مقدمة:

استطاع العرب بعد فتحهم شمال أفريقيا في القرن الثامن الميلادي أن يجلبوا بعض القبائل من الجزيرة العربية لتعمير أرجاء بلاد المغرب وبسط النفوذ الإسلامي فيها، وفي مقدمهم بنو هلال وبنو سليم. وانتشر العرب، من طريق مصر، غرباً باتجاه ليبيا والمغرب العربي وجنوباً، من طريق وادي النيل، باتجاه السودان‏[1].

تطل منطقة الدراسة المتمثلة بالشمال الأفريقي العربي على البحر المتوسط الممتد من مضيق جبل طارق غرباً إلى مدينة بور سعيد شرقاً بمسافة تقرب من 3650 كم. وفضـلاً عن الأهمية المناخية لهذا البحر فله أهمية تجارية كبيرة حيث تنقل عبره 25 – 30 بالمئة من حركة مرور النفط العالمي‏[2]. وتمتد إليه شبكة أنابيب النفط القادمة من أعماق الصحراء الكبرى حيث أقيمت عليه موانئ خاصة لنقل النفط كما في موانئ خليج قابس التونسية والسواحل الليبية والجزائرية‏[3].

وتم تحديد منطقة الدراسة، وهي الشمال الأفريقي العربي، بستة أقطار هي مصر، السودان، ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، فضـلاً عن الصحراء المغربية، بحسب تصنيف الأمم المتحدة الوارد في الكتاب السنوي للسكان عام 2008. وتبلغ مساحة هذه المنطقة نحو 8525000 كم2 وعدد سكانها بحوالى 206 ملايين نسمة في العام المذكور‏[4]، أي بأكثر من ربع مساحة القارة الأفريقية (28.2 بالمئة) وأكثر من خُمس سكانها (20.8 بالمئة).

تهدف هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على تباين توزُّع السكان في المكان الذي يُعد من الأمور التي يوليها الدارسون أهمية خاصة لما قد يظهره من تباينات في توزع حجم السكان في الوحدات السياسية والتقسيمات الإدارية والأقاليم الطبيعية في ضوء حركة السكان الجغرافية. حيث يتعرف الباحث والمخطط على أسباب هذا التوزع ومؤشراته ونتائجه في مجال المصالح الحياتية، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.

أما مشكلة البحث فتدور حول سؤال مفاده: هل يتفاوت توزع السكان ويختلف انتشارهم من قطر لآخر ومن منطقة لأخرى داخل القطر الواحد؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تمثل فرضية البحث التي تتحدد بوجود تباينات في توزع السكان من بلد إلى آخر ومن مكان إلى غيره داخل البلد الواحد، باستخدام المنهج الوصفي والتحليلي وتطبيق مقياس الدرجة المعيارية لظاهرة التوزع المذكورة، ومن خلال هذا المنهج تبرز خريطة التوزع المشار إليها وتفاوت الظاهرة المدروسة بين أقطار منطقة الدراسة، فضـلاً عن استخدام اختبار (t) في عملية التصنيف.

أولاً: التفاوت المكاني لتوزع السكان

الإنسان قوة فاعلة مغيرة ومعدلة أحياناً ومستجيبة أحياناً أخرى. وعلى قدر حظه من الحضارة والتنمية كانت تحدياته واستجاباته. وتوزُّع الإنسان ما هو إلّا عملية دينامية مستمرة، تختلف أسبابها ونتائجها في الزمان والمكان.

إن نظرة فاحصة إلى خريطة توزع سكان الشمال الأفريقي العربي وكثافته توضح تركز السكان في امتدادات محددة وفراغ سكاني في امتدادات أخرى بسبب انتشار الصحاري في معظم أجزاء منطقة الدراسة، بحيث لا تترك إلّا الجهات الساحلية وأودية الأنهار بمثابة واحات سكانية متناثرة في الامتداد الصحراوي المذكور.

وعلى أساس عوامل المناخ وموارد المياه ومتغيرات أخرى مرتبطة بتباين توزع السكان يمكن تفسير تجمع أكثر من ثلثي سكان الشمال الأفريقي العربي في المنطقة المعتدلة وشبه المعتدلة الواقعة في الرقعة الممتدة بين دائرتَي عرض 30˚ و37˚ شمالاً‏[5]. وتقع ضمن تلك المنطقة دلتا النيل في مصر والجبل الأخضر ومنطقة طرابلس في ليبيا وقوس المغرب العربي الممتد من موجادور (الصويرة) في الجنوب الغربي إلى صفاقس في تونس. ولا تقل كثافة السكان في هذا القوس إلا في المناطق التي تصل فيها الصحراء إلى الساحل كما في شرق منطقة الريف المغربية (شمال شرق وجدة)، حيث تتدرج الكثافة السكانية من الساحل إلى الداخل ومن الغرب إلى الشرق. فإذا كانت الكثافة في التل الساحلي تصل إلى 80 نسمة/كم2، فإنها تقل إلى 5 نسمة/كم2 في السهوب وإلى 0.4 نسمة/كم2 في المناطق الصحراوية.

وخارج تلك المنطقة من دائرتَي العرض المذكورة يتركز السكان في وادي النيل (مصر والسودان)، إذ يعد هذا الوادي العامل المؤثر في تباين توزعهم. حيث يتجمع 96 بالمئة من سكان مصر في الوادي والدلتا، في رقعة تقل عن 4 بالمئة من مساحتها‏[6] بكثافة عالية جداً تصل إلى حوالى 1800 نسمة/كم2 ويتبعثر بقية السكان في مناطقها الأخرى.

وبذلك يتركز في مصر أكبر تجمع سكاني بلغ نحو 39.3 بالمئة من سكان الشمال الأفريقي العربي، وبنسبة مقاربة لها لأقطار المغرب العربي الثلاثة (تونس، الجزائر، المغرب). وإذا أُضيف السودان (بحدوده القديمة) إلى مصر يصبح وادي النيل يشغل نحو 58.6 بالمئة من سكان منطقة الدراسة.

وفي السودان يتركز السكان في المنطقة الوسطى المحصورة بين دائرتَي عرض 9.32˚ – 19.00˚ شمالاً، بين الملاكال والمنطقة الصحراوية في الشمال، أي بين خطَّي المطر الصيفي 250 ملم (عند الخرطوم) في الشمال و800 ملم (عند الملاكال) في الجنوب، إذ يكون الشتاء جافاً ويزداد المطر باتجاه الجنوب حيث تكثر المدن في هذه المنطقة‏[7]. كما أن نوع الحرفة السائد في المناطق الأقل مطراً – الرعي – حيث يتطلب مساحات شاسعة للتجوال والارتحال وحيث تمارس الزراعة كحرفة ثانوية، الأمر الذي ينعكس على انخفاض الكثافة السكانية في تلك المناطق.

وفي ليبيا يتركز 90 بالمئة من سكانها في الإقليم الساحلي (سهله وجبله) في منطقتي طرابلس وبنغازي (بين أجدابيا وطبرق) وينتشر بقية السكان في المنطقة الصحراوية‏[8].

وعلى أساس قدرة الأرض الإنتاجية بالإمكان تمييز أربعة أقاليم سكانية كثافية في الشمال الأفريقي العربي على النحو الآتي:

1 – إقليم مرتفع الكثافة يتمثل بدلتا نهر النيل، في الوجه البحري بمصر، ويعد من أعلى الكثافات في الشمال الأفريقي العربي، وتقرب كثافته من 2000 نسمة/كم2.

2 – إقليم متوسط الكثافة يوجد في السهول الساحلية والمرتفعات المطلة على ساحلي البحر المتوسط والمحيط الأطلسي وكذلك في وادي النيل، في وسط مصر وجنوبها ووسط السودان، وتصل الكثافة في بعض مناطقه إلى أكثر من 250 نسمة/كم2.

الخريطة الرقم (1)

كثافة السكان في الشمال الأفريقي العربي

3 – إقليم منخفض الكثافة كما في هضبة الشطوط في المغرب العربي وسواحل ليبيا ومصر.

4 – إقليم يكاد يكون خالياً من السكان حيث تقل فيه الكثافة عن 2 نسمة/كم2. ويتمثل بالجهات الصحراوية التي تشغل الجزء الأكبر من منطقة الدراسة (الصحراء الأفريقية الكبرى).

ولغرض الكشف عن تفاصيل الاختلافات المكانية لظاهرة تفاوت توزع السكان تُتبع مقاييس عديدة من بينها استخدام الدرجة المعيارية(*). وعلى أساس هذا المقياس يمكن تصنيف الشمال الأفريقي العربي إلى أربعة مجاميع سكانية وهي على النحو الآتي:

– المجموعة الأولى ويزيد فيها عدد السكان عن متوسط إجمالي سكان منطقة الدراسة، وتضم دولة واحدة (مصر)، وهي أكثر أقطار الشمال الأفريقي سكاناً وتشغل أكثر من ثلث السكان وأكثر من عُشر المساحة، مما جعلها تحتل أعلى كثافة في المنطقة ومقدارها 78 نسمة/كم2(**).

الخريطة الرقم (2)

توزُّع السكان في الشمال الأفريقي العربي بحسب الدرجات المعيارية (2008)

– المجموعة الثانية وتضم كـلاً من الجزائر والسودان، يزيد عدد السكان في هذه المجموعة على متوسط إجمالي منطقة الدراسة، وتشغل نسبة قريبة من سكان المجموعة الأولى، إلّا أن مساحتها كبيرة بحيث تشغل أكثر من نصف مساحة الشمال الأفريقي (57.3 بالمئة)، لذلك تنخفض كثافتها السكانية إلى 15 نسمة/كم2.

– المجموعة الثالثة ويقل عدد سكانها عن متوسط إجمالي سكان منطقة الدراسة، وتضم قطراً واحداً هو المغرب، وتشغل حوالى 16 بالمئة من سكان المنطقة المدروسة و5.3 بالمئة من مساحتها، وهو ما جعل كثافتها السكانية عالية وتأتي في المرتبة الثانية بعد مصر (70 نسمة/كم2).

– المجموعة الرابعة وتشمل كـلاً من تونس وليبيا وتشغل أكثر من 8 بالمئة من سكان المنطقة، وأكثر من خُمس مساحتها (22.5 بالمئة) ما جعل كثافتها متدنية، تزيد قليـلاً على 8 نسمة/كم2.

وعلى أساس نمط الحياة الاقتصادية السائد في منطقة الدراسة بالإمكان تمييز ثلاثة أنماط لتوزع السكان، وهي: النمط العشوائي، والنمط المنتظم، والنمط المركز. ويمثل كل نمط وجهاً لنشاط اقتصادي معين. والنمط العشوائي يمثل الزراعة غير المستقرة والرعي (البدو). في حين يمثل النمط المنتظم القرى في المناطق الريفية التي تسود فيها الزراعة المستقرة، وكذلك الزراعة في الواحات الصحراوية حول الينابيع والآبار ومدن التعدين الصغيرة المرتبطة باستثمار المعادن، أما النمط المركز فيمثل ظاهرة (المدن) بأحجامها المختلفة‏[9].

وتعد هذه الأنماط بهذا المعنى انعكاساً لظروف البيئة وتوزع الموارد الطبيعية للمجتمعات التي تقطن ضمن تلك الأنماط. وتعكس الأنماط التوزعية المذكورة درجة التحول الاقتصادي وما يصاحبه من تحضر وتحديث في الزراعة وربطها ببعض الصناعات التحويلية.

يتبين مما تقدم أن النمط المركز يرتبط بظاهرة التحضر التي تتجه نسبتها نحو الارتفاع بسبب هجرات السكان المتواصلة من الريف إلى المدن وارتفاع معدلات النمو السكاني وتوافر فرص التنمية في المدن أكثر من الريف. وقد بلغت نسبة التحضر في الشمال الأفريقي العربي معدلاً قدره 52 بالمئة طبقاً لعام 1992، ويزيد على هذا المعدل في كل من ليبيا والجزائر وتونس، وهو أكثر من المتوسط العالمي البالغ 44 بالمئة، وأكثر من معدّل الدول النامية الذي يصل إلى 37 بالمئة لكنه يقل عن معدل الدول الصناعية وقدره 73 بالمئة‏[10]. وبين عامي 2004 – 2008 ارتفع معدل التحضر في منطقة الدراسة إلى 55 بالمئة، واستمرت الأقطار الثلاثة ذاتها مضافاً إليها المغرب تزيد على هذا المعدل‏[11].

والمعروف أن السكان الحضر يتمركزون في كبريات المدن حيث إن التكدس المستمر في العواصم وتلك المدن بالشمال الأفريقي سيؤدي إلى تدهور مستمر في نوعية الحياة نتيجة الضغط على المرافق القائمة وبالتالي يجعلها عاجزة عن الوفاء بالحاجات الأساسية للسكان، ناهيك بتآكل الأحزمة الخضر في المدن الكبرى‏[12].

يمكن تمييز ثلاثة مستويات لدرجة التحضر في الشمال الأفريقي على أساس اختبار قيمة t‏(*) وهي على النحو الآتي:

1 – الأقطار ذات المعدل المرتفع للتحضر (أكثر من 75 بالمئة) كما في ليبيا.

2 – الأقطار ذات المعدل المتوسط للتحضر (40 – 75 بالمئة) كما في مصر، تونس، الجزائر، المغرب.

3 – الأقطار المتدنية التحضر (أقل من 40 بالمئة) وتشمل الأقطار التي يغلب عليها الطابع الريفي مثل السودان.

الخريطة الرقم (3)

نسبة التحضر في الشمال الأفريقي العربي (2008)

ثانياً: تغيُّر توزع السكان

لقد حدثت تغيرات واسعة في صورة توزع السكان خلال نصف القرن المنصرم وتزامنت هذه التغيرات مع جملة من العوامل برزت بشكل سريع وأدت إلى تغير مستمر في ملامح الصورة التوزعية المذكورة بسبب الخلل الذي أصاب التوازن الإيكولوجي في توزع السكان، الناجم عن التغير الذي حدث في عناصر العلاقات التي كانت تشكل بنية الإطار الذي كان قائماً بين المناطق الريفية والحضرية بعد تحول كثير من الأراضي المنتجة إلى أراضٍ متصحرة بتأثير المناخ، وبعد اكتشاف البترول وزيادة فرص الاستثمار واتساع فرص العمالة وما تبعها من نمو اقتصادي وجذب المزيد من الأيدي العاملة باتجاهها‏[13] وبالتالي المزيد من الهجرة من الريف إلى المدن.

إن التغيرات المناخية وامتداد منطقة الدراسة في مناطق شاسعة، جافة وشبه جافة، واستمرار الجفاف لمدة طويلة، وزحف الصحراء وهبوب العواصف الترابية على أراضي المحاصيل الحقلية والمروية والمراعي والغابات، أو لعملية ناجمة عن تعرية التربة وتدهور الخواص الفيزيائية أو الكيميائية أو غيرها من الخواص، وفقدان الغطاء النباتي، أدى إلى تدهور الأراضي في المناطق القاحلة وفقدان التنوع الأحيائي والاقتصادي‏[14]، يضاف إلى ذلك العامل البشري المتمثل بالضغط الرعوي الجائر والإفراط فيه في الأراضي ذات التربة الفقيرة، وقطع الغابات وتزايد الهجرة السكانية والتوسع في المدن الناجم عن الزحف العمراني على الأراضي الجيدة وسوء استخدام المياه الجوفية. حدث كل ذلك على حساب مساحة الأراضي الزراعية وبالتالي ساعد على عملية التصحر الذي يعد المرحلة الأخيرة من مراحل تدهور الأرض ويشير إلى وصول التربة مرحلة متقدمة من تآكل الطبقة الخصبة فيها.

لذلك شهد الشمال الأفريقي العربي تَحوُّل 650000 كم2 من الأراضي المنتجة إلى أراضٍ متصحرة خلال خمس سنوات‏[15]. وهذا يعني أن التصحر يهدد في الوقت الحاضر مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية ويهدد الآلاف بل الملايين من البشر، وبالتالي فإن التصحر يعد أحد العوامل الرئيسة التي تؤدي إلى الفشل في المواءمة بين النمو السكاني وإنتاج الغذاء(*). وأشارت بعض الأبحاث إلى أن «انجراف سنتمتر واحد من الطبقة السطحية للتربة – بسبب الرياح أو المياه – يؤدي إلى خفض إنتاج المحاصيل الزراعية بأكثر من 2 بالمئة»‏[16].

إن زحف الصحراء الكبرى نحو الجنوب في السنوات الراهنة قد عرَّض العلاقات بين الكائنات الحية وبيئتها الساحلية إلى الخطر. وقد تنبه المزارعون في ليبيا إلى خطر الكثبان الرملية وزحفها على المدن والقرى والطرق والأراضي الزراعية، وقاموا بوضع الحواجز الترابية حول المزارع وغرسوها بالنباتات الشوكية والقصب. كما تم تثبيت الكثبان الرملية في سهل الجفارة وتغطيتها ببطحاء نجيلية أساسها نبات البسط والباقل ونباتات أخرى‏[17]. وفي السودان أخذت المناطق المتصحرة تمتد في المساحات الرعوية الطبيعية شمال كردفان وشمال دارفور. وقدر هاريسون زحف الصحراء باتجاه الجنوب بنحو 5 كم سنوياً، وفي تقدير آخر 9 كم‏[18].

تتطلب معالجة ظاهرة التصحر المنتشرة في منطقة الدراسة إقامة بحيرات اصطناعية عن طريق إغراق بعض المنخفضات بالمياه مثل إغراق شط الجريد الواقع على الحدود التونسية – الجزائرية، ووقف الرعي في موسم الجفاف والاعتماد على الأعلاف المركزة والمعدّة مسبقاً، ومنع استغلال الأراضي الرعوية في الزراعة وترشيد المياه الجوفية، والحد من نمو السكان، وتشجير المناطق التي تعرضت لجور الاستغلال والتصحر، حيث إن الغطاء النباتي يسهم في تحسين ظروف البيئة، بالإضافة إلى تطوير مراكز الأبحاث العلمية واستخدام التكنولوجيا التي تسهم في تنفيذ هذه المقترحات:

الجدول الرقم (1)

السكان والمساحة والكثافة السكانية في الشمال الأفريقي العربي عام 2008

القطرالسكاننسبة مئويةالمساحة كم2نسبة مئويةالكثافة نسمة/كم2
مصر7777524739.3100200011.878
السودان3819300019.3250581329.415
ليبيا56576922.8175954020.63
تونس104396005.31636101.964
الجزائر3474500017.5238174127.915
المغرب3117700015.74465505.370
الصحراء المغربية764250.12660003.1أقل من 1
الشمال الأفريقي198063964100.08525254100.024
القارة الأفريقية9871000003031200033

– سكان مصر عام 2010 وتونس عام 2009 وليبيا عام 2006 والصحراء عام 1970 والبقية عام 2008.

المصدر: United Nations, Department of Economic and Social Affairs, Demographic Yearbook 2008 (New York: United Nations, 2010), table 1, p. 50, and

جمهورية مصر العربية، الكتاب الإحصائي السنوي، القاهرة، تشرين الأول/أكتوبر 2010، ص 20، والجمهورية التونسية، وزارة التنمية والتعاون الدولي، المعهد الدولي للإحصاء، النشرة الإحصائية السنوية لتونس 2005 – 2009، العدد 52 (كانون الأول/ديسمبر 2010)، ص 19.

ثالثاً: العوامل والمتغيرات المؤثرة في تفاوت توزع السكان

إن تفاوت توزع الإنسان، تشتتاً كان أم تركزاً، ووجود أنماط توزعية مختلفة للسكان وما يحدث لها من تغيرات يرتبط بمتغيرات عديدة وعوامل معقدة تتفاعل فيما بينها وتختلف في تأثيراتها من دولة لأخرى، ومن منطقة لغيرها داخل الدولة. وتتداخل هذه المتغيرات بعضها ببعض أحياناً في «شكل معقد حتى ليبدو وكأن سكان كل إقليم نتاج لتفاعل مجموعة من النظم البشرية متفاعلةً مع ظروف البيئة الطبيعية في أشكال عديدة وطرق معقدة»‏[19].

يرتبط تباين توزع السكان بجملة عوامل، ويؤدي تفاوت هذه العوامل بمجموعها إلى زيادة عدد السكان في مكان وقلَّته في مكان آخر. وبناءً على ذلك يمكن الافتراض بأن تفاوت توزع الإنسان بين دولة وأخرى أو بين منطقة وغيرها يرتبط باختلاف العوامل الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية ومن بينها عوامل المناخ والتضاريس والموارد المائية وطول السواحل ومورد النفط وحرف الزراعة والصناعة والتجارة وعامل النقل وعوامل غيرها.

وإذا كانت المياه الجوفية هي العامل المتحكم في ظهور الواحات وتجمع السكان حولها في الصحراء الكبرى، والأمطار هي المتغير البارز في تواجد السكان في المناطق التي تعتمد زراعتها على هذا المتغير (كما في جبال الأطلس في المغرب العربي)، فإن مياه الأنهار وتوافر مشاريع الري وخصوبة التربة هي العوامل المؤثرة في ازدحام السكان بوادي النيل ودلتاه وبقية أودية الأنهار. كما أن وجود النشاط المعدني والصناعي والتجاري والخدمي كان وراء تكدس السكان في كبريات المدن العربية في الشمال الأفريقي.

وبسبب متغير المياه يتركز السكان بإحدى الحواشي الضيقة تاركين بقية مساحة القطر فراغاً أو شبه فراغ سكاني. وتتمشى أقطار الشمال الأفريقي في هذا التوزع مع الصورة الكوكبية العامة على مستوى القارات حيث تزدحم بعض هوامشها بالسكان لظروف طبيعية مواتية بينما تتخلخل قلوبها لتطرف المناخ جفافاً أو رطوبةً‏[20].

ويظهر أثر التضاريس في توزع السكان عند ملاحظة خريطة التوزع المذكور حيث يلاحظ أن أغلب السكان يقطنون بشكل خطي (شريطي) في السهول المحاذية لسواحل المحيط الأطلسي والبحر المتوسط في بلاد المغرب العربي، وكذلك المرتفعات المطلة عليها التي تعمل على تلطيف الحرارة وزياده كمية المطر. كما أن الجبال تضمن لبعض الأقليات السكانية الحماية والأمن لقاطنيها منذ أزمنة بعيدة وحتى الآن.

ونظراً إلى جودة تربة تلك الأمكنة وسهولة أرضها وغزارة أمطارها فقد وفرت هذه البيئة زراعة ناجحة، وأنشطة تجارية رائجة، ونقل ميسور، وتوفير ثروة بحرية تختلف كمياتها من بلد لآخر. بالإضافة إلى انشطة اقتصادية أخرى. كل ذلك ساعد على تباين توزع السكان من مكان لآخر. ويتفاوت اتساع السهول الساحلية من مكان إلى غيره بين 40 – 70 كم وقد يصل إلى 30 كم أو أدنى من ذلك‏[21].

تتصف سواحل هذا الإقليم بوجود قنوات ملاحية وممار مائية ومضايق وخلجان ورؤوس ساحلية، وهو ما ساعد على توفير مسالك ملاحية سهلة تضاف إلى طرق السيارات والسكك الحديد، وأسهم في تنشيط حركة التجارة، وتطلب ذلك قيام موانئ لخدمة الحركة المذكورة.

ويعد البحر المتوسط من أنشط البحار التجارية حيث تعبره أكثر من 2500 سفينة تجارية يومياً تزيد حمولتها على ألف طن. وتنقل عبر مياهه نحو أربعة ملايين برميل من النفط يومياً، تشكل ما يقرب من نصف حاجات أوروبا الغربية من هذه المادة الحيوية بحسب بعض الإحصاءات القديمة‏[22]. ويلاحظ في بعض أقطار الشمال الأفريقي الداخلية، مثل السودان، وجود أنماط متعددة في التوزع السكاني في مناطق الصناعات الحضرية والزراعة المروية والموسمية ومناطق الرعي.

وأدى النفط دوراً كبيراً في تعديل آثار البيئة الطبيعية وجعلها ممكنة لاستيطان السكان. حيث إن مناطق إنتاج النفط هي أصـلاً غير صالحة تماماً للسكن بسبب طبيعة أرضها وسيادة الأراضي الرملية فيها وسيطرة الجفاف عليها، إلّا أن النفط قد غيَّر وضعها وساعد على استقرار عدد كبير من السكان في مناطق إنتاجها أو العمل في الخدمات المتصلة بهذه الصناعة أو المرتبطة بها. وأصبحت بذلك مراكز استقرار دائم وجزراً سكانية وسط محيط هائل من الأراضي الخالية أو القليلة السكان. وإذا أضيف إليها تفاوت الدخل بين أقطار الشمال الأفريقي سيكون عامـلاً مسهماً في هجرة عبر الحدود فيجعل التوزع غير ثابت والتحولات السكانية مستمرة.

وفي دراسة للباحث طبّق فيها برنامج الانحدار متعدد الخطوات (SPSS) لمعرفة تأثير بعض المتغيرات في تفاوت توزع السكان في المنطقة العربية (الأفريقية والآسيوية) ظهر من خلالها أن الزراعة والموارد المائية جاءت في مقدمة العوامل المؤثرة في هذا التفاوت حيث أسهمتا بنسبة 77 بالمئة من تفسير إجمالي المتغيرات، تلاها تأثير عامل النفط ثم طول السواحل فعامل التجارة ومتغيرات أخرى‏[23].

رابعاً: دور المناخ في تفاوت توزع الإنسان وانتشاره المكاني

المناخ هو مجمل خصائص الأحوال الجوية في مدة زمنية معينة، ويؤثر فيه الغلاف الجوي وسطح الأرض وما عليه من جليد وثلوج ومحيطات ومسطحات مائية أخرى وكائنات حية وعناصر غيرها.

وللمناخ دور واضح ومؤثر في تفاوت توزُّع السكان لما يترتب عليه من آثار تصيب وظائف الإنسان العضوية، فضـلاً عن تأثيره في نوعية التربة والزراعة والحياة النباتية. وأهم عنصرين مناخيين مؤثرين هما الحرارة والمطر، حيث يتركز السكان عادةً في المناطق المعتدلة التي يقل فيها التطرف الحراري. وتتمتع هذه المناطق عادةً، في الشمال الأفريقي، بمناخ البحر المتوسط ذي الأمطار الشتوية وله تأثير واضح في تباينات تجمع السكان. وقد عدَّ فاوست خريطة المطر والتضاريس من أهم الخرائط في الدراسات الجغرافية‏[24].

يقع إقليم مناخ البحر المتوسط، المشار إليه، شتاءً إلى الشمال من الصحراء الكبرى، شمال دائرة عرض 30° شمالاً‏[25]، ويتصف بجفافه صيفاً ومطره شتاءً مع ارتفاع درجة حرارة الصيف واعتدال درجة حرارة الشتاء، وصفاء السماء وسطوع الشمس معظم أيام السنة. وتتراوح درجات حرارة الشتاء بين 5 و10 درجة مئوية والصيف بين 21 و27 درجة مئوية ومتوسط المطر بين 350 و650 ملم ولكنه يسقط في فصل انخفاض درجات الحرارة ما يقلل كمية الفقد بالتبخر‏[26].

والبحر المتوسط منطقة مفضلة لعبور المنخفضات الجوية الأطلسية وملائمة لنشأة وتطور المنخفضات الجوية المتوسطية. ولا تزيد نسبتها الواصلة إلى حوض البحر المتوسط (من المحيط الأطلسي) على 9 بالمئة من مجموع المنخفضات الجوية التي يتعرض لها الحوض المذكور سنوياً‏[27].

يقسم إقليم مناخ البحر المتوسط في الشمال الأفريقي إلى قسمين رئيسين هما‏[28]: القسم الغربي الممتد من تونس إلى ساحل المحيط الأطلسي ويضم الشريط الساحلي المطل على البحر المتوسط والذي يظهر فيه مناخ البحر المتوسط على حقيقته. وتليه هضبة الشطوط التي يتراوح ارتفاعها عن سطح البحر 900 – 1200 متر كما تمتد سلاسل جبال الأطلس التي تقع إلى شمال الهضبة المذكورة وجنوبها، ويزيد ارتفاعها على 1500 متر، ويزداد الارتفاع في المغرب إلى 3600 متر حيث يغطي الثلج سفوحها العالية معظم أيام السنة.

ويمر تيار الكناري البارد نسبياً بساحل المغرب المطل على المحيط الأطلسي الذي يجعل فصل الصيف بارداً نسبياً عند دائرة عرض مدينة موجادور أو مغادور (الصويرة) وهي 31.40 درجة شمالاً. حيث لا ترتفع درجة حرارة هذه المدينة عن 20 درجة مئوية في حين يصل إلى 25 درجة مئوية في ميناء الجزائر؛ مع أن هذا الميناء يقع إلى الشمال من موجادور بخمس درجات من دوائر العرض‏[29]. لذلك تنخفض درجة حرارة الساحل الأطلسي عن ساحل البحر المتوسط إلى الشرق من مضيق جبل طارق صيفاً بتأثير تيار كناري البارد المشار إليه، بالإضافة إلى تأثير نسيم البحر اليومي. وللسبب نفسه تنخفض درجه حرارة الجهات الصحراوية المطلة على الساحل المشار إليه بنحو 7 درجات مئوية عن الجهات الداخلية‏[30].

كما تؤثر المسطحات المائية في درجة حرارة المنطقة ويظهر ذلك عند مقارنة درجة حرارة النهاية العظمى لكل من تونس والجزائر (وهي بالتتابع 26˚م، 25˚م) بالنهاية العظمى للقاهرة (33˚م). وإذا كانت النهاية العظمى تظهر في الجهات الداخلية في شهر تموز/يوليو في أغلب الأحوال فإنها تتأخر في الجهات الساحلية إلى شهر آب/أغسطس نظراً إلى بطء امتصاص الماء للحرارة. ويصل المدى الحراري في الجهات الداخلية إلى 19˚م في بسكرة بسبب حالة الجفاف الشديد. في حين يقل المدى في الجهات الساحلية إلى 14˚م في مدينة الجزائر و6˚م في موجادور، لموقعها البحري وتأثير تيار كناري البارد فيها‏[31].

إلى الشرق من مضيق جبل طارق تكون السماء في الصيف صافية وأشعة الشمس قوية. ويبلغ معدل حرارة شهر آب/أغسطس في الجهات الساحلية من المغرب العربي حوالى 27˚م ولكن الرياح التجارية الشمالية الشرقية الناعشة الهابَّة من البحر تحول دون تطرف الحرارة. وفي فصل الشتاء تحكم المنخفضات الجوية التي تمر على طول ساحل البحر المتوسط مسببةً هبوب رياح جنوبية غربية مصحوبة بالغيوم، حيث يسقط 80 بالمئة من المطر في النصف الشتوي من السنة. تزداد كمية الأمطار في سهلي سيبو وسوس في المغرب، وتصل في شمال المغرب العربي 600 – 800 ملم‏[32]. ويبلغ معدل درجات حرارة شهر كانون الثاني/يناير 10 – 13˚م، وتتمتع الأودية المحمية في منطقة التل بأفضل أنواع مناخ البحر المتوسط الملائمة للزراعة، لذا فهي مشهورة ببساتين البرتقال والكروم‏[33].

ليس مناخ الاستبس السائد في هضبة الشطوط إلّا نتيجة للارتفاع والقارية، إذ يزداد تأثيره حتى يصل إلى البحر. والصفة الغالبة هي كبر مدى درجة الحرارة، والشتاء قارس البرد. ففي مدينة «جريفيل» التي تمثل هضبة الشطوط تبلغ درجة حرارتها في المتوسط 26˚م صيفاً و4˚م شتاءً والمدى 22م‏[34]. وتتراوح كمية التساقط على الهضبة المذكورة بين 250 و500 ملم وتأتي قمته في الربيع، وتسود فيها حشائش الحَلْفاء. وتمثل الاستبس منطقة انتقال بين المناخ الصحراوي ومناخ البحر المتوسط. ويستقبل هذا الحزام مطره من الأعاصير الناتجة فوق سطح الاتصال بين الهواء القطبي والهواء المداري‏[35]. كذلك يرتبط بأمطار الأعاصير في أقصى تحرك لها نحو الجنوب.

التساقط في منطقة جبال أطلس الصحراء أكثر مما هو عليه في الهضبة، ويعد المطر مصدراً لأكثرية المياه الباطنية التي تزوِّد واحات الصحراء الكبرى المجاورة بحاجتها من المياه، وتكون السلاسل الجبلية فاصـلاً مناخياً حاداً بين سهول الهضبة الخضراء في شمالها وبين رمال الصحراء الكبرى إلى جنوبها.

أما القسم الشرقي من مناخ البحر المتوسط في الشمال الأفريقي العربي والواقع إلى شرق تونس فيمتد إلى شمال ليبيا ومصر ويختلف عن القسم الغربي في أن عروضه أدفأ وموقعه أكثر قاريةً، وبانخفاض تضاريسه وبعدم وجود حاجز جبلي يحول بينه وبين الصحراء الكبرى. والصيف حار جداً، فقد سجلت درجة حرارة 40˚م في معظم السنوات، والشتاء هو أدفأ كثيراً من ساحل المغرب العربي الذي تبلغ فيه درجة حرارة شهر كانون الثاني/يناير 14˚م‏[36]. وتتباين الرياح السائدة في الصيف بين غربية وشمالية، وبين جنوبية غربية وشمالية غربية شتاءً. ويلطف البحر حرارة الصيف لمسافة قصيرة نحو الداخل ولكن ظروف الصحراء تصل إلى الساحل في كثير من المناطق، والخريف أدفأ من الربيع كما هو الحال في جميع مناطق البحر المتوسط.

1 – الصحراء الكبرى

تغطي هذه الصحراء مساحة شاسعة من شمال أفريقيا وتمتد من ساحل المحيط الأطلسي إلى ساحل البحر الأحمر، وتشغل نحو 1/5 مساحة القارة الأفريقية. وتحول سلاسل جبال الأطلس في شمال غرب القارة من تغلغل الأعاصير الممطرة إلى داخل هذه الصحراء‏[37]. لذلك تقل أمطارها عن 50 ملم، وإلى نصف هذه الكمية في الجهات الوسطى من الصحراء. وقد ترتفع الكمية أحياناً في عين صلاح الجزائرية إلى 100 ملم‏[38] وتفرض رياح الهرمتان الصفات الرئيسة لمناخها على الصحراء الكبرى. وهي رياح تجارية قارية مغبرة تهب عبر المناطق، وتتكون من هواء قاري مداري ينشأ من الهبوط في منطقة الضغوط العالية شبه المدارية، لذلك فهي دافئة جافة، وتهب كرياح معتدلة أو شديدة من الشمال في شرق الصحراء الكبرى، ومن الشمال الشرقي في غربها ولكنها تبدأ قريباً من السطح ليـلاً، وتصل تأثيرات رياح السيروكو إلى إقليم مناخ البحر المتوسط وبخاصةٍ في الربيع وهي غير مريحة للسكان.

والأمطار في منطقة الدراسة هي التي تحدد الازدحام السكاني – باستثناء أودية الأنهار – وهي بغزارتها أو قلتها وبانتظامها أو ذبذبتها تؤدي إلى الرخاء أو إلى القحط. وأمطار البحر المتوسط الشتوية السائدة في هذا الإقليم تتناسب تناسباً طردياً مع طول الساحل المتعامد مع اتجاه مسارات المنخفضات الجوية، وهي في الوقت نفسه من أكثر المناطق سكاناً. كما هو الحال في بروز الجبل الأخضر حيث تعد مناطق (شحات 500 ملم والمرج والأبيار والدرسية 300 – 400 ملم) من أكثر الجهات الليبية مطراً نتيجةً لتفاعل العامل البحري مع عامل التضاريس، كذلك درنة التي تحيط بها الجبال، فهي أكثر مطراً من بنغازي الواقعة في السهل الساحلي الفسيح، وفي أجدابيا جنوب سهل بنغازي 200 ملم‏[39].

لهذا فإن بروز برقة الجبلي هو أكثر مطراً (500 – 600 ملم) من بروز طرابلس (400 ملم)، حيث تقع طرابلس في موقع جنوبي بالنسبة إلى المغرب العربي، الأمر الذي يجعلها لا تستفيد من الانخفاضات الجوية الرئيسة في خليج ليون شتاءً. وتأتي أمطارها من الانخفاضات التي تمر بين حين وآخر من جنوب صقلية. أما برقة الأكثر ارتفاعاً من طرابلس فإن مناخها يتأثر بنظام الضغط في بحر إيجة، إذ تهب عليها الرياح الغربية والشمالية الغربية الجالبة للمطر، وينال القسم الأوسط من هضبتها مطراً أغزر من المناطق الواقعة إلى شرقها وإلى غربها. أما أقل جهات السهل الساحلي الليبي مطراً فهي نالوت الواقعة في ظل مطر الجبال التونسية وسرت الواقعة على خليج سرت حيث تسير الرياح بموازاة الساحل ولا تتعامد معها، ويحصل هذا التعامد بعد أن تغادرها إلى بنغازي فترتفع أمطارها السنوية من 170 ملم في سرت إلى 280 ملم في بنغازي، ويندر المطر في فزان الصحراوية (10 ملم)‏[40].

أما السواحل التي تكون موازية لمسارات المنخفضات الجوية فأمطارها أقل كما في السهول الساحلية المصرية والليبية. فالشريط الساحلي في برقة (200 ملم) وسرت (170 ملم) أقل مطراً من شريط بنغازي الواقع في النهاية الغربية للجبل الأخضر وبالتالي يكون أكثر مطراً (280 – 300 ملم)‏[41] بسبب بروزه المتعامد مع مسارات المنخفضات الجوية. ويشبهه في ذلك بروز ساحل الإسكندرية وتعرُّجه (175 – 203 ملم)‏[42]. وتقل الكمية في بقية الساحل المصري، ففي بور سعيد (75 – 81 ملم)‏[43]، وفي القاهرة الواقعة إلى الداخل نحو 25 ملم.

2 – تغير المناخ

على مدى آلاف السنين، أي منذ أن نشأت الحضارات البشرية في المجتمعات الزراعية القديمة، كان مناخ الأرض مستقراً نسبياً، وكانت درجات الحرارة وأنماط هطول الأمطار داعمة للحياة البشرية وامتدادها حول أرجاء البسيطة.

شهد العقد المنصرم من القرن الحادي والعشرين تغيُّراً في المناخ الكلي للأرض أو في مناطق معينة منها، وبضمنها التغيرات المناخية التي جاءت نتيجةً لأفعال البشر وأهمها الإنتاج الصناعي وبخاصة إنتاج الإسمنت وإحراق الوقود والجزيئات المحمولة جواً، وسبل استخدام البشر للارض والحيوان‏[44]. ويحتمل حدوث تغير مفاجئ في القرن المقبل لن يكون له تأثير مثيل عبر التاريخ المعلوم للتجربة الإنسانية‏[45]، كما حصل في ظاهرة (التسونامي) في السواحل الآسيوية قبل سنوات.

وقد تأكدت العلاقة بين انبعاث ثاني أكسيد الكربون من احتراق الوقود وبين الاحترار الأرضي أو الاحتباس الحراري. ويبدو أن قرنين من الاستهلاك الكثيف للفحم والوقود الزيتي أدّيا بالفعل إلى زيادة قدرة الغلاف الجوي على الاحتفاظ بالحرارة التي تصله من الشمس، ومن هنا أعطي له الوصف المجازي بكلمة «الظاهرة الدفيئة»‏[46].

من المظاهر العامة لتغير المناخ المتوقعة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ارتفاع معدلات درجات الحرارة بنسبة 1 بالمئة وانخفاض معدل هطول الأمطار بنسبة 20 بالمئة بحلول عام 2080‏[47]، مما يعرضها لموجات من الجفاف وبالتالي سيؤثر في انخفاض الإنتاج الزراعي ويعرض الأمن الغذائي إلى الخطر. وهذا كله سيؤدي إلى مزيد من التفاوت في توزع الإنسان وتباين كثافته بين بلد وآخر ومنطقة وأخرى داخل البلد الواحد في الشمال الأفريقي ومناطق أخرى من العالم.

خاتمة

أوضحت الدراسة عدم انتظام توزع سكان الشمال الأفريقي العربي وسوء هذا التوزع، سواء بين قطر وآخر أو بين منطقة وأخرى داخل القطر الواحد. حيث يتجمعون في أمكنة محددة وصغيرة، وقد تكون قليلة الموارد، فيمثلون عبئاً كبيراً على القطر، في حين يمتد فراغ سكاني في رقعة شاسعة، أو وجود عدد محدد من السكان في مناطق ذات موارد كبيرة تنقصها الأيدي العاملة لاستثمار تلك الموارد. على سبيل المثال لسوء هذا التوزع أن أكثر من نصف سكان الشمال الأفريقي يتجمع في قطرين حول وادي النيل ودلتاه هما مصر والسودان. بل إن أغلبية سكان هذا الوادي تتجمع في أمكنة محددة لا تشغل إلّا مساحات صغيرة.

وكان لعاملَي المناخ والتضاريس وعوامل أخرى دورها البارز في تركُّز السكان في المناطق المعتدلة وشبه المعتدلة ذات الأمطار المناسبة (وبخاصة ضمن إقليم مناخ البحر المتوسط) بين دائرتي عرض 30˚ و37˚ شمالاً. وكان لتباين كمية المطر أثر واضح في تفاوت تجمع السكان من مكان لآخر.

وبتأثير عامل المناخ وعوامل طبيعية وبشرية أخرى مساعدة أدت جميعها إلى تحوّل مناطق واسعة من منطقة الدراسة، من أراضٍ زراعية منتجة إلى أراضٍ متصحرة أثرت في انخفاض نسبة الأمن الغذائي للسكان، وهجرة البعض منهم إلى أمكنة أخرى. أخطر من ذلك حدث ما لم يكن في الحسبان إبان العقد المنصرم من القرن الحالي (الحادي والعشرين) وهو تغيُّرٌ بعضه تدريجي وبعضه مفاجئ للمناخ سينجم عنه ارتفاع في درجات الحرارة وانخفاض في كميات الأمطار واضطراب في أوقات حدوثها سيتمخض عن انخفاض في كمية الموارد المائية حيث سيكون لها تأثيرات سلبية في إنتاج الغذاء وبالتالي حراك السكان وتباين في مناطق توزعهم وتكدس الكثير منهم في المدن.

كل ذلك يتطلب التوصل إلى توزع جغرافي أفضل لسكان منطقة الدراسة في الأمد الطويل حتى لا يتركزون في أمكنة محددة تعمل على تفريغ المناطق الأخرى من السكان وهو ما يحرمها قواها العاملة واسواقها ويعطل مصادر دخلها، وبالتالي خلق صعوبات لاستغلال ثروتها وقد يعرِّض أمنها للخطر.

إحدى طرائق هذا التوزع هو إعادة توزع السكان على المستوطنات وربط أجزائها بطرق نقل ميسورة من طريق الحد من الهجرة الريفية والمدن الصغيرة إلى المراكز الحضرية الكبرى وتشجيع الهجرة المعاكسة من المدينة إلى الريف.

على أن تحقق إعادة التوزع متطلبات التنمية والبيئة السليمة من طريق تكامل الموارد البشرية والطبيعية وبما يضمن تحقيق الأمن القومي، وذلك بالحد من النمو الحضري وبخاصة في أحزمة البيئات الأقل نمواً حول المدن، وبالاعتناء بالريف لتحسين نوعية الحياة ودمج جهود التنمية الريفية المتكاملة ذات الأبعاد الاقتصادية بما يحقق الاستقرار السكاني، والتوسع في تعمير مراكز سكانية جديدة في المناطق غير المأهولة، مخططة بعناية تعمل على تكامل الأنشطة الإنتاجية والاجتماعية في إطار التخطيط على المستوى الوطني وصولاً لتوزع أفضل لسكان الشمال الأفريقي.

إن تطبيق التنمية الإقليمية المتكاملة والمتوازنة سيساعد على ثبات التوزع والتوازن بين السكان واقتصادات كل إقليم. السبيل إلى ذلك هو الوصول إلى صيغة التعاون بين أقطار منطقة الدراسة وأقطار آسيا العربية لأنها تقود إلى تقليل الفروق ورفع الحواجز وتحريك رأس المال إلى المناطق التي هي بحاجة إليه بحيث تعود بالفائدة على جميع أقطار المنطقة.

 

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #دراسات #علم_السكان #المغرب_العربي #توزع_السكان #شمال_أفريقيا #المناخ

قد يهمكم أيضاً  التدهور البيئي في الوطن العربي: التحدِّي لاستدامة الحياة