مقدمة

لم تكد بوادر إنهاء حرب اليمن تظهر، وأبواب جامعة الدول العربية تشرَّع أمام سورية من جديد، وجسور التلاقي بين السعودية وإيران تعود مخفَّفةً من حدة الاستقطاب الإقليمي بين محوري البلدين، وبؤر التوتر العربية تهدأ بوجه عام، حتى اشتعلت المعارك في السودان، فاتحة أمام هذا البلد احتمالاتٍ يمكن أن يتفجر معها كل الموروث السياسي لأنماط الحكم التي تداولت السلطة فيه منذ عقود، متجاهلة أو عاجزة عن التعامل مع تعقيدات المكوّن الداخلي، القائم على التنوع الديني والإثني والقبلي، في ظل سياسات اقتصادية لم تنجح في توظيف طاقات البلد وموارده الطبيعية والبشرية على النحو الذي يحقق التنمية ويرفع من مستوى معيشة الأكثرية الساحقة من شعبه، أو التعامل مع تحديات المطامع الاقتصادية والمشاريع الجيوسياسية الخارجية، التي ساهمت في تفجير هذا المكوِّن الداخلي المتنوع، وفي تعميق أزمة الهوية الوطنية في السودان.

لا يبدو في السودان حتى اليوم أي أفق واضح لإيقاف أصوات المدافع، ما دام الطرفان المتحاربان، الجيش وقوات “الدعم السريع”، غير متفقين إلا على أمرٍ واحد: مواصَلة القتال حتى النهاية، والتعامل مع المبادرة السعودية في اجتماع جدة الأخير بوصفها مجرد مناسبة لهدنة تسمح بإفراغ الخرطوم من الضحايا المحتملين، ذهابًا إلى منازلة يرجوها الإثنان فاصلة.

ولا عزاء للسعودية، التي أشركت في مبادرتها الولايات المتحدة ومصر والأمم المتحدة، لتثبيت دورها المستجد كإطفائي العرب، بعد اتفاقها في العاشر من آذار/مارس مع إيران على التهدئة واستئناف العلاقات الدبلوماسية معها، وبدء العمل على إقفال حرب اليمن، ثم إعادة سورية إلى جامعة الدول العربية. وبدا بيان قمة جُدَّة العربية في شقه عن السودان تسليماً عربياً بالمصير الذي آل إليه، حين اقتصر كلام العرب عن توصيف ما يجري من انهيار للدولة، دونما أي تدخل مباشر في الصراع أو اقتراح مخارج أو آليات للتوسط بين المتقاتلين تاركين السودان لحربه تحدد مستقبله.

ويبدو غياب بعض اللاعبين الإقليميين مفهومًا في سياق النقاش حول أي حل سياسي. ذلك بأن الإطار العام لأي حل ينبغي أن يدور حول القضية نفسها التي أدت إلى الحرب، وهي إخراج السودان من ازدواجية الجيوش والسلطة. ويعني ذلك في ما يعنيه أن جزءًا لا بأس به من الحل هو بيد بعض الدول العربية المتحالفة مع أطراف الصراع المختلفة، التي لها مصالح اقتصادية وتجارية ومالية في المناطق الواقعة تحت سيطرة الميليشيات المسلحة.

الصراع على الموارد؟

قد تبدو الحرب صراعًا داخليًا على الموارد التي يزخر بها السودان الغني، في سياق اتضاح خلفية الصراع وهيمنة قوات الدعم السريع على بعض المناجم، وسيطرة الجيش وقائده عبد الفتاح البرهان، من جهة أخرى، عبر شركة “زادنا” التي يديرها اللواء إبراهيم جابر، على أجزاء كبيرة من الاقتصاد السوداني، بما فيها التعدين، الذي تملك الدولة فيه 40 بالمئة من المناجم، فضلًا عن قطاعات اقتصادية أخرى، منها 85 شركة تتولى تصدير الزيوت والألبان والدخن والسمسم والصمغ العربي.

وكانت وكالة «رويترز» قد نشرت تحقيقًا في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، تحدثت فيه عن ملكية حميدتي مناجم جبل عامر ومليارات الدولارات التي جناها من عمليات تهريب الذهب السوداني. كما يؤدي مرتزقة فاغنر الروس دورًا كبيرًا في حماية عمليات الدعم السريع، وتهريب جزء من الذهب السوداني إلى روسيا، التي زارها (حميدتي) في شباط/ فبراير من العام الماضي، لمناقشة استمرار تصدير الذهب إليها كما قال، والحصول على أسلحة روسية.

في الطريق إلى الحرب

قبل ساعات من هجوم قوات الدعم السريع على مقار الجيش في الخرطوم، تم الاتفاق بين المتقاتلين في السفارة السعودية على تطبيق توصيات الآلية الرباعية المؤلفة من الولايات المتحدة وبريطانيا ومصر والسعودية، التي تم التفاهم عليها في الرابع من كانون الأول/ ديسمبر، والتي تقضي بدمج الدعم السريع بالجيش خلال ثلاثة أعوام، بدلًا من الأعوام العشرة التي كان حميدتي يطالب بها، تاركة إياه أمام خيار الحرب، أو الانصياع للاتفاق. وقبل أن يكتمل الحصار السياسي حول قوات الدعم السريع دخلت هذه القوات قاعدة مروي الجوية مباغتة بالرصاص الجيشَ والاتفاقَ الرباعيَ الذي ينهي دورها السياسي والعسكري ويهدد مصادر ثروتها. وكان رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان قد استبق الاتفاق بإلغاء المادة الخامسة من قانون قوات الدعم السريع، ناقلًا تبعيتها للقائد العام للقوات المسلحة، إلى رئاسة الأركان، لتكون أحد أسلحة الجيش، لا جيشًا مستقلًا في خدمة الطموحات السياسية والمالية لقائدها (حميدتي).

انعكاسات المشهد السوداني على الوضع العربي

من دون سياسة مصرية أكثر دينامية، وتغليبًا للأمن القومي على حساب توفير تمويل للاقتصاد المتعثر، ينكشف الجناح الجنوبي للأمن القومي المصري في مواجهة إثيوبيا والابتزاز المائي بسد النهضة إذا ما عمت الفوضى السودان، إذ لا تزال مصر تحتفظ بقوات مشتركة إلى جانب الجيش السوداني. كما تتهددها الحرب إذا ما طالت، بتدفق النازحين السودانيين، الذين يقيم خمسة ملايين منهم فيها، في ذروة أزمة اقتصادية طاحنة. إلا أن الموقف المصري، كالعربي عمومًا، لا يزال يقتصر على المشاركة مع السعودية في إدارة الأزمة دونما أي قدرة على المبادرة للدفاع عن الجيش السوداني الحليف الطبيعي للجيش المصري، في مواجهة قوات الدعم السريع. وتزداد الخيارات المصرية تعقيدًا إذا أضيف إلى ما يشهده جناحها الغربي من تهديدات الفوضى الليبية، والتدخلات الغربية والتركية والروسية في مجالها الحيوي، النفطي في المتوسط والأمني في الشرق الليبي، الذي خاضت فيه تجربة دعم خليفة حفتر الفاشلة عسكريًا، وهو ما يحد أيضًا من نزوعها إلى تكرار التجربة نفسها في السودان حتى الآن.

كما أن الحرب على ضفاف البحر الأحمر، وفي الساحل المقابل لجدة، وعلى بعد ستين ميلًا منها في بورسودان، تضع السعودية وأمنها في دائرة التهديد المباشر في توقيت غير مناسب لخطتها تأدية دور ضابط الإيقاع في كل النزاعات العربية والإقليمية. ويبدو السودان الهادئ في غير متناولها بعد إطفاء حرب اليمن، للتفرغ لتطوير بناها التحتية، واستثمار المئات من مليارات الدولارات في مشاريع ضخمة تحت مسمى رؤية 2030 تجعل منها قطبًا إقليميًا جاذبًا للاستثمارات.

غير أن سودانًا تستعر فيه نيران حرب أهلية لن يكون هو خبرًا جيدًا لإثيوبيا أيضًا، التي تبني سدها فوق أرض بني شنقول العربية التي تحتلها إثيوبيا، وهو ما يهدد بانتقال نيران السودان إلى الداخل الإثيوبي.

التطبيع مع إسرائيل: أي سيناريو؟

رغم حرب الخرطوم واختلاف الطرفين المتحاربين على كل الأمور تقريبًا في الأيام الأخيرة، فإن التطبيع مع إسرائيل يجمعهما. عملت سياسة “الطرفين المتقاتلَين” الإسرائيلية على تغيير موقع السودان الاستراتيجي في أفريقيا والبحر الأحمر في منظومة الأمن القومي العربي، وخصوصًا تجاه مصر. وكان حميدتي قد زار تل أبيب عدة مرات برفقة شقيقه عبد الرحيم، وذهب عبد الفتاح البرهان في شباط /فبراير 2020 إلى “عنتيبي” الأوغندية للقاء بنيامين نتنياهو، قبل أن يقرر مجلس السيادة إلغاء قوانين المقاطعة العربية وتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني. وزار رئيس الموساد السابق يوسي كوهين الخرطوم للتفاهم على التعاون الأمني مع الخرطوم، التي مثّلت رمز المقاومة ورفض الاستسلام حين رفعت القمة العربية فيها بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 شعارات لا صلح لا تفاوض لا استسلام.

إن إطالة أمد الصراع وانتشار الفوضى، ليست من مصلحة الكيان الصهيوني في الوقت الراهن قبل ترسيخ حضوره داخل السودان، ومأسسة التعاون والتطبيع معه. لذلك قدم الصهاينة عروضًا للتوسط بين أصدقائهم المتقاتلين، وفتح أبواب تل أبيب لاستقبالهم، دونما أي صدى حتى الآن. يثير ذلك قلقًا كبيرًا وتساؤلات في الكيان الصهيوني، بسبب دور السودان في الماضي، كقاعدة خلفية للجماعات الإسلامية، أو كممر لتسليح وتدريب حركة حماس في غزة. وقد تنتقل عدوى إبطاء التطبيع، التي استفاد منها البرهان والدعم السريع، إلى تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة، وتسهيل خروج السودان التدريجي من العقوبات الأمريكية، فضلًا عن تمتين التعاون الأمني بين السودان وإسرائيل. إن أي حل عربي يغلب على الأزمة قد يعيد ساعة التطبيع إلى الوراء كما حصل مع السعودية والخليج في ضوء الاتفاق السعودي- الإيراني، وتراجع الشعور بالتهديد الإيراني.

كما أن عودة الجيش وحده للإمساك بالسودان، محمولًا مرة جديدة على استعادة فلول التيار الإسلامي، بعد ضرب الدعم السريع، قد يبطئ عملية التطبيع التي تلاقي معارضة شعبية، رغم ما تلقاه من تأييد ورعاية في أوساط الأحزاب التي تتكوّن منها قوى الحرية والتغيير بدعم أمريكي.

لكن الصراع، مهما كانت طبيعته، سواءٌ أكان ذلك من أجل الموارد أم من أجل السلطة، يبدو استكمالًا لعملية تفتيت السودان وتقسيمه، بعد انفصال جنوبه عام 2011. كما يهدف الصراع إلى إعادة رسم خرائط الجغرافيا السياسية والنفوذ، للدول التي تطل على السودان أو تشاركه الإشراف على البحر الأحمر، شريان نفط الخليج العربي الأساسي العابر نحو أوروبا، وهو يشهد منذ اندلاع حرب اليمن في آذار/مارس 2015، فصلًا لم يكتمل للسيطرة على مدخله الأدنى في باب المندب ومواصلة تهميش الكتلة العربية على طول الممر حتى المتوسط، بينما تحتشد في مقلبه الأفريقي، بحجة مواجهة القرصنة، في جيبوتي قواعد وأساطيل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين.

السيناريوهات المرجحة

تواجه الحرب في الخرطوم لاءاتها الثلاث الجديدة: لا صلح لا تفاوض ولا حسم. والأرجح أنه لن يكون في وسع أي طرف حسم المواجهة عسكريًا في ظل ميزان القوى الحالي الذي يغلب في النهاية فرضية الحرب على احتمالات التسوية في ظل انسداد آفاق التفاوض. فالجيش الذي تعوّد القتال طوال تاريخه من الحروب في الإقليم البعيد في الجنوب، أو شمال كردفان، أو دارفور، لا يملك الخبرة، ولا الأسلحة الضرورية، ولا القدرة على الحسم في قتال الشوارع، داخل مدينة مكتظة كالخرطوم، بسبب تعطل قدرته على استخدام ورقة قواته الجوية، أو التوسع في القصف المدفعي أو سلاح الدبابات، من دون التسبب في مجازر مروّعة في صفوف المدنيين، داخل العاصمة التي يكتظ في أحيائها، عشرة ملايين سوداني.

وقد تتوصل قوات الدعم السريع إلى إضعاف الجيش في قتال الشوارع من خلال حشدها خمسين ألف مقاتل، خبر الكثيرون منهم تكتيكات حرب المدن، والصحراء، والأدغال، من خلال مشاركتهم في حروب مالي، والتشاد وليبيا، ودارفور، واليمن. وكأغلب الجماعات المقاتلة في الساحل الأفريقي يتمتع هؤلاء بالقدرة على التحرك بسرعة، والانقضاض على الجيش في مواقعه ومقارّه الثابتة، فوق شاحنات خفيفة وسريعة، مزودة باحتياطي من الوقود، وأسلحة مضادة للطائرات والدبابات، ورشاش ثقيل، وعدد قليل من المقاتلين، قادرين على إشغال الجنود السودانيين الـ150 ألفًا. وإذا كان الجيش يملك خزانًا احتياطيًا من مئة ألف جندي، ويستند إلى قاعدة وطنية متنوعة تتمثل بقياداته أبرزُ الجماعات السودانية من قبائل وأعراق إسمنتُها اللاصقُ الإسلام؛ فإن الدعم السريع يستند إلى تجانس عربي وامتداد قبلي قاري يتجاوز السودان، إذ تنتمي أكثرية المقاتلين فيه إلى عرب دارفور من قبائل الرزيقات والمحاميد، وشمال كردفان، والخرطوم، التي أدّت دورًا كبيرًا خلال حكم البشير في حروب دارفور وارتكبت، تحت اسم الجنجاويد، مجازر مروعة بحق سكان الإقليم. وفي وسع هذه المجموعة، ولا سيما الرزيقات، تجنيد ٣٠٠ ألف مقاتل، بفضل انتشار فروعها في التشاد المجاور، حيث يدعم كتائبهم الرئيس محمد إدريس دبي الرزيقي الأُم، وفي ليبيا التي انضم عشرون ألفًا منهم إلى القتال إلى جانب قائد الجيش الوطني المشير خليفة حفتر. كما ينتشر عديدهم في مالي، والنيجر، التي يرأسها الرزيقي محمد بازوم.

إن أقل السيناريوهات ضررًا وخطرًا على مستقبل السودان هو إضعاف قوات الدعم السريع، وإلحاقها بحرس الحدود بعيدًا من الخرطوم. ذلك بأنها تمثّل خزان الكتلة العربية في السودان الذي يمثل أربعين بالمئة من سكانه ويتمثل أيضًا بالرزيقات والمحاميد، وقد تؤدي هزيمتهم من دون حل سياسي، إلى المزيد من إضعاف الكتلة العربية في تركيبة قبلية سودانية هشة، لأن الخيار الآخر الذي يتمثل بهزيمة أو إضعاف الجيش، الذي يمثل «السودانية» الوطنية، سيقود حكمًا إلى انفراط عقد ما تبقى، أو ما كان يسمى يومًا ما السودان، الذي يضم أكثر من 500 قبيلة وإثنية تتفرع في البلدان المجاورة، وهو ما سيدفع السودان نهائيًا نحو محارق الحرب الأهلية، دونما نهاية.