مدخل

تناولت عدة دراسات صعود التيار الديني داخل الكيان الصهيوني، فذهب البعض إلى التصريح بأنّ «الأصولية اليهودية» قد نشأت في إسرائيل عقب حربَي عام 1967 وعام 1973، وتطورت مذ ذاك إلى قوة سياسية وثقافية مؤثرة في الساحة الإسرائيلية[1]، حيث تتلخص أهدافها في بسط الحكم اليهودي على «أرض إسرائيل الكاملة»، وتعجيل عملية الخلاص[2].

صنف البعض الأحزاب الدينية الحريدية[3] (أغودات يسرائيل وبوعالي أغودات يسرائيل وديغل هتوراه وشاس) كأحزاب دينية معادية للصهيونية[4]، إذ يرى بعض الباحثين أن الحريديم معادون للصهيونية لأنهم لا ينشدون «هتكفاه» (النشيد الوطني الإسرائيلي) في اجتماعاتهم الحزبية، ولا يرفعون علم إسرائيل، كما أنهم تبنوا عدم الهجرة إلى فلسطين قبل قدوم المسيح، فمن وجهة نظرهم زمن الخلاص لم يبدأ بعد[5] (وهذا غير دقيق، وسنتعرض لذلك لاحقًا)، حيث وصف الباحث الإسرائيلي آشر أريان حركة شاس وأغودات يسرائيل بأنهما كتل حريدية غير صهيونية[6].

في المقابل، يجادل نبيه بشير بأن العلاقة بين الحريدية والصهيونية تتسم بالمصالحة، فنظرة الحريديم إلى دولة إسرائيل متباينة، لكن أغلبهم ينظرون إليها بتعاطف شديد[7]. يتقاطع محسن صالح مع بشير عبر ادعائه بأنّ الحركة الصهيونية ذات جوهر ديني، رغم تصدر علمانيين قيادتها واتخاذها أشكالًا وبنى علمانية، مستندًا إلى أن رواد الصهيونية الأوائل كانوا من الحاخامات، وقد سبقوا العلمانيين الذين أنشأوا لاحقًا المنظمة الصهيونية العالمية، مؤكدًا أن التيار الصهيوني الديني كان حاضرًا منذ بدايات المنظمة الصهيونية العالمية[8].

ويرى عزمي بشارة أن الحريديم «محايدون» سياسيًا، ولا يهتمون بمسألة أراضي 1967، لكنهم في آخر عقدين تصهينوا[9]. ويتفق عدة باحثين مع الادعاء بأنّ الحريديم لا ينخرطون على نحو فاعل في السياسة[10]، لكونهم غير صهيونيين أو معادين للصهيونية. لذلك اعتزلوا الصراعات السياسية الجوهرية[11]. في المقابل، يجادل آخرون بأنّ التيار الديني ليس قادرًا على التأثير في السياسات الإسرائيلية التقليدية فحسب، بل هو قادر أيضًا على التأثير في السياسات الإسرائيلية النووية[12].

عقب ظهور نتائج انتخابات 2022 التي أظهرت تقدم أحزاب التيار الديني، جادل البعض بحدوث تحول في داخل التيار الديني نحو تبني «الخلاصية» والأفكار الدينية «المتطرفة»[13]. وانتشر في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي «المعارض»، وصف الحكومة المنبثقة من انتخابات 2022 بأنها حكومة يمين مسياني[14]، في حين يميز بشارة بين تيارين في الصهيونية الدينية، الحريدية والتيار القومي الديني، وهو يرى أن الحريديم أكثر مرونة من الناحية السياسية من التيار الديني القومي[15]. تتقاطع هنيدة غانم مع بشارة في التمييز بين الحريديم والتيار الديني القومي، فالحريديم – بحسب غانم – كانوا «خارج المشروع الصهيوني ثم انخرطوا فيه على أساس قطاعي لا صهيوني، والصهيونية الدينية التي كانت تيارًا هامشيًا وقطاعيًا لكنها مرت في تحولات أيديولوجية دفعتها باتجاه الصهيونية الدينية الخلاصية»[16]. تدعي غانم أن نتائج انتخابات 2022 قد أسفرت عن صعود تيار ديني «يمحور مشاريعه على فكرة أرض إسرائيل كجزء من سيرورة تسريع الخلاص الإلهي وقدوم المسيح، ويعتقد بأن التوراة مصدر التشريع، يسعى نحو إقامة دولة الشريعة اليهودية»[17]، حيث يتميز هذا التيار بنشاطه الاستيطاني وتبني العنف[18].

إذا عرضنا الأدبيات تبرز عندنا الإشكالية التي تسعى هذه الدراسة لتناولها، وهي: هل الحريديم معادون للصهيونية ومحايدون سياسيًا أم لا؟ وهل الأحزاب الحريدية كانت على هامش الحياة السياسية، أم في مركزها؟ وهل حدث فعلًا تحوُّل في مواقف الأحزاب الحريدية نحو مزيد من التطرف، أم أنّها تعبير عن جوهر الصهيونية؟ يدعي بعض الباحثين، في سياق متصل، بأنّه لا يوجد رأي سياسي واضح للأحزاب الحريدية (شاس ويهودات هتوراه «المكون من أغودات يسرائيل وديغل هتوراه») في خصوص: المسألة الفلسطينية، والدولة الفلسطينية، والمستوطنات في الضفة الغربية، فلا يطرحون هذا الأمر في برامجهم الانتخابية[19]. من هنا برزت الثغرة المعرفية التي تسعى الورقة إلى معالجتها، فقد تكون هذه الورقة الأولى في نوعها التي تبحث في البرامج الانتخابية للأحزاب الدينية الإسرائيلية، وفي مقدمها الأحزاب الحريدية. فبحسب مراجعتنا للأدبيات، انقسمت آراء الباحثين ما بين الادعاء بالحياد السياسي للأحزاب الحريدية، أو الادعاء بعدم تبنّيها رأيًا سياسيًا واضح.

يمكننا القول بوجود مقولتين رئيسيتين في تحليل نتائج الانتخابات الأخيرة 2022 وصعود التيار الديني: أولاهما تدعي تحوله من هامش الحياة السياسية الإسرائيلية إلى مركز صنع القرار[20]، وثانيتهما تدعي حصول تحول داخل التيار الصهيوني الديني نحو مزيد من التديّن والتطرف والفكر الخلاصي[21].

تهدف هذه الورقة إلى فحص المقولات السابقة الذكر والدخول في سجال نظري حول ماهية الأحزاب الحريدية وطبيعة علاقتها بالصهيونية، حيث تقودنا المقولات والمجادلات السابقة إلى عدة أسئلة من أبرزها، هل التيار الحريدي «محايد» سياسيًا، وما مدى دقة الادعاء بحصول تحول في التيار الديني نحو «الخلاصية» والفكر الإبادي؟ تسعى هذه الورقة إلى الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، من خلال تبني منهجية عابرة للتخصصات، ومن خلال منهجية تحليل الخطاب بالعودة إلى المصادر الأولية على موقعَي الكنيست الإسرائيلي والمعهد الإسرائيلي للديمقراطية، والمتمثلة بنتائج الانتخابات الإسرائيلية المتعاقبة، ومن خلال عرض البرامج الانتخابية للأحزاب الحريدية[22]، على أساس أن البرامج الانتخابية للأحزاب هي بمنزلة وثيقة معبرة عن فكرها، وفي حال حدوث تحول فكري فسينعكس ذلك على برامجها الانتخابية. يضاف إلى ذلك الاستعانة بأبرز الأدبيات التي تناولت دور التيار الديني الإسرائيلي.

خلافًا لما هو منتشر في الأدبيات، تجادل هذه الدراسة بمركزية الأحزاب الحريدية وتأثيرها في صناعة القرار الإسرائيلي، وتدعي بأنّ ما نشهده مؤخرًا من مواقف متطرفة للأحزاب الحريدية لا يعدّ تحولًا، وإنما إعادة إنتاج لخطابها، وكشف عن جوهر الحركة الصهيونية والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.

قد يتمثل المحدد الرئيسي لهذه الدراسة في مخالفتها للتيار السائد من الأدبيات، وما يعدّه البعض «مسلّمات»، وفي شح الأدبيات التي تعارض وجهة النظر السائدة، فالأكاديميا الإسرائيلية يهيمن عليها أصحاب التوجه العلماني الذين انخرط معظمهم في صراع على الهوية مع الأحزاب الدينية، لذلك تنتشر في هذه الأدبيات المقولات السياسية غير المبرهنة علميًا. وعليه حرصت الدراسة على الرجوع إلى المصادر الأولية الإسرائيلية، لتجنب الوقوع في المقولات المنتشرة غير المفحوصة.

تتجسد المشكلة في هذا الحقل من الدراسات في بناء مجادلات كاملة لبعض الباحثين بالاستناد إلى مقولات سياسية غير موضوعية. على سبيل المثال لا الحصر، يدعي بعض الباحثين حدوث تحوِّل في موقف الحريديم من الدولة الإسرائيلية بعد حرب 1967 بالبناء على معلومة خاطئة، فأحد الباحثين يدعي – للتدليل على حدوث تحول – أنّ حزب أغودات يسرائيل (الحريدي) لم يشارك قبل عام 1967 في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، لكنه شارك في الائتلافات ولجان الكنيست[23]. صحيح أن نتائج حرب 1967 قد أثرت في المجتمع الإسرائيلي برمَّته، وأحدثت تحولات اجتماعية كثيرة لمصلحة تنامي التيار الديني، لكن المعلومة مغلوطة ويفندها الواقع (المصادر الأولية)، فقد شارك حزب أغودات يسرائيل في الحكومة المؤقتة (1948 – 1949)، وكذلك أول ثلاثة حكومات إسرائيلية (سنعرض ذلك لاحقًا).

لا تقتصر المشكلة في بناء بعض الباحثين لمجادلات بالاستناد إلى معلومات خاطئة، وإنما تتعداها إلى استخدام «مصطلحات» و«مفاهيم» تخالف الحقائق التاريخية، وذلك للتدليل على حدوث تحولات في التيار الديني. على سبيل المثال لا الحصر؛ يكثر استخدام مصطلح «الحردلية»، لوصف التيار الديني المتكون من الحريدي والليئومي (صهيوني قومي)، ويتم التحقيب لظهور هذا التيار في أواخر سبعينيات القرن العشرين[24]. لكن بالرجوع إلى تاريخ الحركة الصهيونية سنجد أن مفهوم «الحردلية» قد تجسد في حركة «أحباء صهيون» أو «هواة صهيون» الناشئة في القرن التاسع عشر، التي قادها مزيج من الحاخامات والقوميين، وكان لها السبق في الاستيطان بفلسطين بقيادتها الموجة الاستيطانية الصهيونية الأولى[25] (التي بدأت سنة 1882)، والتي شاركت أيضًا في تأسيس المنظمة الصهيونية. فقد مثل الحركة في اللجنة التنفيذية ثلاثة حاخامات، بزعامة الحاخام شموئيل موهيليفر[26]. عدا عن تجسد ظاهرة «الحردلية» في انتخابات الكنيست الأولى سنة 1949 باتحاد الحريديم مع المتدينين القوميين في قائمة مشتركة (الجبهة الدينية الموحدة).

أولًا: الخلاصية

يوجد خلاف حول مفهوم الخلاص في اليهودية، فالخلاص في أسفار موسى الخمسة، هو خلاص جماعي لا فردي يتم داخل الزمان لا خارجه، آنيّ وليس في آخر الزمان، كما هو في واقعة خروج اليهود من مصر، من دون ذكر لخلاص نهائي. لكن مع الإحباطات المتتالية التي عاشها اليهود بعد التهجير البابلي أصبح الخلاص مسألة قومية تتم في آخر الزمان، تحصل فيه عودة المسيح مع جماعة يسرائيل إلى صهيون واسترجاع السيادة على العالم[27].

ارتبط مفهوم الخلاص في اليهودية بالمشيح أو المشيحانية، بمعنى عودة المسيح، وهو شخص مرسل من الإله يتمتع بقدسية خاصة، ليعدل مسار التاريخ البشري، فينهي عذاب اليهود ويأتيهم بالخلاص ويجمع شتات المنفيين ويعود بهم إلى صهيون، بعد تحطيم أعداء جماعة يسرائيل، ويعيد بناء الهيكل في القدس التي سيتخذها عاصمة، ويحكم بالشريعة اليهودية، بحيث يحل الفردوس الأرضي الذي سيدوم ألف عام (عقيدة الألفية)[28]. وقد ظهر في الجماعة اليهودية الكثير من المشحاء الدجالين أمثال بركوخبا، وأبي عيسى الأصفهاني، ويودغان، وداود الرائي. وفي الغرب: دايفيد رئوبيني، وشبتاي تسفي، وجوزيف فرانك. حيث انتقلت المشيحانية من اليهود الشرقيين (السفارديم) إلى الاشكناز والحسيدية الغربية، لتنتهي إلى الصهيونية[29].

ترجع بداية الفكرة الصهيونية التي أنجبت دولة إسرائيل (بحسب صبري جريس) إلى نهاية ثلاثينيات القرن التاسع عشر، على يد الحاخام يهودا القلعي[30]، الذي وضع سنة 1857 في كتابه المصير الإلهي خطة مفصلة للاستيطان في فلسطين، وذلك من أجل الإحياء السياسي والقومي للشعب العبراني، وحل مشكلة المسيح المنتظر والتأسيس لبداية الخلاص[31]. توافق مع فكرة القلعي الحاخام تسفي هيرش كاليشر الذي مثلت أفكاره الأساس لنشوء حركة «أحباب صهيون»، بحيث دعا في كتابه البحث عن صهيون الصادر سنة 1862 إلى الهجرة والاستيطان في فلسطين، اعتقادًا منه بأنها بداية تحقق الخلاص[32]. كان موشيه هس المنتمي إلى تيار الهسكلاة (التنويرية) أيضًا من الآباء المؤسسين وأحد منظّري الاشتراكية الصهيونية، الذي ألف كتاب روما والقدس سنة 1862، ونظّر لفكرة الاستيطان في فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها[33].

رفض الصهاينة فكرة انتظار مشيئة الإله من أجل الخلاص، وأخذوا زمام الأمور بأيديهم، بحيث يتم تخليص الأرض والاستيطان فيها من أجل إنشاء دولة يهودية فيها، ومن ثم قامت الصهيونية بعلمنة فكرة الخلاص[34]. تبنت الحركة الصهيونية فكرة الخلاص اليهودية الدينية، فقد تحول مصطلح الخلاص إلى أحد مفاتيح الفكر الصهيوني، بهدف خلق دافعية تساهم في التجند للحركة الصهيونية (العلمانية) كحركة خلاصية تستثمر المخزون الديني للخلاص، بحيث يُستخدم كأداة لتحقيق التطلعات القومية والسياسية لليهود، وكان هذا سبب النفور بين الحركات الدينية الأرثوذكسية (الحريديم) التي عدّت الصهيونية مسيانية خلاصية كاذبة[35].

يحصر بعض الباحثين الفكر الخلاصي بالأحزاب الدينية الإسرائيلية[36]. وهذا أمر غير دقيق؛ فالصهيونية العلمانية في جوهرها حركة مسيانية خلاصية، أو بحسب تعبير بشارة «مسيانية معلمنة»[37]. وبحسب المسيري فقد علمنت الصهيونية التطلعات المشيحانية، واستخدمتها كحل للمسألة اليهودية، من خلال تحويلها إلى حركة استيطانية تتقاطع مع التطلعات الاستعمارية للغرب[38]. وهذا ما دفع بعض الباحثين إلى القول بأنّ «العلمنة الصهيونية ليست إلا عبارة عن دين معلمَن»[39]. يكفي أن نستشهد هنا بتصريحات قاضي المحكمة العليا العلماني الليبرالي أهارون باراك: «نحن دولة شابة فيها شعب قديم عاد إلى وطنه، دولة إسرائيل هي تحقيق تطلعات الشعب اليهودي منذ أجيال لتجديد تاريخه القديم، بداية الخلاص، تحقيق الرؤية الصهيونية. عميق هو الرابط الديني القومي والتاريخي بين شعب إسرائيل وأرض إسرائيل، وبين الدولة اليهودية والشعب اليهودي»[40].

نجحت الصهيونية في الاستيلاء على اليهودية وعلمنتها، إلى درجة تبني الحركات الدينية (الأرثوذكسية) الصهيونية كإطار مرجعي، بعدما كانوا يحاربونها بذريعة علمانيتها وإلحادها[41]. فقد وقّع أكثر من 200 حاخام يهودي بيانًا قبل الانتخابات البرلمانية سنة 1949، ينص على أن إقامة دولة إسرائيل بمنزلة بداية الخلاص[42].

يدعي البعض وجود فارق بين الحريديم والمتدينين القوميين في ما يتعلق بالخلاص، فالقوميون يؤمنون بأن الخلاص قد بدأ «بقيام دولة إسرائيل» وأنّه سرعان ما سيكتمل بقدوم المسيح المنتظر، أما الحريديم فلا يتشاركون معهم هذا الاعتقاد[43]. وهذا الادعاء غير دقيق؛ فقد وقف مندوبو أغودات يسرائيل مع الحركة الصهيونية أمام لجنة بيل سنة 1937 وصرحوا بأنّ «وعد بلفور والانتداب يتفقان مع الوعد الإلهي بالخلاص»[44]. كما يفنده البرنامج الانتخابي للجبهة الدينية التوراتية (قائمة مشتركة بين حزبي الحريديم: أغودات إسرائيل وبوعالي أغودات إسرائيل). فقد ورد في برنامجها الانتخابي سنة 1973 التالي: «بفضل الله انتصرنا في حرب الخلاص للأيام الستة واسترجاع بقايا الهيكل (بيت همكداش) وتوحيد يورشليم المدينة المقدسة، حرب يوم الغفران جاءت لتذكرنا بأننا لم نرجع جميعًا لله، نؤكد أن القدس عاصمتنا الأبدية التي لم تكن عاصمة لأي أمة. من يومنا ننتظر خلاصنا الكامل»[45].

ثانيًا: معاداة أم تنافس؟

هناك خلط بين موقف الجماعات الدينية اليهودية المعادية للصهيونية كناطوري كارتا وساتمار، والأحزاب الحريدية كأغودات يسرائيل وبوعالي أغودات يسرائيل وديغل هتوراه وفيما بعد يهودات هتوراه وكذلك شاس، حيث توضع جميعًا في سلة واحدة كمعادية للصهيونية أو توصف بأنها غير صهيونية.

يجب التمييز بين معاداة المنظمة الصهيونية والتنافس معها، كما يجب التمييز بين رفض الانضمام إلى المنظمة الصهيونية ورفض الفكر الصهيوني، إذ يختلف التيار المهيمن في الأحزاب الحريدية مع التوجه العلماني للمنظمة الصهيونية، لكنه في الجوهر يتبنى الفكر الصهيوني، من مسيانية والعمل على استيطان «أرض الميعاد»، فقد تعاون حزب أغودات يسرائيل مع الصندوق القومي اليهودي لإقامة مستوطنة حريدية سنة 1944 (حفيتس حاييم)[46]. ولربما يفترض البعض أن انسحاب جزء من قيادات «همزراحي» من المنظمة الصهيونية سنة 1911، احتجاجًا على المسألة الثقافية والتوجه العلماني للمنظمة الصهيونية، ومشاركتهم في تأسيس أغودات يسرائيل سنة 1912 مؤشر على معاداة الصهيونية، وهذا ادعاء مفند، فالدافع إلى تشكيل الأغودات كان منافسة الصهيونية على الجمهور اليهودي وصبغه بالهوية الدينية، وهنالك فرق شاسع بين المنافسة والمعاداة.

يمكننا الادعاء أنّ الانفصال عن المنظمة الصهيونية وتأسيس أغودات لا يؤشر إلى التخلي عن الفكر الصهيوني؛ فعلى سبيل المثال انسحب زئيف جابوتنسكي قائد التيار التصحيحي والأب الروحي لحزب حيروت (الليكود لاحقًا) من المنظمة الصهيونية سنة 1931، وطالب حزبه (التحالف الصهيوني التصحيحي) بالانسحاب منها، على خلفية رفض المنظمة الصهيونية التصويت على هدف إقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل (لأن الوقت من وجهة نظر المنظمة غير مناسب)[47]، فهل يعني ذلك أنه معادٍ للصهيونية! بالقطع لا، فالانفصال عن المنظمة الصهيونية لا يعني معاداة الفكر الصهيوني.

كيف يمكن وصف الأحزاب الحريدية بأنّها معادية للصهيونية أو أنها غير صهيونية، وهي قد شاركت في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، كما شاركت في توقيع وثيقة إعلان الدولة! فقد وقع اثنان من حاخامات «أغودات» وثيقة إعلان الدولة[48]. كما شارك حزب أغودات في الحكومة المؤقتة (1948-1949) «حيث تقلد الوزير يتسحاق مائير ليفين منصب وزير الرفاه»[49] وكذلك في الحكومة الأولى (1949-1950)[50]، والثانية (1950-1951)[51]، والثالثة (1951-1952)[52]. لكن بعد إقرار الحكومة الإسرائيلية سنة 1952 الخدمة المدنية للفتيات كبديل من الخدمة العسكرية (بما يعاكس موقف أغودات)، أفتى مجلس حكماء التوراة (المرجعية الدينية لأغودات، الذي تحول اسمه إلى مجلس علماء التوراة فيما بعد) بضرورة انسحاب أغودات من الحكومة[53]. بالرغم من ذلك أبقى أغودات على دعمه لحزب مباي (العمل لاحقًا) مقابل مكاسب برلمانية. يضاف إلى ذلك مشاركة حزب بوعالي أغودات يسرائيل (المنبثق من أغودات) في الحكومة التاسعة برئاسة بن غوريون، بوزير البريد بنيامين منتس سنة 1960 – 1961 [54] (انظر الجدول).

أخيرًا… كيف يمكن وصف المنتسبين إلى الأحزاب والجماعات الحريدية بأنهم معادون للصهيونية أو أنهم غير صهاينة، واثنان من رؤساء دولة إسرائيل: زلمان شازار (1963-1973)، وأفرايم كاتزير (1973-1978)، هم من أتباع جماعة حبد الحريدية[55]. زيادة على ذلك تقلد الحاخام عوفاديا يوسف (المرشد الروحي لحزب شاس وأحد مؤسسيه) منصب حاخام أكبر لدولة إسرائيل سنة 1968، فكيف يكون حزب شاس معاديًا للصهيونية؟

ثالثًا: تيار مركزي مؤثر

يدعي البعض بأن الأحزاب الحريدية كانت تعيش على هامش الحياة السياسية، وهذا الادعاء تفنّده الوقائع على الأرض، حيث تؤكد مشاركة الأحزاب الحريدية في الحكومات المتعاقبة (سواء «اليسارية» بقيادة العمل أو اليمينية بقيادة الليكود) دورها المركزي. ففي الوقت الذي جلس على مقاعد المعارضة التيار الصهيوني التصحيحي ممثلًا بحزب حيروت (الذي يحصل عادةً على المركز الثاني في الكنيست بعد مباي)، كانت أحزاب التيار الديني (بشقيها الحريدي والقومي) تشارك في الحكومة، فقد تقلّدوا ثلث الحقائب الوزارية في الحكومة المؤقتة والأولى والثانية والثالثة، وحتى بعد انسحاب أحزاب الحريديم من الحكومة سنة 1952، بقي أحزاب التيار الديني القومي عنصرًا أساسيًا في الحكومات المتعاقبة، بتقلدها ثلاثة حقاب وزارية على الأقل في كل حكومة[56].

لربما يكون المؤشر الأوضح على تأثير الأحزاب الحريدية في الحياة السياسية نجاحها في مرحلة تأسيس دولة إسرائيل، في فرض فكرها على المجال العام، فالحركة الصهيونية التي يغلب عليها الطابع العلماني اضطرت إلى تبني مطالب التيار الديني، باحترام قدسية السبت، والأعياد الدينية، والالتزام بتقديم الطعام الكوشير (المشرف على إعداده بواسطة الحاخامات) في المؤسسات الرسمية، عدا عن عدم إلزام المتديئين بالخدمة العسكرية. فلو كان هذا التيار هامشيًا لما احتاج بن غوريون إلى إرضائه والتوقيع معه اتفاقية «الوضع الراهن».

رابعًا: الحيادية وزيادة التطرف

يدعي البعض بحيادية الأحزاب الحريدية في الشأن السياسي، في حين يذهب آخرون إلى أنّ أحزاب التيار الديني كانت معتدلة في ما سبق، لكنها أصبحت متطرفة في مواقفها السياسية في العقد الأخير، وحتى نفحص هاتين المقولتين، سنرجع إلى البرامج الانتخابية للأحزاب الحريدية، للاطلاع على موقفها، في ما يتعلق بقضايا: أرض إسرائيل «الكاملة»، وضرورة أن تكون التوراة مصدر التشريع الأساسي والسعي إلى إقامة دولة الشريعة اليهودية، الاستيطان، انتهاج العنف في التعامل مع الفلسطينيين، والموقف من نشوء كيان فلسطيني.

1 – أرض إسرائيل الكاملة

عقب انتهاء حرب عام 1967 ظهرت الحركة من «أجل أرض إسرائيل الكاملة»، وهي حركة مكونة من الشخصيات العامة والمثقفين من اليمين واليسار، تأسست بعد شهر من حرب عام 1967، وقع بيان تأسيسها 50 شخصية عامة من جميع التيارات الصهيونية، ودعت إلى أيديولوجية أرض إسرائيل كاملة. وطالبت بفرض السيادة الإسرائيلية على أراضي «يهودا والسامرة» (الضفة الغربية) وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان، والاستيطان فيها[57].

أشارت الجبهة الدينية التوراتية (قائمة مشتركة بين حزبي الحريديم أغودات إسرائيل وبوعالي أغودات إسرائيل)، في برنامجها الانتخابي لسنة 1973 إلى أنّ «أرض إسرائيل مُنحت لنا من الآباء التي منحهم الله إياها، وأبدًا لا يمكن التنازل عن أي جزء منها»[58]. وقد أكد أغودات يسرائيل على المبدأ نفسه في برنامجها الانتخابي لسنة 1977، الذي يقول «نؤكد حقنا الكامل في يورشليم المقدسة. أثبتت حرب يوم الغفران أنه لا يوجد ضمانة للأمن ويجب المحافظة على العمق الاستراتيجي»[59] (كناية عن عدم التنازل عن أراضي عام 1967). وكرر يهودات هتوراه هذا التوجه في برنامجه الانتخابي لسنة 1988 بالنص على أنّ «أرض إسرائيل التي منحت لنا على يد الله تابعة للشعب اليهودي»[60]. وقع بالتزامن مع ذلك أغلبية أعضاء مجلس علماء التوراة التابع لأغودات سنة 1998 عريضة ترفض أي انسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة[61]. ثم جاءت قائمة ديغل هتوراه لتؤكد المبدأ نفسه في برنامجها الانتخابي سنة 1992، بالنص على «حقنا في أرض إسرائيل كما كتب بالتوراة غير قابل للتشكيك»[62]. كما أكدت يهودات هتوراه التوجه نفسه في برنامج سنة 1996، بالقول: «مع السلام بشرط الحفاظ على أرض الأجداد والتعايش مع العرب داخل الدولة»[63]. وكررت القائمة الموقف نفسه في برنامج 1999 بالقول: «إن الخط التوجيهي لـ «يهودات هتوراه المتحدة» هو: أرض إسرائيل، التي وهبنا إياها الله، هي ملك للشعب اليهودي»[64].

يصف البعض شاس بالحمائمية على خلفية فتوى الحاخام يوسف سنة 1979 بجواز التنازل عن جزء من الأراضي المحتلة لتفادي الحرب، وقد جاءت الفتوى على خلفية الانسحاب من سيناء في إطار اتفاقية السلام مع مصر، يضاف إلى ذلك اشتراك شاس في حكومة إسحق رابين سنة 1992 [65]. جاءت مشاركة شاس في حكومة رابين سنة 1992 كتعبير عن صراع القوى والخلاف بين الحاخام إليعزر شاخ (مرجعية الحريديم) والحاخام عوفاديا يوسف (مرجعية شاس)، والخلاف بينهما في ما يتعلق بالتحالفات السياسية. فقد دعا الحاخام شاخ إلى التحالف مع حزب الليكود بينما دفع الحاخام يوسف شاس إلى التحالف مع العمل. نتج من ذلك قطيعة بين شاس والحاخام شاخ الذي ساهم في تأسيسها، وهو ما قاد الأحزاب الحريدية للتهجم على شاس واتهامه باليسارية والحمائمية[66].

خالفت شاس رأي بقية أحزاب التيار الديني التي أفتت بعدم الانضمام إلى ائتلاف حكومي فيه شلوميت ألوني زعيمة ميرتس والمعادية للدين من وجهة نظرهم[67]. يجب الانتباه هنا إلى أنّ رفض التيار الديني الانضمام إلى رابين هو رفض للوزيرة ألوني وليس لمبدأ المفاوضات، بدليل مشاركة أحزاب التيار الديني حريديم وتيار قومي في حكومة شامير في أعوام 1990 – 1992 (الحكومة 24) التي خاضت مفاوضات مدريد، وهنا أيضًا يجب التمييز بين المفاوضات وعقد اتفاق.

تقاطع حزب شاس مع بقية الأحزاب الحريدية، فرفض في برنامجه الانتخابي تقسيم القدس[68]. وقد امتنع أعضاء شاس عن تأييد أو معارضة اتفاقية أوسلو الأولى. لكن الحزب عارض توقيع اتفاقية أوسلو 2، وكذلك المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية في كامب دايفيد 2000، وخطة فك الارتباط عن قطاع غزة سنة 2005 [69].

2 – دولة الشريعة اليهودية

يوجد ما يشبه الإجماع بين أحزاب التيار الديني على السعي من أجل إقامة دولة شريعة يهودية تحتكم إلى التوراة. فقد نص البرنامج الانتخابي لأغودات يسرائيل سنة 1961 على التالي: «أسست (أغودات يسرائيل) على يد علماء التوراة وقادتها الروحانيين، وضعت لنفسها هدف عند تأسيسها، حل المشاكل والأسئلة المطروحة في الحياة اليومية لشعب إسرائيل بالرجوع إلى التوراة والشريعة اليهودية، ظهور تيارات أخرى في داخل الشعب اليهودي يتنكرون لمبدأ «سلطة التوراة في داخل شعب إسرائيل» هي التي دفعت لتنظيم أغودات يسرائيل، لذلك مشاركة أغودات يسرائيل في انتخابات الكنيست هي بهدف إدخال نور التوراة إلى كل جوانب الحياة في البلاد، والتأثير في كل الاتجاهات لتحقيق أهدافها، حسب وجهة نظرنا على دولة إسرائيل أن تجعل قوانين التوراة مرجعية للتشريع القانوني، للأسف لم يتم اعتماد ذلك، وبالتالي ستناضل أغودات يسرائيل من أجل ذلك»[70].

في السياق نفسه؛ جاء برنامج الجبهة الدينية التوراتية سنة 1973، الذي نص على أنّ التوراة أساس قيام الأمة، وضرورة مواءمة القوانين مع التوراة[71]. أمّا ديغل هتوراه فقد نص برنامجها الانتخابي سنة 1992 على أنّ الأسئلة السياسية تحل بموجب توجيهات التوراة، كما يجب الوقوف في وجه العلمانيين بما يختص تحكيم التوراة. وحتى «تحقيق الهدف الكامل الموجود بالتوراة سنقوي القائم»، هدفنا الأساسي منع المسّ بالمحافظين على التوراة، و«حل المشاكل اليومية على أساس روح التوراة»[72]. وتكرر الأمر في برنامج يهودات هتوراه لسنة 1996، بالقول «هدفنا المحافظة على التوراة وعدم سن قوانين تمس بيهودية الدولة»[73].

3 – الاستيطان

أقيمت مستعمرة «بيتاح تكفا» التي يطلق عليها الإسرائيليون «أمّ المستوطنات» على يد تيار من الحريديم يؤمن بالاستيطان في أرض فلسطين، وذلك سنة 1878 (أي قبل موجة الهجرة الأولى (1882) وحتى قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول 1897)، وذلك بإشراف الحاخامات عكيفا شلينجزر ويؤول سلمون والحاخام أليعزر راف[74].

أصدر الحاخام شموئيل موهليفر (أحد مؤسسي حركة أحباء صهيون) سنة 1882، مع الحاخامين يوسف بير سولوفيتشيك وإلياهو حاييم ميسل، «كول كورا» للحاخامات، يطالب اليهود في مجتمعاتهم بالهجرة إلى فلسطين، للعمل في أرضها وكسب العيش الكريم، وليس الهجرة إلى أمريكا[75]. جدير بالإشارة هنا أنّ الأغلبية الساحقة من أفراد الموجة الاستيطانية الأولى (1882) كانوا متدينين محافظين (سواء الأشكناز او السفارديم من اليمنيين)[76]، حيث دعم وشجع الحاخام الحريدي (المستوطن في فلسطين) يسرائيل فرومكين استيطان اليمنيين الفقراء (يقدر عددهم بـ 5 آلاف)[77]. يجب أن ننتبه إلى أنّ المؤتمر الصهيوني الأول كان قد عقد سنة 1897، بينما موجة الهجرة الأولى الصهيونية كانت سنة 1882، وهذا ما يعني أن الصهيونية كفكرة كانت سابقة للصهيونية كتنظيم.

أقام حزب بوعالي أغودات يسرائيل (الحريدي) عدة مستوطنات في منتصف الثلاثينيات من بينها كيبوتس هنوعر هأجودتي، وكيبوتس عزرا، وكذلك كيبوتس حفتس حاييم، كما قام الحزب بإنشاء عدة مستوطنات بعد قيام الدولة، وعقب الائتلاف مع الليكود سنة 1977 أقامت الأحزاب الحريدية عدة مستوطنات في مناطق 1967، من بينها مستوطنة متتياهو+ متتياهو ب على أراضي قرية بلعين بالقرب من رام الله، وكذلك أقام بوعالي أغودات مستوطنة متساد (سميت فيما بعد إسفر) على أراضي قرية الشيوخ التابعة للخليل، وكذلك مستوطنة معاليه عاموس على أراضي عرب الرشايدة بالقرب من بيت لحم، كما قامت الحكومة الإسرائيلية بالتعاون مع ديغل هتوراه وشاس بإقامة مستوطنة كريات سيفر على أراضي قرية نعلين ودير قديس قضاء رام الله، يضاف إلى ما سبق استيطان الحريديم في مستوطنات تقع في القدس الشرقية[78].

تبنت الأحزاب الحريدية في برامجها الانتخابية الاستيطان وشجعته؛ فقد نص البرنامج الانتخابي للجبهة الدينية التوراتية (أغودات+ بوعالي اغودات) سنة 1973 على تشجيع الاستيطان في أرض الآباء[79]. ولاحقًا أكد أغودات يسرائيل سنة 1988 على التوجه نفسه بتشجيع الاستيطان في كل أجزاء «البلاد»، وكذلك تشجيع الهجرة[80].

4 – العنف

يوجد تصور مغلوط عند البعض عن عدم مشاركة الحريديم في التجنُّد للجيش الإسرائيلي، فبحسب اتفاق «عمله توراته» المنعقد بين الحريديم والدولة يتم إعفاء المنخرطين في دراسة التوراة من التجنيد الإجباري. لكن هذا التصور يعكس جزءًا من الصورة الإجمالية، حيث يشارك جزء من الحريديم في الجهد القتالي والجيش. فقبل إقامة الكيان الصهيوني انضم عدد كبير من أعضاء منظمة بوعالي أغودات يسرائيل إلى منظمة ليحي العسكرية[81]. كما اشتركت منظمة أغودات يسرائيل في إنشاء لجنة خاصة للدفاع عن القدس سنة 1948 إلى جانب القوى الصهيونية، كما انضم معظم منتسبي المنظمة إلى المقاتلين اليهود[82]. يضاف إلى ذلك؛ تم إنشاء لواء بالجيش (الناحال) في خضم سنة 1948 لاستيعاب الحريديم وتجنيدهم، حيث يقتصر هذا اللواء على المجندين الذكور دون الإناث، لمراعاة معتقدات الحريديم[83].

5 – الكيان الفلسطيني

أعلنت الجبهة الدينية التوراتية (أغودات+ بوعالي) في برنامجها الانتخابي سنة 1973 بأنّها تعارض التنازل عن أي جزء من أرض الآباء في أي مفاوضات سلام، فقد نص البرنامج على: «نمد يدنا للسلام لكن لنا خطوط أساسية: وعد الرب لآبائنا بميراث أرض إسرائيل هو وعد قائم لكل زمان وجيل. أثبتت حرب يوم الغفران بأننا بحاجة لعمق استراتيجي لحماية حياتنا. شرط مسبق للتقدم في الاتجاه الصحيح (بالنسبة للسلام) هو بناء سياسة إسرائيل بثقتنا بالرب إله إسرائيل، لن يتخلى عن شعبه ويتنازل عن ميراثه»[84]. غير أن أغودات إسرائيل أعلن في برنامجه الانتخابي لسنة 1988 بأنّه «نعارض المفاوضات مع م.ت.ف وإقامة دولة فلسطينية، الدولة الفلسطينية تشكل خطرًا على إسرائيل وستسبب باندلاع حروب دائمة»[85].

أكد يهودات هتوراه عدم التنازل عن أي جزء من الأرض في برنامجه لسنة 1996 الذي نص على أنه «مع السلام بشرط الحفاظ على أرض الأجداد»[86]. تجاهل يهودات هتوراه وجود الشعب الفلسطيني ككيان، ونظر إليهم كرعايا، لذلك انحصر اهتمامه في برنامجه الانتخابي لسنة 1999 على السلام مع الجيران العرب، فقد نص البرنامج على: «نحن ملتزمون بإيجاد سلام حقيقي في منطقتنا لوقف إراقة الدماء. سوف نطالب بتوحيد المبادرات السياسية من جانبنا وبذل كل جهد لتحديد ترتيبات السلام مع جيراننا، وإقامة علاقات ودية مع جميع الشعوب والدول. في السنوات الخمس الماضية، ومنذ حرب الأيام الستة، استقر السكان العرب الساكنين معنا في إسرائيل اقتصاديًا وثقافيًا بوتيرة سريعة للغاية. إن حرية التعبير وإمكانيات عيش حياة مزدهرة تفوق الإمكانات المتاحة لإخوانهم في الدول العربية»[87].

خلاصة واستنتاج

تُظهر الورقة عدم دقة الكثير من «المسلّمات» والمقولات المتعلقة بالأحزاب الحريدية، فالتيار الديني (أو الأصولية اليهودية) متغلل في الفكر الصهيوني حتى قبل إنشاء المنظمة الصهيونية (ذات الصبغة العلمانية)، وليس أدَل على ذلك من تبني الصهيونية الفكر الخلاصي (بعد علمنته)، واستنادها إلى منظّرين من الحاخامات على ضرورة الاستيطان في أرض فلسطين، من دون انتظار قدوم المسيح.

تنقد الورقة مقولة معاداة الأحزاب الحريدية للصهيونية، من خلال التمييز بين المعاداة والتنافس الحزبي، تكمن الإشكالية (كما يشير نبيه بشير) في أنّ الأحزاب الحريدية كأغودات يسرائيل قد ضمت تيارات متعددة ومتناقضة من الحاخامات، منها من أيّد الاستيطان وتقارب مع الحركة الصهيونية، ومنها من عادى الصهيونية ورفض الاستيطان في أرض فلسطين (وهنا تكمن مشكلة بعض الباحثين في أخذ موقف لتيار معين في داخل الأغودات وتعميمه)[88]. لذلك لجأت الورقة (كمنهجية) إلى برامج الأحزاب الدينية لا إلى تصريحات الحاخامات. من هنا يمكننا الادعاء: باستثناء جماعة ناطوري كارتا وساتمار، توجد علاقة تخادم وتصالح بين الأحزاب الدينية الحريدية والحركة الصهيونية.

كما تنقد الورقة مقولة حيادية الأحزاب الحريدية في الشأن السياسي وما يتعلق بمناطق 1967، من خلال استعراض برامجها السياسية، والاستشهاد ببعض مواقفها السياسية في الحكومات الإسرائيلية. كما تتعرض الورقة بالنقد لمقولة هامشية أحزاب التيار الديني، فالأحزاب الحريدية مؤثرة وضالعة في صناعة القرار في منظومة الحكم الإسرائيلي.

تتناول الورقة بالنقد الادعاء بحدوث تحول في الأحزاب الحريدية نحو التطرف، فالأحزاب الحريدية كما هي بقية الأحزاب الإسرائيلية، نشأت وترعرعت في ظل منظومة الاستعمار الاستيطاني المبني على المحو والقمع وتبني العنف. لئن كان بعض قيادات الأحزاب الدينية الإسرائيلية يدعون إلى الاستيطان وينادون باستخدام العنف والقمع والترحيل تجاه الفلسطينيين، فإن قيادات الأحزاب الإسرائيلية العلمانية، لم يكتفوا بالتصريحات ومارسوا أفعال المحو والعنف وتعزيز الاستيطان. فالقيادات العلمانية (من حزبي العمل (مباي) والليكود وما تلاها من أحزاب) التي ترأست الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، مارست التطهير العرقي والتهجير القسري، والقتل والقمع وعززت الاستيطان على أرض الواقع.

تُظهر الورقة عدم دقة ما يدّعيه البعض بزيادة تطرف الأحزاب الحريدية في العقد الأخير، فمنذ السنوات الأولى لتأسيسها تتبنى مواقف متطرفة، في هذا السياق يخلط البعض بين التحول الفكري وعدم القدرة على تنفيذ البرامج أو التقدير بعدم أوانها، أو براغماتية الأحزاب الدينية كمزراحي، عبر الاستشهاد بموقفهم المساند لمشروع أوغندا (إقامة دولة يهودية في أوغندا)، للاستنتاج بحدوث تحول فيما بعد من الاعتدال للتطرف، بحيث يتم الخلط بين حدوث تغيرات وتحولات فكرية وبين البراغماتية، حيث لم تسنح لهذه الأحزاب الظروف سابقًا لممارسة قناعتها وبرامجها الانتخابية، لكن مع تزايد حجمها الانتخابي استطاعت تطبيق بعض برامجها الانتخابية التي سبق ودعت إليها منذ عقود.

تبين الورقة أنّ ما يحسبه البعض تحولًا في توجهات الأحزاب الحريدية نحو التصهين والخلاصية، ما هو في الواقع إلا كشف عن جوهر الصهيونية التي استندت إلى الخلاصية والمسيانية المعلمنة؛ فما نلمسه مؤخرًا هو كشف عن جوهر وبنية الصهيونية أكثر من كونه تحولًا داخلها. ويمكننا الادعاء بناءً على دراسة برامج الأحزاب الحريدية، بأنّها لم تمر بعملية تحول فكري كما يعتقد البعض، وإنما إعادة إنتاج للخطاب نفسه، بحيث يتم تديين الصهيونية لا صهينة الأحزاب الحريدية فهي أصلًا صهيونية فكرًا وممارسة.

يمكننا الاستنتاج، بعد الاطلاع على البرامج الانتخابية للأحزاب الحريدية، بأنّها قد أعادت إنتاج الأفكار والمبادئ نفسها التي تأسس عليها التيار، من أرض إسرائيل الكاملة، والسعي لإقامة دولة شريعة توراتية، والفكر الخلاصي، وتشجيع الاستيطان، وانتهاج القوة والعنف، ورفض نشوء أي كيانية فلسطينية بين نهر الأردن والبحر المتوسط تتمتع بالسيادة أو الاستقلال.

مشاركة الأحزاب الحريدية
في الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة

الحكومةالحقبة الزمنيةرئيس الحكومةوزارات الحريديم
مؤقتة14/5/1948-14/2/1949دايفيد بن غوريونالرفاه (شؤون اجتماعية)
110/3/1949-1/11/1950بن غوريونالرفاه
21/11/1950- 8/10/1951بن غوريونالرفاه
38/10/1951-24/12/1952بن غوريونالرفاه
424/12/1952-26/1/1954بن غوريون
526/1/1954- 29/6/1955موشيه شاريت
629/6/1955-3/11/1955موشيه شاريت
73/11/1955- 7/1/1958بن غوريون
87/1/1958- 17/12/1959بن غوريون
917/12/1959- 2/11/1961بن غوريونالبريد
102/11/1961-26/6/1963بن غوريون
1126/6/1963-22/12/1964ليفي أشكول
1222/12/1964-12/1/1966ليفي أشكول
1312/1/1966-17/3/1969ليفي أشكول 
1417/3/1969- 15/12/1969غولدا مائيرنائب وزير التعليم
1515/12/1969- 10/3/1974غولدا مائير
1610/3/1974-3/6/1974غولدا مائير 
173/6/1974-20/6/1977اسحق رابين 
1820/6/1977-5/8/1981مناحيم بيغن 
195/8/1981-10/10/1983مناحيم بيغن 
2010/10/1983-13/9/1984اسحق شامير 
2113/9/1984-20/10/1986شمعون بيريس (وحدة)الداخلية (شاس)+ وزير بمكتب الرئيس+ 2 نائب وزير
2220/10/1986-22/12/1988إسحق شاميرالداخلية+ وزير بمكتب الرئيس+ 2 نواب
2322/12/1988-11/6/1990شامير (وحدة)2 نائب وزير (شاس+ أغودات)
2411/6/1990-13/7/1992شاميرالاعلام (شاس)، 7 نائب وزير
2513/7/1992-22/11/1995رابينالداخلية، وزير بمكتب الرئيس، 4 نائب وزير (شاس)
2622/11/1995-18/6/1996بيرس
2718/6/1996-6/7/1999بنيامين نتنياهوالعمل والرفاه، الداخلية+ 3 نائب وزير
286/7/1999-7/3/2001إيهود باراكالصحة، العمل والرفاه، البنية القومية، الأديان+ 2 نائب
297/3/2001-27/2/2003أرئيل شاروننائب رئيس، الصحة، العمل والرفاه، الداخلية، بمكتب الرئيس+ 5 نائب
3027/2/2003-4/5/2006شارون2 نائب (ديغل+ اجودات)
314/5/2006-31/3/2009إيهود أولمرتنائب رئيس، وزير بالمالية، الصناعة والتجارة، الإعلام، الأديان، نائب بمكتب (ش)
3231/3/2009-18/3/2013نتنياهونائب رئيس، الإسكان، الداخلية، الأديان، بمكتب الرئيس+ 3 نائب (2 يهودات)
3318/3/2013-14/5/2015نتنياهولم تشارك بسبب ليبرمان ولبيد
3414/5/2015-17/5/2020نتنياهوالصحة (أغودات)، الاقتصاد، الداخلية، تطوير الضواحي، الأديان+ 5 نائب
3517/5/2020- 13/6/2021نتنياهووزير بالاقتصاد، الإسكان، الأديان، الداخلية. 3 نائب
3613/6/2021-29/12/2022نفتالي بينت- يائيرلابيد
3729/12/2022نتنياهوالإسكان، وزير بالتعليم، العمل والرفاه، الأديان، وزير بالرئاسة، الصحة، الداخلية.+ 4 نائب

المصدر: الجدول من إعداد الباحث، بالاستناد على قاعدة البيانات في موقع الكنيست الإسرائيلي، «الحكومات الإسرائيلية،»  (بالعبرية)، <https://bit.ly/3JGxoZS>.

كتب ذات صلة:

مشاريع الطاقة الإسرائيلية في شرق المتوسط وتحديات الأمن القومي العربي

جيوبوليتيك حوض المتوسط: ترسيم الحدود البحرية وقضايا السلام والأمن الدوليين

فلسطين: أربعة آلاف عام في التربية والتعليم