مقدمة:

عقب الحراك الاجتماعي ظهرت الحركة السلفية كحركة اجتماعية مضادّة تتبنى الدفاع عن هوّية ثقافية مرتكزة أساساً على رفض الديمقراطية وأسس الدولة الحديثة، إذ سعت بكل الطرق إلى التغيير عبر جملة من الاستراتيجيات المدروسة، وهو ما جعل الشباب ينخرطون بقوّة فيها. عموماً، الحركة السلفية ليست بالمفصولة عن السياق الاجتماعي التي تولدت في خضمه وجملة الأسباب الموضوعية الخارجة عنه. وهي كذلك تعبير عن مقاصد فاعلين اجتماعيين أرادوا من خلال الانخراط في الحركة السلفية بلورة مقاصد وغايات مذوتنة، وهذا ما سنتطرق إليه بالتحليل؛ إذ إن الحركة السلفية حركة اجتماعية ولدت من رحم المجتمع وأزماته واتخذته بعد ذلك هدفاً للتغيير عادَّةً إياه متخبطاً في دروب الجهل بالدّين والضلالات الدنيوية، وهذا ما أدى إلى صراع وتنازعية اجتماعية (Conflictualité social) من خلال فاعلين تجمعهم روابط هوّياتية مخصوصة. وبما أن بحثنا سيهتم بالعلاقة بين الإقصاء الاجتماعي الذي يعيشه الشباب التونسي وتنامي انخراطه في الحركة السلفية يجدر بنا طرح الإشكالية التالية بعين الاستشكال:

ما هي تمثّلات شباب سيدي علي بن عون للحركة السلفية في أفعالهم وتفاعلاتهم؟

كيف يسهم الإقصاء الاجتماعي في تنامي انخراط الشباب التونسي والبنعوني خاصة في الحركة السلفية؟

1 – المفاهيم الأساسية

أ – الشباب: لئن اعتبر عالم الاجتماع أوليفيه غالون (Olivier Galland) أن الشباب هو سن «الدخول في الحياة»[1] أي الدخول إلى عالم المسؤولية والرشد، ولا يتم الانتقال إلى سن الرشد إلّا عبر «الزواج والعمل والاستقلالية عن العائلة»‏[2]، فإن جون فرانسوا رينيه يرى في الشباب مجالاً اجتماعياً هشّاً وليس وضعية مضبوطة بمسار معيّن؛ فالشباب مرتبط بجملة من التحوّلات الاجتماعية، إذ نشهد في ظلّ العولمة هشاشة في العمل وتحوّلات في القيم وأفولاً للتقليدية.

ب – الحركة السلفية: السلفية حركة اجتماعية تنقسم إلى فرعين رئيسين: فرع أوّل يتبنى الجهاد منهجاً للتغيير الشامل سياسياً واجتماعياً وثقافياً ويتجلى ذلك في قول أحد أهمّ منظري السلفية الجهادية أبو بكر ناجي «إن معركتنا هي معركة توحيد ضد كفر وإيمان ضد شرك وليست معركة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية»‏[3]؛ وشق ّ ثانٍ وهو «السلفية العلمية»، ويسمّون أيضاً «المداخلة»، يشترك مع الفرع الأوّل في الهدف والمصادر المرجعية لكن يختلف في طريقة التغيير وهي التغيير من طريق «الدعوة والإصلاح».

2 – منهجية الدراسة وعيِّنة البحث

سنعمد في هذه الدراسة إلى استخدام المنهجين الكمّي والكيفي نظراً إلى طبيعة الموضوع المدروس الذي يستلزم الإلمام به من جميع جوانبه. على هذا الأساس يساعدنا المنهج الكيفي على إدراك بعض المعلومات الغامضة والخصوصية التي يصعب تكميمها معتمدين أساساً على تقنيتَي الملاحظة بالمشاركة والمقابلة. في حين أن المنهج الكمي يساعدنا على جمع بعض المعطيات الكمّية واختبار بعض الفرضيات والحصول على أرقام دقيقة تساعدنا على تحليل الموضوع، وبخاصة في ما يتعلق بقياس مؤشرات الإقصاء الاجتماعي، كرأس المال الثقافي والوضعية الاجتماعية للشباب السلفي في مدينة سيدي علي بن عون. وهذا التكامل «بين المنهجية الكمية والمنهجية الكيفية أمر ضروري لأنه يضمن مزيداً من الدقة والصرامة العلميتين؛ فتقنية الملاحظة مهما كانت دقتها ومهما كان تموقع الملاحظ داخل المجتمع المدروس تظل محدودة ما لم تترافق مع تقنية المقابلة أو الاستمارة»‏[4]. كل هذه التمشيات المنهجية حاولنا تطبيقها عملياً انطلاقاً من بحث ميداني أجري في مدينة سيدي علي بن عون وشمل عيِّنة تضم 100 شاب سلفي من هذه المدينة التابعة لولاية سيدي بوزيد.

– الإقصاء الاجتماعي: يدخل الإقصاء الاجتماعي في الأسباب الموضوعية لأنه نتاج للبنية وخارج عن إرادة الأفراد، ويسمّى أيضاً الاستبعاد الاجتماعي، «وهو، نقيض الاندماج أو الاستيعاب، موضوع حيوي وكاشف لطبيعة البنية المجتمعية في أي مجتمع؛ فالاستبعاد ليس أمراً شخصياً، ولا راجع إلى تدنّي القدرات الفردية فقط بقدر ما هو حصاد بنية اجتماعية معيّنة ورؤى محددة ومؤشر على أداء هذه البنية لوظائفها» وأمام تعدّد أبعاد الإقصاء الاجتماعي ومجالاته فإننا سنقتصر على متغيرات العمل ومتغير الدخل الشهري للشاب السلفي.

أولاً: هشاشة في العمل ودخل شهري متردٍّ

الجدول الرقم (1)

الوضع الاجتماعي والمهني للشباب

المهنةموظّفطالب أو تلميذعمل آخر ثابتعمل مؤقت ومتغيّربدون عملالمجموع
التكرارات88224418100
النسبة المئوية8,08,022,044,018,0100,0

نلاحظ من الجدول الرقم (1) أنّ ما يقارب 44 بالمئة من الشباب السلفي يمتهن مهناً هشة جعلتهم يعيشون على هامش المجتمع، ما يزيد من نقمتهم على الدولة ومؤسساتها ويعمّق شعورهم بالضيم والحيف. ههنا تحصل القطيعة بين النظام والفاعلين الذين تدبروا أمورهم بأنفسهم. ولا نختلف عن جيمس سكوت الذي يرى «أن الفرد الذي يشعر أنه قد أهين، قد ينمّي في داخله استيهامات شخصية تتعلق بالثأر والمواجهة، ولكن حين تكون الإهانة مجرد تنويع على الإهانات التي توجه منهجياً إلى عرق بأكمله والى شريحة من الناس، فإن الاستيهامات عند ذلك تصبح نتاج ثقافة جماعية؛ ومهما كان الشكل الذي تتخذه – سخرية تلعب خارج المسرح، أحلام بالثأر العنيف، رؤى قديمة تتحدث عن عالم ينقلب رأساً على عقب – فإن هذا الخطاب المستتر جماعياً، يكون أساسيا من أجل الوصول إلى رؤية ديناميكية لمسألة علاقات القوى»‏[5].

وتتزامن أزمة العمل مع ضعف الدخل الشهري حيث أن أكثر من نصف العيِّنة لا يتجاوز دخلهم الشهري 500 دينار.

الجدول الرقم (2)

الدخل الشهري للشباب

الدخل الشهريأقل من 500 ديناربين 500 و1000 دينارفوق 1000 دينارالمجموع
التكرارات53425100
النسبة المئوية53,042,05,0100,0

كل هذه العوامل تجعلنا نصل إلى مرحلة تفكّك العلاقة (désarticulation) بين الدولة والشباب. وفي هذه المرحلة سيسعى الشاب إلى إيجاد حلول للمأزومية الاجتماعية التي يعيشها بمعزل عن الدولة، وبالتالي «حشد الطاقات وتعزيز الضغوط الرامية إلى التغير الاجتماعي»‏[6]. من هنا نطرح التساؤل التالي: كيف يهتدي الشاب إلى بناء طريق موصلة إلى الاعتراف تأخذ بعين الاعتبار التشكل الهويّاتي؟

لا مراء في أنّ ما يواجهه الشباب من مآزق في هذا المناخ الموتور والمشحون بالإقصاء يحتاج إلى اجتراح سياسات ناجعة لتدبير الهويّات وإدارة الاختلاف وترسيخ ثقافة الاعتراف المتبادل. في هذا السياق أضحى الاعتراف مفهوماً محورياً لفهم الماجريات، بل غدا مفهوماً نضالياً وسياسياً لا غنى عنه لدى الشباب السلفي لتأسيس بديل أكثر عدلاً وإنصافاً.

ثانياً: الشباب السلفي ومسار البحث عن الاعتراف

لعلّ من نافلة القول التأكيد أنّ مسار الاعتراف لا ينفصل عن سؤال الذات، فالجميع يتطلع إلى أن تحظى ذاتيته بالاعتزاز، لأنّ الذات لا تتميز انطلاقاً من انفصالها عن الآخر وإنما عبر العلاقة معه. بعبارة إجمالية فإنّ الاعتراف يتصل بتجارب الجور وما تحمله من مشاعر الإذلال والهوان، ونظراً إلى الوضعية الاجتماعية الهشّة التي يعيشها الشباب البنعوني فإنه سيبحث عن بديل يعيد الاعتبار لكرامته المفقودة وذاتيته المأزومة. ههنا أضحت الحركة السلفية ملجأً يوفر للشاب الاعتراف ويمكّنه من تعويض ما عجزت عنه الدولة والمجتمع إذ تقدم الحركة السلفية رؤى وتصوّرات تشحن الشاب بآمال جديدة وتجعله في أعلى السلّم الاجتماعي من خلال عبارات «الفرقة الناجية» و«أنصار الشريعة» و«فرقة التوحيد» أو «فرسان الأمّة» ليدرك الشاب أنّه من الفرقة المنصورة التي ستعيد مجد الأمّة. ليخرج من دائرة الضعف إلى دائرة القوة. ذلك أن المركزية الاجتماعية التي افتقدها الشاب نتيجة تهاوي فكرة الدولة الراعية (Etat providence) التي تأخذ على عاتقها التشغيل وتوفير مقتضيات العيش الكريم، استعادها مجدداً بل وأكثر ليشعر أحياناً بالعليّة الاجتماعية، وبهذا المعنى تكون الحركة السلفية ليست فقط «مصدراً للفخر والبهجة بل أيضاً للقوة والثقة» يقول ح. ص (24 سنة) «السلفية هي الفرقة الوحيدة التي ترفع راية لا إله إلا الله وتنصر دين الله وكان الرسول (ﷺ) قد تنبأ بهذا الأمر وقال ستنقسم أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار عدا فرقة الكتاب والسنّة».

إلى هذا تنطلق الحركة السلفية من فكرة أفول الديني وتراجع الأنظمة القيمية بالمجتمع. ونتيجة لذلك تظهر الحركة السلفية لتقدم نفسها كبديل سياسي واجتماعي عبر استغلال الإحباطات والأزمات التي يعيشها الشاب فتسعى قدر الإمكان إلى تعميق التوترات بينه وبين الدولة التي عجزت عن حل مشكلاته ليكون البديل هو العودة إلى الدين والالتزام بمنهج السلف الصالح إلى حدّ يجعل الشاب مهووساً بفكرة نصرة شرع الله وإنْ عبر الجهاد. لا تجد هذه الأحلام حركة اجتماعية تتبنى الفكر الهويتي نفسه إلا الحركة السلفية التي تتفنن بدورها في تصوير الواقع صورة سوداوية، سواء عبر الخيم الدعوية أو المحاضرات أو الاجتماعات الشعبية في الأماكن العامة، كالمعاهد وأمام المساجد، أو توزيع المناشير وهي في الغالب مناشير محمّلة بآيات وأحاديث نبوية يقصد بها تبرير الفكر السلفي كأهمية الجهاد، أو مفهوم الطاغوت وأنواعه، أو أهمية الصلاة في المسجد، أو تبرير معاداتهم لمن يسمونهم أعداء الإسلام وأنصار الديمقراطية الغربية. وتصحب جلّ اللقاءات الشعبية أناشيد دينية مخصوصة هدفها التأثير في المستمع وتمرير رسالة خفية إليه. ليشعر بالندم والتقصير، وعادة يكون مضمون هذه الأناشيد «الدعوة للجهاد» أو «نصرة الأمة والإسلام» أو «التأسف على حال المجتمع الإسلامي والأمة» أو «التنديد بممارسات اليهود والنصارى». أما المخاطب فيتفنن في إلقاء خطابه بالصراخ حيناً والنواح حيناً آخر ليفسر أهمية الجهاد والأوضاع العقائدية لدى الشباب والمجتمع، والفساد والانحراف المتفشي لدى الناشئة، وفي الآن ذاته يحاول مخاطبة عواطف الشباب السلفي كوصفهم بأسود الأمة وشباب الإسلام. فهو خطاب مخصوص، هدفه التأثير في المستمعين ومنهم الشباب لكسب تأييدهم وضمان انخراطهم في الحركة السلفية.

كل هذه الأساليب التعبوية تشحن الشاب بطاقة معنوية تجعله يفتخر بالجماعة التي ينتمي إليها ويردد باعتزاز عبارة القادة الجهاديين، ومنها ما يردده بعض الشباب السلفي بسيدي علي بن عون عن الخطيب الإدريسي كقوله إن الإسلام إذا حاربوه اشتد وإذا تركوه امتد. وحتى… وعندما يجمعك الحديث مع أحد شباب السلفية الجهادية، ويدور النقاش حول موضوع ديني معيّن أو حول ما يحصل في الوطن العربي من اقتتال، تجده يتفنّن بربط ما يحدث بعلامات قيام الساعة والواقع المعيش وأزماته، وكأنها هي البشائر التي تدلّ على اقتراب موعد النصر وقيام دولة الخلافة الإسلامية، التي ستعيد المجد للأمّة وتخرجهم من وضعهم المأسوي.

وضمن توجه قريب من هذا التصور يرى الفيلسوف الألماني أكسال هناث أنّ منطق المصلحة والمنفعة وحده لا يكفي لفهم الصراعات والنزاعات الاجتماعية، وإنما يجب تعزيزه بنموذج أخلاقي قائم على الاعتراف. وهذا يعني أنّ الأفراد والجماعات تتنازع وتتصارع ليس فقط على أساس المصلحة والمنفعة، وإنما على أسس أخلاقية أخرى، ومنها بوجه خاص ما يتصل بالتجارب الأخلاقية الخاصة بالمهانة والاحتقار والإذلال، أو تجارب الظلم. وأنّ ممارسات الإكراه والإذلال يمكن أن تصل إلى حد الإقصاء والإبعاد والحرمان من الحقوق، ويمكن أن تتحول إلى بواعث وأسباب لصراع الأفراد والجماعات من أجل حقوقهم، ومن أجل تشكيل هوية إيجابية حول أنفسهم، ومن أجل أن يحصلوا على الاحترام والتقدير اللائقين والمناسبَين من قبل الآخرين. آنئذ يمكن فهم العنف الذي تمارسه بعض جماعات الشباب السلفي بأنه شكل نضالي للحصول على الاعتراف، غير أنّه نضال مشرعن تبرره النصوص الدينية التي يبرع الشباب السلفي في تكييفه مع الواقع المعاش.

ثالثاً: الحركة السلفية كمصعد اجتماعي

تسعى الحركة السلفية إلى بناء واقع جديد وفق نموذج نظري جاهز شامل لمختلف جوانب الحياة اجتماعياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً؛ ولتحقيق هذا الهدف باتت الحاجة ملحة إلى تبرير تصوراتها وحشد الطاقات الشبابية وراء هذا المشروع الطامح إلى التغيير الشامل. لذلك تسعى إلى تعميق القطيعة بين الشاب وواقعه المعاش عبر التفنن في تصوير الواقع في صورة سوداوية تجعل الشاب ينظر إلى جميع الأمور على أنها دونية ومخالفة للشرع وهو ما تبيَّنّاه في قول الشاب م. ص (23 سنة) «الحياة دار فناء لا يوجد شيء يُعجب أو يُفرح». على أن البديل الذي تقدمه الحركة السلفية هو الذي يؤسس لواقع مثالي ملتزم بالضوابط الشرعية يمكِّن الشاب من تجاوز جميع المشكلات التي تواجهه فور تأسيس دولة الخلافة التي ستحقق العدل وتقضي على الظلم. ههنا تترسخ لدى الشاب فكرة سوداوية متجلية في جملة من الشعارات الكبرى وهي الظلم، الطغيان، الفساد الأخلاقي، مخالفة تعاليم الشريعة. وعندما تترسخ في ذهن الشاب هذه الأفكار تحاول الحركة السلفية استثمار هذه الطاقات الشبابية لتحقيق الحراك والتغير الاجتماعيين وبذلك يتحمل الشاب مسؤوليته باعتباره طرفاً فاعـلاً في التغيير سواء عبر الجهاد أو نشر الدعوة ليتقبل الفاعلين هذه الأفكار ويسهموا بدورهم في التغيير وهو ما يسمى «الحشد الشعبي».

رابعاً: إعادة تكييف النصّ الديني كآلية من آليات تجاوز الإقصاء

يسعى الشاب إلى تجاوز الإقصاء بكل السبل المتاحة، لذلك تعمل الحركة السلفية على إعادة تكييف (Reorientation) النصّ الديني ليستجيب لمتطلبات الشباب ويحقق لهم الراحة النفسية. وأمام مشكلاته المأزومة وسعيه إلى التغيير السريع وتشخيصه للوضع يتبيّن للشاب أنّه لا سبيل إلى التغيير الآني والسريع لمشكلاته نتيجة الأزمات التي تعيشها الدولة؛ فيميل إلى اختيار الطرف الذي يتبنى التغيير الجذري ويزلزل جميع البنى الاجتماعية والسياسية التي حالت دونه وتحقيق أهم حاجاته المادية والاجتماعية عبر العنف المقدّس الذي يجد مبرّراته دوماً في المقدّس ذاته إلى حد يكون فيه العنف استجابة لأمر سماوي، وهو ما تحرص الحركات الجهادية على إظهاره في نسق متكامل، سواء النص القرآني أو الحديث النبوي أو الأحكام الفقهية أو النصوص التاريخية وكتب السيرة والمغازي. وهو ما يفسِّر تصلّب العديد من الشباب في الدفاع عن الجهاد والمجاهدين بأقوال مختلفة، منها أنصار الدّين والفرقة المنصورة. ومن خلال التنامي المطَّرد لأعداد الشباب في جبهات القتال يتبين لنا أنّ المقدّس عند الحركات الجهادية على وجه الخصوص لا ينفصل عن العنف، بل يمكن القول إنّ ثمّة تلازماً بين المقدّس الديني والعنف. هذا التلازم امتداد للوليمة الطوطمية، التي كانت تقام بهدف تمتين صلة الجماعة بطوطمها عبر قتل الطوطم والتهامه، بحيث يستمرّ وجوده في كل عضو من أعضائها، إلى كلّ أشكال العنف المقدّس الماديّة والرمزيّة الراهنة. ثمة منطق واحد يحكم تجربة المقدّس: الاعتقاد المشترك بين الجماعة أنّ دينهم هو الدّين الحقّ، وكلّ من خالفهم في عقيدتهم هو ضالٌّ ومخطئ أو كافر أو مرتدٌّ (Relaps) ويجب إخضاعه أو إكراهه على اعتناق الدّين الحق.

خامساً: الإقناع كاستراتيجية منظمّة للتأثير في الشباب

الإقناع هو أحد الوسائل الفاعلة التي لاحظناها في عملنا الميداني بغية التأثير في الشباب واستقطابهم «وهو سلوك إنساني تواصلي يستخدمه الإنسان للتأثير على الآخرين لتحقيق ما يريده منهم. فيختار من الأساليب والوسائل التي تمكنه من إحداث هذا التغيير. وبهذه الصورة يعدّ الإقناع اتصال أي فنّ من فنون التواصل» وبما أن الإقناع فن تواصلي فإننا بحاجة إلى فهم العملية التواصلية بين الحركة السلفية والشباب، وذلك عبر توظيف المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها سوسيولوجيا الاتصال. ومن عناصر الإقناع:

1 – المرسل، هو الشخص الذي يلقي الخطابات في التجمعات الشعبية بالشوارع أو الخيمات الدعوية ويحظى بتقدير واسع داخل الحركة السلفية. يستمد المرسل شرعيته الخطابية من مدى قربه من أحد مشائخ الحركة السلفية ومدى اكتسابه للعلم الشرعي، إذ يلقب على سبيل المثال بـ «تلميذ الخطيب الإدريسي». وعادة ما يكون متمكناً من فنّ الخطابة وهي تعدّ خلفية لنجاح التواصل الإقناعي.

2 – الرسالة، ويكون مضمونها الدعوة إلى نصرة الدّين والتأسف على حالّ الأمّة مما لحق بها من مظاهر مهانة نتيجة انتشار البدع وتقليد الغرب أو كذلك دعوة الجمهور إلى الالتزام بتعاليم الدّين وفق منظور الحركة السلفية، وتعديد الانحرافات التي انزلق فيها المجتمع مثل الشرك وزيارة الأضرحة وكذلك موالاة الدولة التي يعتبرونها كافرة، وتسمى هذه الثنائية «شرك القبور وشرك القصور». وبعد تعداد هذه الرسائل كـلاً أو بعضاً ينتقل الخطيب إلى ذكر أساليب التغيير عبر تبيانه أهمية الجهاد ودوره في نصرة الدين وإحداث الحراك والتغيير.

3 – المتلقي، جلّ المتلقين للرسالة من فئة الشباب، يتابع هؤلاء بشغف كلام الخطيب ويتحمسون له.

4 – أثر الرسالة، عندما يستقبل الشاب الرسالة ويفهمها يشعر بتأنيب ذاتي، إذ يرى نفسه مخالفاً لدين الله وغارقاً في المعاصي؛ بحيث يؤول كل مشكلاته على أنها عقاب رباني جعله في أسفل الهرم الاجتماعي.

5 – ردّ فعل المتلقي، تكتسي هذه المرحلة أهميّة بالغة لأنها بواسطتها يمكن معرفة مدى تأثير الرسالة على المتلقي. وفي صورة نجاح الخطيب في إرسال رسالته تصدر عن الشباب هتافات وتكبير متتالٍ. وكأني بالشاب يريد أن يقول ها نحن هنا موجودون وقادرون على التغيير وتجاوز الإقصاء الاجتماعي.

6 – محركات الإقناع، يحتاج الإقناع إلى جملة من الآليات ليكون فاعـلاً ومؤثراً في المتلقي (الشباب السلفي) لذلك عرفه الفيلسوف اليوناني أرسطو على أنه «استخدام جميع الوسائل الممكنة في التأثير»‏[7] ومن محركات الإقناع التي تعتمدها الحركة السلفية:

(أ) الدّين: يُعَد الدين أهم ميكانيزمات الإقناع، لذلك يعمل الخطيب على اختيار الآيات والأحاديث الدينية التي تحمل الشبيبة على القبول والحراك (Mobilization). وللدين دور مهم في شحذ همم الشباب للدفاع عن الأوطان والعقيدة السلفية، ولا سيّما أنّ الدّين إحدى المرجعيات التي يستنبط منها الكثير من الفاعلين نماذج مثالية يقيسون بها أفعالهم. وبذلك فإن «القناعات الإيمانية متوافرة – أصـلاً – لدى الفرد، لا يحتاج المرسل خلالها إلى تأسيس إيمانات وقناعات جديدة. بل يستغلها بالنداءات الدينية وما تحمله من محفزات وإرشادات وتوجيهات»‏[8]. يعني أن الإقناع الذي يوظفه خطباء الحركة السلفية يستغل هذه القناعات الدينية الراسخة لدى الفاعلين عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية كالعائلة والمسجد.. عبر فبركتها وتعديلها لتتناسب مع أهدافهم التي تختلف عن قناعات الآباء والأجداد. ويوظف الدّين من خلال ثنائية الترغيب والترهيب. أي الترغيب بما هو تحفيز للشاب بجزاء اتباع الحركة السلفية بما هي فرقة ناجية ومنصورة ومآلها الجنة. ويكون الترهيب عبر الإتيان على مواضيع تجعل الشباب يشعرون بنوع من الخوف من العقاب الذي سيلقاهم إذا ما واصلوا اتباع مجتمع تائه في الضلالات أو طاعة دولة كافرة. ومن موضوعات الترهيب «عذاب القبر» و«علامات قيام الساعة» و«العقاب الذي لقاه الظالمون من قبل».

(ب) الصوت والجسد: يسهم الصوت في الإقناع فالخطيب من الحركة السلفية يتفنن في تغيير نبرات صوته ويتوقف بين الجملة والأخرى ما يهيئ الجمهور للانتقال من معنى إلى أخر. أما الرفع في الصوت فيدل على أنه يناقش موضوعاً مهماً كتحفيز الشباب على الجهاد أو تعزيز نقمتهم على مجتمعهم. أما خفض الصوت فيهدف إلى جعل الشباب يتأمل ويفهم الفكرة بسلاسة. ويتعمد الخطيب إطالة بعض الكلمات وهي الكلمات المفاتيح التي ينبني عليها الفكر السلفي مثل الأمّة، الجهاد، الخلافة… وتوازياً مع إيقاعات الصوت ونبراته يحاول الخطيب نقل مشاعره عبر البكاء أو الضحك بسخرية أو الابتسامة وذلك بغية التأثير في المستمعين وشد انتباههم.

أمّا حركات الجسد وهي حركات ينقل بواسطتها المرسل آراء وأفكاراً تتجاوز معناها الظاهري، فحركات اليد المضمومة التي يستخدمها الخطباء بكثرة تبرز القوة والصرامة والحزم. وما يعزز قدرتهم على الإقناع الانسجام الكلّي لحركات الجسم مع نبرة الصوت. وهذه الحركات تسهم في تعزيز ثقة الشباب في الخطيب وتدل على قوة شخصيته ومعرفته الواسعة بالدين.

(ج) التصفية بالمقارنة: تهدف التصفية بالمقارنة إلى إخراج ممارسات المخالفين على أنها في قمة الانحطاط عبر مقارنتها بنماذج أخرى، ومن ذلك مقارنة الفاعلين الذين يقومون بزيارة الأضرحة على أنهم يتبعون طقوساً شبيهة بطقوس الجاهلية، إذ كانوا يعبدون الأصنام ويقدسونها. تسمى هذه التصفية «المزايدة المحاكاتية» على حدّ تعبير محمد الخراط، وهي «أسلوب في الرفع من التزام الذات بالخط المستقيم، والحطّ من قيمة التزام الخصم»‏[9].

الاستنتاجات

نستنتج مما توصلنا إليه في عملنا الميداني أن الإقصاء الاجتماعي مسؤول رئيس عن تنامي أعداد الشباب السلفي؛ ذلك أن الأوضاع الاجتماعية المأزومة التي يعيشها الشاب في سيدي علي بن عون والشاب التونسي عموماً تجعله يبحث عن بديل يوفر له ما عجزت الدولة ومؤسساتها عن توفيره له من مدخول ورأسمال رمزي يعلي مكانته في الهرم الاجتماعي باعتباره ينتمي إلى الفرقة الناجية.

  • يبحث الشاب من وراء انخراطه في الحركة السلفية عن الاعتراف وتجاوز الوضعية الهامشية التي يعيشها.
  • تُعَدّ الدولة وسياساتها أحد العوامل المسهمة في تنامي الشباب المتسلّف ولا سيَّما بتهميشها الشباب ووضعه خارج دائرة التبادل المعياري، فينتج من ذلك شعور بالضغينة والغبن يجعله يتحمس للحركة السلفية ويدافع بضراوة عن مبادئه والثأر لوضعه الهشّ.

خاتمة

تعدّ الحركة السلفية حركة اجتماعية هي نتاج لتفاعلات فاعلين لهم مقاصدهم وغاياتهم وهويتهم الخاصة التي تحقق لهم التمايز عن بقية الفعلين الاجتماعيين. والشباب هم من بين أهم الفاعلين في الحركة السلفية. وتدفعنا الحال تلك إلى أن نبحث عن المعنى، وفي المعنى، فشبيبة ضاقت بها السبل ستلجأ إلى «الحاضنة السلفية» لتعيد الاعتبار لذات «محبطة» وفاقدة للأمل. فتكون بذلك الحركة السلفية الحل الأمثل لتجاوز «ضغوطات الواقع المعيش، وتجاوز الإقصاء وتهميش الدولة الكافرة». ذلك أنّ اللجوء إلى الحركة السلفية يبعث في نفوسهم ولو قليـلاً من الأمل من خلال مفاهيم ومسميات تجعلهم يشعرون بالارتقاء في مكانتهم الاجتماعية والرمزية من منطلق ديني مثل «الفرقة الناجية» و«المنصورة وأنصار الإسلام» وغيرها. وكردّ فعل على الإقصاء والتهميش يدخل هؤلاء الفاعلون في صراع مع مؤسسات الدولة والمجتمع تحت غطاء الدين لإضفاء مشروعية على أفعالهم وممارساتهم. حتى أن الديني يفبرك في الكثير من الأحيان ليستجيب لمتطلبات وحاجات الشباب السلفي. من هذا المنطلق يدخل الشاب السلفي في علاقة صراعية مع الآخر المختلف الذي يمثل عائقاً أمام أهدافه وغاياته. فيكون الدين «الحل الأمثل» لإقصاء هذا الآخر عبر وصمه بـ «الكافر» أو «المرتد» أو عدو «الإسلام».. هنا تترسخ عقيدة إما الأنا أو الآخر في «المخيال السلفي».

 

قد يهمكم أيضاً  محاربة الجهاديين أم الكفّ عن صنعهم: مقابلة(*) مع فرانسوا بورغا‏

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #دراسات #الحركة_السلفية #دين #الإسلام #السلفية