بماذا سوف يصف المؤرخون في المستقبل عام 2014؟

هل يصفونه بأنه أسوأ عام مر على الأمة العربية كما قال د. نبيل العربي الأمين العام لجامعة الدول العربية؟

أم يصفونه بأنه أكثر الأعوام دموية على مدى 45 سنة كما ذكر جيمس كلابر رئيس مجلس المخابرات الأمريكي في شهادته أمام الكونغرس؟

ومبعث هذا التقييم أن هذا العام شهد إعصار انفجار الحروب المذهبية والطائفية داخل البلد الواحد وعبر الحدود، وأنه عام استمرار تفكك السلطة المركزية للدولة وسيطرة الفاعلين المسلحين من غير الدول من أمثال التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة.

أم ربما سوف يسجل المؤرخون أن هذا العام – رغم قسوة أحداثه ومرارتها – وضع الأساس لوعي عربي جديد بأن الأوضاع القائمة والسياسات المتبعة هي التي قادت إلى هذا المشهد الدامي، وأن يكون هذا الوعي بداية لتحرك على طريق التكامل وتجميع عناصر القوة العربية.

والحقيقة، أن عام 2014 لم ينشئ شيئاً من عدم، وأن ما شهده من أحداث وتطورات هو استمرار وحصيلة لتراكمات ما حدث في الأعوام السابقة. جاءت وقائع 2014 تتويجاً للسياسات التي اتبعتها أغلب الحكومات العربية على مدى عقود: سياسات الاقصاء السياسي والاجتماعي، والتضييق على المجال العام وعلى الحريات المدنية والسياسية، والتنمية الاقتصادية المشوهة والاعتماد على القطاعات الريعية، واستمرار حالة الانكشاف الاقتصادي على الخارج بما يترتب عليه من اعتمادية وتبعية، واتساع الفجوة في توزيع الدخل والثروة بين الأغنياء والفقراء، واستمرار التدهور في أوضاع التعليم والصحة وغيرهما من الحاجات الأساسية بما يترتب على ذلك من تراجع رصيد رأس المال الاجتماعي في هذه البلدان.

لم تكن هناك مفاجأة في أحداث 2014 وجلّها كان له أصول وجذور تم رصدها وتسجيلها في كتب «حالة الأمة العربية» السابقة.

– 1 –

يثير الفصل الأول بعنوان «النظام الدولي: هل انتهت حقبة الهيمنة الأمريكية في الوطن العربي؟» قضية مستقبل النظام الدولي بعد نهاية الحرب الباردة ولا سيَّما في ظل تصاعد «الجدل» بشأن أهمية تغييره على نحو متوازن بما يحدد طبيعة علاقات القوة بين أطرافه، ونوعية الأطر والقواعد والمعايير المنظمة للتفاعلات بين عناصره.

وتزداد أهمية ذلك في ضوء مظاهر الاضطراب التي سادت تفاعلات النظام، والتي كان أبرزها الخروج عن نطاق القواعد والمعايير التي تنظم التفاعلات بين القوى المختلفة أو تجاهلها، والاستمرار في استخدام المعايير المزدوجة في تطبيق هذه القواعد، واستمرار البنية الهيكلية لمعظم مؤسسات النظام الدولي دون تطوير. وأيضاً في ظل ما شهده النظام من تغيرات خلال عام 2014 دلت على تزايد الجمع بين العوامل الجيوبوليتيكية والجيواقتصادية في سياق التفاعلات الدولية، وتصاعد قوة الفاعلين من غير الدول، واتساع نطاق الدول الفاشلة والأزمات العابرة للحدود، ونمو علاقات الاعتماد المتبادل بين القوى الدولية، وبروز تغيرات مهمة في سلوك الدول الكبرى تجاه البلدان العربية. وألقى ذلك كله بتأثيراته على الوطن العربي الذي اعتبره ريتشارد هاس «المرجل الرئيسي للفوضى المعاصرة» في العالم، وتحدث عنه كيسنجر بوصفه أكثر الأماكن تهديداً للاستقرار الدولي واحتمالاً لنشوب الصراعات والحروب الدينية.

ويطرح الفصل أن أكبر رابح من وضع النظام الدولي بشكله الحالي هو الصين التي استفادت من الخلاف الروسي – الأمريكي بشأن أوكرانيا ومن انخفاض أسعار النفط في تعزيز مكانتها الاستراتيجية، يليها روسيا التي دفعتها الضغوط الأمريكية والغربية إلى تقوية تحالفاتها مع القوى الدولية الكبرى والمتوسطة الأخرى. كما يدلل على أن أبرز الخاسرين من تفاعلات النظام هي البلدان العربية، وذلك بحكم تغيُّر شكل اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة في ظل تحوُّل واشنطن إلى أكبر منتج للنفط في العالم وسعيها لأن تحل محل العربية السعودية كموازن للسوق النفطي، وبفعل ازدياد التهديدات التي تتعرض لها من الفاعلين من غير الدول وعلى رأسها تنظيم داعش، ومن انجرار عدد كبير من أقطار المنطقة إلى الصراعات المسلحة والإثنية. أضف إلى ذلك التعاون الروسي – التركي في مجال الطاقة، والتوجه الأمريكي الغربي لبناء علاقات تعاون مع إيران، واستمرار تأييد وجهات النظر الإسرائيلية من جانب القوى الكبرى.

ثم يدرس الفصل التوجهات الرئيسية للقوى الكبرى وعلاقتها بتفاعلات المنطقة. فبالنسبة إلى واشنطن، ما زال الارتباك وقصور التعامل مع الأزمات الإقليمية وعدم تقديم رؤية استراتيجية في التعامل مع أزمات العالم هو الأساس.

في ما يتعلق بروسيا، فإن العام شهد محاولات عديدة لتعزيز مواقعها الاستراتيجية وعودة لممارسة دور فاعل في النظام الدولي، وذلك في ظل ما أسفرت عنه نتائج المواجهة مع واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي بشأن أوكرانيا، وقيامها بتعزيز علاقاتها مع الصين والمنظمات والمؤسسات الدولية والإقليمية في آسيا، وتعميق علاقاتها مع إيران وتركيا، وتوسيع تعاونها مع البلدان العربية بشكل جماعي أو من خلال العلاقات الثنائية مع مصر.

وواصلت الصين صعودها المخطَّط خلال العام مستغلةً حالة النظام الدولي المفكك؛ فالصين أكثر القوى استفادة من تراجع أسعار النفط، كما أن الصراع الروسي – الغربي أدى إلى تخفيف نسبي من الضغوط الغربية عليها، بل وحاول بعض الدول الأوروبية اجتذاب الصين أو على الأقل تحييدها في هذا الصراع من خلال الحوافز الاقتصادية.

من جانبه، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى إيجاد مساحة من الاستقلالية النسبية عن الولايات المتحدة من دون أن يعنى ذلك التعارض أو التناقض معها.

ويطرح الفصل في نهايته ستة سيناريوهات لشكل النظام الدولي دون ترجيح لأي منها: سيناريو انتهاء حقبة الهيمنة الأمريكية؛ وسيناريو إعادة إنتاج الهيمنة الأمريكية؛ وسيناريو الهيمنة البديلة بمعنى قيام قوة دولية أخرى بالحلول محل الولايات المتحدة؛ وسيناريو الهيمنة متعددة الأطراف بمعنى تقاسم وتوزيع مناطق النفوذ بين القوى الدولية الكبرى؛ وسيناريو الهيمنة بالوكالة بمعنى إسناد القوى الكبرى مهام الهيمنة والسيطرة والتحكم في الوطن العربي إلى قوى إقليمية أخرى غير عربية؛ وسيناريو رفض الهيمنة والمشاركة الإيجابية في بناء وتشكيل وإدارة النظام الجديد.

وينبه الفصل إلى أنه لا توجد علاقة ضرورية بين انتهاء الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي، وانتهاء تلك الهيمنة في الوطن العربي، إذ إن ذلك يتطلب شروطاً ينبغي توافرها. فهذه السيناريوهات تمثل احتمالات قائمة، ولا توجد حتمية تفرض تحقق أحدها؛ فالأمر يتعلق بالتفاعلات العربية والإرادة السياسية المتوافرة، فهناك سيناريو تتوافر الرغبة والإرادة لتحقيقه وسيناريوهات أخرى لا تتوافر بشأن ذلك.

– 2 –

تناول الفصل الثاني تطور الأوضاع الداخلية في دول الجوار الجغرافي، وهي: تركيا، وإيران، وإثيوبيا، ومدى تأثير هذا التطور في علاقاتها بالبلدان العربية.

دخلت تركيا العام 2014 وهي مثقلة بتأثيرات العام السابق داخلياً وخارجياً، والتي من أبرزها احتجاجات ساحة تقسيم وحديقة غيزي وفضيحة الفساد المالي، مع توقعات كبيرة بأن يؤدي ذلك إلى تراجع سلطة حزب العدالة والتنمية ولا سيَّما رئيسه ورئيس الحكومة رجب طيِّب أردوغان.

لم تتحقق هذه التوقعات؛ فعلى الصعيد الداخلي، استطاع حزب العدالة والتنمية أن يفوز في الانتخابات البلدية التي أجريت في 30 آذار/مارس 2014 بنسبة 47 بالمئة، ما يجعله مؤهلاً لترشيح رئيسه رئيساً للجمهورية، وهو ما حدث واستطاع أردوغان الفوز من الجولة الأولى. لم تأتِ هذه النتيجة مفاجئة، فقد رجحت استطلاعات الرأي ذلك، فبدلاً من نسبة 51.7 بالمئة التي نالها كانت تعطيه الاستطلاعات حتى 57 بالمئة. وكانت هذه النسبة كافية لفوزه بالرئاسة ولإعلانه استعداده للعمل على إدخال مشاريعه حيز التنفيذ، والتي في مقدمتها الانتقال إلى نظام رئاسي يُتيح له سلطات وصلاحيات أكبر.

من جهة أخرى، فإن تجربة اتفاق المعارضة على مرشح مشترك، وهو أكمل الدين إحسان أوغلو، لم تكن سيئة بل كانت أول محاولة للتحالف والتنسيق بين حزبين معارضين بوجه حزب العدالة والتنمية منذ 12 عاماً، وقد تؤسس لتحالفات مستقبلية في الانتخابات النيابية والبلدية مستفيدين من ثغرات التجربة الرئاسية.

وعلى الفور بدأت تحضيرات أردوغان لخلافته في الحزب والحكومة، وقام بتمهيد الطريق لـ أحمد داوود أوغلو لتولي هذا المنصب، حيث تغلبت الاعتبارات الشخصية والسياسية على اختيار أردوغان له بسبب تطابق رؤية الرجلين في أهمية السير بتركيا على أساس الموروث العثماني – السلجوقي.

واستمر صراع أردوغان مع فتح الله غولين، واعتبر العام 2014 عام تصفية ما سمّاه «الكيان الموازي»، حيث قام بتعديل القوانين وطرد الآلاف من أتباع غولين من مناصبهم ولا سيَّما في قطاعات الشرطة والقضاء والتعليم والإعلام. بالإضافة إلى ذلك، لم تصل عملية السلام بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني بزعامة عبد الله أوجالان إلى حل يرضي الطرفين ويحقق الاستقرار السياسي والأمني. وبالمثل، لم تشهد المسألة العلوية أي حلحلة أو تقدم. كذلك تواصلت محاولات تكميم الأفواه والتضييق على معارضي أردوغان اعتقالاً أو طرداً أو ضغوطاً.

وعلى الصعيد الخارجي، اتجهت العلاقات مع مصر في ظل رئاسة عبد الفتاح السيسي إلى مزيد من التدهور وردود الفعل الحادة إزاء نهج المواجهة الشاملة مع جماعة الإخوان المسلمين. كذلك تراجعت العلاقات التركية – الخليجية، ولا سيَّما مع كل من السعودية والإمارات. غير أن ظهور «داعش» وتمدده في العراق بعد سورية، وتشكيل التحالف الدولي ضد الإرهاب، مثّل عامل ضغط على تركيا في نظرتها إلى التطورات الإقليمية.

يمكن القول، إن العنوان الأبرز لحال السياسة الخارجية التركية في العام 2014 هو الأخذ بتركيا إلى مزيد من العزلة بل اكتمالها. وباستثناء العلاقة المميزة مع قطر، فإن علاقة تركيا متصدعة أو منهارة مع جميع البلدان العربية بلا استثناء. فما زال أردوغان يراهن على تحقيق مشروع «العثمانية الجديدة» (العثمانية + السلجوقية)، والتي تعني الاصطدام مع كل المكونات العرقية في المنطقة (ومنها العرب والأكراد والإيرانيون والأرمن وغيرها)، وكذلك الاصطدام مع المكونات الدينية غير المسلمة (ولا سيّما المسيحيين) ومع المكونات غير الإخوانية من شيعة وسُنة. وهنا بالضبط مكمن الخطر على تركيا نفسها، وعلى جيرانها، التي باتت تمثل في ظل نظام حزب العدالة والتنمية تهديداً للسلم والاستقرار في الداخل وفي المنطقة.

وواجهت إيران خلال العام 2014 تحديين استراتيجيين، ما بين التفاوض حول برنامجها النووي، واستمرار نفوذها في بلاد الرافدين، وذلك للحفاظ على دورها وموقعها في الشرق الأوسط. إضافة إلى ذلك، فقد شكل الاقتصاد عامل ضغط كبير على عشرات الملايين من الإيرانيين، نتيجة تردي حالة الاقتصاد والذي وصل إلى أسوأ حالاته عندما تسلم الرئيس روحاني السلطة، لذا رفع الرئيس شعارات الحوار والدبلوماسية، معتبراً أن الحوار مع هذا الغرب يمكن أن يفتح أفقاً للتعاون في المجالات كافة، ورفع العقوبات ما سيجعل الأوضاع المالية والاقتصادية أفضل كثيراً.

وقد تعرض الرئيس روحاني لانتقادات مزدوجة من الاتجاهين المحافظ والإصلاحي لأنه لم يتمكن من تحقيق تقدم كبير في المجال الاقتصادي باستثناء تقديم مساعدات مالية مباشرة إلى الإيرانيين، وذلك لأن المفاوضات مع الغرب لرفع العقوبات لم تكن قد أسفرت عن الوصول إلى اتفاق حتى بداية نيسان/أبريل 2015.

لذلك، لم ترغب إيران في إحداث تغيير في المعادلة الإقليمية في هذه الظروف فضلاً عن المعادلة الاستراتيجية في المواجهة مع الولايات المتحدة. واستمرت إيران في دعم النظام السوري، حيث لا تنظر إلى ما يجري في سورية باعتباره معركة داخلية فقط. فثمة هدف استراتيجي له الأولوية في هذه «المعركة» تقرأه إيران وهو هدف واشنطن وحلفائها تحقيق انتصار استراتيجي عليها.

ومع احتلال «داعش» الموصل في العراق في 12 حزيران/يونيو 2014 شعرت إيران بالقلق، حيث باتت «داعش» جزءاً من المشهد الإقليمي، ومن التوازنات الجديدة التي جعلت مصالح إيران وحلفائها موضع تهديد مباشر من ناحية، واشتراط الولايات المتحدة تغييراً حكومياً في بغداد لمحاربة التنظيم من ناحية أخرى، وهو ما اعتبرته إيران تهديداً مباشراً لنفوذها، من خلال إبعاد حليفها نوري المالكي. وفي النهاية، استجابت طهران للتوجه العراقي (والأمريكي) بشأن ضرورة إبعاد المالكي، والسعي لإقامة حكومة وفاق وطني.

كما شكل التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة لقتال «داعش» قلقاً إضافياً لإيران التي قررت تقديم المساعدات العسكرية المباشرة إلى حكومة العبادي، بالإضافة إلى الخبراء من الحرس الثوري، ولم يعترض أي من القوى الدولية على هذا الدور الإيراني في محاربة داعش. فكانت إيران إلى جانب القوات العراقية وقوات الحشد الشعبي تقوم بمواجهات ميدانية في المدن والبلدات التي احتلها التنظيم، وتمكنت تلك القوات من تحرير مناطق واسعة من أيدي داعش كان أبرزها استعادة مدينة تكريت.

كان من المتوقع أن يؤدي احتلال داعش للموصل في 2014 إلى تغيير معادلات التأثير والنفوذ في العراق، إلا أن الاستراتيجية الإيرانية أتاحت استعادة نفوذها الذي تراجع نسبياً وموقتاً بعد هذا الحدث، وخصوصاً أن الإنجازات الميدانية التي تحققت بدعمها المباشر ضد داعش، كانت أكثر من إنجازات التحالف الدولي ضد الإرهاب. لكن هذا لا يعني أن إيران ستشعر بالاطمئنان في المستقبل القريب، فلا تزال المنطقة من حولها مشتعلة، ولا يزال الصراع على سورية مستمراً، وعلاقاتها متوترة مع أكثر من دولة عربية، والشرق الأوسط والبلدان العربية في حالة من عدم استقرار موازين القوى، ومن الاستقطاب المذهبي والطائفي.

من جهة أخرى، فإن توقيع الاتفاق الإطاري مع الدول الكبرى لا بد من أن يعطي إيران قدراً أكبر من الثقة بذاتها.

وبالنسبة إلى إثيوبيا، فعلى مدى عام 2014 أخذت تروِّج ما أسمته دبلوماسية الطاقة، وذلك لحفز الداخل لتأييد مشروعاتها في ما يتعلق بتشييد السدود من ناحية، وتغري دول الجوار بتأييد سياستها لتحقيق مصالحها بتوفير الطاقة الكهربية لها من ناحية أخرى. وذلك في إطار سعيها إلى أن تكون قوة إقليمية «بذاتها» في محيطها بشكل يمكِّنها من فرض هيمنتها على بعض دول الجوار، وطمس هويتها العربية.

وتمثّلت أهم تطوراتها الداخلية، بالمضيِّ في بناء «سد النهضة» ومراوغتها لإطالة أمد المفاوضات مع دولتَي المصبّ مصر والسودان، وإعلانها من ناحية أخرى عن تشييد عدد آخر من السدود، وتدعّم من ذلك الوضع الاقتصادي، حيث تجاوز معدل النمو الاقتصادي بها في ذلك العام 10 بالمئة نتيجة تدفق الاستثمارات الأجنبية في قطاعات الزراعة والإنشاءات والصناعة التحويلية. وفي المقابل، لم تحظَ الأقاليم داخل الدولة بعوائد التنمية بشكل متساوٍ، وذلك نتيجة سيطرة الحزب الحاكم على مقدرات البلاد وتحويله عوائد التنمية إلى إقليم تيغراي الذي تنتمي إليه النخبة الحاكمة، على حساب سائر الجماعات الإثنية الأخرى، فضلاً عن اضطهاد المعارضة.

ووثقت إثيوبيا علاقاتها بدول الجوار، فدشنت مشروعاً للربط الكهربائي في مدينة القضارف السودانية، ومشروعات أخرى تتعلق بالربط بين البلدين بشبكة من الطرق السريعة، وسعت إلى جعل جنوب السودان جزءاً من مجالها الحيوي، حيث نشرت أكثر من أربعة آلاف جندي في أبيي على الحدود بين دولتي السودان وجنوب السودان، ودأبت لدمج جيبوتي لتصبح جزءاً من أراضيها، ووثقت علاقاتها بجماعة العفر المهيمنة على السلطة والتي لها امتدادات في إثيوبيا وإريتريا، ووقعت عدداً من المشروعات معها. كما نشرت أكثر من 4390 جندياً في قوة حفظ السلم التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال. وعلى الرغم من فترة التوتر التي سادت بين إثيوبيا ومصر إلا أن حجم الاستثمارات المصرية في إثيوبيا ارتفع ارتفاعاً ملحوظاً ليصل إلى مليار دولار خلال عام 2014، بينما استمر النظام الإثيوبي يتحسب من مصر، وشهد آذار/مارس 2015 تطوراً مهماً في العلاقات المصرية – الإثيوبية عندما وقعت إثيوبيا ومصر والسودان – على مستوى القمة – اتفاقاً للمبادئ من عشرة بنود هدف إلى التقريب بين وجهات النظر واعتراف كل من مصر وإثيوبيا بالحقوق المشروعة لكل منهما، والتشديد على المصالح المشتركة. ثم قيام الرئيس السيسي بزيارة إلى إثيوبيا في اليوم التالي كانت بمثابة بداية صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، وكان هذا هو المعنى الرئيسي الذي أكده الرئيس المصري في خطابه أمام البرلمان الإثيوبي.

كذلك وطدت إثيوبيا علاقاتها بدول الخليج ولا سيَّما دولتي الإمارات وقطر وإعلانهما عن إنشاء مشروعات استثمارية بها.

– 3 –

تناول الفصل الثالث أولوية تحدي الإرهاب الذي مثّل خلال العام 2014 المتغيِّر الرئيسي في فهم حال النظام العربي، وذلك نتيجة لما حققه تنظيم داعش في العراق وسورية وما سعى إليه في أقطار أخرى كليبيا ولبنان ومصر. وهو ما ترتب عليه تراجع لبعض القضايا مثل القضية الفلسطينية، وطرح قضايا جديدة كتكوين قوة عربية لمواجهة الإرهاب، وتدخل جامعة الدول العربية في نزاعات سياسية تدور داخل بعض أعضائها على نحوٍ لم يكن مألوفاً في السابق، فضلاً عن تزايد ظاهرة الاختراق الخارجي للنظام العربي على المستويين الإقليمي والعالمي.

وخلال هذا العام طرأت تحولات على خريطة الصراعات في الوطن العربي، حيث تحولت من غلبة الصراعات العربية والإقليمية إلى شيوع النزاعات والصراعات داخل البلدان العربية بشكل لافت، لتشمل معظم البلدان العربية، ولا سيَّما بعد محاولات التغيير التي حدثت في عديد من الأقطار العربية خلال 2010 – 2013. وبرزت صراعات غير مألوفة كما الحال في البعد الطائفي وبالذات على المحور الشيعي – السُّنِّي حيث يبدو ذلك جلياً في الحالتين العراقية والسورية وبدرجة أقل في الحالة اليمنية، وكذلك في البعد الديني الإسلامي والمسيحي نتيجة موقف التنظيمات بالغة التطرف التي تنسب نفسها للإسلام تجاه غير المسلمين. إضافة إلى ذلك بروز دور الفاعلين من غير الدول كما في قتال حزب الله في لبنان إلى جوار النظام السوري، وظاهرة داعش التي أعلنت دولتها على جزء من أراضي العراق وسورية، وحركة حماس المتهمة في مصر بدعم الإرهاب في سيناء.

وفي ما يتعلق بأنماط التحالفات العربية، فقد تعثر مجلس التعاون لدول الخليج العربية في التحول إلى اتحاد وهو المشروع الذي عرضه الملك عبد الله عام 2011، واستحوذ التقارب المصري – السعودي – الإماراتي – البحريني على اهتمام كبير، باعتبار أنه قد يكون مقدمة لظهور تحالف عربي قوي جديد ولا سيَّما عقب تشكيل التحالف العربي للتدخل العسكري في اليمن والمشاركة المصرية فيه منذ البداية.

وبالنسبة إلى جامعة الدول العربية، فقد وجدت نفسها مضطرة إلى اتخاذ مواقف تجاه التطورات الداخلية في عدد من البلاد العربية بما يخرج على مألوف سلوكها في ما يتعلق بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، حيث كانت الحالة الليبية هي الأولى والأسوأ من نوعها، إذ طلب المجلس الوزاري للجامعة من مجلس الأمن توفير غطاء جوي لحماية قوى المعارضة من البطش العسكري لنظام القذافي، أي أن مجلس الجامعة أقر بضرورة التدخل الخارجي في الحالة الليبية، لكنه أوكل تلك المهمة إلى المنظمة الدولية، في المقابل نأت بنفسها عن المطالبة بتدخل دولي في سورية، ربما لإدراكها خطأ ما فعلته في الحالة الليبية. أما الحالة اليمنية فقد وفّرت فرصة مثالية لتخطي مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية.

وتزامنت مع تفاقم ظاهرة الإرهاب في الوطن العربي فكرة القوة العربية الموحدة، حيث طلب الأمين العام للجامعة ضرورة تفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك، كما طرح الرئيس عبد الفتاح السيسي فكرة إنشاء قوة عربية موحدة باعتبارها ضرورة ملحة. وعلى الرغم من أن مناقشة هذه الأفكار باتت أمراً حيوياً بالنظر إلى تفاقم خطر الإرهاب في عدد من البلدان العربية واحتمال امتداده إلى المزيد منها وتهديده استقرارها وأمنها وسلامتها الإقليمية، إلا أن تفعيل معاهدة الدفاع قد تواجهها صعوبات، وبخاصة أن هناك من يعتبر حالات الإرهاب مسألة داخلية لا تنطبق عليها المعاهدة، كما أن المحاولات السابقة لإنفاذ المعاهدة قد واجهت صعوبات حقيقية تعود في أساسها إلى التمسك المفرط للنظم الحاكمة العربية بمفهوم السيادة الوطنية على حساب مفهوم الأمن القومي العربي، إضافة إلى غياب مفهوم «الدولة الوطنية الحديثة» بالمعنى المتعارف عليه في عدد من البلدان العربية، حيث وجود ازدواجية في السلطة في بعض البلدان ووجود سلطة فعلية غير شرعية في بلدان أخرى، ووجود تحدٍ حقيقي للسلطة القائمة في بلدان ثالثة. وكذلك الحال بالنسبة إلى فكرة إقامة قوة عربية مشتركة حيث يمثل علاقتها بمجلس الأمن والقواعد الواردة في ميثاق الأمم المتحدة بشأن استخدام القوة المسلحة إشكالية محددة.

من ناحية أخرى، كان لوسائل الإعلام العربية دور في إذكاء التوترات والخلافات والنزاعات بل والصراعات العربية – العربية، حيث شوَّهت المواد الإعلامية التي بثتها تلك الوسائل في سياق الأزمات المعقدة مفاهيم قومية أساسية وساعدت على تشويه الصور المتبادلة بين الشعوب العربية. وعلى سبيل المثال واصلت قناة الجزيرة دورها في إذكاء الخلاف بين مصر وقطر بسبب تأييد الأخيرة تنظيم الإخوان المسلمين بعد إطاحة حكمهم في مصر، إضافة إلى دور الإعلام في الخلاف المصري مع حركة حماس ولا سيَّما بعد حزيران/يونيو 2013، كما تسببت إحدى الإعلاميات المصريات في أزمة دبلوماسية بين مصر والمغرب.

ووفَّرَ عدم الاستقرار المتزايد ومخاطر التفكك التي ألمَّت بالبلدان العربية بيئةً مثالية لتفاقم الاختراق الخارجي – الإقليمي والعالمي – للنظام العربي، فكان تدفق مقاتلين أو مرتزقة إلى البلدان التي تعاني الصراعات (وبالذات في سورية وليبيا واليمن والعراق)، ذريعة لمزيد من تدخل بعض القوى الإقليمية واختراقها النظام العربي، وكان من شأن قرارات الجامعة العربية بخصوص ليبيا توفير التبرير القانوني والغطاء السياسي لتدخل حلف الأطلنطي فيها. كما أن النظام العربي يواجه بمشروعين إقليميين للهيمنة، حيث حقق أولهما وهو المشروع الإيراني نتائج محددة في كسب مواقع النفوذ في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن، وسعي ثانيهما وهو المشروع التركي للتغلغل في الوطن العربي عبر ما حققه من تقدم اقتصادي وطرح نفسه كنموذج للتنمية الاقتصادية والديمقراطية ينبغي الاحتذاء به.

وترتب على هذه التطورات التي شهدها العام 2014 تقويض ما بقي من أركان النظام العربي، غير أن استمرار تفاقم الأوضاع في النظام وبصفة خاصة على ضوء التصعيد الحوثي الأخير في اليمن قد هيّأ الظروف لاستجابات عربية جديدة تمثلت أساساً في «عاصفة الحزم» وموافقة القمة على إنشاء قوة عربية مشتركة بما يشبه الإجماع حيث لم يشذَّ عن هذا الموقف سوى دولتين وعلى أقصى الفروض ثلاثة.

انعقدت القمة العربية بشرم الشيخ – مصر في ظروف تهدد فيها السلام الإقليمي لعديد من البلدان العربية بشكل غير مسبوق، وكان تعاظم التحديات داخلياً وخارجياً له أثره الإيجابي على حسم القمة موقفها إزاء عدد من القضايا المهمة، أبرزها تأسيس عدد من قراراتها على مفهوم صيانة الأمن القومي العربي، والإشارة صراحة إلى حجم التهديدات والمخاطر التي تحيط به، وضرورة العمل العربي المشترك لمواجهتها، والحفاظ على كيان البلدان العربية وتكاملها الإقليمي.

– 4 –

بعد الانتهاء من تحليل أوضاع النظام الدولي، ودول الجوار الجغرافي، وتطورات النظام العربي ينتقل الكتاب ليدرس الأوضاع الداخلية في البلدان العربية فيتناول الفصل الرابع التطورات الدستورية والقانونية والسياسية في البلدان التي شهدت انتفاضات وثورات شعبية والتي عرفت باسم بلدان ما يسمى الربيع العربي، وهي تونس ومصر وليبيا واليمن، والتي شهدت استمراراً في التوجهات الرئيسية لما حدث عام 2013 وفي مسار إنشاء البنية الدستورية والقانونية المنظمة للعملية السياسية فيها.

فمن ناحية أولى، كان هذا العام – بحق – هو عام التطورات الدستورية في هذه البلدان، إذ أنجزت مصر وتونس دستوريهما وجرى الاستفتاء عليهما ودخلا حيز النفاذ، وإن كان تطبيقهما بالكامل يحتاج إلى إصدار مجموعة من القوانين وذلك حتى لا ينشأ فصام بين الدستور والواقع السياسي. وعلى حين أدى دخول جماعة الحوثيين العاصمة صنعاء إلى إسقاط مسودة الدستور اليمني التي كانت قد انتهت اللجنة المختصة بصياغته من إعدادها وسلمتها بالفعل إلى مدير مكتب رئيس الجمهورية، فإن تعقيدات الوضع في ليبيا حالت دون اكتمال مسودة الدستور أصلاً ما أدى إلى اكتناف مصير هذين الدستورين الغموض لارتباطه بطبيعة توازنات القوة بين الفاعلين السياسيين وبالاتجاه الذي يتخذه الصراع السياسي وتدخلات الجوار الجغرافي والقوى الدولية في التأثير فيه.

وارتبطت بتلك التطورات الدستورية حركة نشطة لإصدار الإعلانات الدستورية والقوانين في البلدان محل الدراسة، فتم فتح النقاش حول بعض مشروعات القوانين التي تنظم أنشطة قطاعات حيوية كالقوانين المنظمة للانتخابات التشريعية، وتأسيس الجمعيات الأهلية وعملها، أو التي تواجه ظاهرة متفاقمة كالإرهاب، فيما تواصلت الجهود لمحاولة تغيير بعض القوانين السارية من عام 2013 والتي ارتبطت بتنظيم ممارسة حقوق سياسية معينة كالحق في التظاهر.

ومن ناحية ثانية، ففي حين شهدت كل من تونس ومصر إجراء الانتخابات الرئاسية فيهما، إلا أن الأولى نجحت أيضاً في إتمام انتخابات مجلس النواب فيها في تشرين الأول/أكتوبر وفق نظام القائمة النسبية المغلقة بنسب تصويت عالية على حين أدى حكم المحكمة الدستورية العليا في مصر ببطلان قانون الانتخابات إلى وقف الانتخابات التي كان مقرراً أن تبدأ في آذار/مارس وإلى إعادة بحث قانون الانتخابات وقانون تقسيم الدوائر الانتخابية لتلافي العوار القانوني الذي أشار إليه حكم المحكمة. وفي حين أجرت ليبيا انتخاباتها التشريعية في حزيران/يونيو 2014، إلا أنه لم يتم حسم إعلان نتائجها إلا بخصوص 188 مقعداً من أصل 200 وذلك بسبب تعقيدات الوضع الأمني وتسارع وتيرة العنف السياسي. وجدير بالذكر أن انتخابات المجالس المحلية والبلديات لم تبدأ في تونس ومصر ولم تُستكمَل في ليبيا.

ومن ناحية ثالثة، تأكد في ٢٠١٤ تراجع حضور التيار الإسلامي (الإخواني تحديداً) في المشهد السياسي بعد أن دشنت الموجة الثورية المصرية الثانية هذا الاتجاه في عام ٢٠١٣. وفي ظل مثل هذا التراجع فإن المرشح لملء هذا الفراغ على الجانب الديني هو التيار السلفي – بتفرعاته المتعددة.

وفي حين تتأثر بشدة عملية التطور الديمقراطي في بلدان الربيع العربي بتصاعد موجة العنف السياسي وطرح أولوية الأمن على حساب الديمقراطية فإن إنهاء حالة الاستقطاب السياسي التي تشهدها تلك البلدان هو وحده الكفيل بتحقيق التوازن بين المكونين المذكورين.

– 5 –

إذا كان الفصل الرابع قد غطى بلدان الانتفاضات والثورات الشعبية، فإن الفصل الخامس تناول بقية النظم السياسية العربية مركزاً على أهم التطورات والتفاعلات السياسية الداخلية فيها من خلال سبعة محاور رئيسية:

أولها، التطورات الدستورية والقانونية ذات الصلة بالحياة السياسية؛ والتي ارتبطت، بصفة عامة، بتوسيع صلاحيات الهيئة المستقلة للانتخابات، وتعديل بعض المواد الدستورية، وإصدار قوانين جديدة لمكافحة الإرهاب، أو تعديل قوانين قائمة، وإصدار قوائم بالتنظيمات الإرهابية.

وثانيها، الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية التي شهدتها عدة بلدان عربية في ظل حالة من الاستقطاب السياسي، وترتب عليها قيام أحزاب وقوى المعارضة الرئيسية بمقاطعتها. فحدث هذا في الجزائر وموريتانيا والبحرين. كما أعلنت قوى وأحزاب المعارضة في السودان عن مقاطعتها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المزمع إجراؤها في نيسان/أبريل 2015. ويمثل مسلك مقاطعة الانتخابات دلالة مهمة مفادها غياب الاتفاق بين أهم الفاعلين على قواعد اللعبة السياسية، وهذه واحدة من المسائل الجوهرية ذات الصلة بعملية الانتقال الديمقراطي، فالتوافق حول القواعد والأطر المنظمة للعملية السياسية، والالتزام بها في الممارسة يعزز ثقة مختلف الأطراف فيها، ويمهد الطريق لتحقيق مبدأ التداول السلمي للسلطة. كما يُلاحظ أن مقاطعة الانتخابات من قبل قوى المعارضة وأحزابها في الحالات المعنية لم تؤثر في الاستحقاق الانتخابي بشكل جوهري، حيث لم ينجح المقاطعون في حشد قطاعات واسعة من الناخبين لتبنّي خيار المقاطعة. وفي الحصيلة، عَزَلَ المقاطعون أنفسهم وأصبحوا خارج المؤسسات المنتخبة. وبذلك فقدوا إمكان ممارسة التأثير السياسي من داخلها. ومن ناحية أخرى، فإنهم لا يمتلكون القدرة على تحدي النظم الحاكمة بشكل جدي من خلال الاحتكام إلى الشارع.

وثالثها، تفاعلات العملية السياسية، والتي كشفت عن أن هناك بلداناً عديدة، وبخاصة تلك التي تحكمها نظم جمهورية، تعاني في الوقت الراهن معضلة مزدوجة تتمثل بوجود نظم حاكمة مأزومة من ناحية، ومعارضة مبعثرة ومشتتة من ناحية أخرى. فالنظم الحاكمة، حتى وإن كانت تمتلك شرعية انتخابية أو شرعية الصندوق، تفتقر في الغالب إلى «شرعية الإنجاز»، والتي تتحقق من خلال قدرة النظام وفاعليته في مواجهة المشكلات والتحديات التي تواجه المجتمع، وتوفير الحد الأدنى من السلع والخدمات العامة للمواطنين، وفي مقدمها الأمن. وبالمقابل فإن قوى المعارضة تعاني التشرذم والانقسام، ما يحدُّ من قدرتها على التنسيق فيما بينها من أجل التأثير بفاعلية في المشهد السياسي، وطرح نفسها كبديل مقنع قادر على المنافسة في الاستحقاقات الانتخابية، ناهيك بغياب أو ضعف قدرة جل هذه القوى والأحزاب على تجديد خطاباتها الفكرية والسياسية.

وقد اقترنت بعض التفاعلات السياسية بتجارب وممارسات الحوار الوطني بين النظم الحاكمة والمعارضة على غرار ما حدث في البحرين والسودان وموريتانيا والجزائر، لكنها انتهت في الأغلب الأعم بالتعثر والفشل. ويمثل هذا الأمر عدة دلالات هامة منها: أن العلاقة بين السلطة والمعارضة في الغالبية العظمى من البلدان العربية تقوم على أساس المباراة الصفرية، وليس على أساس تقديم تنازلات متبادلة والقبول بحلول وسط. ويؤكد هذا عدم أو ضعف التزام القوى والأحزاب السياسية سواء في الحكم أو المعارضة بقيم الديمقراطية وقواعد ممارستها، ومن بينها القبول بالتعدد والاختلاف في الأفكار والرؤى والمصالح، واحترام إرادة الناخبين، واتباع أساليب التفاوض والمساومة من أجل حل الخلافات السياسية. ونتيجة لذلك غالباً ما يتحول الحوار بين السلطة والمعارضة إلى «حوار طرشان» وينتهي بالفشل. وعلى أية حال، فإن هذا الوضع لا يمكن فهمه بمعزل عن غياب أو ضعف ثقافة الديمقراطية في البلدان العربية من ناحية، وأزمة النخب السياسية سواء في الحكم أو المعارضة من ناحية أخرى.

ورابعها، أعمال العنف السياسي والإرهاب التي شهدتها معظم البلدان العربية بدرجات متفاوتة. والتي أكدت حقيقة الترابط والتداخل بين ما هو داخلي وما هو خارجي. فالتطورات السياسية والأمنية في عديد من هذه البلدان تأثرت بشكل واضح بما يجرى في بلدان أخرى، كما تأثرت ببعض التطورات الإقليمية والدولية. وعلى سبيل المثال، فإن الصراعات الداخلية الدائرة في الصومال والسودان ولبنان واليمن وسورية والعراق مثلا لا يمكن فهمها بعيداً من التدخلات الإقليمية والدولية، كما أن هذه الصراعات أثرت – وتؤثر – بدورها في التطورات السياسية والأمنية في بلدان عربية أخرى. فتمدد تنظيم «داعش» في كل من سورية والعراق، وشن حرب على التنظيم خلال عام 2014، كان – ولا يزال – له صداه السياسي والأمني في عديد من الأقطار العربية الأخرى. وتطرح هذه التطورات قضيتين مهمتين، هما: وجود أقطار عربية باتت مهددة بالانزلاق إلى مصاف الدول الفاشلة، بل إن بعضها مهدد بالتفكك ككيانات سياسية، وتمدد أدوار الفاعلين السياسيين من غير الدول الذين يمارسون العنف. وتُعد التنظيمات الجهادية الإرهابية العابرة لحدود الدول، وفي مقدمتها «تنظيم داعش»، التجسيد الأبرز لهذه الظاهرة. وتمثل القضيتان مصدراً لتغذية حالة تراجع أو انعدام الأمن والاستقرار في المنطقة.

وخامسها، المجتمع المدني وعلاقته بالدولة؛ إذ تتفاوت حالة المجتمع المدني من قطر عربي إلى آخر من حيث مدى فاعليته، وأبرز القضايا العامة التي ينخرط فيها، ونمط علاقته بالدولة. وعلى الرغم من وجود مثل هذه التفاوتات، إلا أن أداء المجتمع المدني في البلدان العربية موضع الدراسة اتسم في الأغلب الأعم بالضعف والهشاشة، لأسباب عديدة، منها ما يتعلق بالقيود السياسية والإدارية والأمنية المفروضة على هذه المنظمات، ومنها ما يتعلق بعلل ومشكلات ذاتية تعانيها تلك المنظمات، مثل: الخلافات والانشقاقات الداخلية، وعدم الالتزام بالديمقراطية في إدارة شؤونها، ونقص التمويل، وضعف القدرات المؤسسية والمهنية، والاعتماد الكامل لبعض المنظمات على التمويل الأجنبي، الأمر الذي يضعها في موضع التشكيك والمساءلة من السلطات الحاكمة.

وسادسها، العلاقات المدنية – العسكرية والتي شهدت مجموعة من التطورات، ففي لبنان، وبسبب حالة الفراغ الرئاسي، وكثرة التجاذبات والانقسامات السياسية والمذهبية الداخلية، بقي الجيش اللبناني، رغم تواضع قدراته العسكرية، المؤسسة الوحيدة المتماسكة في الدولة، والتي تجمع بين الطوائف المختلفة، وتقوم بدور بارز في التصدي لتنظيمات التطرف والإرهاب مثل تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة». وفي موريتانيا، حدث تطور مهم في بنية المؤسسة العسكرية مفاده تحولها إلى جيوش وألوية متعددة، وازدياد عدد الجنرالات والعقداء ما أدى إلى تشتت مراكز السلطة والسيطرة والقيادة داخل الجسم العسكري، وهو ما يضعف الدور السياسي للمؤسسة العسكرية. وفي الجزائر، يُعد الجيش تاريخياً من أبرز المؤسسات التي تؤثر في الشأن السياسي ولو من خلف الستار، إذ إن أي ترتيبات بشأن ملف الخلافة السياسية لا يمكن أن تتم بمعزل عن دور الجيش وتأثيره.

وسابعها، السياسات العامة، وما يرتبط بها من مشكلات وتشوهات سواء على مستوى صنعها أو تنفيذها أو تقييمها أو المحاسبة عن نتائجها. ويمكن التمييز بين مجموعتين من الأقطار العربية موضع الدراسة: من جهة، دول مجلس التعاون الخليجي ذات الوفورات والإمكانات المالية، التي تتفاوت في حجمها من بلد لأخر، الأمر الذي يمكنها من تمويل سياساتها العامة بحدود مقبولة في أسوأ الأحوال، ما يحقق نوعاً من الاستقرار في تقديم السلع والخدمات العامة لمواطنيها. ومن جهة أخرى، بقية البلدان العربية – باستثناء الجزائر – فليس لها هذه الميزة، ما يؤثر بالسلب في فاعلية سياساتها العامة في مواجهة المشكلات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها.

جدير بالذكر أن التحليل المقارن للأقطار العربية التي تتفاوت ما بين نظم ملكية، وأخرى جمهورية، يكشف عن اقتران التطورات السياسية الداخلية في الملكيات خلال عام 2014/2015 بحالة أكبر من الاستقرار فلم تشهد تطورات أو تقلبات حادة مقارنة بالجمهوريات. فعلى سبيل المثال، تمت عملية الخلافة السياسية في المملكة العربية السعودية بشكل سريع وسلس وهادئ، كما طبّعت حكومة حزب «العدالة والتنمية» علاقتها مع المؤسسة الملكية في المغرب بشكل لافت.

وبالمقابل يعاني لبنان شغور منصب الرئيس منذ أيار/مايو 2014، كما أن الانتخابات التي جرت في دول مثل الجزائر وموريتانيا تم مقاطعتها من قبل بعض قوى المعارضة الرئيسية وأحزابها، ناهيك بالانقسامات الحادة في صفوف النخبة السياسية في عديد من الجمهوريات. كما أن الملكيات كانت هي أكثر استقراراً من الناحية الأمنية مقارنة بالصراعات وحالات الانفلات الأمني التي تشهدها نظم جمهورية مثل السودان والصومال ولبنان وغيرها.

– 6 –

يركز الفصل السادس على تطور الأوضاع الاقتصادية في البلدان العربية في ارتباطها بالأوضاع السياسية، وتفاقم الصراعات المسلحة في داخل البلد الواحد وفقاً لما تم الوصول إليه في الفصول السابقة، وكذلك في ضوء انهيار أسعار النفط في عام 2014، وأثره في اقتصادات البلدان العربية المنتجة له. وبصفة عامة، فإن الاتجاهات التي رصدتها تقارير حال الأمة العربية في السنوات الأخيرة استمرت على نحو أساسي.

فعلى سبيل المثال، لا تزال بلدان مجلس التعاون الخليجي هي مركز النمو في المنطقة، ولا تزال حالات عدم الاستقرار السياسي والاضطراب الاجتماعي والنزاعات المسلحة تعوق النشاط الاقتصادي في غالبية البلدان العربية رغم ما قامت به المساعدات الخليجية في تعويض قدر من الآثار غير المباشرة المرتبطة بنقص تدفق الموارد في عدد من هذه البلدان، وعلى رأسها مصر خلال عامي 2013 و2014.

كما استمر الاعتماد على القطاع الريعي في الاقتصاد، وذلك بالرغم من انخفاض حصة الإيرادات البترولية من إجمالي الإيرادات من 74.8 بالمئة في 2012 إلى 71.5 بالمئة في 2013، فيحتل النفط أكثر من ثلثي الصادرات ونحو 80 بالمئة من إيرادات المالية العامة في المتوسط في البلدان الخليجية. وحتى بالنسبة إلى البلدان غير المنتجة للنفط، فقد برز فيها قطاع ريعي مثل الاعتماد على عائدات قناة السويس في حالة مصر وتحويلات العاملين في الخارج في حالات أخرى. وتوازى ذلك مع عدم الاعتماد على إيرادات الضرائب كمصدر للإنفاق العام بالرغم من زيادتها من 15.6 بالمئة من إجمالي الإيرادات في 2012 إلى 17.1 بالمئة في 2013.

كما استمرت أوضاع الانكشاف الاقتصادي على الخارج مع ارتفاع إجمالي الدين العام الخارجي للبلدان العربية ولجوء العديد منها إلى الاقتراض الخارجي لتمويل العجز المالي، وزاد من حدة هذه المشكلة اسـتمرار السياسة المالية المتحفظة للدول الصناعية المتقدمة وخصوصاً منطقة اليورو ما انعكس في تراجع قدرتها على توفير مساعدات للبلاد العربية، وكذلك انخفاض سعر صرف الدولار الأمريكي مقابل كل من اليورو والجنيه الاسترليني بما أثر في ارتفاع قيمة المديونية باليورو والإسترليني عند تقييمها بالدولار الأمريكي.

واستمر فشل السياسات العامة في الوفاء بالخدمات الأساسية للمواطن. ففشل أغلب البلدان العربية في توفير فرص عمل للشباب نتيجة لتدني جودة التعليم، ونقص المهارات اللازمة لدخول سوق العمل والمنافسة فيه، والترهل الإداري وضعف الطاقة الاستيعابية للقطاع الخاص. ويرجع هذا الوضع في القطاع الخاص إلى ما يواجهه من تحديات تتعلق ببيئة الأعمال، ووجود تشوهات في سوق العمل المحلية كما في حالة البلدان الخليجية التي تزيد نسبة العاملين الأجانب بها.

وأدى ذلك إلى تنامي القطاع غير الرسمي والتوظيف الذاتي في اقتصاد الكفاف في البلدان العربية الأقل نمواً مثل السودان والصومال واليمن وجيبوتي، واتسام الدول الأكثر تنوعاً في اقتصاداتها مثل لبنان ومصر والأردن وتونس والجزائر والمغرب بفائض عمالة نتيجة عدم نمو الناتج المحلي بمعدلات تسمح باستحداث فرص تشغيل. وصاحب ذلك ارتفاع معدلات الفقر والفقر المدقع بدءاً من عام 2012 في بلدان المشرق العربي نتيجة الأثر المباشر والفوري للنزاعات والاضطرابات السياسية على آفاق التنمية، وليسجل أعلى مستوى له في البلدان العربية الأقل نمواً بنسبة 21.6 بالمئة في 2012 بعد أن كان 13.9 بالمئة في عام 1990، وعدم التوزيع العادل لثمار التنمية وللثروات على قطاعات السكان، وخاصة في ريف مصر، والمناطق الداخلية في تونس. وألقى كل ذلك بتبعاته على مجال العدالة الاجتماعية والفرص المتساوية للفقراء ومحدودي الدخل في الاستفادة من الخدمات الصحية والمياه.

وكان للأوضاع السياسية تأثيرات بالغة في أداء الاقتصادات التي تشهد حروباً داخلية وانتشاراً لأعمال العنف (سورية – العراق – اليمن – ليبيا)، فنتيجة لهذه التطورات، تزايد عدد النازحين في داخل البلدان العربية وإلى خارجها، ليصل إلى 7.2 ملايين نسمة في عام 2013 يوجد غالبيتهم في بلدان المشرق العربي. من جهة أخرى، واجهت الدول المستضيفة للاجئين تحديات اقتصادية جمة خاصة أنها لم تكن مهيأة للوفاء بأبسط حوائج الحياة لهم، ما دفع اللاجئين إلى قبول العمل بأجور أقل وبظروف أكثر قسوة وأقل من نظرائهم في الدول المضيفة، وهو ما خلق مزيداً من الضغط على الأداء الاقتصادي والتماسك الاجتماعي والاستقرار الداخلي فيها.

ويظل التحدي الأكبر في عام 2015 هو قدرة البلدان الخليجية على تنويع الاقتصاد فيها بدلاً من الاعتماد المفرط على النفط، واستطاعة البلدان العربية المستوردة للنفط تعزيز وضع موازين مدفوعاتها في ظل هذا الانخفاض، ونجاحها في وقف التراجع في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الواردة إليها.

– 7 –

يعرض الفصل السابع لأوضاع الشباب العربي بوصفه القوة المؤثرة في المستقبل العربي، والذي أسماه كاتب الفصل «رأس المال العربي المدفون» أو «مخزون النفط» الحقيقي للبلدان العربية، وانطلق من ازدياد الدور الذي بات يؤديه الشباب في المجتمعات العربية في المطالبة بالتغيير والإصلاح/الثورة، ومن تزايد الضغوط المفروضة عليهم بعد 2011 بفعل تزايد التحديات الداخلية والخارجية التي تتعرض لها البلدان العربية.

ويحلل الفصل أوضاع الشباب العربي الذي يشكل نحو 20 بالمئة من إجمالي عدد السكان في البلدان العربية، وهي النسبة الأعلى في العالم مقارنة بالبلدان المتقدمة التي يشكل الشباب فيها 13 بالمئة فقط، وأن غالبية هؤلاء الشباب يعانون، من ناحيةٍ، ازدياد معدلات البطالة والفقر وتدني معدلات التعليم التي أدت إلى ازدياد اغترابهم على شاشات إلكترونية صماء، ووقوعهم فريسة للتيارات المتطرفة والإرهابية، ودفع بعدد كبير منهم إلى التفكير في الهجرة إلى الخارج؛ غير أنهم ينخرطون، من ناحية أخرى، في حركة عالمية واسعة بفعل الازدياد المضطرد في استخدام الإنترنت والشبكات الاجتماعية ولا سيَّما في بلدان الخليج.

ويدرس الفصل البنية الدستورية والقانونية المتعلقة بتمثيل الشباب، فظهر اتجاه في الدساتير العربية التي وضعت بعد عام 2011 على تخصيص نسب لتمثيل الشباب في المناصب التشريعية والتنفيذية فيها. وتم تصعيد عدد منهم لتولي مناصب قيادية في مؤسسات الدولة في النظم الجمهورية أو في زيادة دور الأمراء الشباب في النظم الملكية. وعلى مستوى الإطار التنظيمي المعني بشؤون الشباب يوجد في البلدان العربية 13 وزارة خاصة بالشباب والرياضة، و6 مجالس وهيئات خاصة برعاية الشباب، و3 وزارات يقع الشباب ضمن اختصاصها، كما توجد لجان معنية بقضايا الشباب في الهيئات التشريعية والنيابية. ولوحظ أيضاً ازدياد الاهتمام بوضع سياسة وطنية للشباب تماشياً مع هذا الاتجاه في دول العالم.

ويعرض الفصل بالتفصيل لكيفية تعامل النظم الحاكمة، وكيف أنها وجدت نفسها في «حيرة» في اختيار أسلوب التعامل الأمثل مع الحركات الشبابية والنشطاء الشباب، ومزاوجتها بين الاستيعاب والاحتواء من ناحية، والضغط والترهيب من ناحية أخرى.

ثم يدرس الفصل وضع الشباب في مؤسسات النظام العربي وتحديداً دور مجلس وزراء الشباب والرياضة العربي. فيشير إلى تصاعد الاهتمام اللفظي بتمكين الشباب في قرارات المجلس، وفي بيانات القمة العربية. غير أن ذلك الاهتمام لم يصاحبه جهد لترجمة الكلمات إلى واقع. ومن تحليل الأنشطة والبرامج التي يرعاها المجلس يلاحظ أنها تتسم بالتكرارية والنمطية وافتقادها بوصلة مرجعية، وبخاصة في ظل عدم مشاركة الشباب في تصميم هذه البرامج وتنفيذها، وسيطرة الحكومات على اختيار الشباب المشارك في هذه الأنشطة. مع ذلك تنبغي الإشارة إلى أن وثيقة السياسة العربية للشباب والرياضة التي أصدرها المجلس في 1983 – وعدلت جزئياً في 2001 – مثلت خطوة متقدمة في صياغة سياسة تتناول قضايا الشباب من مختلف جوانبها، وكانت سابقة لصدور وثائق مماثلة في بعض البلدان العربية. في هذا السياق، جرت محاولات لإدخال تمثيل شبابي على مستوى المجلس وفي اللجان الفنية التابعة له ولكنها لم تكلل بالنجاح. من ناحية أخرى، فإن الأنشطة الشبابية التي نظمها المجتمع المدني العربي اتسمت باتساع مساحة الحرية والابتكار وبدور أكبر للشباب في تصميمها وتنفيذها، ومن هذه الأنشطة مخيم الشباب العربي الذي ينظمه المؤتمر القومي العربي مرة كل عامين.

أما بالنسبة إلى دور الشباب في المستقبل فإن الفصل يصل إلى نتيجتين أساسيتين: الأولى أن أوضاع الشباب العربي يسودها، ورغم التقدم المحرَز في بعض الجوانب، حالة من الإحباط الناتج من وجود عدد من التحديات المتعلقة بالأوضاع الداخلية، وفي البيئة المؤسسية لأجهزة النظام العربي الخاصة بالشباب، وفي بروز قضايا جديدة لم تكن موجودة من قبل، وأهمها قضية التطرف والإرهاب وانجذاب الشباب لتنظيمات تتبنى هذه الأفكار وتعمل خارج مظلة الشرعية. والثانية، أن هناك فرصاً يمكن استثمارها أهمها إدراك قيادات النظم الحاكمة لصعوبة إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام 2011، وذلك في ضوء التقدم الهائل في وسائل الاتصال والمعلومات، والتغييرات المحتملة في بنية هذه النخب خلال السنوات المقبلة، وتأثيرات العولمة وازدياد انفتاح الشباب العربي على الحركات الشبابية في العالم الداعية إلى الإصلاح والتغيير والديمقراطية. المطلوب أن تدرك النخب الحاكمة أن خط الدفاع الأول عن استقرارها هو صياغة عقد اجتماعي جديد بينهم وبين الشباب يقوم على تعميق مبادئ الحكم الرشيد والديمقراطية وتمكين الشباب.

– 8 –

ويشمل القسم الثالث من الكتاب فصلين يتعلقان بالجوانب العلمية والتكنولوجية في الوطن العربي. فيدرس الفصل الثامن حالة العلم والتقانة في البلدان العربية، موضحاً دور العلم في تحقيق التنمية الشاملة وصيانة الأمن، فيشير إلى القضايا العلمية التي تؤثر في الاقتصاد القومي الشامل والأمن القومي العربي، والتي تمثل أحد التحديات الكبرى أمام تلك البلدان نظراً لعدم إدراكها الارتباط الوثيق بين العلم وسيادة الدولة وأمنها. وهو الأمر الذي فطنت إليه الدول المتقدمة، فقامت بتخصيص مبالغ طائلة للبحث العلمي، إذ تنفق الولايات المتحدة والصين واليابان سنوياً أكثر من تريليون دولار على البحث والتطوير، في حين أن البلدان العربية التي يفوق عدد سكانها على سكان الولايات المتحدة أو اليابان لا تنفق سنوياً سوى بضعة مليارات من الدولارات في هذا المجال.

إلى جانب الدعم المالي، يحتاج النشاط العلمي الناجح إلى دعم حكومي ومجتمعي، حيث ترتكز مخرجات وفاعلية المؤسسات البحثية على الانفتاح على العلم، والتعاون الدولي، والانخراط السياسي والاجتماعي في مجال البحث والتطوير، وتوفير النظم الإدارية المناسبة لدعم المؤسسات العلمية. وهو ما افتقرت إليه البلدان العربية، وتسبب في تخلفها عن باقي الدول المتقدمة. فعلى سبيل المثال، لم يقم أي بلد عربي بتأسيس منظمات علمية وطنية تمكن علماءها واقتصاداتها من الاندماج العضوي في النظام العالمي، إذ يشارك العلماء العرب كأفراد على نحو واسع في الأنشطة البحثية في الدول الصناعية، ولكن لا يجري إدماج قدراتهم ومهاراتهم في الاقتصاد الوطني والاقتصاد العربي.

وينبه الفصل إلى أن الدول التي تدعم البحث العلمي تستفيد منه في سائر المجالات: الاقتصادية على صعيد إنتاج الغذاء؛ والوضع الصحي؛ والقدرة على مكافحة الأوبئة؛ والقدرات العسكرية؛ وظروف الحياة؛ وفرص العمل؛ وجودة التعليم، لكن البلدان العربية فشلت في اعتماد العلم كأساس لمصدر قوتها. فعلى الرغم من امتلاك بلادها موارد طبيعية ضخمة وتمتعها بإرث ثقافي عظيم، فإنها مقسمة ومشتتة في نواح متعددة، وغير قادرة على التوحُّد من أجل المصلحة العامة. إضافة إلى ذلك فهي غير قادرة على السيطرة على مواردها لأنها لا تملك الأسس العلمية اللازمة.

ومن أبرز الأمثلة على ذلك، عدم إيلاء الاهتمام الكافي لقضايا إدارة المياه والموارد المائية رغم أن تكنولوجيات إعادة ملء الطبقات الصخرية المائية بالماء وإدارتها وتحسين استخدامها معروفة ومتداولة والمهارات في هذا الخصوص منتشرة على نحو واسع. كذلك فإن الاستثمارات الصناعية العربية لم تسهم في تنمية العلوم والهندسة المحلية ومنظماتها نظراً إلى عجز السياسات، التي تعتمد على العمالة الأجنبية والمقاولين الدوليين من دون جهود منتظمة لبناء القدرات المحلية، عن تمكين البلدان العربية من الاستفادة من استثماراتها الوطنية ومن توفير فرص العمل لمواطنيها. وأيضاً تدنّت المعايير الأكاديمية للجامعات العربية على الرغم من تزايد عددها ليصل إلى أكثر من 500 جامعة في 2014.

وعلى صعيد الأمن القومي، يستطيع العلم أن يوفر للمجتمع القدرة على تأمين الأدوات والموارد الضرورية للحفاظ على التقدم والأمن. إذ يمكنه تقديم مساهمة كبيرة في تنمية البلدان العربية باعتماد منهجية حل النزاعات، وبتشجيع استخدامها للتوصل إلى حلول للصراعات بين هذه البلدان. ولكن عليها أن تسعى للخروج من حالة التبعية التقانية وأن تتجه نحو تحديث مجتمعاتها الصناعية وتوطين تقاناتها، وأن تقوم بتنمية مهارات متقدمة وعلى مستوى عالمي في القضايا المالية واندماج الشركات والتنافس الإبداعي والتجديدي. وهو ما يمكن تحقيقه من خلال، سياسات التحويل الجذري للمناطق الريفية والحضرية، وسياسات خلق فرص العمل لاستخدام الموارد الطبيعية ورأس المال البشري بصورة منتجة، وتحسين القطاع الزراعي على نحو متسارع من أجل توفير الحاجات الغذائية بأسعار أقل، وتوفير المياه النظيفة ونظم الصرف الصحي الآمنة لتأمين حياة صحية ومنتجة للقوى العاملة.

ويصل الفصل إلى أن تبنّي سياسات عربية موحدة للتعامل مع هذه الأنشطة من خلال التعاون المشترك يجب أن تكون مفيدة لكل البلدان العربية. فالألمينيوم المصنّع في إحداها، على سبيل المثال، يمكن مبادلته لتصنيع مكونات البناء لصنع النوافذ والأبواب في بلدان عربية أخرى. وبعض البلدان قد تكون مجهزة أكثر من غيرها لتصنيع معدات البناء المعقدة في حين أن أخرى قد تكون أفضل في إنتاج المواد الخام. ومن ثم، سيؤدي ذلك التعاون إلى سد الحاجات العربية المحلية، إذ قد تصبح المنطقة العربية موطناً لنحو مليار إنسان مع نهاية هذا القرن.

– 9 –

ويقدم الفصل التاسع عرضاً للحالة الرقمية في الوطن العربي، وذلك من خلال دراسة خمسة موضوعات.

أولها: واقع بيئة المعلومات والاتصالات العربية، و يركز على مستوى الجاهزية الإلكترونية التي تتحدد درجاتها بمجموعتين من المؤشرات، هما: مؤشرات البنية التحتية للشبكات والمعلومات ومؤشرات القدرات والمهارات البشرية، والتي ترتبط بالأساس بحجم الموارد الاقتصادية والمالية للبلد، ولذلك تحتل بلدان الخليج العربي موقع الصدارة في هذا الشأن.

وثانيها: مستويات انتشار الإنترنت وخدماتها، والتي تتوقف على وفرة البنية التحتية الاتصالية، ومستوى إقبال المواطنين على الإنترنت، ووفرة بوابات الوصول إليها، وسعة الحزمة المعلوماتية التي توفرها خوادم الإنترنت. وفي هذا المجال، توجد مستويات مرتفعة في أعداد مستخدمي الإنترنت في الوطن العربي، ولا سيَّما في بلدان الخليج، مقارنة مع الكثير من بلدان العالم.

وثالثها: الحضور العربي في فضاء المعلومات، فقد حدثت ثورة هائلة في حجم الاستخدام العربي لمواقع التواصل الاجتماعي، ويأتي في مقدمها موقع «Facebook» الذي تتقدم فيه مصر على بقية البلدان العربية في أعداد المستخدمين (13 مليوناً)، وتليها السعودية (5.5 مليون)، فالمغرب (5.2 مليون). كذلك شهد موقع «Twitter» إقبالاً متزايداً، ولا سيَّما خلال الانتفاضات والثورات العربية، ووصل أعداد المستخدمين النشطين لهذا الموقع إلى 3.7 مليون مستخدم في عموم البلدان العربية بالربع الأول من عام 2013، وتبوّأ المغرّدون السعوديون المرتبة الأولى من حيث حجم المستخدمين بعد أن تجاوز عددهم 1.9 مليون مغرّد. إلى جانب ذلك، شاع استخدام المدوّنات الرقمية في البلدان العربية، إذ وفرت للمستخدم بيئة سهلة ومرنة لنشر الآراء والأفكار، وفرصة نشر الخطاب إلى دائرة واسعة جداً من المستخدمين، في ظل ارتفاع تكلفة الطباعة والنشر.

ورابعها: ممارسات وتطبيقات الحوكمة الإلكترونية لدى الحكومات العربية، إذ قامت بإنشاء مواقع لوزاراتها، ومؤسساتها المختلفة في فضاء الإنترنت. ثم تطور حضورها باتجاه إنشاء بوابات رقمية استودعت فيها الكثير من المواقع والخدمات الرقمية التي طرحتها هذه الحكومات. وتبوأت كل من الإمارات والبحرين والمغرب موقع الصدارة في مجال الحوكمة الإلكترونية مقارنة بباقي البلدان العربية.

وخامسها: مراجعة المحتوى الرقمي – العربي وتقييمه، من حيث كون المواقع العربية هي المنتج الأكبر للمحتوى الرقمي، يليها مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، ثم المنتديات العربية. أما بالنسبة إلى إنتاج مادة هذا المحتوى، فتتقدم مصر بإنتاجها الرقمي وتحتل المرتبة الأولى، وتليها العربية السعودية، ثم الكويت. ومن حيث موضوع المحتوى، يلاحظ تفوّق الموضوعات الثقافية والفكرية على بقية المواضيع الأخرى، حيث بلغ عدد صفحاتها 8.3 مليون صفحة، ويجيء بعدها العلوم الاجتماعية ثم الموضوعات القانونية والسياسية.

ويستخلص الفصل أنه رغم تزايد اهتمام البلدان العربية بمسألة المحتوى الرقمي العربي، وقيام المؤسسات العلمية العربية بعقد مؤتمرات لمعالجة هذه المسألة على المستويين التقني والاقتصادي، وظهور مشاريع تعنى بزيادة إنتاج المحتوى العربي وتبذل قصارى جهدها للارتقاء به كمّاً ومضموناً، فإن كل هذه المحاولات والمساعي لم تنجح في سد فجوة المحتوى الرقمي.

ويصل الفصل إلى أن أية خارطة طريق تهدف إلى الارتقاء بمسارات رقمنة وإثراء المحتوى العربي لا يمكن أن يُكتب لها النجاح على يد جهة واحدة، أو قطاع دون غيره، أو حكومة عربية دون أخرى، لأن حجم العمل المطلوب لتلبية متطلبات تنفيذ هذه الخارطة يتطلب جهداً استثنائياً، لا يمكن أن تضمن نجاحه جهة واحدة مهما توافر لها من إمكانات مادية وتقنية، وبشرية.

لذا فإن خارطة الطريق المأمولة ستكون بحاجة إلى جهد مؤسسي محكم يرتكز في أدائه على خطط قصيرة المدى وأخرى متوسطة المدى وطويلة المدى.

من أجل هذا فإن المعالجة المطلوبة تتطلب مراجعة نقدية لطبيعة الحضور العربي، وتحديد أهم الفجوات فيه. وبداية، فإن أهم ما تفتقر إليه منظومة رقمنة اللغة العربية ومادة المحتوى العربي هو غياب الرؤية العربية القريبة والبعيدة للتعامل مع المورد المعرفي والاقتصادي الجديد، وعدم وضوح طبيعة الآليات المناسبة للتعامل معه، وتشتت الأدوات المستخدمة في هذا البلد العربي وذاك، وحصر حجم التحديات التي تشخص أمامه، ما جعل المبادرات التي تتبناها البلدان العربية جزراً منفصلة لا تجمعها جسور التواصل المثمر، وتغيب عن ساحتها المعايير والثوابت التي تسمح لها بالاستفادة من المبادرات الجادة والطموحة التي تتبناها بلدان عربية أخرى.

– 10 –

ويتناول القسم الخامس الذي يدرس أهم حالات البؤر الساخنة في الوطن العربي ويتكون من خمسة فصول. فيدرس الفصل العاشر الأزمة الإنسانية في فلسطين وتفاقمها أمام التصلب الإسرائيلي وحالة الجمود السياسي، إذ يكاد يُجمع الفلسطينيون على أن عام 2014 كان من أسوأ الأعوام التي مرت على قضيتهم.

فقد شهدت بداياته فشل المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية التي كانت قد استؤنفت لمدة 9 أشهر منذ منتصف 2013 تحت الرعاية الأميركية، حيث راحت حكومة بنيامين نتنياهو تتهرب من المطالب الفلسطينية التي تم الاتفاق عليها، وقوبل ذلك بطلب الفلسطينيين عضوية عدد من المنظمات والمعاهدات الدولية. ومن ثم، سعت واشنطن إلى تخفيض سقف الأهداف تحت مسمى البحث عن «اتفاق إطار»، لكنها فشلت أيضاً في تحقيق هذا الهدف. وحاولت إسرائيل بمساندة الولايات المتحدة تمديد المفاوضات بعد انتهاء الأشهر التسعة، ولم يعارض الفلسطينيون ذلك، لكنهم وضعوا تسعة مطالب، على رأسها رسالة اعتراف من حكومة نتنياهو بأن حدود 4 حزيران/يونيو أساس لهذه المفاوضات، فضلاً عن إطلاق الدفعة الرابعة من قدامى الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وانسحابات من الضفة الغربية وغيرها، وهو ما لم تستجب له إسرائيل بالمطلق.

وفي أواسط العام، تم إبرام اتفاق للمصالحة الوطنية، ولا سيَّما بين حركتي فتح وحماس، لكنه لم يشق طريقه في التطبيق العملي، حيث ظهرت العقبات تباعاً أمام هذا الاتفاق، بداية من الاختلاف حول تشكيل حكومة التوافق، وظهور «المناكفات» بين الحركتين عقب إعلان الحكومة، نظراً إلى الأعباء الثقيلة التي تتحملها وعدم قدرتها على الوفاء بمعظمها، فضلا ًعن التحديات والعراقيل المفروضة على الحكومة من الجانب الإسرائيلي. وقد أفضى بقاء هذه العقبات على حالها إلى جدل واسع وتناظر شديدي اللهجة بين قطبي المصالحة، نتيجة بقاء كلٍّ من الحركتين مشدودةً إلى منظومتها الذاتية الفئوية، ومتطلعة إلى الفكاك من أسر العوامل الداخلية والإقليمية والدولية، مستبقة الطرف الآخر ومحاولة تسجيل نقاط لمصلحتها.

وبحلول منتصف العام أيضاً، اقتحم الاحتلال الإسرائيلي الضفة الغربية بحجة البحث عن ثلاثة مستوطنين مفقودين، وتلتْ ذلك أعمال استفزازية ضد الأقصى المبارك ورحابه المقدسية. وبعد شهر شنّت القوات الإسرائيلية عدواناً شاملاً على قطاع غزة استمر 51 يوماً، انتهى بكارثة إنسانية ومادية مروِّعة.

وقد تسببت الأحوال السياسية السلبية، وطنياً وخارجياً، في تفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، الهشة أصلاً، على كل القطاعات الفلسطينية في الوطن المحتل وبلدان النزوح؛ إذ توقفت عجلة الإنتاج المحلي في قطاع غزة بكاملها تقريباً، جرّاء الحصار الخارجي الذي ضاق إلى حد الاختناق، وكذا بفعل آلة الحرب الإسرائيلية التي دمرت كثيراً من الوحدات الإنتاجية. وأوغلت الضفة المحتلة في وضعية الاعتماد والعيش على المعونات الخارجية التي توظف لأغراض سياسية. ودخلت قطاعات من اللاجئين في نفق العوَز والفقر المدقع بعد غياب الأمن الشخصي والجماعي بالنسبة إلى غالبية منهم في الدول المضيفة غير المستقرة أمنياً وسياسياً. وكانت أكبر الأزمات في هذا الإطار، ما تعرض له سكان مخيم اليرموك في دمشق من حصار مطبق، حين اشتد القتال بين الجيش السوري والمعارضة ووصل إلى المخيم، الأمر الذي حال دون الحياة السوية في أبسط معانيها، ثم تكرر هذا الموقف في نيسان/أبريل 2015 نتيجة هجوم داعش على المخيم.

ويصْدق الوضع ذاته على الفلسطينيين تحت السيطرة الإسرائيلية منذ عام 1948، فعدا عن القوانين والتشريعات والقرارات المستهدفة لتصفية وجودهم والتضييق عليهم إلى أبعد الحدود، كان المشروع الأخطر والأكثر تداولاً في هذا العام ما عرف بمشروع يهودية الدولة، الذي أقره الكنيست الإسرائيلي في قراءة أولى. ومن المعلوم أن إقرار هذا المشروع بشكل أخير، يعني شطب حق العودة للاجئين، وتعريض شريحة فلسطينيي 1948 للممارسات العنصرية المبرمجة والمقننة، وصولاً إلى إخضاعهم لحالةٍ من «الأبارتيد».

وعلى الصعيد الدولي، شهد عام 2014 زخماً داعماً للاعتراف بفلسطين الدولة، بفضل اعترافات متتالية من خمسة برلمانات أوروبية، سبقها اعتراف رسمي من دولة السويد. فعلى الرغم من الطابع الرمزي لهذه الاعترافات، فإنها تنطوي على تعزيز ثقافة المجتمع الدولي في اتجاه قيام دولة فلسطين، وأنه لا ينبغي بعد ذلك سوى السعي الحثيث لتحرير هذه الدولة. لم يكن ذلك بالأمر اليسير الذي قد يتقبله الإسرائيليون، فقد اعتبروه خطراً على دولتهم، وأن عليهم التعامل بجدية مع هذه الاعترافات، انطلاقاً من كون أوروبا الشريك الاقتصادي الأول لإسرائيل، وأن الأمر قد يتطور إلى تجاوب منظمات وهيئات أوروبية أخرى مع الفلسطينيين.

من جانب آخر، ومع فشل المفاوضات، أعلن الرئيس محمود عباس أن الجانب الفلسطيني سوف يسعى لإعادة ملف استقلال دولة فلسطين إلى الأمم المتحدة. وشجعه على ذلك أن النطاقين الإقليمي والدولي كانا في النصف الثاني من العام مهيئين لتقبل الخطاب الفلسطيني، بخاصة مع توالي الاعترافات البرلمانية الأوروبية بالدولة الفلسطينية، ووضوح تأييد الظهير العربي للتحرك الفلسطيني، ورفض إسرائيل للخيار الفلسطيني معتبرة إياه خطوة أحادية الجانب. وانتهى الأمر بفشل القرار الذي تقدم به الجانب الفلسطيني في الحصول على الأغلبية اللازمة لمروره في مجلس الأمن يوم 30 كانون الأول/ديسمبر. وأحدث ذلك امتعاضاً لدى الجانب الفلسطيني دفعه إلى تعجيل التوقيع على 16 اتفاقية دولية بينها النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، منفذاً وعيده بهذا الخصوص. وبالفعل أصبحت فلسطين عضواً في المحكمة، وتتيح هذه الخطوة ملاحقة مسؤولين إسرائيليين أمام القضاء الدولي في الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني من احتلال واستيطان وهدم وعدوان واغتيال وسجن وتخريب.

يمكن القول إن العام 2014 فتح أبوابه على معركة تفاوض مريرة انتهت بالإخفاق في تحقيق التسوية، وأغلق أبوابه فيما تدور معركة دبلوماسية وسياسية وحقوقية، بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ويصعب معرفة الكيفية التي ستنتهي إليها.

– 11 –

يتناول الفصل الحادي عشر الوضع في سورية، حيث شهد عام 2014 المزيد من الإشكالات والأزمات المترافقة مع الاقتتال والتدمير والنزوح السكاني والتشرّد واللجوء.

فعلى صعيد التطورات السياسية والاجتماعية، وصل عدد الضحايا في سورية إلى أكثر من مليوني إنسان بين قتيل وجريح تصعُبُ معافاتُه، وأسفرت الأزمة خلال الشهرين الأولين من عام 2015 عن مقتل 10 آلاف شخص ما رفع حصيلة القتلى إلى 210 ألاف شخص. وتدهورت أوضاع اللاجئين السوريين في دول الاستضافة في ضوء الظروف القاسية والانتهاكات الجسيمة وضعف المساعدات الإغاثية الدولية. ذلك إلى جانب الإجراءات اللبنانية التي ضيّقت من لجوء السوريين إليّه، وفتح الحدود السورية – اللبنانية عبر جرود عرسال، عقب تدخّل حزب الله في الشأن السوري لمساعدة نظام الرئيس الأسد في استعادة معظم القلمون من سيطرة المعارضة بعد استعادته لمدينة القصير على نهر العاصي في ريف حمص، كلّ ذلك ساهم في زيادة الأزمة واستمراريّة إشعال نيرانها.

وفي حين كان الكثير من المراقبين يأملون نتائج إيجابية لمؤتمر جنيف 2 غير أنّ مسيرة المؤتمر وعدم توقف الاقتتال أثناء انعقاده ونتائجه، شكّل خيبةً كبيرة زادت الآثار السلبية لمستقبل سورية. وأعقب ذلك، إجراء انتخابات رئاسية على الرغم من عدم سيطرة النظام على جميع المناطق السوريّة، واعتراض المجتمع العربي والدولي على إجراء الانتخابات في ظلّ الظروف غير المواتية لانتخابات نزيهة وتعذّر تأمين مراقبة عربيّة أو دوليّة، وعدم وجود مرشّحين معروفين سياسياً وجماهيرياً، وترتب على ذلك فوز بشار الأسد. الأمر الذي أدّى إلى زعزعة أكبر في شرعيّة النظام، وإلى استقالة الأخضر الإبراهيمي من مهمته الدولية، وإلى غياب فاروق الشرع نائب الرئيس الأسد، والذي تحمّل مسؤولية الحوار مع أطراف المعارضة.

وعلى صعيد التطورات الاقتصادية والتعليمية، دخل الاقتصاد السوري في نفق مظلم جديد من حيث توقّف شبه كامل في عجلة الإنتاج الزراعي والصناعي، وتوقّف إنتاج النفط والغاز وتدمير أنابيب نقلهما، وتدنٍّ في سعر الليرة السورية، مترافق مع غلاء في التكلفة المعيشية وفقدان غالبية متطلباتها الغذائيّة والصحيّة. كذلك أصيب القطاع التعليمي بإصابات مروعة وتحوّلت الأبنية المدرسية إلى معسكرات وتحصينات وأصاب التدمير غالبيتها، فتدنّت نسبة الالتحاق بالتعليم الأساسي إلى أقل من 50 بالمئة ما سيؤدي إلى أميّة مخيفة في المجتمع السوري وإلى نتائج غير محسوبة، مع تدنٍ في مستوى التعليم الجامعي نتيجة خروج عدد كبير من الأساتذة الجامعيين إلى خارج البلاد أو إلى عدم قدرتهم على التنقل والوصول إلى جامعاتهم. فضلاً عن الهروب المتزايد للشباب خشية طلبهم لأداء خدمة العَلم العسكرية من خلال اللجوء إلى الدول المجاورة ومنها إلى الدول الأوروبية بمغامرات غير مأمونة العواقب عبر البحار.

وفي ما يتعلق بأطراف النزاع وأوضاعهم وتقلّباتهم وعلاقاتهم بحلفائهم كداعمين سياسياً ومالياً وعسكرياً من سلاح ومقاتلين، أعلنت حكومة الأسد، المدعومة من إيران وروسيا بشكل رئيسي، عن مساعدة عسكريّة من حزب الله اللبناني وقوات الحرس الثوري الإيراني، في العملية العسكرية التي تحاول فيها استعادة السيطرة على مناطق المعارضة في القنيطرة وحوران. ما دفع بالائتلاف المعارض إلى العمل على تقديم شكوى إلى مجلس الأمن الدولي للمطالبة بسحب القوات الإيرانية من سورية ومنع تدخّل القوات الأجنبية حفاظاً على مبدأ السيادة.

فقد ازدادت المعارضة بفصائلها المتعدّدة تشتّتًا بعد فشل جنيف 2 واستقالة الإبراهيمي وتكليف دي ميستورا ممثلاً للأمين العام للأمم المتحدة، واحتلال داعش لمحافظة الرقة وأجزاء من محافظتي دير الزور والجزيرة (الحسكة) ومع توقف دعم الولايات المتحدة الأمريكية ودول أصدقاء سورية للانشغال بالتحالف الدولي ضد داعش وتحرير عين العرب إضافة إلى المسألة الأوكرانية وتأثيراتها الأوروبية.

في حين يعيد البعض الآخر أسباب هذا التفتت في فصائل المعارضة إلى تدخّل الجهات الداعمة في تشكيلها وعملياتها، بعد خفوت تأثير تنظيم قوي معارض كان يمكن أن يشكّل مِظلةً سياسية جامعة وداعمة إغاثياً ومعاشياً وحمايةً وتسليحاً، كما كان ينتظر من المجلس الوطني مع بدء تشكيله.

بالإضافة إلى ذلك بات حضور الجيش الحر والحكومة المؤقتة التي شكّلها الائتلاف ضعيفاً جداً في الداخل السوري مقابل الفصائل وداعش وإن كان لدورهما شكل أكثر اعتدالاً وتحضّراً.

من جانب آخر، أدّى انتصار القوات الكرديّة على داعش واستعادة عين العرب (كوباني) بمساعدة طيران التحالف الدولي، إلى انتعاش مطالب الأكراد باستقلال ذاتي في شمال سورية على غرار إقليم كردستان العراق. وفي مقابل ذلك، تم الإعلان عن تشكيل تنظيم جديد باسم «الجزيرة عربية سورية» يهدف إلى الحفاظ على الوجه العربي السوري ووحدة الأراضي السورية كاملة.

أما في ما يتعلق بالجهود الدولية، فلم تتمكن أيٌّ من المبادرات السياسية العديدة، التي يأتي في مقدمها مبادرة «دي ميستورا»، ومجموعة قرطبة، ومؤتمر القاهرة، ولقاء موسكو، والقرارات الأممية، من إحراز تقدم ملموس بخصوص الوضع المأزوم في سورية. إذ يمكن أن توضع جميع المبادرات المطروحة في سياق تأكيدها على الحل السياسي وفق بيان جنيف 1 ووقف أعمال العنف والاقتتال والتدمير المروِّع.

وخلص الفصل إلى أن الخوف من تحوّل سورية إلى دولة فاشلة أصبح يتكرر على لسان الكثير من المحللين والمسؤولين، ومن ثم، فإن تفويت فرص حلّ الصراع بدءاً من قرارات مجلس الأمن غير الفاعلة وبيان جنيف 1 المختلف على تفسيره وفشل جنيف 2 إلى تسليم الكيماوي وتدخل القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب ووصول داعش – إضافة إلى جبهة النصرة – وسيطرتها على مناطق واسعة واقتتالها مع فصائل المعارضة جميعها. كلّ ذلك يؤشّر إلى نتائج سيئة ينتظرها الشعب السوري ودول الإقليم والعالم، وهو ما يحمّل الأقطار العربية أولاً، سواء في إطار الجامعة العربية، أو في إطار العلاقات العربية – العربية مسؤولية كبيرة خاصة أمام مخاطر ما يثار حول مشاريع التقسيم الطائفية التي تصبُّ في مجملها لمصلحة إسرائيل.

إن قراراً ملزماً من مجلس الأمن الدولي لإيجاد حلٍّ مُرْضٍ لجميع الأطراف وملزمٍ، ينهي حالة الاقتتال ويحافظ على وحدة سورية ويضمن تسوية عادلة لجميع الإشكالات الناجمة ويحقّق أهداف الشعب السوري وطموحاته في بلد ديمقراطي متطور متعايش في جميع مكوِّناته ومع أشقائه وجيرانه والعالم هو الهدف المرتجى.

– 12 –

ويناقش الفصل الثاني عشر تحديات استمرار الدولة العراقية، التي مرت خلال العام 2014 بتطورين رئيسيين حددا شبكة التفاعلات السياسية والأمنية فيها، فضلاً عن نمط علاقاتها مع القوى الإقليمية والدولية، وهما: تنظيم الانتخابات البرلمانية في 30 نيسان/أبريل، وإعلان تنظيم داعش عن قيام الدولة الإسلامية بعد سيطرته على الموصل في 10 حزيران/يونيو.

فمن ناحية، كشفت نتائج الانتخابات البرلمانية عن استمرار الطابع الطائفي للنظام السياسي في العراق، من حيث هيمنة القوى الشيعية عليها، رغم اختلاف الشخصيات الذين أتت بهم هذه الانتخابات، وهو ما يَعني أن مأسسة إجراء الانتخابات في العراق لن يترتب عليها بالضرورة تغير معادلة السلطة فيها خلال الفترة المقبلة.

ومن ناحية ثانية، كان إعلان قيام «الدولة الإسلامية» من قبل تنظيم داعش عاملاً محفزاً للقوى العراقية لتجنب الدخول في مرحلة من الشلل السياسي كما جرت العادة في الفترات التالية على الانتخابات البرلمانية، حيث عملت هذه القوى على التوصل لتوافقات فيما بينها عبّر عنها الاتفاق السياسي المبرم في 9 أيلول/سبتمبر على نحو سمح بتشكيل حكومة جديدة برئاسة حيدر العبادي تكون قادرة على مواجهة تنظيم داعش.

أما في ما يتعلق بالعلاقات الخارجية، فقد شهد العام 2014، تحسناً نسبياً في علاقات العراق مع دول الخليج، والولايات المتحدة، والتي اتجهت لدعم تشكيل الحكومة الجديدة، ومساندة حربها ضد تنظيم داعش، فضلاً عن اتساع النفوذ السياسي والاقتصادي والأمني الإيراني في العراق، بينما توترت العلاقات بين الحكومة المركزية وتركيا بسبب موقف الثانية من حكومة إقليم كردستان وحرصها على تعزيز العلاقات الاقتصادية معها.

ويستخلص الفصل أن تطورات الأوضاع الأمنية والسياسية في العراق خلال الفترة المقبلة ترتبط بقدرة حكومة العبادي على الالتزام بما ورد في الاتفاق السياسي، حيث يُعَدّ هذا الاتفاق «طوق النجاة» للدولة العراقية؛ فعدم التزام الحكومة ببنوده في ما يتعلق بمطالب القوى الكردية، سيجعل هذه القوى أقل تعاوناً مع الحكومة في حربها ضد داعش، وأكثر رغبة في تعزيز استقلال إقليم كردستان، كما أن عدم تطبيقه في ما يتعلق بتمثيل السُّنة في مؤسسات الدولة، سوف يؤدي إلى استمرار إقصاء واستبعاد أحد المكونات الأساسية للشعب العراقي ونمو حالة الغضب والرفض ما يجعل مجتمعاتهم بيئة مواتية لتنظيم داعش ونظائره، وبخاصة في ضوء ما تردد من تجاوزات و«قتل على الهوية» وإحراق لمنازل وتدمير لممتلكات ارتكبتها بعض مجموعات الحشد الشعبي في المناطق التي سيطرت عليها وكان من الأمثلة على ذلك ما حدث بعد دخول مدينة تكريت في آذار/مارس – نيسان/أبريل 2015.

إن عدم تنفيذ الاتفاق السياسي سوف يُدخل العراق في أزمة سياسية ربما تكون أكثر حدة من الأزمة التي شهدها من قبل، والتي كانت مسؤولة في جزء منها، عن تشكُّل تنظيم داعش، وامتداد سيطرته، ولا سيَّما أن الوضع السياسي وتطور العمليات العسكرية في نهاية 2014 وبداية 2015، أدى إلى زيادة استقلال إقليم كردستان، وتطلع محافظات أخرى إلى التشبه به. كما يظل الوضع الأمني في العراق مرتهنا بقدرة الحكومة المركزية في بغداد والقوى الإقليمية الداعمة لها، وقوات البشمركة على هزيمة تنظيم داعش، واستكمال استعادة المناطق التي يسيطر عليها خصوصاً بعد سيطرتها على تكريت ومناطق أخرى مجاورة والـتأهب لتحرير الموصل، وضمان دمج العشائر السنية في المؤسسات الأمنية.

– 13 –

يتناول الفصل الثالث عشر تطورات الأوضاع الداخلية في ليبيا، وذلك من خلال عدة محاور رئيسية:

أولها، تفاقم أزمات الوضع الداخلي نتيجة التفتت السياسي والتنظيمي والعسكري على أسس مناطقية؛ حيث شكل الثوار فرقاً عسكرية، إبان انتفاضة 17 شباط/فبراير 2011، لمواجهة الكتائب الأمنية للقذافي. وبقدر ما فرح الجميع بتكاثر الفرق الشعبية المسلحة، بقدر ما تبينت مخاطر هذا الوضع بعد انتصار الانتفاضة في تحقيق هدفها الأول وهو: إسقاط النظام. فقد أصبح لكل مدينة جيشها، ووقفت الحكومة عاجزة أمام مختلف أشكال الانفلات الأمني الذي مارسته الميليشيات، وهكذا، فرضت سيطرتها على المشهد الليبي، وانحصر نشاط الحكومة، وكذلك دور المؤتمر الوطني العام، في تنفيذ رغبات زعماء الميليشيات التي كان غالبيّتها متناقضة، ومتعارضة.

وثانيها، تعثر العملية السياسية وازدواجية المؤسستين التشريعية والتنفيذية؛ إذ تسبب انقسام المؤتمر الوطني العام إلى كتلتين بارزتين، مثلت الأولى ما يمكن تسميته بجماعات الإسلام السياسي، والثانية ما يسمى مجازاً بالليبراليين، في تجاذبات مدمرة قادت إلى الكثير من التنافر وعرقلة عمل الحكومة. وهو ما أسفر في النهاية عن قيام كتلة من أعضاء المؤتمر المؤيدة للجماعات الإسلامية بتشكيل حكومة أخرى أُطلق عليها «حكومة الإنقاذ الوطني». وبذلك أصبح في ليبيا حكومتان ومجلسان تشريعيّان، يخوّن كل منهما الآخر.

وثالثها، الفراغ الأمني وتداعياته في الداخل وعلى دول الجوار؛ فبعد استهداف مؤسسات الأمن الليبية خلال الانتفاضة والقضاء عليها، وتَحوُّل المشهد إلى حرب شوارع، قامت الميليشيات المختلفة بتولي مهام حفظ الأمن بدلاً من الأجهزة الرسمية، واستغلت وضعها الجديد لتوسيع دوائر السلطة والجاه والمال فدخلت في صدامات كثيرة في داخل المدينة ذاتها أو بين المدن وبعضها البعض، وأصبحت تشكل تهديداً كبيراً للبلدان العربية المجاورة.

ورابعها، الأدوار العربية والإقليمية والدولية المؤثرة؛ فعلى عكس ما حدث في ثورتي الربيع العربي في تونس ومصر، سارعت دول عربية وغير عربية بالتدخل في الشأن الليبي منذ الأيام الأولى لانطلاق ما أصبح يعرف بثورة 17 شباط/فبراير. فقد اتخذ مجلس جامعة الدول العربية في اجتماعه بتاريخ 12 آذار/مارس قراراً بدعم الثورة الليبية عن طريق فرض حظر جوي على تحليق الطيران الحربي، ودعا القرار مجلس الأمن لاتخاذ قرار مماثل وفرضه بالقوة، وبعد يومين فقط قُدم الاقتراح إلى مجلس الأمن، وفي يوم 17 من الشهر نفسه صدر القرار الرقم 1973 الذي فتح الطريق أمام استخدام جميع السبل بما فيها القوة العسكرية لمساعدة الثورة الليبية. وبدا واضحاً أن ما يحرك تلك الدول أهداف ومصالح خاصة، ولم تكن الأهداف المعلنة المتمثلة بحماية المدنيين من بطش القذافي وحدها المحرِّك للاهتمام. فقد تبين أن أهداف تلك الدول للتدخل في الشأن الليبي ليست واحدة، ما يعني أن البلاد أصبحت ضحية لصراع إقليمي، يعمل على تأجيج الخلافات الداخلية، بدلاً من المساعدة في تخفيفها، حيث رغبت تلك الدول في الحصول على نفوذ أكبر في البلاد بعد سقوط نظام القذافي.

وخامسها، سيناريوهات تطور الموقف؛ فمن السهل القول إن المشهد الليبي خلال عام 2015 سيكون عبارة عن حالة من الفوضى العارمة، إلا أن هذه العبارة لا تعدو عن كونها حكماً عاماً لا يقدم ولا يؤخر، فالبلد شهد هذه الحالة خلال العام 2014، وهذا يدعو إلى التساؤل عن الجديد. لذلك ركز الفصل في ختامه على محددات رئيسية للتطورات في المشهد الليبي، ووصف حالة كل واحد منها، وهذه المحددات هي: (1) وضع المليشيات؛ (2) دور الدول الأخرى؛ (3) وجود تنظيم الدولة الإسلامية وتأثيره؛ (4) الديمقراطية أو المهمة العصيّة؛ (5) دور الشباب خارج المليشيات؛ (6) ليبيا حالة اللا دولة.

وعموماً يبدو أن المشهد الذي ساد خلال النصف الثاني من العام 2014، سيستمر طيلة العام 2015، بل ومرشح إلى مزيد من الاحتقان والتوتر والتدهور والتعقيد، ما لم تحدث معجزة في زمن غابت فيه المعجزات.

– 14 –

وأخيراً، وليس آخراً، يقدّم الفصل الرابع عشر دراسة وتحليلاً للتطورات الداخلية المتلاحقة في المشهد اليمني. فقد اتسم هذا المشهد بكونه: ثوري الشعار، ثأري الفعل، سلمي الحشود، سرابي الأداء الرئاسي والحكومي، تقاسمي المناصب لاتوافقي الحركة والفعل، نظري البرامج والرؤى، حواري البنادق والقوى. وأسوأ ما فيه أنهُ مشهدٌ انتقامي لا انتقالي، وتمديدي – تمددي لا تداولي؛ حيثُ يسعى الحاكم – عادةً – إلى التمديد لعمره السياسي والتشبث بالسلطة دون انتخابات نزيهة، وكذا بزوغ حركة مسلحة (الحركة الحوثية) تمددت في كثير من المناطق والمحافظات اليمنية عبر البندقية. ومن ثم، احتضن هذا المشهد العديد من الإشكالات، أهمها: حضور الإرث الثأري وتواري الفعل الثوري، وغياب التداول وحضور التدويل، وضيق الرؤية واتساع الشعار، وإشكالية النصفية وعدم الحسم في الأفعال والقرارات.

وقد تضمن الواقع اليمني قوى عديدة: فثمة قوى بازغة وصاعدة كالحركة الحوثية (أنصار الله)، والحراك الجنوبي؛ وقوة باقية كتنظيم القاعدة؛ وقوى تقليدية ذات لغة حداثية، متقاسمة الوظائف ومتحاصة المناصب، كأحزاب المؤتمر الشعبي وحلفائه، واللقاء المشترك وشركائه؛ وقوى مساندة ومؤازِرة موزعة ومُستقطَبة بين أطراف بنسب متفاوتة كالقبائل؛ وأخيراً ثمة قوى متحفزة ولكنها مشتتة وحائرة، كالشباب. إن التفاعلات بين هذه القوى تتم في إطار مجتمعي مأزوم يتسم بكونه قبلياً مُسيَّساً ومُشبعاً بتدني لغة التخاطب السياسي وحرب المفاهيم، ولذلك اتصفت التحالفات السياسية بين هذه القوى بأنها مؤقتة وتكتيكية وفاقدة للرؤية الاستراتيجية. فالمصلحة المجتمعية والوطنية ما زالت غائبةً عن أهداف هذه التحالفات وأطرافها.

وعليه، عانى اليمن من أزمة سياسية ومجتمعية شاملة ومركبة، ليس على مستوى النظام السياسي فحسب، بل وعلى مستوى العلاقة بين المجتمع والدولة؛ تجلت في اغتراب الدولة والنظام السياسي في اليمن عن المجتمع، وعدم تعبيرها، حقاً وفعلاً، عن الفواعل الرئيسة والقائمة في هذا المجتمع. ويمكن إرجاع ذلك لأسباب عدة من أهمها: افتقار التوجه الرسمي لمصداقية الأخذ بجوهر قيم النموذج الديمقراطي، والسعي لتشويهه والتحايل عليه، والاكتفاء بنقل الشكل دون الجوهر والمبنى دون المعنى. فبالرغم من محاكاة اليمنيين للخارج وتحكيمه، إلا أنهم فشلوا في نقل النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي، والسعي «لتبيئته» و«استنباته» في بيئة يمنية مستعصية وطاردة لكثير من قيمه؛ كما أنهم عجزوا عن الحفاظ على كثير من القيم اليمنية الإيجابية، ما نجم عنه ضعف كل من المجتمع والدولة.

وكشف أحد أبرز الأحداث في عام 2014 وهو سقوط العاصمة اليمنية صنعاء على أيدي المسلحين الحوثيين بتاريخ 21 أيلول/سبتمبر عن ظهور مؤشرات غياب دور الدولة وشواهد حضور خطر التفكيك، وتمثلت أهم هذه المؤشرات في: غياب الطابع السلمي لثورة 11 شباط/فبراير 2011 ونشوب مواجهات عنيفة بين الخصوم، حيث تحول الممارسون السياسيون في اليمن إلى أهل حرب لا أصحاب سياسة. فقد أتقنوا إشعال الحروب والثارات وإعادة إنتاجها، وعجزوا عن صنع السياسة ومدْينتها، وأصبحت الحياة السياسية والمجتمعية اليمنية مُعسكرة و«مُحَرْبنة»، والبندقية فيها مُسيَّسة.

من جانب أخر، عرف المشهد اليمني ما يمكن تسميته بـ «صراع الشرعيات»؛ فثمة شرعية توافقية وأخرى شرعية ثورية، وثالثة شرعية دستورية معطلة. وتصارعت الشرعيتان التوافقية والثورية، وانتصرت الأولى؛ لأسباب عديدة، منها أنَّ ثورة 11 شباط/فبراير كانت ثورة غير مكتملة، وهذه الثورات تطيل أعمار أعدائها، وتمنحهم فرصة ترتيب صفوفهم بل وتغريهم بمقاومتها والسعي لإجهاضها. ونتيجة لأن المشهد اليمني قد أُصيب بداء «التمديد»؛ حيث سعى الرئيس التوافقي عبد ربه منصور هادي إلى «التمديد» لنفسه وإطالة عمره السياسي عبر البطء في تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، غدونا أمام حالة غير سوية سياسياً؛ حيث يتم التمديد الانتقالي والمؤقت ليصبح دائماً ومستمراً. وتكون الحصيلة غياب شرعية الإنجاز والأداء، وحضور شرعية الغلبة والأمر الواقع، وبالتالي تحضر شرعية اللاشرعية.

ومن ثم، أضحت الدولة اليمنية تواجه مشهدين أو سيناريوهين رئيسين: الأول، هو المشهد الانتقالي، الموصل إلى ما يمكن تسميته بالمرحلة التشييدية أو التجديدية؛ وهو المشهد المرغوب فيه والمتاح، حيث يتم فيه حضور الثقة السياسية بدلاً من الشك السياسي، والوفاء النصوصي بدلاً من التحايل النصوصي، والفعل الصادق بدلاً من اللفظ الخادع، والاقتدار السياسي بدلاً من الصراع الحربي، والفعل التغييري بدلاً من الانتقام الثأري، والضمير الوطني بدلاً من الفعل الاستئثاري. وحينئذٍ يتم الانتقال إلى تنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني والتوجه نحو بناء الدولة اليمنية الاتحادية الحديثة والعادلة. والثاني، هو المشهد الاقتتالي أو التمزيقي، غير المرغوب فيه أو المشهد الكارثة؛ حيث يتم تجزئة اليمن مجتمعاً ودولة وهدم المعبد أو «السد اليماني» على مّنْ فيه، عبر انهيار الدولة وتفككها وإيجاد كيانات سياسية متصارعة ومتزامنة في آنٍ واحد.

تسارعت الأحداث لتدفع بالسيناريو الثاني إلى صدارة المشهد، فمن ناحيتهم استخدم الحوثيون سيطرتهم على صنعاء مدخلاً لزيادة مطالبهم والسعي لفرض سيطرتهم السياسية علي مفاصل الدولة، فتم حصار رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وأصدروا إعلاناً دستورياً جديداً. في هذا السياق تحالف الحوثيون مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح الذي أثبت استمرار سيطرته على الجزء الأكبر من الجيش اليمني. ومن خلال هذا التحالف بدأ الحوثيون في التوسع جنوبا تجاه عدن التي كان الرئيس اليمني قد استطاع الهروب إليها وإعلانها عاصمة للدولة. ومع استمرار التقدم الحوثي إلى مشارف عدن اضطر الرئيس إلى مغادرة البلاد خشية اعتقاله ومنعه من المشاركة في مؤتمر القمة العربي بمصر في 28 آذار/مارس. وكرد فعل لامتداد النفوذ الحوثي وتفكك أوصال الدولة قامت السعودية بتكوين تحالف ضم عدداً من البلدان العربية وباكستان وشنت ما سمي «عاصفة الحزم» لمنع استكمال سيطرة الحوثيين على اليمن، وبدأت في تنظيم القبائل الرافضة للتمرد الحوثي ومدِّها بالسلاح حتى تتمكن من مقاومة القوات الحوثية.

ولا يحتاج المرء إلى تبيان خطورة ما آلت إليه الأحداث في اليمن وما تفتح له الباب من سيناريوهات وتوقعات مختلفة.

وتأسيساً على ما تقدم، ما هي أهم التحديات التي يواجهها الوطن العربي في عام 2015؟ يمكن الإشارة إلى أربعة تحديات رئيسية:

1 – تحدي تكيف النظم الحاكمة في البلدان العربية التي استطاعت الحفاظ على تماسك مؤسسات السلطة المركزية فيها مع تداعيات ما يحدث في البؤر الساخنة وسعي التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود إلى التغلغل في بلدان عربية أخرى، ويتطلب تحقيق هذا التكيف إحداث تغييرات على السياسات العامة المتبعة وكذلك على سياساتها الخارجية استجابة لتغيرات النظام الدولي والتحول في موازين القوة فيه. ويؤدي عدم التكيف إلى حدوث أزمة بنائية واهتزاز لشرعية النظم ما يؤدي إلى التحاق بلدان عربية أخرى إلى مجموعة البؤر الساخنة أو «الدول الفاشلة».

2 – تحدي إحياء مؤسسات النظام العربي وتنشيط دورها في حل النزاعات والحروب الداخلية في عدد من البلدان العربية من ناحية، وتدعيم علاقات التعاون والتنسيق الاقتصادي من ناحية أخرى. ولن يفيد أن تكون هذه الجهود العربية جزءاً من الاستراتيجية الأمريكية أو تنفيذاً لبعض بنودها، ولن ينفع أيضاً أن يكون من شأنها تحقيق الخلافات المذهبية والطائفية وما يسميه الغربيون «الصراع السُّنِّي – الشيعي» ويقومون بتنميته، والذي وقع عدد من حكامنا ومفكرينا – بقصد أو بدون – في كمين قبول هذا المفهوم واستخدامه كأداة لتحليل التطورات السياسية. والحقيقة أن إحياء الولاءات المذهبية والنزاعات الإثنية كان ثمرة الخطة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة التي بدأ تنفيذها في عهد الرئيس بوش الابن ومستشارته للأمن القومي ووزيرة خارجيته كونداليزا رايس، وتم تنفيذها مع بعض الأطراف العربية. وأورد سيمون هيرش تفاصيل هذه الخطة في مقال مطوَّل له لمجلة النيويوركر في آذار/مارس 2007‏[1].

للأسف انتشرت فكرة هذا الصراع الطائفي بين عدد من الأحزاب ووسائل الإعلام واستطاعت التأثير في وعي المواطنين بحيث يكون سلوكهم السياسي وفقاً لاعتبارات إثنية ومذهبية. وللأسف أيضاً فإن تغيير هذه الحالة سوف يستغرق وقتاً طويلاً وسياقاً سياسياً مغايراً.

إن الدولة الوطنية الحديثة تقوم على أساس المواطنة التي تكفل لكل المواطنين دون تمييز لأي اعتبار المساواة في الحقوق والواجبات. وليس مطلوباً – بأي حال – إلغاء هذه الانتماءات والولاءات المذهبية والإثنية أو حرمانها من التعبير عن ذاتها، وبالعكس ينبغي النظر إلى هذه التعددية الاجتماعية على أنها مصدر ثراء وأن يتم التعبير عنها في إطار الدولة الوطنية.

3 – تحدي أخذ الشأن العربي بمأخذ الجدية، ورسْم استراتيجية قومية عربية تنبني على تحديدٍ لما نريد – كعرب – تحقيقه. لقد كتب هنري كيسنجر في كتابه عن «النظام العالمي» أن نقطة البداية في أي سياسة خارجية هو تحديد ماذا تريد تحقيقه، وماذا تريد أن تتفاداه وأن تمنع تحقيقه؟ فينبغي أن نتعلم ماذا نريد تحقيقه وماذا نريد أن نتحاشاه في إطار الفرص والقيود الموضوعية.

والإجابة عن هذه الأسئلة هو مهمة الاستراتيجية ووظيفتها، فالاستراتيجية تحدد التوازن بين الغايات والقدرات، وتحدد أولويات الأهداف المبتغاة وترتيبها.

لا شك في أن الوطن العربي يمر بأزمة طاحنة ربما ليس من المبالغة القول بأنها تمس عدداً من بلدانه وتهددهم بالتفكك على أسس مذهبية وطائفية. والأزمة – بقدر ما هي لحظة ألمٍ ومرارة فإنها أيضاً لحظة اختبار وامتحان. يكتب الصينيون كلمة الأزمة بالإشارة إلى رمزين أحدهما الخطر أو التهديد والثاني هو الفرصة؛ فأوقات الأزمات والأخطار هي أيضاً أوقات يمكن للنخب الناهضة أن تستخدمها لطرح رؤى وتصورات مستقبلية جديدة.

تكثر الكتابات عن المخاطر المحدقة وسيناريوهات التمزق والتفكك … فهل لنا أن نفكر أيضاً في الفرص المتاحة وأن هذه المخاطر قد أثبتت عدم قدرة أي بلد عربي بمفرده على مواجهتها وأن التكامل العربي وتجميع موارد القوة العربية هو السبيل الوحيد لضمان البقاء وصيانة الأمن القومي وتحقيق الأهداف المرجوَّة.

 

إقرؤوا أيضاً  حال الأمة العربية 2012-2013

إطّلعوا أيضاً على  حال الأمة العربية 2013-2014