نظم مركز دراسات الوحدة العربية جلسة بعنوان تفكيك البنى المعرفية الاستعمارية بمعرفة نقدية وطنية في 26 أيار/مايو الجاري في فندق الكراون بلازا ببيروت، ضمن فعاليات المؤتمر السادس للعلوم الاجتماعية الذي نظمه المجلس العربي للعلوم الاجتماعية (25-28 أيار/مايو 2023)، وذلك تماشياً مع دور المركز في إنتاج معرفة رصينة ملتزمة في الرؤية فضلاً عن مناقشة ومساءلة الإنتاج المعرفي. وتخلل الجلسة خمس مداخلات تناولت خمسة مفاهيم حول المعرفة الاستعمارية في البلاد المغاربية، دور “مثقف” الحداثة كظاهرة ما بعد استعمارية، دور المعرفة الاستعمارية في استعمار فلسطين، دور البنك الدولي في تشويه عملية التنمية في فلسطين بعد أوسلو وأخيراً فهم جديد للتنمية العربية. واستضافت الجلسة لهذا الغرض باحثين وأكاديميين هم مولدي الأحمر وهشام البستاني وأحمد الدبش وصبيح صبيح، والباحثة بالمركز عُبادة كَسَر.
وأوضحت كَسَر خلال تقديمها للجلسة أهمية المداخلات في تفكيك البنى المُشكّلة للمعارف الاستعمارية والاستشراقية لأن تبنيها يؤثر في مسألة استقرار الهوية والانتماء ونمط العلاقات الاجتماعية داخل المجتمعات العربية، فضلًا عن تأثيرها في المسارات الاقتصادية والسياسات العامة والتنمية، مؤكدةً على ضرورة تطوير منهج عربي جديد لا يسعى وحسب إلى تعزيز الوعي النقدي بل أيضاً إنتاج معرفة نقدية تأصيلية وطنية لمواجهة المعرفة الاستعمارية.
وأضاءت مداخلة الدكتور مولدي الأحمر بعنوان “في تأزيم الإرث المعرفي والعملي الكولونيالي في البلاد المغاربية” على دور الاستعمار الفرنسي والإيطالي في المغرب العربي على خلق معارف وهمية مشوّهة عن جغرافية البلاد، كما فعل الفرنسيون عندما رسموا حدود “بلاد فزان” الليبية بناءً على معايير لا تمت لطبيعة ومعارف الليبيين بصلة أصلاً، فحددوا البلاد من بعض الجهات وتركوها مفتوحة من جهات أخرى بما يتناسب مع مصالحهم الإمبريالية، ومن ثم كرّسوها ووظفوها في إذكاء الصراعات بين القبائل. هذه المعارف لم تجرِ مساءلتها من الداخل كما يجب حتى اليوم، لا بل يُتّكل عليها بفعالية في المؤسسات التعليمية المغاربية، وتستخدم بآليات التدخل السياسي الغربي المباشر حتى اليوم كإحياء مفهوم القبيلة في الحل السياسي في ليبيا مؤخراً. وتدعم هذا الإرث أيضاً شبكات البحث العلمي الغربية المنتشرة بكثافة في المغرب العربي.
وتحت عنوان “الحداثة المتخيّلة والرّهان على السلطة: المثقف العربي كظاهرة ما بعد استعماريّة”، تناول الدكتور هشام البستاني مفهوم “المثقف” العربي المنبهر بالغرب والحداثة وعلاقته بالسلطة، الأمر الذي يساهم في إعادة تشكيل هذه السلطة كل مرة والذي أدى إلى فشل حركات الربيع العربي من إحداث التغيير المنشود! فـ “المثقف” العربي نشأ بالأساس كحالة منبهرة بـ “تقدّم” دول الاستعمار، مروراً بالدراسة في جامعاته، وصولًا إلى محاولة نقل تلك الحداثة إلى مجتمعه المحليّ من أجل اللحاق به، ليصبح الاستعمار نموذجاً وخصماً في آن. ولأن المجتمع المحليّ متخلّف بنظر هذا “المثقف” فقد أخذ على عاتقه مهمة تبشير السلطة بالحداثة مستخدماً أدوات سطحيّة التأثير فأصبح أداةً من أدوات ديمومتها. وطرحت المداخلة الحاجة إلى “المفكر الممارس” الذي يلامس الواقع ويعيش قضايا الناس ثم يشتبك مع السلطة لإحداث التغيير كبديل ضروري عن “المثقف” بصورته الحالية.
ولأن المعرفة الاستعمارية ساهمت في سرقة فلسطين وعلى رأسها الحجة المختلقة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، فنّدت مداخلة الأستاذ أحمد الدبش بعنوان “المعرفة الاستعمارية وتاريخ فلسطين” مكائد الاستعمار منذ منتصف القرن التاسع عشر حيث بدأ الاستشراق بتهيئة كل الشروط للسيطرة على فلسطين من خلال خلق معرفة وهمية عبر جمعيات ومؤسسات استشراقية وعلماء آثار عملوا على إيجاد موطئ قدم لليهود في فلسطين منطلقين من الرواية التوراتية. وجاء الاستعمار الاستيطانيّ الإسرائيليّ في فلسطين ليتكئ على هذه السردية. ولكن الجهود الحثيثة لعلماء الآثار في فلسطين وبالأخص خلال العشرين سنة الماضية نسفت هذه المعرفة الاستعمارية المختلَقة، وكلما كانت المعلومات الأركيولوجية تتراكم ويتم الربط بينها وتحليلها، تبين للمؤرخين والآثاريين صعوبة ملاءمة هذه المعلومات مع الرواية التوراتية.
وقدم الدكتور صبيح صبيح ورقة حول “نشر الرطانة النيو ليبرالية واحتكار المعرفة في فلسطين الدول المانحة: مشروع البنك الدولي لتطوير المؤسسات” سلّطت الضوء على دور البنك الدولي في تشويه عملية التنمية في فلسطين وضربها، وذلك بعدما جاء مشروعه للتنمية بعد أوسلو في سياق “بناء الدولة والتنمية والسلام”. فحاول هذا المشروع ضبط سلوك الفاعلين المحليين وفق تصور “ممولي” هذه “التنمية” لما هو سياسي أو غير سياسي مقدماً مجموعة من “الكتيبات ومواثيق الشرف” التي يتحتم على المنظمات غير الحكومية الالتزام بها من أجل ضمان التمويل، بما يتضمنه ذلك من إنتاج خطاب تقني إداري تحت شعار البعد عن السياسة- المناهضة طبعاً لعلاقات القوى الاستعمارية وعلاقات الهيمنة المركبة التي تعاني منها فلسطين، وإعادة تعريف ما هو سياسي في فلسطين وفق هذه النظرة.
وكشفت مداخلة الدكتورة عُبادة كَسَر بعنوان “التنمية العربية وأسئلة الإقصاء والمنع – نحو فهم جديد للتنمية العربية” مواطن الهيمنة في الفكر الاقتصادي النيو ليبرالي والتنمية الليبرالية المتجسدة في سياسات البنك الدولي وصندوق النقد ومنظمة التجارة العالمية ودورها في إعاقة التنمية العربية. وحملت الورقة رؤية جديدة للتنمية العربية قائمة على الدعوة لتأسيس نظري وفكري لفهم جديد يعطي الأولوية للإنسان وقضاياه الاجتماعية، فضلاً عن دور الفاعلين الثقافيين والأكاديميين في تأسيس جماعة علمية تسعى لتحقيق هذه التنمية، بالإضافة إلى أهمية تعزيز الوعي عند المستهدفين منها لأهمية دورهم في تحديد قرارهم التنموي المرتبط ليس فقط باحتياجاتهم بل بمسألتي التحرر والتغيير.
وبعد قرابة الساعتين من الإحاطة المعمّقة بموضوع الجلسة والتي تخللها كماً هائلاً من الأفكار النيّرة والمتحررة والتي تتطلب جلسات مطولة للإحاطة بها، اختُتمت الجلسة بمجموعة من مداخلات الحضور التي أضافت غنىً للمحتوى والنقاش.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.