره المؤسّسة التّربويّة من وسائل لتأمين الانتظام وبلوغ أهدافها، فإنّ شبكات من العلاقات غير الشكليّة تتنامى من خلال بنيتها الدّاخليّة وعلاقاتها بمحيطها المجتمعي، لتوفّر نوعاً من التّعويض لما يصيب الطّفل من إحباط ولمواجهة سلطتها الشّكليّة. إذ لم يعد لسلطة المعلّم من مفعول في المؤسّسات التّعليميّة… لقد وقع شرخ في علاقة التّلميذ بالمعلّم، وبين التّلميذ والأسرة، وبين المعلّم والأسرة، وفي الكيان التّربوي والتّعليمي بأكمله[11].
  •  يقتضي فهم التّغييرات في الحقل التّربوي وتفسيرها أن ننظر إلى التّمفصل بين مختلف مستويات الأفراد النّفسيّة، وبين الوضعيّات أو التّموضعات المرتبطة بالسّياقات الاجتماعيّة، وبالمعتقدات الأيديولوجية[12]. إذ يشهد النّسق المرجعي للحقل التربوي نقلة نوعيّة وقطيعة فعليّة مع النّسق المرجعي القديم. ومع إعادة بناء نظم الهيمنة الاقتصاديّة والسّياسية والثّقافيّة الجديدة، تغيّرت ديناميكيّة التّفاعلات الاجتماعيّة ومحدّداتها داخل المدرسة وخارجها بين الفاعلين الاجتماعيّين.

وقد تدعّمت هذه التّغييرات في السّنوات الأخيرة من خلال ظهور المعلوماتيّة، التي غيّرت بشكل كبير العلاقة القائمة بين المتعلّم والفضاء المدرسي، وأدّت إلى ظهور بيئة تواصليّة جديدة في المدرسيّة. بيئة تحاول أن تنشئ الأفراد (الأطفال) انطلاقاً من قيم ومعايير تربوية كونيّة، وانطلاقاً من نظرة شموليّة تحبط كلّ جوانب الفاعليّة الإنسانيّة والخصوصيّة لدور المعلّمين في المدرسة.

كما إنّ تراجع دور المدرسة كفاعل اجتماعي أساسي في التّنمية وضمان «المستقبل» في تصوّر الرّأي العام، ساهم في تراجع سلطتها الرّمزيّة ومشروعيّتها في عمليّة الضّبط الاجتماعي. لأنّ النّجاح المدرسي الذي كان يمثّل أفضل تعبير عن الأمن المادي وتحسين رفاهيّة العيش بالنّسبة إلى الطّبقات الفقيرة[13] حلّت مكانه النّظرة اليائسة والمضطربة لدور المدرسة في الإيفاء بوعودها لدى العائلة. وبدأ الحديث يتكرّر عن فشل المدرسة عوض الحديث عن فشل المجتمع في تطوير هذه المؤسّسة.

لقد تغيّرت النّظرة إلى التّعليم، في مستوى القوانين والأهداف والسّياسات، وفي آليات تسيير المؤسّسات التي تحكم مسيرتها وتنظّم نسق تفاعلاتها الدّاخليّة والخارجيّة، وتقلّصت تبعاً لذلك، الحوافز الشّخصيّة للعمل البناء، وتقلّصت معها مشاعر الرّضى والاكتفاء التي كان يوفّرها الفضاء المدرسي، لتعطي مكانها للبحث عن الرّضى والمكافآت من خارجه. لأنّ «ما يعطي للكلمات قوّتها، وما يجعلها قادرة على حفظ النّظام أو خرقه هو الإيمان بمشروعيّة الكلمات ومن ينطق بها»[14].

لقد ارتهن غياب الطّابع القدسي عن حياة النّاس في المدرسة بطغيان العقل الأداتي والنّفعي الذي قضى على كلّ مقوّمات الصّفة الإنسانيّة. وأدّى هدم الأنظمة الثقافيّة والرّمزيّة القديمة ذات الطّابع القيمي والأخلاقي للفعل التّربوي والتّعليمي المدرسي، إلى توسيع دائرة الشّكّ في قدسيّة هذه المؤسّسة على مستوى الميل الاجتماعي لدى المتعلّم. وتظهر هذه الثّقافة المدرسيّة الجديدة لدى المتعلّمين من خلال كثرة الغيابات وممارسة مختلف أشكال الاستهتار بالقوانين والقيم المدرسيّة التي تؤسّس لقواعد العيش المشترك وأهمّها تزايد ظاهرة العنف المادّي واللّفظي ضدّ مختلف أصناف المربّين في السّنوات الأخيرة.

ففي دراسة سوسيولوجيّة ثقافيّة أجراها المرصد الوطني للشّباب بالتّعاون مع منظّمة «اليونسيف» حول «ظاهرة العنف اللّفظي» لدى الشّباب التّونسي سنة 2003، أكّدت فيها أنّ المؤسّسة التّربوية تعدّ ثاني الفضاءات الأساسيّة من حيث انتشار العنف اللّفظي لدى الشّباب بنسبة 43,21 بالمئة. وقد جاءت هذه الإحصاءات الرّسميّة لتعزّز الصّورة الدّاكنة لأوضاع التّربية في تونس. وهي صورة كانت قد تكوّنت على امتداد السّنوات الماضية، نتيجة غياب الرّؤية المتكاملة للإصلاح التّربوي، وفشل أغلب الخطط والمشاريع التّربويّة في مواكبة التّحوّلات العميقة التي يشهدها المجتمع.

ففي إطار الاتجاه التربوي المُعولم ظهرت ثقافة مدرسية جديدة تستهدف بناء صورة «إحباطية» لدى المتعلم حتى يبحث عن بدائل تربوية جديدة من خارج أسوار المدرسة. وتُعدُّ هذه المسألة من أهم القضايا في الراهن التربوي التونسي في أبعاده الاجتماعية والنفسانية التي يتوقف عليها قدرة المدرسة على الحفاظ على دورها التربوي والتكويني وفي مسايرة التغيرات الدولية في المستقبل. فأصبح المتعلم يعيش في وسط مدرسي يسوده مناخ الإحباط وحالة اللامبالاة. كما لم يعد للمدرسين وأعوان التأطير ومختلف المسؤولين القدرة والفاعلية اللّازمتان للتأطير وإقناع هؤلاء المتعلمين بأهمية المدرسة في المجتمع، وبخاصة أمام تعاظم الضغوط والإكراهات الاقتصادية والسياسية وتبعيتها المطلقة للفاعلين السياسيين والمموِّلين الدوليين الجدد (المؤسسات الاقتصادية والمالية العالمية).

3 – الأزمة في التّواصل بين الأسرة والمدرسة

لا يمكن دراسة ظاهرة العنف المدرسي بمعزل عن السّياقين الاجتماعي والثقافي للمجتمع ككلّ. لأنّ العنف المدرسي هو سلوك تتداخل فيه الأسباب والجذور، أسباب من داخل المؤسّسة التّعليمية وأدواتها ورموزها، وأسباب آتية من المحيط الاجتماعي والاقتصادي والسّياسي[15]. ويعتبر العنف المدرسي نوعاً من الامتثال إلى منظومة قيم اجتماعيّة وثقافيّة رّمزيّة، تنظمها المعايير والأعراف والاتّجاهات السّلوكية السّائدة في المجتمع. وتتأسّس هذه العلاقة على عدّة وسائط ومؤسّسات اجتماعيّة وتربويّة من أهمّها العائلة وبعض المنظّمات والمؤسّسات الإعلامية العموميّة والخاصّة مثل التّلفزة والصّحف… إلخ.

من أهمّ أسباب فشل النّظام التأديبي في مدارسنا هو غياب منابر الحوار داخل هذه المؤسّسات بين مختلف الأطراف المعنيّة من إدارة ومدرّسين وتلاميذ وأولياء. فرغم أن المذكّرة الوزاريّة (1340) المؤرّخة في 5 تشرين الأول/أكتوبر 2000 تنص على فتح الحوار بصفة مستمرّة مع الأولياء وضبط روزنامة لقاءات دوريّة معهم تغطّي كامل السّنة المدرسيّة لحملهم على المشاركة الفعليّة في مراقبة أبنائهم وتوجيههم، فإنّ أغلب مؤسّساتنا لا تنظّم هذه المنابر سوى في بعض المناسبات أو الحالات الخاصّة. أي لم تتحوّل هذه الآليّة إلى ممارسة ثقافيّة ومؤسّساتيّة حقيقيّة في مدارسنا إلى اليوم، رغم اقتناع مختلف الأطراف بأهميّة الحوار في الحدّ من بعض السّلوكيّات التي تؤثّر سلباً في سير عمل المؤسّسة التّربويّة.

إنّ مشروع تنشئة الأطفال مشروع صعب ومعقد المستويات، لأنّه يشترط وجود تنسيق أو تقسيم للمهام بين مختلف الفاعلين الاجتماعيّين ومجالات التّأطير التّربويّة في المدرسة وخارجها حتى يتحوّل هذا الطّفل إلى كائن اجتماعي فاعل. ولا تتقيّد سلوكياته بالنّسق الثّقافي لمجتمعه فقط، بل يساهم في تنميته والدّفاع عنه في المستقبل.

أصبح لظاهرة العنف المدرسي تأثيرات سلبيّة كبيرة في مستوى نسق التّفاعلات التّربويّة والتّعليميّة في تونس. ولا تقتصر ممارسة العنف على فئة اجتماعيّة دون الأخرى، بل تشمل جميع الفئات والأطراف من داخل المدرسة ومن خارجها. وهناك علاقة جدليّة بين ظاهرة العنف ونوعيّة الثّقافة المدرسيّة السّائدة، إذ إنها تؤثّر في نمط اشتغال المؤسّسة التّربويّة، وفي تشكّل نسق العلاقات الاجتماعية وفي مستوى جودة التّربية والتّعليم.

تكمن خطورة هذه الظّاهرة في مؤسّساتنا التّربويّة ـ في الرّيف والمدينة – في انتشارها وديمومتها بشكل تصبح معه هذه الممارسات جماعية الطّابع، عامّة ومألوفة وغير استثنائيّة لدى الأوساط التّربويّة والمجتمعيّة. وقد تتحول هذه الظاهرة في المستقبل إلى نمط ثقافي ورمزي مهيمن على الوسط المدرسي أمام فشل مختلف الآليات المؤسساتية التربوية في الحد منها. (انظر الجدول الرقم (2)).

الجدول الرقم (2)

العنف المادّي والرّفت بالمؤسّسات التّربوية بالإدارة الجهويّة – تونس2

(الثّلاثيان الأوّل والثّاني) خلال السّنة الدّراسيّة، 2005/2006

الفترةالمسجلونحالات الاعتداء على التّلاميذالنسبة المئويةحالات الاعتداء على الأسرة التّربويةالنسبة المئويةحالات الرفت المؤقتالنسبة المئويةحالات

الرفت النهائي

النسبة المئوية
الثلاثي الأول42366610,14080,0110622,50160,03
الثلاثي الثاني41929920,21010,0222025,25370,08

المصدر: أخذنا هذا الجدول من دراسة أنجزتها الإدارة الجهوية للتربية في تونس2، صادرة عن الندوة الجهوية بمعهد باردو، بتاريخ 3 نيسان/أبريل 2009.

 

نلاحظ من خلال هذه المعطيات والإحصاءات الجزئيّة الصّادرة عن إحدى الإدارات الجهويّة للتّربية في تونس العاصمة، أنّ العنف المادّي في المؤسّسات التّربوية أصبح منتشراً لدى فئة الشّباب المتعلّم. وأصبحت مدارسنا فضاءات اجتماعيّة مولّدة للعنف وتتعايش معه باعتباره أمراً بديهيّاً. فالاعتداء بالعنف المادّي على أحد أعضاء المؤسّسة التّربويّة أو إهانته، أصبح جزءاً مكوّناً لنسيج العلاقات والتّفاعلات اليوميّة في المدرسة. لكنّ المسؤولين لا يتعاطون مع هذه الظّواهر بشكل جدّي وواعٍ لمواجتها، فتتكرّر حالات العنف وتتنوع وسائله وتتّسع مجالاته شيئاً فشيئاً، ويعاد إنتاجها من جيل إلى آخر من دون البحث عن حلول علميّة وجدّية للحدّ منها. من هنا يصعب مواجهتها في ظلّ الصّمت الشّامل وعدم اعتماد آليّات فعليّة للحدّ منها وبمشاركة جميع الأطراف من داخل المؤسّسة ومن خارجها.

تعود عوائق التّربية الحقيقيّة، في جانب منها، إلى المحيط الخارجي الذي تغيب فيه ثقافة الحوار والتّواصل بين الطّفل والمحيطين به. فالآباء غير ناضجين والمعلمون غير مختصين ومرهقون بأعمالهم، فتتجلّى ردود أفعالهم بالإهمال الذي يكتسي طابع التساهل وبالتهرب الذي يبدو بشكل خطة مرسومة وبعدم النجاعة والعدوانية المشوشة[16].

هناك أزمة بنيويّة حقيقيّة تعيشها مؤسّساتنا التّربوية نتيجة التّغيير الجوهري في قيمها ومرجعيّاتها القانونيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، ونتيجة تفكّك بناها المؤسّساتية والإداريّة. فكيف يمكن لهذه المؤسّسة أن تكون فاعلة في تغيير المجتمع نحو مستقبل أفضل في وسط مجتمعي تسوده مظاهر التّهميش والإقصاء والانحلال القيمي والأخلاقي، وفي غياب آليّات المشاركة الحقيقيّة للفاعلين التّربويّين في التّصدّي لهذه الظّاهرة وغيرها من الظّواهر التي تتجاوز المدرسة؟

إنّ اكتساب المتعلّم قيم المواطنة المبنيّة على المشاركة وتحمّل المسؤوليّة تقتضي التّكامل بين مختلف فضاءات المجتمع المدني، وبخاصّة بين الأسرة والمدرسة. لذلك أقرّ «القانون التّوجيهي للتّربية والتّعليم المدرسي» في تونس أهميّة الوظيفة التّربويّة للمدرسة، لكن فاعليّة هذا الدّور تتوقّف على العمل بالتّعاون مع الأولياء وفي تكامل مع الأسرة، وعلى تربية النّاشئة على الأخلاق الحميدة والسّلوك القويم وروح المسؤوليّة والمبادرة.

إنّ من أسباب ضعف السّلطة التّربوية والثقافيّة للمدرسة، وتفكّك رأسمالها الرّمزي في المخيال التّلمذي، هو غياب التّكامل بينها وبين الأسرة في متابعة الطّفل ومراقبته. وقد تعمّقت هذه الهوّة بينهما أمام تعدّد مؤسسات الثّقافة والتّربية في المجتمع الحديث. فاختلاف المعايير والوسائل المعتمدة في التّربية بين الأسرة والمدرسة وغياب جسور التّواصل بين الأولياء والمربّين في بناء شخصيّة الطّفل الأخلاقيّة والسّيكولوجيّة والسّلوكيّة، أدّت إلى ظهور أزمة في تكوين هويّته الشّخصيّة.

فقد وصلت الحالة إلى نوع من «الاستقالة» التّامة بالنّسبة إلى أغلب العائلات في متابعة أبنائها. وغياب التّكامل والتّنسيق بين الأسرة والمدرسة في الإحاطة بالمتعلّم، أدّى إلى حالة الاختلال المؤسّسي والقيمي لكليهما، وتأسيس نموذج تربوي رديء. وينبئ هذا التّغيير السّوسيولوجي، والانحدار المتواصل في نسق التّربية في مجتمعنا المعاصر، بأنّ المدرسة أصبحت تعيش أزمة في جميع أبعادها التّربوية والتّعليمية والرّمزيّة. فالمدرسة ليست شجرة تثمر دون تربة نقيّة وماء مسكوب، وليست بمعزل عن الظّروف البيئيّة أو المناخيّة المحيطة بها.

ومن نتائج عدم التّماثل بين الأنماط الثقافيّة المدرسيّة والعائليّة، أن أصبح الطّفل يعيش حالة اضطراب دائم وصراع متواصل وسط مناخ مليء بالمفارقات القيميّة والسّلوكيّة بينهما. فالمدرسة مثلما يقول «آلان توران»‏[17] هي أهمّ فضاء تتقاطع فيه ثقافة الدّولة وثقافة المجتمع. أي تتداخل فيه الثّقافة الرّسميّة «النّموذجيّة» عبر البرامج والمناهج الدّراسيّة مع ثقافة الواقع المعيش والمعبّرة تلقائيّاً عن بنية المجتمع وخصائصه الحضاريّة.

4 – غياب مكاتب الإصغاء والإرشاد التّربوي

إذا كان التّواصل الإيجابي شرطاً لضمان نجاح المؤسّسة التّربويّة، فإنّ من أهمّ آليّاته حسب القانون التربوي التّونسي هي خلايا العمل الاجتماعي ومكاتب الإصغاء والإرشاد. وهذه الآليات كلّها ظلت شبه منعدمة في مؤسّساتنا اليوم.

انطلق برنامج العمل الاجتماعي في الوسط المدرسي سنة 1991 تزامناً مع شعار «مدرسة للجميع لكلٍ فيها حظ» و«تربية جيدة للجميع». وأوكلت مهمة تنفيذه إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والتضامن والتونسيين في الخارج. أما آلياته فهي: خلايا الإصغاء والإرشاد والصحة العمومية (1995 – 1996) ومكاتب الإصغاء والإرشاد (1999 – 2000). وتعمل هذه الآليات وفق هدف هذا البرنامج الاجتماعي إلى مقاومة ظاهرتي الإخفاق المدرسي والانقطاع المبكر عن الدراسة وكل مظاهر عدم التكيف المدرسي.

تمثّل مكاتب الإصغاء حسب القوانين التّربويّة التّونسيّة فضاءات يقصدها التّلاميذ الذين يشعرون بالحاجة إلى المساعدة والتّوجيه، ويصغي إليهم مختصّون يعملون على تسيير تواصلهم مع المحيط المدرسي والاجتماعي ككلّ. فقد بيّنت التّجربة أنّ مكاتب الإصغاء تساهم في حماية المراهقين من المخاطر الصحيّة والانحرافات السّلوكية وفي مقاومة الإخفاق المدرسي، إضافة إلى تحسين المناخ العام في المؤسّسة… وهي آليّة ناجعة للتوقّي من وضعيّات التّوتّر وصعوبات التّواصل»[18]. فتوزيع الفصول الدّراسيّة غير المتوازن، والتّخطيط التّربوي والمدرسي السّيئ والمناخ المدرسي المتميّز بالقسوة أو التّسيّب… إلخ، كلّها عوامل تساعد على توفير الأرضية المناسبة لتغيّر السلوكيات لدى الشّباب من الحالات السّويّة إلى الحالات العدوانيّة.

ومن أهم الصعوبات التي توصلت إليها نتائج التقييم الذي أنجزته وزارة التربية والتكوين بالتعاون مع منظمة اليونسيف سنة 2006 هي:

  •  عدم قدرة البرنامج على التوسع في إحداث الخلايا اعتباراً لمحدودية الموارد البشرية المتوافرة، بما انعكس سلباً على منهجية تكامل الاختصاصات والتشخيص المشترك بين مختلف المتدخلين.
  •  ضعف حضور أعضاء العمل الاجتماعي المدرسي بصفة منتظمة نظراً إلى كثرة المسؤوليات المهنية الأخرى التي هي في عهدتهم.
  •  توقف برنامج التكوين الممول من قبل منظمة اليونسيف الموجه إلى فائدة المنسقين الجهويين للبرنامج.
  •  عدم ملاءمة الأهداف الخصوصية للبرنامج للمستجدات داخل المؤسسة التربوية (بروز فئة جديدة من التلاميذ تستوجب إحاطة نفسية واجتماعية وعدم اندماجهم في الوسط المدرسي).
  •  بالرغم من تعدد الآليات المتدخلة فهناك محدودية في التكامل بينها في التعهد بالحالات الاجتماعية المدرسية.
  •  غياب مساهمة المجتمع المدني والجمعياتي في مساندة هذا البرنامج.
  •  غياب البرامج الإعلامية والتثقيفية للتعريف بهذا البرنامج لدى مختلف الأطراف مثل الأسرة ومؤسسات المجتمع الأخرى.
  •  صعوبة تنفيذ جميع الحلول لحل المشاكل التي يتعرض لها بعض التلاميذ نتيجة تعقد الإجراءات وبخاصة في الحصول على المساعدات المادية.

يمكن القول إن هذه المشاكل كانت سبباً في تنامي ظاهرة «التعليق التدريجي للدّراسة» (Le Décrochage Scolaire) الذي يبدأ بالتأخيرات والغيابات، ويمر بضعف النتائج والرسوب لينتهي بالتلميذ إلى اتباع سلوكيات لافتة وغير تربوية والاضطراب في التعلم، ويعيش صعوبات في علاقاته داخل المؤسسة، وهو ما يدفع به في أغلب الأحيان إلى الانقطاع عن الدراسة سواء كان بشكل إرادي أو عبر مجلس التربية.

5 – تراجع النّشاط الثّقافي والرّياضي المدرسي

يؤكّد الفصل التّاسع من «الأمر المنظّم للحياة المدرسيّة» أن تنظم المؤسّسة التّربوية لفائدة التّلاميذ الأنشطة المدنيّة والثقافيّة والتّربويّة التي تعوّد المتعلّمين على التدرّب على ممارسة المواطنة وتحمل المسؤوليّة.

ويعتبر النّشاط الثّقافي والرّياضي جزءاً لا يتجزّأ من المنظومة التّربويّة، وبُعداً من أبعاد الفعل التّربوي والتّعليمي، الذي تسعى من خلاله المؤسّسة التّربوية إلى ضمان اندماج المتعلّم في الوسط المدرسي، وتحقيق من خلاله جودتها التّربويّة. وفي هذا الإطار تمّ منذ الإصلاح التّربوي الجديد إغناء برامج التّعليم الرّسميّة ببعض المواد الدّراسيّة الثقافيّة المتنوّعة مثل: التّربية الموسيقيّة والتّشكيليّة والمسرح والإعلاميّة… إلخ.

وتمثّل النّوادي الثّقافيّة والرّياضيّة المدرسيّة والمجتمعيّة رافداً أساسيّاً لتفعيل الحياة المدرسيّة وتنشيطها. فهي أحد أبرز الأطر التي تمكّن من التّواصل مع المتعلمين، باعتبارها فضاءات يمارس من خلاله التّلميذ هذه الأنشطة بكيفيّة حرّة وطوعيّة خارج أوقات الدّراسة، بهدف تنمية قدراته العقليّة والجسمانيّة، وتنشئته على القيم المدنيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة مثل الحوار والتّسامح والعيش المشترك… إلخ. وتطمح الوزارة إلى أن تكون هذه الفضاءات مناخات للتّحديث والبناء الاجتماعي.

ما نلاحظه أنّه منذ الإصلاح التّربوي لسنة 1991، ضبطت وزارة التّربية 47 نوعاً من النّوادي الثّقافيّة والاجتماعيّة. ثمّ صدر منشور وزاري في 25 آب/أغسطس 2008، حدّدت فيه الوزارة من جديد أصناف هذه الأنشطة وقسمتها إلى أنشطة إجباريّة وأخرى اختيارية[19]. كما خصّصت دعماً مادّياً هامّاً للرّحلات المنظّمة في مختلف المؤسّسات التّربوية إلى المتاحف والمواقع الأثريّة. لكن هذه الأنشطة شهدت خلال السّنوات الأخيرة تراجعاً لافتاً.

ويعود أهمّ عامل في هذا التّراجع إلى أسباب مادّية وعزوف أغلب المدرّسين عن الإحاطة بهذه النّوادي وتنشيطها لأنّها تمثّل قيداً ومسؤوليّة ومحفوفة بالمخاطر من دون أن تحقّق أهدافها التّربويّة في إطار دعم المدرسة في التّنشئة الاجتماعيّة وتكوين المواطن الصّالح. ففي مفتتح السّنة المدرسيّة تعتمد إدارة المؤسّسة قائمة اسمية لهذه الأنشطة والنّوادي، لكن لا يتمّ اعتمادها في الواقع، نتيجة عوامل عديدة أبرزها:

  •  لا يتمّ وضع برامج هذه النّوادي أو الآليّات على أساس الخطط والبرامج العلميّة والاستراتيجية التي من شأنها دعم بناء المناخ المدرسي السّليم والإيجابي الذي يساعد المتعلّمين على التّعلّم واكتساب القيم والسلوكيات الحسنة، بل يتمّ وضعها في إطار الاجتهادات الفرديّة من قبل الأستاذ أو المنشّط المشرف.
  •  لا تستند هذه الأنشطة إلى المقاربة التّشاركيّة الفعليّة بين مختلف المتدخّلين في الحياة المدرسيّة. وأوّل الأطراف الذين يتمّ إقصاؤهم من حقّ اقتراح المشاريع الثّقافيّة والاجتماعيّة هم المدرّسون. لذلك فإنّ أغلب الأنشطة والبرامج لا تعبّر عن الواقع الحقيقي للمؤسّسة، ولا يتمّ فيها تشريك الأولياء وبعض المؤسّسات ذات العلاقة.
  •  كما أنّ عدم تشريك مجلس المؤسّسة الذي يمثّل حسب القانون الآليّة الرّئيسيّة في اقتراح مثل هذه المشاريع المدرسيّة وفي متابعة إنجازها وتقييمها، كان عاملاً رئيسيّاً في فشل هذه الأنشطة في مختلف مؤسّساتنا التّربويّة.

نعتقد أنه من الضروري القيام بمراجعة جديدة ونقدية لما تم القيام به سواء من حيث التنظيم والمأسسة لهذه البرامج أو في مستوى تحديد طبيعة علاقات التعاون والقيم وأنظمة التواصل الناظمة لها داخل المدرسة ومع محيطها الخارجي.

تضمن القانون التوجيهي شبكة من المفاهيم والمقاربات متعددة الأبعاد (سياسية وحضارية) وكذلك العديد من الآليات والمعايير بهدف تحقيق التغيير لنسق المسار التربوي والتعليمي في بلادنا. لكن عملية بناء المؤسسة التربوية تكون «مؤهلة» وقادرة على التفاعل مع محيطها السوسيو – الاقتصادي محلياً ووطنياً اعترضته عدة معوقات (Des Contraintes) على المستوى التطبيقي نتيجة عدم فاعلية آليات التنفيذ التي اعتمدتها.

إن هذه المرجعيات القانونية والتقارير والاستراتيجيات والاستشارات التربوية لم تنطلق من واقع هذه المؤسسات، بل استمدت منطلقاتها ووضعت برامجها من الخارج، من المؤسسات الإقليمية والدولية مثل اليونسكو، وأدت إلى طمس هوية التجربة الخاصة، كما وجدت نفسها محملة بأعباء وتبعات لم تكن من مسؤولياتها أو ضمن توقعاتها، ولا تستجيب أيضاً لإمكاناتها المادية والبشرية الخاصة. لهذا نحتاج اليوم إلى إعادة صوغ أسئلة منطلقات الإصلاح التربوي وأبعاده وإمعان النظر في استراتيجية إنجازه.

خاتمة

إنّ تغيير القوانين والمضامين والمفردات التربوية لا يعكس بالضرورة تغييراً ملازماً في السلوكيات والعلاقات والمواقف التعليمية والتعلمية بشكل عام. لذلك لم نجد لهذه القوانين والخطط والاستراتيجيات التطويرية تأثيراً كبيراً في واقعنا التربوي، لأن أغلب هذه التغييرات تم وضعها نتيجة التغيرات في السياسة الاقتصادية العالمية وكانت استجابة للضغوط الخارجية.

لهذا، لا بد من إعادة استقراء الواقع التربوي من أجل تقييم مضامين «الإصلاحات» التي انخرطت فيها تونس منذ قانون 2002، وأن لا نكتفي بقراءة التقارير والبحوث الرسمية بتسجيل الأهداف والخطط المعلنة، بل أن نقيّم الممارسات وطبيعة الإنجازات في مختلف المؤسسات التربوية حتى نقف على حقيقة المشاكل والمعوّقات التي تحول دون الوصول إلى تحقيق الغايات التربوية الكبرى أو بعيدة المدى.

ما زال المشهد التربوي عندنا يتميز بعدم التطابق بين ما هو معلن رسمياً وما هو متحقق فعلاً. والنقص الذي يعانيه الحقل التربوي يقع في معظمه في عدم الانطلاق من الواقع التربوي التونسي ومعطياته الخاصة، ولا يقع في تصور «المثال» أو النموذج التربوي للمستقبل الذي ما فتئ يتردد في مختلف التشريعات والقوانين منذ الاستقلال، لكن ظلت وسائل تحقيقه والمسالك الملائمة لإنجازه قاصرة أو غائبة تماماً.

كما إنّ بعض المسائل التي أثرناها في تقييم العملية التعليمية، وقد اعتبرناها من مظاهر ضعفه وتراجعه، هو ليس مسؤولاً عنها وإن كانت على علاقة به، حيث يتنزل منه مبحث السياسة والاقتصاد والاجتماع في مكوناته التفصيلية منزلة عليا. لذلك فإن قضية الإصلاح لم تعد مشروعاً فحسب، بل غدت اليوم، ضرورة مجتمعية ملحّة بمقاييس القرن الجديد.

 

قد يهمكم أيضاً  التربية الإعلامية والرقمية وتحقيق المجتمع المعرفي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #التعليم #القطاع_التربوي_في_تونس #الواقع_التربوي_التونسي