مقدمة:

لم يعد الكيان الإسرائيلي يكتفي بالاعتراف به «دولةً» ذات سيادة وأمراً واقعاً، وإنما يطلب الاعتراف به «دولة يهودية» ذات شرعية دولية وفق الاتفاقيات والأعراف والقانون الدولي، الأمر الذي يمنحها مشروعية تاريخية ودينية وقانونية مزعومة، وإن كانت مضادّة بنيوياً لها، ويمسّ جوهر القضية الفلسطينية ومعادلة الصراع العربي ـ الصهيوني.

وإزاء مضيّ الاحتلال في ما يعتقده مسوّغ وجوده الاستيطاني وروايته الصهيونية لسلب الأرض والتاريخ معاً، فقد تلبّس «المطلب» برداء «الشرعية القانونية»، عبر مسعىً تشريعيٍ «محموم» لقوننة الطابع والأغلبية اليهوديين، وعبر حراك دبلوماسي نشط لإضفاء الصفة الدولية عليه، وشرط مُلحٍّ لبلوغ اتفاق نهائي للتسوية السلمية، سرعان ما تم تبنّيه أمريكياً، من دون أن يجدَ طريقه إلى التنفيذ، حتى الآن، أمام رفض فلسطيني ـ عربي لما يعنيه ضمناً إسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم، وحرمان المواطنين الفلسطينيين في فلسطين المحتلة عام 1948 حقهم في وطنهم، وتهديدهم بالتهجير، و«شرْعنة» القوانين العنصرية ضدّهم.

ولأن انتزاع «المطلب» يقع خارج حدود الكيان الاستعماري الإحلالي بتوليفته الثقافية والعرقية المتنوعة، فقد تجاوز هذا الكيان ما يعتريه من أزمة «هوية الدولة» و«تعريف اليهودي»، غير المحسومة حتى اليوم، رغم أنها قضية ليست دينية أو سياسية فحسب، وإنما قضية مصيرية تنصرف إلى رؤية العالم والذات، وسند تضامن الداخل الصهيوني، ومصادر شرعيته، وهو ما قد يتسبب في فقدان الأساس «الديني» لدولة «إسرائيل»، وبالتالي انهيار شعار «يهودية الدولة» نفسه.

ولا تعدّ أزمة «الهوية» مستحدثة، فقد صاحب قيام الكيان الإسرائيلي، ولا يزال، تناقض حادّ بين الدين والقومية، والمتدينين والعلمانيين، والدين والدولة، لم يسهُل احتواؤه. وقد وجد ذلك تأصيله في تعريف «اليهودية» نفسها، غير المرادفة لكلمة الديانة اليهودية، وإن كانت الأخيرة جزءاً منها، إزاء ارتباط بين اليهودية بوصفها ديانة واليهودية بوصفها مسمى لجماعة بشرية، بحيث تمثل اليهودية، عندهم، الوحدة التي توصف بكونها ديانة قومية تعبّر عن ثقافة مستقلة ذات طابع متميز يختلف عن المجتمع الذي يحيط بها. ويمكن هنا اعتبار عناصر مفهوم اليهودية بمنزلة «هويات» يهودية متعددة ومركبة وليست هوية واحدة، وقد تكون مجرد تسميات، نظراً إلى الأسس التي يقوم عليها تعريف اليهودية: دينية، قومية، أو دينية قومية؛ وإلى موقع تعريف اليهودية بين الواقعية والمثالية، بما يعدّ استخدامه معبّراً عن نموذج أكثر تركيبية ومفسّراً لواقع أعضاء الجماعات اليهودية، وللتغيرات التاريخية والثقافية والدينية التي دخلت على هذه الهوية وحولتها إلى هويات مختلفة[1].

ومن ذلك، نجد تسميات ومصطلحات متعددة ومتداخلة في مفهوم اليهودية، بوصفه مسمى أطلق على جماعات بشرية وليست عرقية كما تحاول الصهيونية تصويرها، يرتبط بدلالته أكثر من عناصره. وقد ظهر هذا المفهوم في مرحلة معينة من مراحل تطور مجموعة بشرية معينة، كان يشار إليها بتعبيرات أو تسميات أخرى، مثل الإسرائيليين (نسبة إلى الاسم البديل ليعقوب بن إبراهيم)، والعبرانيين (نسبة إلى العبور)، في حين يعتقد أن أصل التسمية مشتق من مملكة يهوذا مملكة الجنوب التي عاصمتها القدس بعد انقسام مملكة سليمان بن داوود (q)، أو مشتق من «يهوذا» أحد أسباط يعقوب الإثني عشر أو من إله اليهود «يهوه»، أو من الذين هادوا، أي تابوا ورجعوا. هذا التعدد يؤكد مدى الخلط والالتباس الذي يحيط بالمفهوم[2]. وهذا لا يعني أن تلك التسميات القديمة قد بادت بل تطورت، مثل العبرية التي اقترنت باللغة، و«إسرائيل» التي باتت الدولة الصهيونية. كما ارتبط المفهوم أحياناً بالأصل العرقي، وكأنه تسمية لجنس بشري بذاته، اقترن بمجموعة بشرية يعتبرها البعض قومية، بينما تم النظر إلى اليهودية على أنها ثقافة، أو نسق من الأفكار لمجموعات بشرية منتشرة في مجتمعات مترامية، بما يشي باقتران مفهوم اليهودية بتسميات فرعية ارتبطت بتطور جماعة بشرية معيّنة فكرياً وحركياً، بحيث لا يمكن القول إن له دلالة محددة لأمر محدد واحد وإنما هو مفهوم معقد ومركب.

وإذا كان ثمة جدل حول دور الهوية في تعزيز الصراع، بسبب العلاقة الثنائية المعقدة، بين إذكائها للحروب والصراعات وضرورة توافر محفزات موضوعية كفيلة بجعل تأثيرها أمراً واقعاً[3]، فإن الرأي قد استقر، بعد أطوار من البحث والنقاش، على دور الدين في تأجيج تناقضات محلية تقارب حد الخطورة عند انشغال «جماعة» بأكملها في موضوع الهوية الدالّ على إخفاق أعضائها في الحفاظ على التواصل بها، في ما يدخل بعداً من أبعاد الصراع العربي ـ الإسرائيلي عبر التكييف الديني له، سبباً ومساراً ومصيراً، عند الحركات الإسلامية (ليس مجال البحث هنا)، مقابل توظيفه صهيونياً لتحقيق أهداف الاستيطان والاستعمار في فلسطين، واستخدامه أداة مشروعية تاريخية ودينية مزعومة عند تقديم الاحتلال لنفسه «دولة يهودية»، بما يتناقض بنيوياً مع حق العودة ويضرّ بالمشروع الوطني الفلسطيني.

وفي كلا الأمرين؛ يقع مسٌ في جوهر الكيان الصهيوني وإضرارٌ بالقضية الفلسطينية، لجهة إضعاف إشكالية «الهوية» و«التعريف» من المقدرة الإسرائيلية التعبوية وضربِ مصدر شرعيتها في الصميم، بما تتم معالجته بـ«التهويد»، ولناحية إدامة الصراع عند تذكيته بعنصر ديني، رغم أهميته، ولكنه، لدى تقديمه عاملاً أوحد أو أولياً، يجبّ حقيقة الاستعمار الكولونيالي الاستيطاني الإحلالي في فلسطين.

ولا تزعم هذه الدراسة صوغاً نهائياً لمأزق «يهودية الدولة» وانعكاساتها على الصراع العربي ـ الإسرائيلي، نظراً إلى ارتباط ذلك بسياقات التفاعلات الداخلية الجارية في الكيان الإسرائيلي وديناميات التغيير فيه وسرعتها، وبالموقف الفلسطيني العربي المعلن، حتى الآن، برفض الاعتراف بها شرطاً للتسوية السلمية، فضلاً عن مفاعيل الدور الأمريكي، إلا أن التأسيس لقراءة انتفاء الأساس البنيوي لمطلب «يهودية الدولة» وتأثيره في القضية الفلسطينية ومعادلة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، يبقى هدفاً لمسعى قد يضيء على أبرز ملامح وجوانب المرحلة القادمة.

في ضوء ما سبق؛ تحاول هذه الدراسة البحث في تساؤل رئيسي حول تأثير نفاذ الاشتراط الإسرائيلي بالاعتراف «بيهودية الدولة» في القضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الإسرائيلي. وينبثق من ذلك تساؤلات أخرى فرعية تدور حول سبل توظيف الصهيونية للدين في مشروعها الاستعماري لفلسطين المحتلة، وموقع إشكاليتي «الهوية» وتعريف «من هو اليهودي» و«اليهودية» في الأساس البنيوي لمطلب «يهودية الدولة»، ومنافذ تطبيقها فعلياً داخل الكيان الإسرائيلي اليوم.

أولاً: توظيف الصهيونية للدين

برزت إشكالية «الهوية» منذ قيام حركة «التنوير اليهودية» (الهسكالاة) بين صفوف يهود أوروبا في منتصف القرن الثامن عشر (واستمرت قوية حتى العام 1880 تقريباً)، التي دعت إلى دمج اليهود بمجتمعات ظهرانيهم وتحريرهم من سطوة الحاخامات وفصل الدين عن ما يسمى القومية اليهودية[4]، في حين شكلت اليهودية الإصلاحية نتاجاً مباشراً وإضافياً لها بالانتصار لنبذ فكرة «الشعب المختار»[5]. ولكن لم يقدّر لها النجاح الكامل بسبب اليهود الرافضين للدمج وقوانين فرضتها الدول نفسها، وهو ما سمح بظهور حركات مضادّة، مثل اليهودية المحافظة واليهودية الأرثوذكسية (المذهب المسيطر على الحياة في الكيان الإسرائيلي)[6]، ولاحقاً، عند انحسارها، التيار الصهيوني الذي ضخّم من مغبة الاندماج حدّ الفناء لمصلحة الانفصال والهجرة «الانتقائية» إلى «أرض الميعاد» في آسيا، إذ لم يكن إيمان يهود الغرب بها كاملاً، فالحل الصهيوني اللاعقلاني ملائم ليهود الشرق فحسب، أما بالنسبة إليهم فالحل المستنير العقلاني بالبقاء حيثما يوجدون كان الأفضل.

لقد طرحت الصهيونية نفسها بوصفها حلاً شاملاً لـ«المسألة اليهودية» أينما وجدت، ولكنها جوبهت بمعارضة شديدة من يهود كثيرين، تصدّت الصهيونية لها عبر استغلال اليهودية بتلبسّ صبغة دينية تظهرها وكأنها امتداد لهذه اليهودية وليست نقيضاً لها، وبمزج المفاهيم القومية بالدينية، مقابل رفض المضامين الدينية المضادّة لأهدافها السياسية، وبالتشديد على أن الدين عنصر من عناصر التعبير عن «الشعب» اليهودي ومظاهر شخصيته وأحد تعبيرات القومية اليهودية، نظير من عدّه «محدداً غير وحيد للإيمان أمام التاريخ المشترك والرباط الاجتماعي»[7]، بينما شكلت مقولة «أرض الميعاد» إحدى أهم الركائز المستمدة من الديانة اليهودية بعد تطويرها، فكان البعد العقيدي حاضراً في الموقف الصهيوني من «الأرض» عندما وقع الاختيار على فلسطين.

ورغم أن فكرة «العودة» ليست جديدة، حيث آمن بها عامة اليهود تقريباً بزعم إعادة بناء «الهيكل» وإقامة مملكة سليمان تحت قيادة المسيح المنتظر، غير أن الصهيونية التفـّت عليها بالدعوة إلى إقامة دولة لليهود في فلسطين بوسائل سياسية وبالعمل اليهودي الذاتي لتسريع مجيء «المخلص» دون انتظاره. ويرتبط بذلك مفهوم الصهيونية لـ«الشعب» الذي أسبغت عليه أيضاً بعداً دينياً، رغم الإشكالية، القائمة حتى اليوم، حول تعريف «من هو اليهودي»، إزاء مطالبة أرثوذكسية بالأخذ بتعريف اليهودي الذي ولد من أم يهودية أو تهوّد على يد أحد حاخاماتها، مقابل إصرار اليهودية الإصلاحية على الاعتراف بيهودية من تهودّ على يدّ حاخاماتها، أمام تعريف عرقي «للجنس اليهودي» المتميز لم يعد مقبولاً اليوم. وقد حاولت الصهيونية التوليف بين العنصر الديني اليهودي، بما في ذلك العلاقة بفلسطين «الأرض المقدسة» و«الشعب اليهودي»، وبين العنصر العلماني، وهو ما يدعم مطالبة الصهيونيين بفلسطين، ويسمح بممارسة العقائد والطقوس اليهودية التقليدية، وترجمتها إلى اصطلاحات قومية علمانية.

وهكذا؛ لم تكن هذه الرؤية بحاجة إلى العلاقة التقليدية بـ«الأرض المقدسة»، ولم تستند بشكل مباشر إلى «الوعد الإلهي»، كما لم تربط الخلاص بمجيء المسيح، وجعلت التعبير الديني مجرد تجسيد واحد للوجود اليهودي القومي، وركزت على المراحل والأحداث المرتبطة بالتاريخ اليهودي التي تشغل حيزاً في الأدب اليهودي الديني، حيث يمكن المطالبة بفلسطين عن طريق «الشعب اليهودي» بالاستناد إلى العهد القديم. وبذلك؛ استطاعت الحركة الصهيونية، رغم اتساع رقعة التنوعات الفكرية داخلها، الوصول إلى لغة مشتركة بين العلمانيين والمتدينين.

ولكن الصهيونية، التي كانت تنظر إلى نفسها مكمن إحلال لليهودية، حاولت استخدام الدين اليهودي كمساهم في بلورة الروح القومية لـ«الشعب» اليهودي، وأداة لتقوية الشعور الجماعي، فكان من دوافع اختيار فلسطين موقعاً للاستيطان قوة الأسطورة التي تجمع اليهود، كما كان لا بد لها من العودة إلى التراث اليهودي القديم والمطلق الديني، بمزج المفاهيم القومية بالمفاهيم الدينية، دون خلْع الإطلاق الديني على الرموز القومية، وإنما استقاء رموزها وأفكارها القومية من التراث الديني ثم إفراغها من محتواها الروحي والأخلاقي ونقلها من مجالها الديني، حيث تجد شرعيتها الوحيدة، إلى المجال السياسي لإخراج صيغ شبه دينية للمشروع الصهيوني؛ فعملية الخلط بين المجالين الديني والسياسي تكاد تكون مسألة حتمية للصهيونية، بغية جذب اليهود إليها، وبخاصة عميقو الإيمان بالدين من قاطني شرق أوروبا.

ونسجت الصهيونية تعريفاً خاصاً لـ «الأمة اليهودية» تنقّل بين «ربطها بالبرنامج الصهيوني» و«التدخل الإلهي المباشر»[8]، و«جماعة تاريخية من الناس متماسكة ويشدّها عدو مشترك يتمثل بالعداء للسامية»[9]، بما يخلو من عناصر القومية المعروفة «للأمة»، في حين يجد الدين المشترك، كأحد عناصر تشكل القومية (الذي يفترض أن أي قومية بالعالم تستوعب تعدد الأديان بين أتباعها) اختلافاً في اليهودية، فلا يوجد مسيحي يهودي أو مسلم يهودي مثلما يوجد مسيحيون عرب أو ألمان مسلمون. وحتى اللغة ليست مشتركة، إذ تتحدث عناصر الجماعات اليهودية لغة المجتمعات التي يعيشون فيها إضافة إلى العبرية في «إسرائيل»، بينما تعتبر مراحل التاريخ المشترك في مفهوم اليهودية قصيرة بالنسبة إلى تاريخ اليهودية بشكل عام، بينما تنحصر رغبة العيش المشترك ضمن فئات قليلة نسبياً. «فمن لبّى النداء أقل من ثلث يهود العالم»[10]، بما يجعل مفهوم القومية لا ينطبق على اليهودية باعتبارها ديانة وليست قومية.

غير أن مفهوم «الأمة اليهودية» اكتسب بعداً دينياً، ينبثق من رؤية العهد القديم للإله باعتباره إله إسرائيل وليس العالمين، فاكتسب المقدس هنا طابعاً قومياً والمطلق بعداً نسبياً. ولكن الصهيونية خلعت القداسة التي أضْفيت على الشعب اليهودي بالمعنى الديني على الشعب اليهودي بالمعني العرقي والإثني. ولأن الشعب قد حلّ فيه الإله، بحسبهم، فإن كل شيء يهودي قومي تحيط به هالة من القداسة، فتصبح حركة الكيبوتزات واليشوفات و«انتصارات» الجيش «مسألة لاهوتية يتدخل فيها الإله»[11]. ورغم أن مفهوم «الأمة» يشكل أهم المطلقات الصهيونية، وليس الوحيد، فالسّمة الأساسية لبنية الفكر الصهيوني ليست تبنّيها لفكرة أو لأخرى على أنها مطلق، وإنما اتجاهها نحو الخلط أو المزج بين المقدس والنسبي وخلْع القداسة على الظواهر اليهودية القومية. ولعلّ الإيمان بارتباط القومي بالمقدس والمطلق (الدين) بالنسبي (المكان) هو الموضوعة الأساسية في الفكر الصهيوني وخاصية تميّز بنيته.

وهذا الأمر يشْخص بجلاء في موقف الصهيونية من التاريخ الذي يسير، بالنسبة إليها، في تطور خط مستقيم يتجه نحو أعلى هدف وغاية وليس في شكل دائري هندسي يتحرك حول نفسه دون غاية. وبحسب التصور اليهودي القديم، فإن تاريخ اليهود مقدس يعبّر عن الإرادة الربانية، ويتسم بالاستمرارية التي تتجسد في «إسرائيل»، فالأخيرة بالمعنى الديني هي نفسها إسرائيل «الشعب» بالمعنى العرقي، وهي نفسها «إسرائيل» الدولة بالمعنى السياسي؛ وكلها تجليات للجوهر نفسه الذي لا يتغير، كما أن إسباغ مجتمع المستوطنين الصهاينة قبل عام 1948 بمصطلح «اليشوف» أو «المستوطن الجديد»، يعبّر عن المفهوم ذاته، لأن الاستيطان الاستعماري الجديد ما هو إلا استمرار للاستيطان لأهداف دينية، والذي أطلق عليه «اليشوف القديم». ولعل استخدام كلمة التاريخ هنا إشارة إلى العهد القديم أو إلى تراثهم الديني المكتوب منه والشفهي، فتصبح الحدود التاريخية هي الحدود المقدسة المنصوص عليها في العهد القديم من «نهر مصر إلى الفرات»، والحقوق التاريخية هي أيضاً الحقوق المقدسة التي وردت في العهد القديم والتي تؤكد أنهم «شعب مقدس مختار» له حقوق تستمد شرعيتها من العهد الإلهي الذي قطعه الله على نفسه لإبراهيم (n).

إن مقاربة موقف اليهودية من السياسة عموماً، ومن الصهيونية خصوصاً، أنتجت إشكاليات متداخلة لا تزال غير محسومة في الكيان الإسرائيلي كقضية خلافية تخضع للجدل والتجاذب والمساومة أيضاً، بين المتدينين أنفسهم وبينهم وبين العلمانيين، وتمسّ «هوية» الدولة ما بين الدولة العلمانية والدولة الثيوقراطية (الدينية) التي تسعى الحركات الدينية السياسية إلى تأسيسها وفق الهالاخاة (الشريعة اليهودية)، وتعريف من هو اليهودي[12]، كامتداد لإشكالية العلاقة بين الدين والدولة[13]، رغم اتفاقية «الوضع الراهن» (Status Quo)، عام 1947، التي تعدّ بمنزلة الأساس السياسي والقانوني المؤطرّ لها، عبر تلبية مطالب المتدينين في الجوانب المتعلقة براحة يوم السبت وضمان طعام الكوشير (المذبوح والمعدّ وفق التعاليم اليهودية)، ووضع الصلاحيات المطلقة في قضايا الأحوال الشخصية بيد مؤسسة القضاء الحاخامية، والاعتراف بمنظومة التعليم الديني المستقل ذاتياً، من دون أن تلغي التمايزات الحادة القائمة حتى اليوم.

ثانياً: مأزق «اليهودية»

واجه الكيان الإسرائيلي، منذ قيامه حتى اليوم، العديد من المشاكل والتناقضات التي أدّت دوراً في خلق إشكالية «الهوية»، تتمثل بالآتي:

1 ـ إشكالية الهوية

وجدت الصهيونية في صفوف يهود قلّة شكّلوا ما يسمّى مجتمع اليشوف القديم[14] (أي الاستيطان الأول في فلسطين قبل بدء الهجرات الصهيونية المنظمة)، مرتعاً خصباً لمقولاتها التي أطّرتها بالمشروعية الدينية التاريخية ليسهل تغلغلها في صفوفهم[15].

بيْدَ أن الوجود الديني اليهودي في اليشوف لم يجدْ وسيلة للتعبير عن نفسه إلا بالصور التقليدية التي تجسدت في الجماعات التقليدية للطوائف اليهودية المختلفة، وبخاصة التي جاءت من شرق أوروبا إلى فلسطين للاستيطان فيها، ومن ثم شقت طريقها إلى الداخل الإسرائيلي لتصبح واجهته الدينية. تضم هذه الجماعات بين صفوفها اليهود المتشددين دينياً (الحريديم) الذين يشكلون وحدة مستقلة ذات طابع حياة وبناء مؤسسي خاص بهم، كما تضمّ عناصر مناصرة للصهيونية جرى استيعابها ضمن اليشوف الجديد، مقابل معارضين لها لتناقضها مع التعاليم اليهودية والأصول التوراتية، إضافة إلى طائفة دينية متشددة في القدس المحتلة تحت مسمى دوائر «اليشيفوت» (المعاهد التلمودية) المعنية بدراسة التوراة والتلمود، وطوائف الحسيديم المجتمعة حول الأدمورائيم (الزعماء الدينين للحسيدية)، والحريديم من جماعة حبد الحسيدية التي تشكل وحدة مستقلة وفقاً لأنماط نشاطها وانتشارها، وتعترف بالصلاحية المطلقة لمن يرئسها وتخضع لأوامره. تختلف هذه الجماعات الدينية في موقفها من «دولة إسرائيل» ومؤسساتها، وتتحفظ عن أنماط الحياة داخلها ولكنها مندمجة فيها، مع المطالبة بإقامة الشرائع الدينية.

في المقابل، هناك الذين يقبلون طواعية بعض عادات الدين اليهودي بنسب متفاوتة في حين يتمسك آخرون بها، مقابل مجموعات تعادي الصهيونية وتكفّر الدولة وتعيش في عزلة غيتوية داخل المجتمع شبيهة بنظام «القهيلوت» الذي اختبرته في الشتات تحت مظلة حاخام يمارس دوراً رئيسياً في الرقابة الاجتماعية الدينية داخل أوساطه، تمثله اليوم الحسيدية، والحريدية، وساطمر الحسيدية، إضافة إلى حركة نطوري كارتا (حراس المدينة).

ورغم معارضة قادة الصهيونية لأي دور سياسي للدين، فهم وجدوا فيه أحد مقوّمات «القومية اليهودية»، فقاموا بتوظيف قيمه ورموزه بغرض توحيد الجماعات اليهودية عبر إيجاد مجموعة من القيم والمعتقدات المشتركة وإضفاء الشرعية على مؤسسات الدولة القائمة وأهدافها، وتعبئة جهودهم وطاقاتهم خلف مصالحها. ولكن ساسة الدولة أدركوا عدم كفاية القيم والرموز اليهودية التقليدية لتحقيق تلك الأهداف، في وقت لم يجدوا فيه سوى بضعة رموز ومضامين دينية قليلة، مثل المنورا وشمعدان الحانوكا وعيد الشعلة[16]، للتعبير عن يهوديتهم أمام العالم، وهو ما جعلهم يعيدون تفسير بعضها بعد ربطها بنصوص التوراة ووقائع التراث والتاريخ[17]، فجرى تصوير قيام الدولة على أنه تحقيق لنبوءة الخلاص وإنجاز في التاريخ اليهودي من صنع جيل متفرد، وصار «الحالوتس» أي الرواد، المستمد من التوراة، يعني الاشتراك في أي نشاط يعزز ويدعم أركان الدولة، وبخاصة في مجالي الهجرة والتوطين، وأدخلت مفاهيم كالأمة والأرض والدولة في العبارات والأمثال التوراتية، بينما تحولت أسماء رجال الدولة والشوارع وأوسمة الجيش إلى عبرية توراتية، كما استخدمت قصص الأبطال الواردة في التوراة نماذج للإيحاء بأن جذورهم تمتد إلى فترة التوراة[18].

وصحب ذلك تبني الدولة رموزاً وشعارات دينية، فصار عَلَم البلاد بألوان شال الصلاة «الطاليت» نفسه في اليهودية التقليدية، ورمز الدولة هو الشمعدان ذو الأفرع السبعة الذي أقرت تعاليم الرب وضعه في المعبد، تعبيراً عن «العودة إلى أرض الأجداد»، والاحتكام إلى نصوص التوراة[19]. واستخدمت الدولة مفهوم «متسفا» للإشارة إلى الأوامر الربانية أو الفرائض الدينية التي صارت تتمتع بقوة النفاذ المادي عند الاقتضاء، بما يضفي الشرعية على قوانين الدولة وقراراتها. كما أولت أهمية للتنقيب عن الآثار وإنشاء مراكز لدراسة التوراة لإيحاء العودة إلى الأصل وإحياء القومية اليهودية والتوحد بين القديم والحديث، فضلاً عن الاحتفال بالأعياد الدينية بعد تحويلها إلى أعياد ذات مضامين قومية ترتبط بالأرض والدولة، مع إسباغ الهالة الدينية على طابعها. وتم رفع شعارين شعبيين ليوم «الاستقلال»، هما الضوء والنار، ترميزاً للتجديد والإحياء والشجاعة[20]. بينما استخدم مفهوم «الشعب» اليهودي للإشارة إلى جماعة قومية لها تاريخ مشترك عاشت منعزلة في مجتمعاتها لمدة من الزمن، ولكنها تطلعت للعودة إلى «أرض إسرائيل»، وصيغت عبارة «شعب إسرائيل» للإشارة إلى اليهود كأمة وكشعب، رغم أن كلمة «الإسرائيلي» لا تزال تثير اللبس، لأنها تعني الشعب اليهودي كلّه وسكان «دولة إسرائيل» الذين يعيشون فيها، وهو أمر لا يعترف به كل اليهود[21]، وتزايد استخدام الرموز الدينية من دون إخضاعها لإعادة تقييم أو تفسير، لكن من دون أن يعني ذلك أن الإسرائيليين أصبحوا أكثر تديناً، حيث اتخذ الدين عنصراً من عناصر الهوية اليهودية، في وقت صوّرت «إسرائيل» كأمة منعزلة تواجه عالماً معادياً، كما ظهر في الأساطير التي تبنتها الدولة في إطاره، مثل «الهولوكست». وقد نمّى الكيان الإسرائيلي مكوّنات التقاليد اليهودية لتحقيق أهداف الشرعية والتعبئة بعد عدواني 1967 و1973 تزامناً مع تعزيز فكرة الضحية من جراء عدوان غير اليهود وصراعهم الدائم معهم، وهو ما يتطلب توفير الأمن والحماية من أعدائهم بكل السبل المتاحة، فراح القادة يفسرون الأحداث المعاصرة للدولة من خلال مصطلحات وعبارات هذه التقاليد والرموز لإضفاء الشرعية على سياسات الاحتلال.

ومع ذلك؛ لم تتحدد علاقة الدين وآلية عمله وتطبيقاته في الدولة بشكل واضح، الأمر الذي انعكس على وثيقة الاستقلال، حيث وردت العبارات التي تتطرق إلى الدين بصيغ عمومية تحتمل التأويل، جاءت بعد نقاش طويل حول طبيعة الدولة ورسالتها من دون أن تنهي الجدل المرشح للبقاء لأنه يمسّ جوانب حساسة؛ إذْ بقدر ما كان الدين يشكل مشكلة لـ«دولة إسرائيل»، فقد كان قيام الدولة يعدّ إشكالية للمتدينين الذين اعتادوا لسنوات طويلة حياة الطائفة اليهودية المستقلة ذاتياً في شؤونها ولم يعدّوا أنفسهم لمقتضيات الدولة، بينما لم تتضمن الشريعة اليهودية إجابات شافية لكل ما تحتاج إليه الدولة العصرية من مقتضيات تتصل بالعلاقات الخارجية وتسيير الأمور الداخلية.

غير أن الدولة لم تجدْ في نفسها الجرأة على الانفصال التام عن التراث، بل سعت لأن تكون «دولة يهودية» من دون معرفة كيفية ترجمة يهوديتها إلى لغة الواقع ومن دون المساس بماهية العلمانية، في وقت لا يمكن فيه تجاهل دور الدين في دعم مزاعم «الحق التاريخي» للدولة على «أرض إسرائيل». في المقابل، لم يعرف المتديّنون كيفية التعامل مع دولة تعلن علمانيتها، ومن يحاول تفسير الوجود التاريخي دينياً يصاب بالفشل عند النظر إلى الدولة على أنها تجسيد لمفهوم المسيحانية الدينية، كما يفتقد مفهوم «الخلاص» حلاً لمشكلة العلاقة بين الدين والدولة، في حين يجابَه بحث المحافظين على التقاليد عن حل في الهالاخاة لمعرفة توجيه خطواتهم نحو الدولة عملياً، بصعوبة افتقارها إلى بحث الواقع الجديد، إذ لم يرد الحكم اليهودي العلماني في فلسطين صراحة في الهالاخاة، بينما يصعب التسليم بوجهة النظر العلمانية أساساً لدولة يهودية لأنه موقف غير شرعي في نظرها. ومع ذلك، فإن معظم الحركات الدينية انحازت إلى الدولة وأسهمت في قيادتها.

تمثلت إرهاصات ضبابية العلاقة الثنائية بالأيام الثلاثة السابقة لإعلان «الدولة» في 15 أيار/مايو 1948 حول صيغة إعلان قيامها، عند طلب الأحزاب الدينية السياسية تضمين النص فقرة توضح أن الحصول على الاستقلال تم «بمساعدة الرب وبقوته الكبرى»، وأن «أرض إسرائيل» خاصة «بالشعب اليهودي» بمقتضى الدين اليهودي ووعد الرب لإبراهيم، مع الإشارة إلى الطابع الديني للدولة التي في طريق التكوين. وبعد نقاش طويل، جرى التوصل إلى صيغة النص النهائي القائلة: «بثقتنا في رب إسرائيل نوقّع بأيدينا كشهود على إعلاننا هذا في دورة أعضاء مجلس الدولة المؤقت بمن فيهم أعضاء الحكومة المؤقتة هنا في المدينة العبرية تل أبيب في هذا اليوم مساء السبت 14 مايو 1948». كما أثارت مسألة اسم الدولة خلافاً كبيراً وسط مقترحات بتسميتها صهيون أو يهودا أو الدولة اليهودية، أو إسرائيل، وأخيراً تقرر تسميتها باسمها الحالي، الذي يعني في النصوص التوراتية والتلمودية الجماعة المقدسة التي دعاها الله بواسطة إبراهيم وسارة وأعطاها التوراة على جبل سيناء. وفي جميع النصوص اليهودية تعني «إسرائيل» تكييف الحياة على صورة الله ومثاله الذي يتبلور في التوراة، لكن إسرائيل في الشؤون الجماعية اليهودية تعني «دولة إسرائيل»[22].

وقد انسحب الخلاف على علم الدولة، فأمام مقترح هرتزل بأن يكون على شكل سبع نجوم ذهبية على خلفية بيضاء رمزاً لأيام الأسبوع السبعة، طالب الدينيون بمطابقة العلم لشكل «الطاليت» مع إضافة نجمة داوود السداسية، وهو ما تم أخيراً[23].

كما تمت الاستجابة لمطلب المتدينين بعدم إصدار دستور علماني في ظل وجود «التتاخ» (العهد القديم)، في وقت لم يُردْ فيه دايفيد بن غوريون (أول رئيس وزراء إسرائيلي) إثارة قضايا خلافية[24] حول دستور سيحدّ مضمونُه عن حدود الدولة من النطاق الجغرافي الذي قد تستوعبه لاحقاً. وانعكس البعد الديني في بلورة معالم النظام السياسي عند اختيار اسم «الكنيست» الذي يعني في العبرية «الجمعية الدينية» التي أطلقت في القرن الخامس قبل الميلاد واهتمت بالتشريع وتفسير الدين اليهودي إبان عهد «عزرا» و«نحميا»، وتشكلت من هيئة منتخبة مكونة من 120 عضواً (عدد مقاعدها حالياً)، نسبة إلى عدد أعضاء «الجمعية الكبرى» في عهد عزرا، والأسباط الإثني عشر[25].

وقد حرصت الصهيونية على إضفاء الطابع الديني على الإطار الهيكلي المؤسسي للدولة، عبر تخصيص وزارة للأديان يتسلم حقيبتها حزب ديني، وتشريع قوانين مستمدة من الشريعة الدينية في ما يتصل بالسبت والأعياد و«الكشيروت»، ووجود محاكم دينية تعنى بقضايا الأحوال الشخصية، والاعتراف بجهاز القضاء الحاخامي لبت القضايا المرتبطة بالأحوال الشخصية أمام المحاكم الربانية (الحاخامية) وفق أحكام الهالاخاة[26].

كما ظهر نظام تعليمي ديني مستقل خاص بالأحزاب الدينية السياسية، إلى جانب المدارس الحكومية والمدارس الدينية الأرثوذكسية. وأنشئت في وزارة التعليم شعبة خاصة بالتعليم الرسمي الديني، وقسم للثقافة التوراتية الأرثوذكسية وآخر للعناية بموضوع «الوعي اليهودي» في التعليم الرسمي[27].

ومُنحت «الحاخامية الرئيسية» صلاحيات واسعة بوصفها المحكمة الدينية العليا، يتبع لها حاخامية عسكرية مسؤولة عن إدارة النشاطات الدينية في جيش الاحتلال، ومدارس دينية عسكرية وكلية عسكرية خاصة بالمتدينين واسمها «أورعتسيون». ويتمتع الحاخامات بمكانة معتبرة في الداخل الإسرائيلي، في حين تحظى الفتاوى الحاخامية الدينية حول قضايا الصراع العربي ـ الصهيوني بصدقية عالية[28]، في ظل تنامي دور المتدينين وجنوح الداخل الإسرائيلي نحو اليمين الديني المتطرف. غير أن ذلك لم يحل دون حدوث صدامات حول طابع الدولة وتعريف اليهودي والحكم بموجب الشريعة الدينية، وإعفاء الفتيات وخريجي «اليشيفوت» من الخدمة العسكرية.

2 ـ تنوع «الهويات اليهودية»

تتنوع الهويات اليهودية (كما أشرنا في المقدمة)؛ بسبب الهجرات الصهيونية المتلاحقة التي أوجدت في الداخل الإسرائيلي مجموعات أساسية يؤمن أعضاؤها باليهودية الحاخامية، هم السفارد والأشكناز والإسرائيليون، إلى جانب جماعات صغيرة هامشية، من مختلف بقاع العالم، تؤمن بأشكال مختلفة من اليهودية بدرجات متفاوتة. وثمة هوية مختلفة عن السابق وهي جيل «الصابرا»، وتعني الجيل الذي نشأ في فلسطين المحتلة ولم يأتِ من الخارج، حيث يعيش بعضهم وكأنهم «أغيار» في الداخل الإسرائيلي[29].

3 ـ «دولة يهودية وديمقراطية»

نشأ تناقض حادّ عندما تبنـّت الصهيونية تفسيراً دينياً وأسطورياً للقومية يتناقض مع توجهاتها العلمانية من أجل صوغ «قومية» يهودية، إذ أقيم في الكيان الإسرائيلي تجمع استيطاني يختلف نوعاً ما عن التجمعات اليهودية الأخرى في العالم، وهو ما خلق تناقضاً بين مشروع «الأمة اليهودية»، ومشروع «الأمة الإسرائيلية» الناشئة أو بين الهويتين الإسرائيلية واليهودية معاً، وطرح تساؤلات ظهرت بعد قيام «الدولة» حول مرجعية اليهود ومركزهم، وتعريف «اليهودي» وعلاقته بالقدوم إلى «إسرائيل» بقصد الإقامة فيها أو البقاء في المنفى، تجددت مع تعريف «إسرائيل» لنفسها على أنها «دولة يهودية» ديمقراطية بما يحمل من تناقض في ظل وجود أكثر من 20 بالمئة من الفلسطينيين العرب مواطني البلاد الأصليين في فلسطين المحتلة عام 1948.

وتعود العلاقة المميزة بين الدين والدولة في الكيان الإسرائيلي إلى التطابق الكامل بين الدين والقومية كما عرفتها الصهيونية، ضمن علاقة فريدة، بحيث يتم فيها الانتماء إلى القومية ثم المواطنة عبر تغيير الدين، واتباع نهج ديني واستخدام أدوات دينية لفحص الانتماء إليها، ولا يجري اختبار تهوُّد اليهودي دينياً فحسب لغرض تحصيل المواطنة الإسرائيلية، بل ترفض أيضاً، لغرض المواطنة، يهودية من غيَّر دينه من اليهودية إلى ديانة أخرى ولا ينطبق عليه «قانون العودة». كما أن الحجة المستخدمة لتبرير السيادة وحق تقرير المصير دينية تاريخية يزعم بموجبها بوجود حق تاريخي توراتي على الأرض. وبذلك، منح الدين لقومية الصهيونية الأسماء والمفردات واللغة والأرض والتوراة، إضافة إلى البعد القيمي الإيجابي والتداعيات الثقافية والتراثية لها جميعاً، فضلاً عن استخدام تعبيرات «شعب إسرائيل» و«الاختيار الإلهي» و«أرض الميعاد» وفكرة الخلاص والحدود التاريخية، بغرض استخدامها لغرض قومي سياسي. ورغم أن ذلك شكّل رفض الحركات الدينية الأرثوذكسية للصهيونية بسبب علمانيتها وتحوير مفهوم المسيحانية، فإن الموقف تحول في ما بعد إلى مصدر لتعزيز ارتباط الدين والحركات الدينية بالصهيونية، استناداً إلى رابط الخلاص وتماثل الأهداف، أي الاتفاق على هدف الدولة «دولة يهودية» ترمي إلى تجميع واستيطان الهجرات الصهيونية في فلسطين، باعتباره أساس الانسجام الذي يعوّض فقدان التاريخ والبنية القومية فيها.

ورغم أن سعي القادة الصهاينة إلى إضفاء الطابع الديني على الدولة قد بدأ منذ ما قبل قيامها، فإن قوننة هذا التعريف، الذي تحول تدريجياً إلى عبارة تكاد تكون مقدسة في التشريع الإسرائيلي، جاءت متأخرة حتى عام 1992 حينما ورد المصطلح المزدوج «دولة يهودية وديمقراطية» كتعريف لـ«دولة إسرائيل» في القوانين الأساسية الدستورية الطابع، وكشرط لسنّ أي قانون أساسي في «الكنيست»، حيث تعتبر القوانين الأساسية التي يسنها «الكنيست» عند الحاجة لعدم وجود دستور، وكأنها فصول منفصلة في الدستور. ويتناوب المصطلحان «دولة يهودية» و«دولة اليهود» في وثيقة الاستقلال التي لها قيمة معيارية دستورية في بنية الدولة القانونية، رغم التناقض الصارخ بين صهيونية وعنصرية الدولة وبين ديمقراطيتها، وبين اليهودية تعريفاً لماهية الدولة وبين الديمقراطية. ولاحقاً جُعل القبول بها شرطاً لخوض الانتخابات البرلمانية.

ورغم محاولة بعض الليبراليين استخدام مصطلح دولة الشعب اليهودي كمصطلح مغاير «للدولة اليهودية» باعتبار أن الحديث هنا يخص دولة قومية، وأن دولة الشعب اليهودي هي في الواقع مثل أي دولة تعبّر عن حق تقرير المصير والسيادة، فإن المفهوم يحظى في النهاية بإجماع يجد تفسيره عند البعض باعتبار فكرة أن «دولة إسرائيل» هي دولة اليهود وأنها ديمقراطية، هي أفكار مؤسسة لـ «دولة إسرائيل» وأي تغيير جوهري في إحداها يؤدي إلى تغيير متطرف في ماهية الدولة وجوهرها وفي نسيج العلاقات بينها وبين مواطنيها وبينها وبين الشعب اليهودي. ويدعو مصطلح الدولة اليهودية إلى تفسيرات تتعلق بجوهر محدد للدولة، جوهر يهودي، بما يحمل من تفسيرات خطيرة بالنسبة إلى العلمانيين برفض اعتبار يهودية الدولة جسراً لتفسيرات دينية تحكِّم الشريعة اليهودية في حياة الناس بشكل أعمق، وفق تعامل الأحزاب الدينية مع مفهوم الدولة اليهودية[30]. ومع ذلك فإن التخوف العلماني يتوقف عند رؤيته في يهودية الدولة لما هو أبعد من أغلبية يهودية، بحيث يشكل مضموناً ليهودية الدولة كامناً في تمكينها من تطوير هوية يهودية علمانية.

وقد شاع في السابق مصطلح «دولة اليهود» الذي حمل عنوان كتاب هرتزل دون تعريفها، وإنما قصرها على وجود أغلبية يهودية تعتبرها دولتها، حيث أراد دولة تشكل تعبيراً قومياً عن اليهود، فيها أغلبية يهودية وتحول اليهود إلى شعب كباقي الشعوب الأوروبية. ورغم علمانيته، فهو لم يجد سوى الانتماء الديني مدخلاً وتعريفاً للقومية والانتماء للدولة، وهو ما أثار حفيظة المتدينين الذين يرفضون علمنة الدين اليهودي ويصرّون على شعب التوراة، ويناضلون من أجل إعطاء مضمون يهودي ديني للدولة التي كانت ترفض إقامتها على يد العلمانيين. وتعدّ الهوية اليهودية في نظر بن غوريون هي التي تقيم الدولة وليس العكس، وهي أساس القانون الإسرائيلي وأساس المواطنة وليس العكس، لذلك رأى خلال جلسة للكنيست، عقدت في العام 1951، أن مصطلح «دولة اليهود» يخص اليهود أينما كانوا، و«ليست دولة الغالبية اليهودية الموجودة فيها بسبب اختلافها عن بقية الدول في عوامل وأهداف إقامتها»، وذلك في معرض تبريره لقانون العودة الصادر عام 1950‏[31]، وهو ما يوضح أنه حتى عند علماني مثل بن غوريون لا يوجد فرق حقيقي بين دولة يهودية ودولة اليهود، لأن الصهيونية في أوج علمانيتها لم تنجح إطلاقاً بوضع تعريف علماني لليهودية يختلف عن تعريف الشريعة لهذا الانتماء، أي الدين. فاليهودي قومي بنظر الصهيونية، وهو أيضاً اليهودي دينياً[32] وفق تحديد المؤسسة الدينية. فعملية الفصل بين الدين والدولة أمر صعب ما دامت اليهودية تعني رموز الدولة ومصدرها التاريخي التراثي وتقرر المواطنة عبر قانون العودة الذي وضع تعريفاً يتطابق مع تعريف الدين باعتبار أن «اليهودي هو من ولد لأم يهودية أو تهوّد وليس تابعاً لديانة أخرى»[33]، ومع قيام «إسرائيل» تحولت الهوية اليهودية إلى هوية رسمية تحتاج إلى تحديد اليهودي الذي يسري عليه القانون بموجب تحديد الشريعة.

لقد شكلت «يهودية الدولة» أداة لسنّ قوانين مصادرة أراضي العرب، باعتبار أن الاستيطان اليهودي واستيعاب الهجرة قيمتان أساسيتان، ومبرران لرفض تطبيق حق عودة اللاجئين، وأساسان لصوغ قوانين الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية والصندوق القومي اليهودي «كيرن كييمت»، صاحب المكانة المعتبرة في مجالات تملك الأرض والاستيطان واستيعاب الهجرة، وهي المهمات المعبّرة عن «يهودية الدولة». وما زال الحفاظ على «يهودية الدولة» يعدّ أساساً لجملة من التشريعات العنصرية، ومنها قانون منع لمّ شمل العائلات الصادر عام 2002، وبخاصة إذا كان أحد الزوجين فلسطينياً أو فلسطينية من الضفة الغربية وقطاع غزة، في حين يعتبر مرفوضاً إذا كان أحدهما من اللاجئين في الشتات، وذلك بهدف الحفاظ على الأغلبية اليهودية، رغم أن مسوّغات القانون التي طرحت أمنية.

مثلما وقفت «يهودية الدولة» خلف مخطط تهويد كل شيء في فلسطين المحتلة، ولا سيَّما القدس بزعمها «العاصمة الموحدة والأبدية لإسرائيل»، من خلال الاستيطان والطرد وهدم المنازل ومصادرة الأراضي، لإحداث تغيير سكاني يسهم في خفض عدد المواطنين الفلسطينيين العرب إلى 12 بالمئة فقط، بينما يقدرون اليوم بنحو 250 ـ 300 ألف مقدسي، مقابل مليون يهودي في جانبي المدينة المحتلة الشرقي والغربي معاً.

ثالثاً: «الدولة اليهودية» والتسوية السلمية

خلافاً لمعاهدتي السلام اللتين أبرمهما الكيان الإسرائيلي مع مصر (عام 1979) والأردن (عام 1994)، ولاتفاق «أوسلو» الذي أبرمه مع منظمة التحرير الفلسطينية (عام 1993)، فقد أدخل هذا الكيان مسألة الاعتراف «بيهودية الدولة» شرطاً أساسياً لبلوغ اتفاق الحل النهائي للتسوية السلمية مع الجانب الفلسطيني، والذي تسعى الإدارة الأمريكية لتوقيعه على وقع الأحداث والتفاعلات الجارية في المنطقة.

وقد زُجّ «المطلب» الإسرائيلي «المحموم» في الأطر التشريعية منذ العام 2000 بغرض تأكيد يهودية الدولة وطابعها وأغلبيتها اليهودية قانونياً، مدعوماً بحراك دبلوماسي حثيث لتدويل موضوع «يهودية الدولة» وإكساب العبارة شرعية دولية بالاتفاقيات والأعراف الدولية السائدة، وفي القانون الدولي.

بموازاة ذلك؛ حضر «المطلب» أثناء قمة كامب دايفيد الثانية التي عقدت في العام 2000 تحت رعاية الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون وحضور الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك، وهو ما أصابها بالفشل، ليس بسبب الموقف الفلسطيني المتعنت كما تزعم سلطات الاحتلال، وإنما بسبب اللاءات الإسرائيلية بشأن اللاجئين والقدس وإزالة المستوطنات، حيث عرضت سلطات الاحتلال «تنازلات» رمزية تختزل قضية حق العودة في إطار «جمع شمل العائلات» ضمن شروطها ومعاييرها، وتوطين اللاجئين في أماكن وجودهم، وإضافة بند إلى الاتفاق يفيد بوضع حد للصراع من شأنه أن يحررها من كل مطلب مستقبلي بشأن تلك القضية، وهو ما يعني دفن أي مسؤولية لها عن اللاجئين[34]. كما تواتر الموقف الإسرائيلي مع خطة خريطة الطريق (عام 2003) بإيراد 14 تحفظاً بشأن رفض حق العودة وتقسيم القدس وإزالة المستوطنات. كما تكرر مع رفض المبادرة العربية للسلام، التي أقرت في بيروت العام 2002، ووضع شرط الاعتراف «بإسرائيل كدولة يهودية» أمام «المؤتمر الدولي حول السلام في الشرق الأوسط» في أنابوليس تحت الرعاية الأمريكية في تشرين الثاني/نوفمبر 2007، فأفشله[35].

وقد تبنت الولايات المتحدة المطلب لتبديد مخاوف الاحتلال، فجاء في كلمة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش «الابن» في مؤتمر العقبة عام 2003 أن «أميركا ملتزمة بقوة بأمن إسرائيل كدولة يهودية»[36]. كما توالت العبارة في خطابات الرئيس الأمريكي باراك أوباما أمام اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فتحدث في دورتها عام 2009 عن «دولة يهودية لإسرائيل مع توافر الأمن الحقيقي للإسرائيليين، ودولة فلسطينية قابلة للحياة ذات حدود متماسكة تنهي الاحتلال الذي بدأ عام 1967»، ولازم في خطابه عام 2010 «الأمن الحقيقي للدولة اليهودية بفلسطين مستقلة»، ودعا في خطابه عام 2011 إلى «الاعتراف بها وإقامة علاقات طبيعية معها»، بينما أجمل في خطابه عام 2012، أسوة بنظيره في عام 2013، المصير الواضح «بدولة يهودية آمنة ودولة فلسطينية مستقلة»، وهكذا أصبحت «يهودية إسرائيل» مسألة دولية.

ولا ينفصم مطلب الكيان الإسرائيلي بـ «يهودية الدولة» عن الأهداف الكامنة خلفه؛ بما يمنحه «الاعتراف»، عند نفاذه، من مشروعية تاريخية ودينية وقانونية مزعومة، ويسوّغ الوجود الاستيطاني الاستعماري في فلسطين المحتلة، والرواية الصهيونية لسلب الأرض والتاريخ معاً، ما يؤدي بالتالي إلى إسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم في الأراضي المحتلة عام 1948، وحرمان المواطنين الفلسطينيين العرب في فلسطين المحتلة عام 1948 من حق الإقامة في وطنهم، وتهديدهم بالتهجير، وإضفاء الشرعية على القوانين العنصرية الإسرائيلية ضدّهم.

بيد أن الجانب الفلسطيني العربي يرفض الاعتراف بـ«الدولة اليهودية» لأنه يرى فيه تخلياً علنياً عن حق العودة حتى قبل بلوغ التسوية السلمية، إذ إن مطالبة الكيان الإسرائيلي بالاعتراف به كـ «دولة يهودية» تتناقض كلياً مع مبدأ حق العودة، مثلما تعني إسقاطاً له ونسفاً لأي مطالبة فلسطينية عربية به.

خاتمة

لم تكن «يهودية الدولة» سوى «القشرّة السطحية» التي تغطت الصهيونية بها لستر عورة فقدانها الأحقية الشرعية والتاريخية والدينية في فلسطين المحتلة، عبر استجلاب ما تسنّى لها توظيفه من نصوص منتقاة في «التوراة» و«التلمود» و«التعاليم اليهودية»، رغم علمانيتها، لتنفيذ مشروعها الاستعماري وتسويغ وجودها الاستيطاني، من دون حسْم إشكاليات «الهوية» و«تعريف اليهودي» ومأزق «اليهودية»، التي تنخر في صميم ما تتدثر به، وتمسّ قضية رؤية العالم و«الذات» والإسناد التضامني للداخل الإسرائيلي، وبالتالي الأساس الديني «للدولة» نفسها.

إن وضع الكيان الإسرائيلي شرط الاعتراف بـ «يهوديته» في أي اتفاق تسوية يتم التوصل إليه لاحقاً مع الجانب الفلسطيني، يتجاوز معوّل عرقلة تحقيق تقدم في العملية السياسية، صوب أهداف منحه المشروعية الدينية والتاريخية والقانونية المزعومة، وإسقاط «حق العودة» وتهديد فلسطينيي 1948 بالتهجير، وإضفاء الصدقية على الرواية الصهيونية في الأرض والتاريخ معاً، بما يمسّ جوهر القضية الفلسطينية وقضايا الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

 

اقرؤوا ايضاً  باسل الأعرج … في حضرة الفكرة والشهادة قراءة في كتاب «وجدت أجوبتي»