– 1 –

بدأت حقوق الإنسان فكرةً، في التاريخ الحديث، وانتهت إلى أيديولوجيا لم تَسْلَم من هوْل نتائجها حقوقُ الإنسان نفسُها! في الأمر مفارقة؛ إذاً، لا بدّ من جلاء ملابساتها.

تعود لحظة ميلاد الفكرة إلى القرن السابع عشر؛ حين نشأت بذرتُها في التربة الخصبة للفلسفة الحديثة، والفلسفة السياسيّة منها على وجه التحديد، قبل أن يشتدّ عودُها ويَقْوَى في الفكر القانونيّ وعلم السياسة الحديث. ومبناها، ابتداءً، على التسليم بما يتمتّع به الناس من حقوق مدنيّة وسياسيّة تكلفها الدولةُ لهم، بما هم مواطنون فيها يَمْحضونها الولاء، ويَكِلُون إليها إدارة شأنهم العامّ، وبما هي الجهة التي لها الوَلاية عليهم، القائمة على أمورهم بمقتضى التوافق والميثاق الاجتماعيّ المنعقد عليها بينهم. كان فلاسفة العقد الاجتماعيّ (هوبس، لوك، سبينوزا، روسو…) هم آباء الفكرة الروحيين. وأكثرهم مال إلى الاعتقاد بالأصل الطبيعيّ لهذه الحقوق (جون لوك وجون جاك روسو خاصةً) و، بالتالي، بالتلازم بين الطبيعيّ والمدنيّ منها. وبيانُ ذلك، عند هؤلاء، أنّ حقّ الإنسان في الحياة، وفي الحريّة والمُلكيّة… حقٌّ تمنحه الطبيعةُ إيّاه؛ لأن ذلك من صميم قوانين الطبيعة، وما الدولةُ إلّا ذلك الكيان الجمْعيّ الذي اصطنعه الناس لأنفسهم من أجل أن ينهض بدور تأمين الحقوق تلك وحمايتها وصوْنها؛ أي من أجل تصييرها حقوقاً مدنيّة: على ما تقضي بذلك قوانين العقل؛ التي هي، عندهم، عينُها قوانين الطبيعة. هكذا سلّموا بما سلَّم به توماس هوبس قبلهم (= ضمان الحقّ الطبيعيّ يكون من طريق تحويله إلى حقّ مدنيّ عبر العقد الاجتماعيّ)، ولكن ليختلفوا معه في تبريره السلطةَ المطلقة، بدعوى الحاجة إلى الأمن، وبدعوى تحقيق قانون طبيعيّ هو «حفظ النوع الإنسانيّ»، وفي إخراجه صاحب السلطة (Le Souverain) من عملية التعاقد.

وما لبثت الفكرةُ أن وجدتْ تحقُّقاً مادّياً لها في الثورة الإنكليزيّة (1688 – 1689)، والدستور الأمريكيّ (1787)، والثورة الفرنسيّة (1789) ليتكرّر التعبيرُ عنها (= أي الفكرة) في ثورات ودساتير أوروبيّة أخرى لحِقت الأولى في الزمان. ولئن كان التحقُّق السياسيّ ذاك (للفكرة تلك) يُطْلِعنا على توافُر أسبابه الموجِبة؛ أي وجود الحامل الاجتماعيّ (= الطبقيّ) والسياسيّ للفكرة، ونجاحه في تحويلها إلى مشروعٍ سياسيّ قابلٍ للتحقيق، فإنّ تحقُّقَها الماديَّ لم يكن، دائماً، متشابهاً في الأسس والقسمات، ولا متساوقاً في الوتيرة والمستويات، بقدر ما أتى متفاوتاً في نسب التطوّر والتقدّم. وهو تفاوُت يُرَدُّ إلى عامل تاريخيّ حاسم لا يجوز إغفاله: التفاوُت في التطوّر الاجتماعيّ والسياسيّ في بلدان أوروبا والغرب. وإلى ذلك فإنّ تحقيقها لم يَجْر، دائماً، من خلال الثورة والعنف والقطيعة، وإنما سلك إلى التحقُّق، أحياناً كثيرة، من طريق الاستمرارية والتكيُّف، الاستلهام والاستنبات. وهكذا قطعت فكرة حقوق الإنسان شوط الصيرورة نظاماً اجتماعيّاً – سياسيّاً في العالم برمّته، بعد إذْ وُلِدت في صُقْع من أصقاعه (أوروبا وشِمال أمريكا)، مجتازةً – في ذلك – عقباتٍ شتّى لم تكن، جميعُها، بسبب المواريث التاريخيّة في مجتمعات الاستقبال (أو المجتمعات التي استقبلت الفكرة من خارج سياق تطوّرها التاريخيّ)، بل كان منها ما له علاقة بالزراعة القيصريّة الخارجيّة لها في المجتمعات تلك!

أُعيدَ التشديدُ على فكرة حقوق الإنسان في محطّتين تاريخيَّتين من نصف القرن العشرين الأوّل، هما: الحرب العالميّة الأولى، والحرب العالميّة الثانيّة؛ وفيهما بدأ الانتقال بحقوق الإنسان من فكرةٍ، ومشروع لبناء الدولة الوطنيّة الحديثة إلى أيديولوجيا تُسخَّر لخدمة أهداف فوق – وطنيّة و، أحياناً، هيمنويّة أو إمبرياليَّة. ما عاد الهدف من الفكرة مقارعة سلطةٍ داخليّة قائمة قصْد تحقيق حقوق مهضومة، بل الضغط على دول ومجتمعات خارجيّة قصْد تحقيق مآرب أخرى ما أبعدها عن إنصاف شعوب تلك الدول والمجتمعات في حقوقها المهضومة… على ما تدّعيه. بيانُ ذلك، في المحطّتين المومأ إليهما، كالتالي:

لم يكن تجديدُ القولِ بحقوق الإنسان في نهاية الحرب العالميّة الأولى – في ما عُرِف باسم «مبادئ ويلسون» الأربعة عشر (التي ألقاها الرئيس وودرو ويلسون أمام الكونغرس الأمريكيّ شهراً ونصف الشهر قبل انتهاء الحرب) – مصروفاً لإحداث هندسةٍ جديدة لعالمٍ جديدٍ قائمٍ على هذه المبادئ (في نطاق نظام «عصبة الأمم»)، على ما تبغي السرديّةُ الأيديولوجيّة الأمريكيّة – الغربيّة ترسيخه، وإنّما تغيَّا التجديدُ ذاك رفْعَ النموذج الليبراليّ الغربيّ في وجْه تَحَدٍّ عالميٍّ جديد مثَّلَهُ، في حينه، قيامُ النظام الاشتراكيّ في روسيا البلشفيّة، وامتداد تأثيراته وأصدائه إلى مجمل أوروبا والعالم. وفي امتداد ذلك، كان الهدف من تبنّي العالم (= أوروبا على الأقل) للمبادئ تلك محاصرة الاتحاد السوفياتي وعزله، والتحريض ضدّه بحسبانه خارجاً عن قواعد الإجماع الدوليّ، أو – في أقلّ الأحوال – دحض أطروحاته عن المجتمع الاشتراكيّ والنموذج الاجتماعيّ – الاقتصاديّ الجديد لئلّا تكون لها الجاذبيّة والإغراء في المجتمعات الغربيّة. وبكلمة، كان الهدف بعث الحياة من جديد في المبادئ الليبراليّة بعد الهزّات العنيفة التي أصابتها. وما اختلف التجديد الثاني للقولِ بالحقوق تلك، وترسيمِها في «إعلان عالميّ» للأمم المتحدة، عن القول بها، قبل ثلاثين عاماً من ذلك التاريخ؛ فلقد سيق ذلك في سياق الحرب على نموذجين عالميَّيْن: النموذج الشيوعيّ – المنتصر والمتوسّع في الحرب العالميّة الثانيّة – والنموذج الكلّانيّ (= التوتاليتاريّ) النازيّ؛ المندحر في الحرب تلك. وآيُ ذلك أنّ الغرب اكتفى بالإعلان مكتوباً في حين كان يدعم الفاشيات العسكريّة والاستبداديّات، بأنواعها كافة، من التي تشاركه مواجهة «الخطر الشيوعيّ»! وهكذا انتهت قضيّة حقوق الإنسان إلى حيث صارت سلعة أيديولوجيّة في حقبة الحرب الباردة.

وما لبثت المسألة أن رسَت على محطّة ثالثة، في نهاية النصف الثاني من القرن العشرين عينه؛ عقب انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال معسكره «الاشتراكيّ» وانتهاء الحرب الباردة. وكان الهدفُ هو هو عينُه: تشييع أيديولوجيا الخصم – أو العدوّ – والتبشير المتجدّد بالليبراليّة، وتوسُّل حقوق الإنسان أداةً للإخضاع والسيطرة خارج العالم الغربيّ. إن «نهاية التاريخ» و«صدام الحضارات» ما عَنَتْ، في النطاق هذا، سوى إجبار العالم على التسليم بتفوُّق النموذج الليبراليّ الغربيّ، ودفْع أثمان أيّ محاولة لمواجهته بدعوى الخصوصيّة أو السيادة أو استقلال القرار. وكان أن هذا المنعطف، في التوازنات الدوليّة، اقترن بميلاد العولمة وزحفِها على العالم، وتحطيمِها الحدودَ واستباحتِها السيادات. وهكذا حُمِلَتْ أيديولوجيا حقوق الإنسان على محامل عولمية أخذتها إلى حدّ إقرار تشريعات دولية تنتهك ميثاق الأمم المتحدة نفسه – وتحديداً مبدأ احترام السيادة الوطنية – من قبيل إقرار مبدأ «حقّ التدخّل» (Droit d’ingérence)، الذي يسوّغ انتهاك سيادة أي دولةٍ – من الجنوب طبعاً أو من «الدول المارقة» مثل روسيا وصربيا… إلخ – إن تعرّضت فيها حقوقُ الإنسان للنّيل أو المساس. ولقد عَظُم الخَطب حين توسَّل التدخُّل الأدواتِ العسكريّةَ (= الحرب) والقانونَ الدوليّ (قرارات مجلس الأمن تحت الفصل السابع من الميثاق)! وكانت النتيجة حروباً وغزوات واحتلالات وملايين القتلى وعشرات ملايين اللاجئين والمشرّدين، منذ ربع قرنٍ ويزيد، باسم حقوق الإنسان! ثم كانت النتيجة، بالتّبِعة، الاعتداءَ السافر على حقوق الإنسان (= الحقّ في الحياة، الحقّ في الاستقلال والحريّة والسيادة…) باسم حقوق الإنسان!

هذا كان الشوط الطويل الذي قطعتْه حقوقُ الإنسان، في انتقالها من فكرة نبيلة إلى أيديولوجيا شرّيرة، منذ مئة عامٍ من هذا التاريخ. والحقُّ أنه ما عاد يمكن كتابةُ تاريخ الفكرةِ (= فكرة حقوق الإنسان) بما هي فكرةٌ استلهمت التراث الإنسانويّ، وتبلورت في نصٍّ فلسفيّ رصين (لوك، روسو، كَنْط)، وحملتْها قوى ثوريةٌ جديدة، فحسب؛ بل لا معنى للاكتفاء بمجرّد الاحتفال بها كفكرةٍ نظريّة، فإنّما نحن نزعم أنّ إعادة كتابة تاريخها لا يستقيم إلّا في اتّصالها المباشر بوقائع التاريخ الكونيّ؛ في حقبته الاستعماريّة، بما هو المختبر الموضوعيّ لفحص وجوه السلامةِ والعَوَار في فكرةٍ لا تُقَرِّرُ مصيرَها بنفسها: على ما فيها من نُبْلٍ وبهاءٍ ومنسوبٍ من الإنسانويّة عالٍ جدّاً.

– 2 –

الأصل في فكرة حقوق الإنسان، في أصولها الفلسفيّة، أنها تلك المنظومة (من الحقوق) التي تنتمي إلى إطار مرجعيٍّ لها هو: الدولة الوطنية. والدولة هذه هي من يكفل تلك الحقوق ويخلع عليها الشرعيّة، ويحيطها بالضمانات القانونيّة والدستوريّة، ويمارس السلطة العقابيّة في حقّ من ينتهكها أو يعتدي عليها. ويستوي في ذلك النظرُ إلى الحقوق تلك بوصفها طبيعيّة، كما في قولٍ فلسفيّ، أو مدنيّة؛ كما في آخر؛ إذ يكفي الاتفاقّ عليها – في جملة ما يكون موضوعَ توافُقٍ – واستدخالُها في منظومة قوانين الدولة ليكون لهذه الأخيرة سلطانُ الرعاية لها، والإشرافِ عليها وصوْنها. ولأنّ المبدأ الحاكم للدولة الوطنيّة الحديثة، الذي عليه مَبْناها، والذي به تتميّز من الدولة التقليديّة وتتمايز، هو المواطنة، التي تقضي بالمساواة القانونيّة الكاملة بين رعاياها الخاضعين لوَلايتها، فإنّ حقوق الإنسان، بالاعتبار هذا، ليست شيئاً آخر سوى حقوق المواطنين المستَحَقَّة لهم من خضوعهم للدولة وقوانينها، ومن منحهم إيّاها ولاءَهم، ومن دفع الضرائب القانونيّة بما فيها ضريبة الدفاع: الخدمة العسكريّة والدفاع عن الوطن.

يقضي منطق الدولة الوطنيّة الحديثة بأنّ المواطن فيها كينونةٌ سياسيّة قانونيّة مجرَّدة من كلّ مُضافاتها الاجتماعيّة (فقر، غنًى، انتماء قَبَليّ أو مناطقيّ…) والثقافيّة (دين، قوم أو أصل سابق، لغة…) ومتحرّرة منها. يقطع المواطن مع ما قبْله؛ مع ما يشدُّهُ إلى ما قبل مواطنته من روابط الدّم والجنس والدين، وذلك شرْطٌ لازِب ليكون مواطناً في الدولة التي لها – وعليها – أن تحتكر ولاءَه، وأن تحتكر قوانينُها الحقّ الحصريّ في إجراء أحكامها عليه. إنّ الروابط الوحيدة التي عليه أن يَنْشَدَّ إليها، ويتعهَّدها بالصَّوْن والرعاية، هي التي يخلقها انتماؤه إلى الدولة الوطنيّة وولاؤُهُ الأعلى لها؛ لأنّها الروابط المشتركة بين أعضاء الجماعة السياسيّة الوطنيّة. والدولة، بما هي وطنيّةٌ وجامعة، لا تعترف بروابطَ فرعيّة يؤثِّر إعلاؤها، التأثير السلبيّ، في الروابط الوطنيّة المشتركة؛ لأنّ الروابط (الفرعيّة) تلك ليست من مكوّنات نظامها ونسيجها، وهي سابقةٌ في الوجود لروابط المواطنة من غير أن تدخل في جملة مكوّناتها، أو أن تكون الروابط الوطنيّة بحاجةٍ إليها لتقوم. وعلى ذلك، لا تَلْحَظ الدولةُ الوطنيّة من حقوق مواطنيها إلّا ما يكون منها عامّاً ومشتركاً بين مواطنيها كافّة، وقطعاً لدابرِ أيِّ تمييزٍ بينهم بسبب العرق أو الدين أو ما شاكل مما ينتقض به نظامها أو تَنْهَدُّ به أركان المواطنة.

على أن هذا لا يعني أنّ من مقتضيات المواطنة أن يتخلى المواطنون، مثـلاً، عن حقوقهم في ممارسة اعتقاداتهم الدينيّة، أو التخاطب بلغاتهم المحلّية، أو التعبير عن ثقافاتهم الذاتية حتى يحافظوا على مواطنيّتهم؛ كما ليس يعني أنّ على الدولة الوطنية أن تحظر ممارسة تلك الحقوق على مواطنيها بحسبانها حقوقاً فرعيّة أو فئويّة، أي غير وطنيّة جامعة، حتى تحمي حقوق المواطنة ممّا قد يتهدّدها؛ ذلك أنه ما من دولةٍ وطنيّة تملك أن تمنع مواطناً من مواطنيها، أو قسماً من مواطنيها، من اعتناق الدين الذي يشاء، أو المذهب الذي يشاء، أو أن يتحدث اللغة التي يشاء، أو أن يعبّر عن نفسه من داخل عالمٍ ثقافيّ خاصّ…، من دون أن تُساق في طريق الاستبداد أو الدكتاتوريّة، أي من دون أن تفقد ماهيتها كدولةٍ وطنيّة، أو كدولةٍ لمواطنيها كافّة. على الدولة الوطنية، إذن، أن تحميَ الحقوق الدينيّة والثقافيّة للمواطنين، ولكن بما هي حقوق لا تؤدّي ممارستها إلى تعريض السِّلم المدنيّة والاستقرار ووحدة الدولة للخطر. وهذا معناه أنّ مشروعيّة ممارسة الحقوق تلك تتوقّف على احترام المشتَرَك المواطنيّ والوطنيّ، وعدم انتهاك أولويّته بوصفه إسمنت المجال العامّ: الذي من دونه لا وطن ولا مواطنة.

من البيّن أنّ هذا هو الوضع الاعتباريّ (Statut) لحقوق الإنسان في نطاق الدولة الوطنيّة الحديثة، وهُوَ هُوَ الوضع الاعتباريّ للمواطنة في نظامها السياسيّ والدستوريّ. ولكن من البيّن أنّ الطبعة الليبراليّة للدولة الوطنيّة هذه – وهي الغالبة عليها منذ القرن الثامن عشر – غلَّبت حقوقاً على أخرى على نحوٍ أحدث أزْماتٍ في مسيرة تلك الدولة وفي استقرارها، بما ولَّدَهُ فيها من صراعات ونزاعات زادت وتائرُها منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ومن ذلك، مثـلاً، أنها قدّست الحقّ في المُلكية الخاصّة (= التي اعتبر جون لوك حمايتَها مبرِّرَ وجود الدولة خلافاً لتوماس هوبس الذاهب إلى وجوب احتكار الدولة للثروة والملكية). وإذْ آذَنَ انتصارُ فكرة حقّ التملُّك (الخاص)، وصيرورته نظاماً سائداً، بانتصار الأيديولوجيا الليبراليّة وقواها الاجتماعيّة، في إطار انتصارٍ إجماليّ للنظام الرأسماليّ، نَجَم عن ذلك شرخٌ كبير في معنى المواطنة، وفي معنى حقوق الإنسان، كما صاغه الفكر الليبراليُّ نفسُه؛ إذْ لم تَعُدِ المواطنةُ مساواةً في الحقوق: بين قسمٍ مالكٍ وقسم محروم من المنافع و، تحديداً، من وسائل الإنتاج. وقد انتبهت كتابات ماركس مبكّراً، منذ نهاية النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، وبعد تجربة أولى طوباوية للاشتراكيّة الفرنسيّة، إلى هذه الحقيقة، فنتج من الانتباه ذاك نقدٌ حادٌّ وعميق للأزعومات الأيديولوجيّة الليبراليّة، وما يُضمره نظامُها الاجتماعيّ من حَيْفٍ فادح بالحقوق الاجتماعية. هكذا انطلق نقدُ مفهوم الاستغلال – بما هو استحواذٌ على فائض القيمة – يمثــّل معولاً ماركسيّاً لهدم أركان نظامٍ ليبراليّ يُسوِّغ مشروعيتّه بـ«المساواة» و«المواطنة».

على أنّ النقد الماركسيّ العميق لنظام رأس المال، وما صاحَبَهُ وأعقَبَهُ من نضالات عمّاليّة ونقابيّة دفاعاً عن الحقوق الاجتماعيّة، أي عن حقوق قوّة العمل في وجه رأس المال، سرعان ما أعاد الاعتبار إلى هذه الحقوق المهضومة؛ في نطاقها المطلبيّ الصرف. نعم، لم يُفض ذلك المدّ المطلبيّ العارم إلى إنهاء علاقة الاستغلال، ولا إلى السيطرة المباشرة للمنتجين على وسائل الإنتاج، وإنهاء العلاقة الأجْريّة القائمة على بيْع قوة العمل، كما توقّع ماركس – وبعده لينين والماركسيّون – ولكنه قاد إلى إعادة استدخال الحقوق الاجتماعيّة ضمن منظومة المواطنة وحقوق الإنسان، وليس ذلك بقليل، كما ليس بقليلٍ إقرارُ التشريعات الخاصّة بالحماية الاجتماعيّة، ونهوضُ الدولة بتطبيق التشريعات تلك. وبقدر ما أتى ذلك ينصف قسماً من المجتمع – هو الأغلبيّة فيه إنْ أضيفَ إلى ذلك الفلّاحون المعدمون – أتى يوفِّر تَوْسعةً غيرَ مسبوقة لمفهوم حقوق الإنسان وجغرافيّة مشمولاته.

وكما استوعبت منظومة حقوق الإنسان – في طبعتها الاجتماعيّة – حقوق الطبقات الاجتماعيّة (المنتجة) المهضومة حقوقُها، لا حقوق «الأفراد» فحسب، كذلك استوعبت، بعد الحرب الكونيّة الثانيّة، حقوق فئات اجتماعيّة عريضة تُحُيِّفَ في حقّها، لأزمان متطاولة، ولم تستوعبها فكرةُ المواطنة استيعاباً حقيقيّاً؛ وتلك، مثـلاً، حال فئة النساء التي اهتُضِمت حقوقُها في مجتمعٍ ذكوريّ مُزْمِن. بفضل انتشار أفكار الديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة والمساواة في المجتمع، ونقد الثقافة الذكوريّة والبطريركيّة، ونضالات الجمعيات النسائيّة، أمكن لحقوق المرأة – وبعدها لحقوق الطفل – أن تُسْتَدخَل في جملة حقوق الإنسان، في بعضٍ غيرِ قليلٍ من البلدان والدول، وأن يُعاد باستدخالها وإقرارها بعضُ التصحيح والتصويب لنظام المواطنة. ومع ذلك، لم يكن اتجاه التعبير عن فكرة حقوق الإنسان اتجاهاً واعداً بالمزيد من المكتسبات، بل كان الارتكاسُ والتراجع والسوءُ من مسالكه أيضاً!

– 3 –

ما كان يمكن اختزال حقوق الإنسان في حقوق أفراد/مواطنين في الدولة الوطنيّة؛ فالحقوق تلك، في تأصيلها الفلسفي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، تشمل حقوق الجماعة السياسيّة أيضاً (= الدولة، الأمّة). للمواطن حقوقه داخل دولته، ولكنّ له حقوقاً أشمل، عليها تتوقف حيازتُه لحقوقه الفرديّة، هي حقوق الجماعة السياسيّة، التي ينتمي إليها؛ حقوقها: في الاستقلال، والسيادة، والسلام الخارجيّ. ما من مواطنٍ يتمتّع، في دولته، بحقوقه المدنيّة والسياسيّة إن فقدت دولتُه سيادتَها وقرارَها الوطنيّ، واحتُلَّتْ أراضيها وفُرِضتْ عليها إرادةُ الأجنبيّ. تُسَمَّى تلك حقوقاً على سبيل المجاز؛ لأنّ أساسها، الذي عليه تقوم، مُفتَقَد؛ وهو السيادة: هذه التي لا قيام لدولةٍ وطنية من دون حيازتها الحيازة الكاملة وصوْنها من أيِّ استباحةٍ أو نيْل. بتعبير آخر: ليس من حقوقٍ للمواطن الفرد إن لم تتأمَّن لدولته – أمّته حقوقُها؛ إِذِ الحقوقُ العامّة الجامعة أصلٌ للحقوق الفرديّة ومدماكٌ لها. وليست حقوق الدولة، أو الجماعة السياسيّة، في اصطلاحات اليوم؛ أعني منذ استقرّ الاصطلاح عليها في القرن التاسع عشر، سوى حقوق الشعوب والأمم.

هذا التعريف الشامل لحقوق الإنسان مُسْتَبْدَهٌ في الفكر الفلسفيّ، والسياسي، الحديث ومألوف، ولم ينحرف عنه مفكّر منذ بودان وغروتيوس إلى توكفيل، بل إلى لينين، مروراً بجميع فلاسفة القرون 17 و18 و19. غير أنّ المسألة، في سياق التاريخ والسياسة وتجارب الصراعات بين الدول، لم يُطابِق وضْعُها الفعليّ وضْعَها النظريّ في نصوص المفكّرين والفلاسفة؛ فقد بدت تجربةُ الدولة الليبراليّة الغربيّة، وسيرتُها السياسيّة مع معنى حقوق الإنسان، تجذِّف ضد تيار المفهوم ونظرة فلاسفة السياسة إليه، على الرغم من أنّ وجود الدولة الليبراليّة تلك يَدين، ديْناً كبيراً، لكثيرٍ من أفكار هؤلاء، وينهض على العديد من قيم منظوماتهم الفكريّة! لقد انقلبت البرجوازيات الحاكمة في أوروبا، منذ نهايات القرن الثامن و، خاصة، خلال القرن التاسع عشر، على تراثها الثوريّ، الفكريّ والسياسيّ، برمَّته؛ فلم يعد مرشداً لعملها، بل طوّحت به مأخوذةً بفكرة أوّليّة المصالح – بالمعنى الذرائعيّ المبتذَل – على المبادئ. وفي امتداد ارتدادها عنه، انْقَضَّت، انقضاضاً هائـلاً، على واحدٍ من أَظْهر أبعاد حقوق الإنسان وأشملها؛ هو حقّ الأمم في استقلالها الوطنيّ وسيادتها على أراضيها ومقدّراتها. وكان ذلك بمناسبة انطلاق موجات الاستعمار الأوروبيّ والغربيّ لبلدان الجنوب. وهي موجات اقترنت باكتمال حلقات الرأسماليّة الصناعيّة، وبدء انتقالها من طور المنافسة الحرّة إلى طور الاحتكار والامبرياليّة.

إنّ البلدان التي وُلدت فكرةُ الحرّية فيها، وفكرةُ السيادة الوطنيّة (منذ استتبّ لها الأمر في «معاهدة ويستفاليا» في عام 1648)، وانتشرت في ثقافاتها الفكرة الإنسانويّة، هي عينُها البلدان التي ستنقَضُّ دولُها على حرّيات شعوبٍ أخرى، من خارج فضائها الحضاريّ، لتحتلَّ أراضيها، وتنهبَ ثرواتها، وتستغلّ شعوبَها، وتسخّر أبناء المستعمرات جيوشاً في حروبها الإمبريالية، وتضطهد حركات المقاومة والتحرّر الوطنيّ فيها، وتُنَكِّل برجالاتها في السجون والمنافي، وتنظِّمَ حروب الإبادة الجماعيّة والمذابح ضدّ التجمعات السكانيّة الحاضنة للمقاومة، وتستكثرَ على شعوب المستعمرات حقَّها في التحرّر الوطنيّ والاستقلال، وتناهضه – في محافل السياسة الدولية ومنابرها – بالوسائل كافة… إلخ! وإذ اقتسمت البلدانُ الاستعماريّة بلدان الجنوب، كالكعكة بينها، قسَّمت البلدان التي احتلّتها إلى أجزاء أقامت على كلّ واحدٍ منها «دولةً» وهي تتأهّب للإمساك بها، أو الخروج منها؛ هكذا اقتسم الإنكليز والفرنسيّون والطليان والإسبان البلاد العربيّة؛ واقتسم الإنكليز والفرنسيون والبلجيك أفريقيا؛ واقتسمت معهم هولندا جزءاً من آسيا؛ بينما استقرت القسمة بين المستوطنين البروتستانت والمستوطنين الكاثوليك على سيطرة الأوّلين على شمال القارّة الأمريكيّة، والثانين على وسطها وجنوبها. وهكذا، أيضاً، قسَّم البريطانيّون الهند، وقسّم البريطانيّون والفرنسيّون المشرق العربيّ، وتقسَّمت كوريا وفيتنام وألمانيا بين معسكريْن، وظلّتِ الهندسة الكولونيالية للعالم تُعْمِل مقصّاتها ومساطرها لتقسيم أراضي أممٍ وشعوبٍ، والاعتداء السافر على حقوقها الوطنيّة: أسّ الأساس في حقوق الإنسان.

والبلدان تلك، التي نبع فيها عصر الأنوار، في القرن الثامن عشر، هي عينُها البلدان التي انفجرت فيها، في القرن التاسع عشر، غرائز العِرق والعنصريّة، وقسّمت فيها «المعرفة» الغربيّة الأممَ والشعوب إلى أعراق «متميّزة» و«متطورة» وأخرى «دونيّة»، وقامت فيها سياساتٌ رسميّة، على هذا المقتضى، تجرِّب في المختبر السياسيّ الواقعيّ – في بلدان المستعمرات – ما جُرِّب في مختبر إرنست رينان والمستشرقين والأنثروپولوجيين الفيلولوجي! وهي البلدان التي تحوّلت فيها العنصريّة، في القرن العشرين، إلى أيديولوجيا سياسيّة، وإلى سياسة رسميّة، في ألمانيا النازيّة، وفي جنوب أفريقيا العنصريّة وفي الكيان الصهيونيّ! وهل من حاجة إلى التنفيل للقول إنّ العنصرية أشدّ أشكال الفتك بحقوق الإنسان؛ لأنّها – ببساطة – تسوِّغ لصاحبها إسقاط ماهية الإنسان عن الإنسان، والإزدراء بآدميته، وتُغري بهدر أعظم حقٍّ من حقوقه: الحقّ في الحياة. وهل فعلت النازيّة والصهيونيّة غير ذلك؟ وهل نشأت هذه العنصريّة إلّا من نزعة التفوُّق العرقيّ والحضاريّ والدينيّ، التي استبدّت بالشعور الجمعيّ في الغرب، نتيجة الازورار عن القيم الإنسانويّة والتنويريّة والتنكُّر السافر لها، وما صَحِبَهُ من كِبْرٍ وطاووسيّة واستعلاء في النظر إلى الإنسان غير الغربيّ، بل ومن احتقارٍ له واسترخاصٍ لحقوقه… ودمه؟!

قد يقال إنّ السياسات الغربيّة استدركت هذه المطبّات، التي سقطت فيها، وراجعتْها مراجعةً شاملة، خاصةً بعد الحرب العالميّة الثانيّة؛ فعادت إلى التسليم بما أنكرته، وإلى الاعتراف بحقّ الشعوب والأمم في تقرير مصيرها، وبالسيادة الكاملة للدول على أراضيها وثرواتها، وثبَّتتْ ذلك في مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وفي المعاهدات والاتفاقيات الدوليّة الموقَّعة من أعضائها. وهذا صحيح لا مِرْية فيه، ولكنّ من الخطإ الشديد أن يُعْزَى ذلك إلى صحوةِ ضميرٍ غربيّ، أو إلى إرادةٍ حقيقيّة مستقلّة في مراجعة الخيارات والسياسات؛ بل الأحرى أن يقال إنّ ذلك الاستدراك إنما كان من ثمار نضالات شعوب المستعمرات وحركاتها الوطنيّة التي أحرزت نجاحات هائلةً في انتزاع حقوقها، وفرض إرادتها على السياسات الاستعماريّة، نظير نجاحات القوى العاملة المنتجة في انتزاع حقوقها الاجتماعيّة من الرأسماليّات، ونظير نجاحات الحركات النسائيّة في انتزاع حقوق المرأة من المجتمعات والأنظمة الذكوريّة. وهكذا كُتِب لحركات التحرُّر الوطنيّ في العالم أن تقدّم مساهمتها الكبيرة في إعادة تصويب النظر إلى مفهوم حقوق الإنسان بوصفه يستوعب حقوق الأمم عامَّةً، لا أمماً بعينها دون أخرى، ولا الأفراد فحسب.

لم يستتبّ، تماماً، هذا المعنى الشامل لحقوق الإنسان في عالم اليوم؛ ليس فقط لأنّ حقوقاً للمواطنين، مدنيّة وسياسيّة، تُنتَهك هنا وهناك، ولكن، أيضاً، لأنّ حقوق شعوبٍ في تقرير المصير والاستقلال – كالشعب الفلسطينيّ – ما زالت مهضومة ومنتَهَكة بإرادة السياسات الغربيّة ومشاركتها، ولأنّ حقوق أمم في استعادة وحدتها القوميّة أو في استكمالها، مثل الأمّة العربية، والكوريّة، والصينية… ما برحت مهضومة حتى اليوم، ولم يتأتَّ لها بعد أن تستعيد وحدتها كما استعادتها فيتنام وألمانيا.

 

– 4 –

مبْنى حقوق الإنسان على المواطنة، كعلاقة سياسيّة – اجتماعيّة جديدة تُولِّدها الدولةُ الوطنيّة الحديثة، أو، قلْ، إنها ليست سوى حقوق المواطنة نفسها و، بالتالي، كلما انعدمت علاقة المواطنة، في دولة ما، أو شابها شوْبٌ من نيْلٍ وانتقاص، أو اعتُدِيَ عليها شكـلاً ما من أشكال الاعتداء، انتُهِكت حقوقُ الإنسان بالتَّبِعَة واهتُضِمت وحِيفَ بها أبلغ الحيْف. ويُسْتَفاد من ذلك أنه لا مكان لافتراض إمكان احترام حقوق الإنسان في اجتماع سياسيّ لا يقوم على مبدأ المواطنة، ولا لافتراض حالِ العدوان عليها حيث تكون المواطنةُ محفوظَة الجانب؛ إذِ التلازُمُ بين حقوق الإنسان والمواطنةِ تلازُمٌ ماهويّ. ليست هذه حقيقة نظريّة فحسب، أي مبنيّة على تصوُّرٍ نظريّ اعتباريّ ومعياريّ وفلاسفةُ لمعنى الدولة الوطنيّة، على نحو ما تمثـّلها فلاسفةُ العقد الاجتماعيّ وفلاسفةُ القانون المدنيّ الحديث، وإنما هي – فوق ذلك وقبل ذلك – حقيقة تاريخيّة يقوم عليها من الواقع شواهد وأدلّة؛ فكم هي عريضةٌ مساحةُ البلدان والدّول التي لم يعرف عمرانُها السياسيّ علاقات المواطنة أو، قل، لم يعرف منها غير القشور والسطوح الصوريّة و، بالتالي، كم هي مساحة الانتهاكات السافرة والمقنَّعة لتلك الحقوق فيها. ومعنى ذلك، أيضاً، أنّ مشروعيّة الدفاع عن حقوق الإنسان، حيثما نِيلَ منها، مشروعيّة مؤكَّدة لا غبار عليها؛ إنْ كان العاملُ عليها ردَّ الاعتبار إلى الذين انتُهِكت حقوقُهم، لا تسخير محنتهم ومظلوميّتهم لخدمة أغراضٍ سياسيّة أخرى؛ كما يفعل المتلاعبون بهذه الحقوق، المُتّجرون بمحنة الناس لأهداف خاصّة!

من البيِّن، إذاً، أنّ معضلة حقوق الإنسان، في عالم اليوم، ليست تنحصر في تغييب مضمونها العامّ والشامل، متمثَّلاً بحقوق الشعوب والأمم، واختزالها في حقوق الأفراد حصراً، وإنما هي تشمل حقوق الأفراد أنفسهم، في قسمٍ كبيرٍ من بلدان العالم؛ حيث هي معرَّضة إمّا للهضم الكامل أو للهضم الجزئيّ. وهنا لا بدّ من ملاحظة تأشيريّة: إذا كان تغييب تلك الحقوق، تغييباً كامـلاً، سمةً من سمات الدولة التقليديّة الاستبداديّة، أو الأنظمة الدكتاتوريّة والكُلّانيّة؛ وإذا كان المساس بأكثر الحقوق تلك ممّا يطبع نموذج الدولة التي لا تزال في طور الانتقال المتعسِّر من دولة تقليديّة إلى دولة وطنيّة، فإنّ النّيل من بعض تلك الحقوق قد يكون شأناً مألوفاً حتى في بعض أرقى الدول الوطنيّة الحديثة، وإنْ كان الأكثرون منّا لا يكترثون لِشأنه؛ وهو ما يعني أن المواطنة فيها ما برحت منقوصة الهيئة، أي لا يُطابقُ مفهومُها واقعَها الماديّ.

سيكون نافـلاً أيُّ قولٍ إنّ منسوب الانتهاك لمنظومة حقوق الإنسان أعلى في نموذج الدولة التقليديّة (= السلطانيّة) وشبيهاتها من الاستبداديّات المتعدّدة النماذج، من أيِّ نموذجٍ آخر للدولة حديثٍ، لسبب معلوم: هو أنّها تقليديّة في شرعيّتها ونموذجها، وتنعدم فيها علاقات المواطنة؛ حيث الشعب فيها مجرّد رعيّة؛ وحيث الحقوق ليست طبيعيّة ولا مدنيّة، وإنّما هي، في حال إقرارها، وهْبٌ (un don) من الحاكم. لذلك من البديهيّ أن تكون الدولة هذه، ونظام الحكم فيها تحديداً، موضوعَ نقدٍ من حركات حقوق الإنسان فيها كما في العالم؛ إذْ هي، بهذا المعنى، زبونٌ مفضَّل لجميع منتقدي انتهاكات حقوق الإنسان، يجدون فيه، وفي ارتكاباته، ضالَّتهم والشاهد على صدق قضيّتهم. على أنّ الدولة هذه ليست، وحدها، موضوع إدانةٍ وتشنيع، فقط لكونها تقليديّة تنتمي إلى ما قبل الدولة الوطنيّة، بل توجد إلى جانبها دولٌ حديثة – بدرجات متفاوتة من الحداثة – ترتكب الارتكابات عينَها، أو ما يقارِبُها شَبَهاً، في حقّ حقوق الإنسان الأساس؛ المدنيّة والسياسيّة، على الرغم من أنّها قطعت شوطاً في بناء روابط المواطنة فيها. ولقد يكون في جملة هذا النوع الحديث من الدول؛ الدول التي قامت فيها أنظمة كلّانيّة (= توتاليتاريّة)، من النمط النازيّ ومن النمط الشيوعيّ الستالينيّ، وأنظمة فاشيّة، من النمط الإيطاليّ (= موسوليني) والإسبانيّ (فرانكو)، وأنظمة دكتاتوريّة عسكريّة، من النمط اليونانيّ والبرتغاليّ والأمريكيّ اللاتينيّ، ناهيك بمنظومة بلدان أنظمة الحكم الشيوعيّ في شرق أوروبا، والصين، وفيتنام، وكوريا الشمالية، وكمبوديا، ثم الدكتاتوريات الآسيويّة التي من نوع يابان ما قبل الحرب العالميّة الثانيّة، وكوريا الجنوبيّة وتايوان قبل استتباب الحكم المدنيّ فيها.

تعرّضت الحريات وحقوق الإنسان، في هذه البلدان، لانتهاكات لا سابق لها بلغت حدود الإبادات الجماعيّة والمذابح المنظَّمة؛ كما في العهود النازيّة والستالينيّة وكمبوديا «الخْمِير الحُمْر». وإذا كان الأدب، والإنتاج الروائي خاصّةً، قد دوَّن بعضاً كبيراً من تلك المأساة المَهُولة في أمريكا اللاتينيّة (غابرييل غارسيا ماركيز مثـلاً) وفي شرق أوروبا (ميلان كانديرا ورومان غاري مثـلاً)، وأنزل بالأنظمة التي تسبّبت فيها أعظم الإدانات، فإنّ الفكر السياسيّ الأوروبيّ قدَّم أَجَلَّ تحليلٍ سياسيّ نقديّ للأسباب والعوامل التي أنتجت البناء السياسيّ الكلّاني في ألمانيا والاتحاد السوفياتي، مُنزِلاً أشدّ أنواع الإدانات بهذا النموذج السياسيّ القمعيّ: الذي كانت روزا لوكسمبورغ تشتمّ رائحته منذ البواكير. ويبقى ما كتبه جورج لوكاتش، وهربرت ماركيوز، وحنّة أرنت، وشارل بيتلهايم، ونيكوس بولانتزاس… نقداً لهذا النظام بعضاً من أبدع ما أنتجه العقل السياسيّ الحديث من تحليل للسياسة والنُّظُم السياسيّة الحديثة؛ حتى وإنْ تباينت منطلقات الناقدين وغاياتهم.

ربّما كانت النازيّة، والفاشيّة، والستالينيّة، والدكتاتوريّات العسكريّة، والصهيونيّة، ونظام التمييز العنصريّ (الأبارتايد) في جنوب أفريقيا، ناهيك بالاستبداديّات التقليديّة، أشدَّ أنواع الأنظمة السياسيّة فتكاً بحقوق الإنسان والحريّات العامّة، في العصر الحديث، وأَدْعى من غيرها إلى الإدانة والاستنكار، فضـلاً عن النقد. ولكن من قال إنّ بعضَ الأنظمة الحديثة في الغرب، من تلك التي تزعُم احترام حقوق المواطنة، وتحاسِبُ غيرَها على انتهاكها، هي (أنظمة) دون الأولى عدواناً على بعض حقوق الإنسان؟ نحن لا نقصد بهذا، هنا، سياساتها البغيضة والوحشية ضدّ حقوق الإنسان في بلدان الجنوب، التي استرخص بعضُها (= الولايات المتحدة الأمريكيّة، بريطانيا، فرنسا…) دماءَهم وحيواتهم في حروبها الظالمة (في العراق، وأفغانستان، والصومال، وصربيا، وليبيا…)، والتي استسهل فيها بعضُها تسخير الجماعات الإرهابيّة في حروبها ضدّ خصومها؛ بل لا نقصد حتى سياساتها المناهضة لحقوق شعوب، مثل الشعب الفلسطينيّ، في التحرُّر الوطنيّ واستعادة الوطن، بل نقصد سياساتها تجاه حقوق مشروعة لمواطنيها، هي من صميم حقوق المواطنة، مثل الحقّ في التعبير والرأي، أو الحقّ في الانتماء السياسيّ! في بلدان غربيّة، مثل الولايات المتحدة الأمريكيّة وألمانيا، يُمْنَع الحقّ في العمل السياسي القانونيّ لحزب شيوعيّ؛ لأنه ضدّ النظام الرأسماليّ (ويُبرَّر ذلك بدعوى تهديده النظام الديمقراطيّ)! وفي بلدان أخرى يُمْنَع حقّ المواطنين في انتقاد «إسرائيل» أو في التشكيك في الهولوكوست، بدعوى «معاداة الساميّة»، ويُساق المفكّرون الأحرار إلى السجون والقضاء إنْ هم تجرأوا على هذا المحظور! إنها من نوع الحقوق البدائيّة المهضومة في دول توزّع صكوك الغفران والحرمان على غيرها كلّما تعلق الأمر بحقوق الإنسان!

– 5 –

طبعتِ الحقبةَ الفاصلة بين نهاية الحرب العالميّة الثانيّة وانطلاق الموجات الأولى للعولمة (= مطالع التسعينيّات من القرن الماضي) حركةٌ متصاعدة من النقد الحادّ للأنظمة الكُلّانيّة، وانتهاكاتُها لحقوق الإنسان، في الأوساط السياسيّة والفكريّة في الغرب، لتنتقل تأثيراتُها – بعد ذلك – إلى معظم أنحاء المعمور؛ أي خارج الرقعة الجغرافيّة التي قامت فيها أنظمة شيوعيّة أو اشتراكيّة. ولئن كان من المشروع والمبرَّر قيام مثل تلك الحملة من النقد في وجه فظاعات الجرائم الرهيبة التي ارتكبها النظامان النازيّ، في ألمانيا، والستالينيّ، في الاتحاد السوفياتيّ؛ سواء داخل البلديْن أو في المدى الأوروبيّ، إبّان احتلاله بدبابات هتلر وستالين، فإنّ من المبرَّر، بالقدر عينه، أن توضَع الحملةُ تلك في ميزانٍ للتقدير يُمَيَّزُ فيه بين الصادق والباطل، بين الصحيح والفاسد، لئلّا يختلط حابل الواحد منهما بنابل الثاني. أمّا العامل على التحوُّط هذا، فانتماء «النازلة» (= نازلة انتهاكات حقوق الإنسان) إلى السياسة والصراعات السياسيّة وتَنَازُع المصالح بين الحلفاء والنظام النازيّ، من جهة، وداخل الحلفاء: بين المعسكريْن الغربيّ (= الرأسماليّ) والشرقيّ («الاشتراكيّ») من جهة ثانية. ونزاع المصالح – وقد بلغ ذراه في حقبة الحرب الباردة – يسوِّغ لكل أنواع التلاعب بالمعطيات والحقائق، وصرْفِها على هذا المعنى أو ذاك، ولكلّ أنواع الكذب والتضليل والمخادَعَة بما هي أدوات أيديولوجيّة رديفٌ، ومكمِّلة، لأدوات القوّة الأخرى: المستخدَمة في جبهات أخرى.

وضْعُ السّرديّة الغربيّة – عن الانتهاكات النازيّة والستالينيّة لحقوق الإنسان – موضعَ تَحرٍّ أو فحصٍ نقديّ لا يقتضي، حكماً، كما لا يعني تكذيبَها جملةً، أو عدَّها تلفيقاً مصطنعاً، وإنما إضفاء الكثير من النسبيّة على مرويّاتها، قبل التفكير في ما تَغْتَرِضُه من أغراض. لا يمكن، مثـلاً، تكذيب المحرقة، التي نظمتها الأجهزة النازيّة، ضدّ يهود ألمانيا وأوروبا، ولكن من المشروع الطعن في أرقام الضحايا التي بلغت الملايين في الدّعاوة الغربيّة! نقول هذا على الرغم من أنّ سقوط بضعة آلاف من الضحايا يساوي سقوط بضعة ملايين في أعراف الأخلاق الإنسانيّة. وعلى النحو نفسِه، ربما لا يكون مشروعاً تكذيب الرواية عن الإعدامات الجماعيّة التي قام بها نظام ستالين لأطر«الحزب الشيوعي» ومناضليه (= لأنها، أيضاً، رواية الفارّين من المذبحة من الشيوعيّين السوفيات)، ولا ما قام به الاتحاد السوفياتيّ من تنكيل بالمتظاهرين والمواطنين في تشيكوسلوفاكيا حين غَزْوِها (= لأنّ التشيك رووا الكثير عنها)، ولكن من المشروع التشكيك في صحّة أرقام الضحايا (= مليونيْ شيوعيّ من ضحايا التصفيّة!)، وفي صحّة أحداثٍ رُوِيَت وكأنها مشاهدُ فيلمٍ من النمط الهوليووديّ! على أنّ الأهمّ من الاستفهام حول صحّة المرويّات ودقّتها (وهو الاستفهام الذي لا يمكنه أن يبرِّر، بحالٍ، فظاعات تلك الجرائم الوحشيّة)، معرفة ما إذا كان الغرض من السرديّة الغربيّة، عن محنة حقوق الإنسان في ظل النازيّة والستالينيّة، الدفاع عن حقوق الإنسان فعـلاً، ضدّ مطلقِ انتهاكٍ، أم استغلال الارتكابات الألمانيّة والسوفياتيّة لتصفية الحساب مع نظاميْن معاديَيْن؛ أحدُهما اندحر في الحرب الثانيّة وثانيهما كان لا يزال يهدّد الغرب في ذلك الحين من حقبة الحرب الباردة؟

نترك، إلى حين، القسم الأوّل من السؤال، المتعلّق بمدى اتّصال النقد الغربيّ للانتهاكات بإرادة الدفاع عن حرمة حقوق الإنسان، متناولين قسمه الثاني المتّصل بمسألة استغلال الغرب جرائم هتلر وستالين استغلالاً سياسيّاً وأيديولوجيّاً لغير مصلحة حقوق الإنسان.

من النافل القول إنّ شيطنة ألمانيا النازيّة وروسيا الستالينيّة أتت تؤدّي وظائفها الأيديولوجيّة، في خضمّ الصراعات المتفجّرة: حرباً ساخنة وأخرى باردة، في تلك الحقبة من المواجهات الدوليّة الكبرى. وأولى الوظائف تلك، التي صبّت في مصلحة الغرب وسرديّاته، بيان برّانيّة النموذجين النازيّ والشيوعيّ عن نموذج النظام السياسيّ الحرّ والديمقراطيّ: السائد في الولايات المتحدة الأمريكيّة وبلدان أوروبا الغربيّة و، بالتالي، فرادة النموذج الأخير، وتفوّق قيمه، ومضمونه الإنسانويّ. وكان لا بدّ لاشتغال الآلة الأيديولوجيّة الدَّعَويّة من مادّةٍ تشتغل بها، كموردِ طاقةٍ، لتصنيع فكرة التفوُّق والفرادة؛ ولم تكن المادّة تلك سوى الانتهاكات الفظيعة للحقوق والحريّات في ظلّ حكم النظامين المومأ إليهما. ولقد كانت ألمانيا أولى ضحايا التلاعب بفكرة حقوق الإنسان حين دفعت ثمناً فادحاً، من حقوقها القوميّة، هو حقّها في وحدتها الكيانيّة التي مزّقها التقسيم، المتواطأ عليه، إلى دولتين! وإذا كانت الأغراض الأيديولوجيّة من فكرة حقوق الإنسان قد استُكْمِلت، في حالة ألمانيا، بدحْر النازيّة عسكريّاً، وتحطيم نظامها – ومعه ألمانيا واقتصادها – وبتقسيم البلاد بين معسكريْن، ثم بإقامة الكيان الصهيونيّ في فلسطين ثمناً، من حقوق العرب، للمحرقة، فإنّ الأغراض عينَها استمرت، في حالة الاتحاد السوفياتي والمعسكر «الاشتراكيّ»؛ لسببٍ معلوم هو استمرار هذا في تشكيل خطر استراتيجيّ على مصالح الرأسماليّات الغربيّة، وعلى استقرارها السياسيّ الداخليّ الذي كان يهدِّده اتساعُ نفوذ أحزاب اليسار الشيوعيّ والراديكاليّ. وعليه، لم تنصرف إدانة الغرب لانتهاكات النُّظم الكلّانية حقوقَ الإنسان والحريّات إلى الدفاع عن حرمة تلك الحقوق والحريات، وإنما هي انصرفت إلى استغلال انتهاك النظامَيْن لحقوق الإنسان لتشويه صورتهما وتحريض العالم ضدّهما.

يؤدّينا ذلك، توّاً، إلى الشّقّ الأوّل من السؤال (الذي أجبنا عنه، جزئيّاً، في آخر الفقرة السابقة). خلال الحقبة الممتدّة بين اندحار النظام النازيّ وانهيار النظام «الشيوعيّ» (1945 – 1991)، المعروفة في الأدبيّات السياسيّة باسم حقبة الحرب الباردة، اختُزِلت حقوق الإنسان، في الخطاب الغربيّ، في حقوق مَن ينتمون إلى البلدان «الاشتراكيّة»، حصراً، أو مَن ينتمون إلى بلدان قامت فيها نُظْم حكمٍ وطنيّة كالناصريّة. خارج هذا العالم، لا حديث عن محنةٍ لحقوق الإنسان. وليس مهمّاً، عند الغرب، أن تقوم دكتاتوريّات عسكريّة بغيضة، رَمَزَ إليها أشخاص غلاظ مثل باتيستا، وسوموزا، وپينوشيه، وضياء الحق، وسوهارتو…؛ ولا أن يستتبّ حكمُ استبداديّات تقليديّة عريقة في القهر والقمع والطغيان…؛ ولا أن ترتكب هذه وتلك من أفعال العدوان على الحقوق والحرّيات ما يفوق قدرةَ أيّ لغة على التعيين والوصف. الأهمّ، في عقيدة الغرب، أن قمع تلك الأنظمة ودكتاتوريَّتَها فعلٌ «مشروع»؛ لأنّه يؤدّي وظيفة «مقدّسة»: وقف الخطر الشيوعيّ! لذلك لاحظنا أنه بقدر ما تحدّث الغرب عن حقوق الإنسان، إلى حدّ الإسهال، في حالة الدول (الاشتراكيّة والوطنيّة) التي يناصبها العداء، سكت عن مثل ذلك في حالة الأنظمة التي وظّفها في حربه الكونيّة ضدّ الشيوعيّة، واكتفى برفع شعار الدفاع عن الاستقرار في وجه مَن طالبوه بمحاسبتها على أوضاع حقوق الإنسان في بلدانها!

على أنّ الوجه الأيديولوجيّ في دعوى حقوق الإنسان سيعرف اندفاعةٍ غيرِ مسبوقة في حقبة العولمة؛ أي في الحقبة التي تبدّلت فيها التوازنات الدوليّة و، بالتالي، تبدّلت فيها الأهداف والأولويّات.

– 6 –

نجحت فرضيّةُ توسُّلِ حقوق الإنسان، فـي الحرب الأيديولوجيّة – السياسيّة ضد الأعداء والخصُوم، فـي اختبارٍ تاريخيّ هو الحرب الباردة و، على نحوٍ محدَّد، الحرب الأيديولوجيّة ضد الاتحاد السوفياتي والشيوعيّة؛ لقد كان لها من الآثار الماديّة والمعنويّة الفتّاكة ما لم يكن لأيّ حرب أخرى خيضت ضدّهما؛ مثل الحرب الاقتصاديّة والتجاريّة، أو الحروب العسكريّة التي جرت بالوكالة فـي مناطق نفوذ العظمييْن (فـي بلدان الجنوب خاصة). ولقد حصل أن اقترن انهيارُ الاتحاد السوفياتي بميلاد الموجات الأولى للعولمة، ومعها ظهور إمكانيات جديدة هائلة لتطوير تقنيات الحرب الأيديولوجيّة أتاحتْها (= الإمكانيات) نتائج الثورة التِّقانيّة (= التكنولوجيّة) وتطبيقاتها فـي ميدانَيِ الإعلام والمعلومات. لذلك ما فرَّطت السياسات الغربيّة بأيديولوجيا حقوق الإنسان، ونجاعة استخداماتها، لمجرّد أنّ العدوّ السوفياتي – الشيوعيّ للغرب خسر معركة الحرب الباردة، بل تمسّكت بها لأنها، بالذات؛ كسبت بها الحرب ضدّه، أوّلاً؛ ولأنّ بقاياهُ وذيولَه ما زالت فـي قلب أوروبا (= يوغسلافـيا، ألبانيا)، وفـي العالم الثالث (الصين، كوريا الشماليّة، العراق، سورية…)، ثانياً؛ ولأن فرصاً تِقانيّةً جديدة فُتِحَت لتحسين شروط الحرب الأيديولوجيّة ضدّ البقايا المتمرّدة على إرادة الغرب، ثالثاً؛ ثم لأنّ الانقلاب الهائل فـي التوازنات الدوليّة لصالح الغرب، والولايات المتّحدة الأمريكيّة خاصّة، يلغي ثنائيّة الأقطاب ويكرّس أمريكا مركزاً للسياسة الدوليّة، ويضع تحت نفوذها قرار مؤسسات الأمم المتّحدة، بما يجعلها قادرةً، رابعاً، على توظيف جميع ما لديها من موارد القوّة الجديدة لتسديد ضربةٍ استراتيجيّة لمن تبقّى من خصومٍ وأعداء.

نعرف، على التحقيق، تفاصيل ما جرى من تطورات دراماتيكيّة فـي العالم، منذ مطالع تسعينيّات القرن العشرين، من جرّاء الاستخدام الأيديولوجيّ – السياسيّ الجديد لفكرة حقوق الإنسان فـي السياسات الغربيّة؛ وقع تفكيكُ الاتحاد اليوغسلافي، بمثل ما وقع به تفكيك الاتحاد السوفياتي وتشيكوسلوفاكيا: تفجير حركات الانفصال القوميّة، وبعده تفكيكٌ مضاعف للمفَكّك على قاعدة الانتماء الدينيّ – القوميّ (على نحو ما جرى فـي البوسنة والهرسك بين مسلميها والكروات والصّرب)؛ وهو عينُه ما سيجري فـي ألبانيا بفصْل إقليم كوسوفو عنها. ولقد جرى ذلك كلّه باسم حقوق الإنسان (حقوق أقوام أو حقوق أتباع أديان). وباسم حقوق الإنسان، أيضاً، شُنّت الحرب الأمريكيّة على نظام سلوبودان ميلوسوفيتش فـي صربيا، ودُمِّرت البلاد والاقتصاد عقاباً له على البقاء خارج النفوذ الأمريكيّ. ثم ضُرب العراق، واحتُلّ بعد ذلك، وحوصِرت كوريا الشماليّة. ولم يكن ذلك، فقط، بدعوى امتلاكهما أسلحةَ دمارٍ شامل، بل – أيضاً – بدعوى انتهاكات حقوق الإنسان فـيهما.

وبالدعوى عينها حوصرت الصين وحُرِّض ضدّ نظامها وسياساته؛ من قمع المتظاهرين فـي ساحة تيانان مين إلى قمع سكان مقاطعة التيبت؛ كما حوصرت سورية وصدر فـي حقّها قانون من الكونغرس الأمريكيّ (= «قانون محاسبة سورية») مهَّد لكلّ ما نراه يجري، اليوم، من عدوانٍ عليها وتفكيك لكيانها. وآخر مستحضرات دعوى حقوق الإنسان، فـي السياسات الغربيّة، ما جُرِّب تطبيقُه فـي البلاد العربيّة، فـي السنين السبع الأخيرة، فـي نطاق ما عُرِف باسم «الربيع العربيّ»؛ تنفـيذاً لهندسةٍ سياسيّة كولونياليّة جديدة أطلّت برأسها منذ نهاية الحرب الباردة، وكان تدميرُ العراق، فـي حرب الخليج الثانيّة (1991)، فقرة تمهيديّة فـي نصِّها المتعاقِب فصولاً منذ ذلك الحين!

… تلك عيّنةٌ من فصولٍ دمويّة للاستخدام الأيديولوجيّ لحقوق الإنسان فـي الصراعات الدوليّة فـي حقبة العولمة الجارية. والحقّ أنّ العولمة لم تُفْرِج عن إمكانيات تِقانيّة جديدة لتحسين شروط الاستخدام الأيديولوجيّ ذاك فحسب، بل هي وفّرت ممكناتٍ لإجراء تعديلات/تزويرات هائلة لمضمون حقوق الإنسان ولمفهومه الذي صاغه الفكر الإنسانيّ، منذ القرن السابع عشر، وتَعَهَّدهُ بالتطوير انطلاقاً من المقدّمات الفكريّة عينِها! عَنَتْ حقوق الإنسان، فـي أصولها النظريّة، وفـي تجربة الدولة الوطنيّة الحديثة، حقوق المواطن داخل الدولة؛ ثم عنت – فـي نطاق نظريّة السيادة الوطنيّة – حقوق الشعوب والأمم فـي استقلالها وسيادتها على أراضيها وثرواتها. وفـي الحاليْن؛ سواء تعلّق الأمرُ بالمواطن، أو بالشعب والأمّة، فإنّ الرابطة التي تَشُدّ أيّاً منهما رابطة سياسيّة ومدنيّة تتولّد منها هويّة عليا جامعة هي الهويّة الوطنيّة أو القوميّة؛ أي هي الانتساب إلى جماعةٍ سياسيّة لا تعترف بأيّ ولاءٍ فرعيّ يمزّق نسيجَها الجماعيّ إلّا الولاء العامّ لها هي كجماعة، أي للدولة. ومبنى ذلك على أنّ المواطنة، كما الأمّة، علاقةٌ أفقية عابرة للانقسامات الأهليّة العموديّة، يمتنع قيامُها إلّا بتخطي الانقسامات تلك وإطلاق سيرورات الانصهار والاندماج الاجتماعيّ. بهذه الجدليّة تكوّنت الدول، فـي التاريخ الحديث، وتشكَّلت الأوطان واستتبّ الأمر للنُّظم السياسيّة القائمة على مبدأ المواطنة.

المتغيّر الاستراتيجيّ، والخطير، فـي خطاب حقوق الإنسان، اليوم؛ أعني فـي استخدامه الأيديولوجيّ الغربيّ، أنه خطابٌ أنثروپو – ثقافـيّ؛ أي أنه دائرٌ على فكرة الهويّات الدينيّة والثقافـيّة والطائفـيّة والمذهبيّة (تحت عنوان الأقليّات)، والحاجة إلى تمتيع الهويّات تلك بـ«حقوقها»، داخل الدولة، وصولاً إلى الاعتراف بحقّها فـي الانفصال إن «هي ارتأت» – أو، قل، إن ارتأى رعاتُها الخارجيّون – مصلحة فـي ذلك الانفصال! وعندي أنّ فـي ذلك تزويراً فاضحاً لمعنى حقوق الإنسان، بل لمعنى الإنسان نفسِه؛ فالإنسان تحرَّر من عبوديّة البنى الجماعويّة، التي كبّلت وجوده، حين نجح – بالتعاقد الاجتماعيّ – فـي بناء مجتمع سياسيّ ومجتمع مدنيّ (أي جماعات سياسيّة) بعيداً من الروابط التي تشُدُّه إلى الجماعة الطبيعيّة أو الجماعة الأهليّة، والتي تمنعه من تكوين مجالٍ سياسيّ محكومٍ بقواعد التوافق على المصالح الجامعة والمشتركة؛ أي التي لا يقع التنازع فـيها على أساس الاعتقاد الدينيّ أو على أساس مصالح بدائيّة تقتضيها روابط طبيعيّة: مثل روابط الدّم. العودة بحقوق الإنسان إلى نفق الهويّات الفرعيّة عودةٌ بالإنسان إلى ما قبل قيام الدولة الوطنيّة؛ إلى ما افترض فلاسفةُ العقد الاجتماعيّ بأنه حالة الطبيعة، وانتقال بخطاب حقوق الإنسان من خطابٍ سياسيّ ومدنيّ، كما كانَهُ دائماً، إلى خطاب أنثروپو – ثقافـيّ مشدود إلى أغراض منافـية، تماماً، لتلك التي قام من أجلها كخطاب: توطيد حقوق المواطنة، وتمتين قواعد النظام السياسيّ الديمقراطيّ فـي الدولة الوطنيّة الحديثة.

والحقُّ أنّ إدراك الأغراض الثاوية خلف الاستخدام الأيديولوجيّ لهذا الخطاب الأنثروپو – ثقافـيّ ليس عسيراً على مَن يتابعون مجرى السياسات الدوليّة، اليوم؛ إنّه (خطابٌ) وطيدُ الصّلة بهندسة أنثروپو – سياسيّة كولونياليّة، جارية منذ عقود ثلاثة، تبغي إعادة تمزيق عدّة كيانات من العالم وتفكيكها فـي دويلات تقوم حدودُها على حدود العصبيّات الأهليّة، وعلى حدود الأديان والطوائف والمذاهب! إنها هندسةُ ما بعد التجزئة السايكسبيكويّة؛ ولكنّ مداها، اليوم، عالميٌّ ولا يتعلق، حصراً، بالوطن العربيّ، حتى وإن كان الأخيرُ من ساحات الاختبار الأساس لها. وإذا كانت أزمة نموذج الدولة الوطنيّة قد أطلت، منذ وقتٍ مبكّر، مثلما ذهبت إلى ذلك تعليلات حنّة أرنت، فإنّ الهندسة الكولونياليّة الأنثروپو – سياسيّة الجارية ستضع – إن هي نجحت – فصـلاً ختاميّاً لوجود الدولة الوطنيّة نفسه، تماماً كما تحاول العولمة أن تضع نهايةً للمجتمعات؛ كما يذهب إلى ذلك ألان تورين!

* * *

فـي زمنٍ مضى، كانت مبادئ حقوق الإنسان فـي جملة عُدّة الاشتغال – السياسيّ الأخلاقيّ – للحركات المناضلة عن حقوق المواطنة، بل فـي حملة موارد النضال الديمقراطيّ ضدّ التسلُّط والاستبداد والدكتاتوريّة والنظام الكُلّاني: أمّا اليوم فتتحوَّل، تحت وطأة التحوّلات العاصفة، إلى عُدّة اشتغال المشروع الكولونياليّ الجديد، الهادف إلى إعادة هندسة العالم ضدّاً على حقوق الإنسان نفسها! ليس تفصيـلاً هو، إذاً، هذا التحوُّل فـي مضمون حقوق الإنسان ووظيفتها الذي وصفناه بأنه الذي أنجز الانتقال بالحقوق تلك من فكرةٍ إلى أيديولوجيا!.

 

قد يهمكم أيضاً  التأويل الإصلاحي لمفاهيم النهضة الغربية : مفهوم الحرية أنموذجاً

للمزيد حول حقوق الإنسان إقرؤوا  ما معنى أن يكون الإنسان حراً؟

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #حقوق_الإنسان #الكولونيالية #المواطنة #الحقوق #الهوية #أيديولوجيا #العولمة #الحرب_الأيديولوجية #دراسات