تمهيد:

شاركت المملكة المتحدة مع الولايات المتحدة وتحت إمرتها مشاركة فعلية غير محدودة في حربين مدمرتين للعراق في 1991 و2003. وقد استخدمت قواتهما أسلحة فتاكة حديثة. وإلى اليوم لا توجد إحصائية رسمية دقيقة معتمدة عن عدد ضحايا الحربين من الأبرياء العراقيين، بينما تؤكد مصادر متعددة أن الحربين خلفتا أكثر من مليون قتيل وأضعاف هذا العدد من الجرحى والمعوقين، إضافة إلى مئات آلاف المرضى، وآلاف الوفيات من جراء استخدام تلك الأسلحة. ولا يزال الشعب العراقي يعيش في ظل دمار البنى التحتية والخراب الاقتصادي – الاجتماعي والكوارث البيئية والصحية الرهيبة، التي أرجعت العراق نحو قرن إلى الوراء.

ونشأ برعاية سلطة الاحتلال، وحل محل النظام الدكتاتوري، نظام هزيل، فاسد ومهترئ، مبنيًا على المحاصصة الطائفية والإثنية، واستئثار أحزاب الإسلام السياسي بالسلطة، وهيمنتها على النفوذ والمال والقوة. وفتح المتنفذون الأبواب مشرعة أمام أتباعهم وأقربائهم من غير المؤهلين والفاشلين والمزورين والمحتالين والجهلة وسرّاق المال العام. واستكملوها بعملية اجتثاث للكفاءات الوطنية المخلصة، ضمن خطة مدروسة لمحاربة كل ما يمت إلى الوطنية بصلة، وتحطيم الدولة وشل مؤسساتها التشريعية والقانونية. والحصيلة: إشاعة الفساد الإداري والمالي، والرشوة، ونهب ثروات العراق، وتدمير الصناعة والزراعة والتجارة، والحطّ من التربية والتعليم، وتردّي الخدمات العامة، وفي مقدمتها الصحة والكهرباء والماء النقي، وتفاقمت معدلات البطالة والفقر والتخلف، بدلًا من إعمار البلد وتحسين الأحوال المعيشية للمواطنين وتأمين الحياة الحرة الكريمة والعدالة الاجتماعية.

وكل ما حصل دلل بما لا يقبل الشك على أن المستهدف من غزو العراق واحتلاله عام 2003 ليس النظام الدكتاتوري، ولا أسلحة الدمار الشامل المزعومة، المبرر الرئيس للحرب، وإنما العراق دولة وشعبًا، لتدمير حاضره ومستقبله.

والمفارقة: لم تجرِ معاقبة ولا حتى محاكمة دولية للغزاة والمحتلين ومجرمي الحرب، حتى يومنا هذا.

ورقتنا هذه تسلط الضوء في خمسة مباحث على إهمال حقوق المدنيين العراقيين المهدورة في ضوء تقرير لجنة التحقيق البريطانية في الحرب على العراق وأبرز النتائج والاستنتاجات التي توصلت إليها، ومزاعم أسلحة الدمار الشامل العراقية وتجاهل الأسلحة الفتاكة التي استخدمها الغزاة وتداعياتها، والإثباتات والأدلة العلمية التي طلبتها اللجنة وأهملتها، والمسؤولية والمشروعية وانتهاكات القانون الإنساني الدولي من جانب الحكومة البريطانية المعنية بالتحقيق.

أولًا: اللجنة وعملها ونتائجه

 

1 – التسمية والمهمة

لجنة التحقيق في حرب العراق، وتسمى أيضًا لجنة تحقيق العراق (The Iraq Inquiry)، ولجنة تحقيق تشيلكوت (Chilcot Inquiry) (نسبة إلى رئيسها السير جون تشيلكوت)، هي لجنة بريطانية مستقلة مختصة بالتحقيق حول مشاركة المملكة المتحدة مع الولايات المتحدة في غزو العراق عام 2003. أمر بتشكيلها رئيس الحكومية البريطانية آنذاك غوردون براون في 15/6/ 2009.

باشرت اللجنة عملها رسميًا في 30/7/2009. وغطى تحقيقها قرارات الحكومة لمدة 8 سنوات، من صيف عام 2001 إلى صيف عام 2009. وقد شاب عملها الكثير من السلبيات.

2 – مؤاخذات على اللجنة

من المؤاخذات على اللجنة وعملها ونتائجه أن البعض من أعضائها كانوا من المؤيدين للحرب، أي أنهم طرف في موضوع التحقيق. افتقرت اللجنة إلى قضاة أو محامين. ولم تكن اللجنة تابعة لمجلس اللوردات، وكانت صلاحياتها محدودة، وأهدافها غير محددة، بل هي مقيدة في الاطلاع على الوثائق والتقارير السرية، مع أن رئيس اللجنة أعلن في رسالة جوابية إلى منظمة مدآكت (Medact) البريطانية أن المصادر التي تعتمد عليها اللجنة في تحقيقها «كثيرة جدًا»[1].

أما تقريرها النهائي فلم يكن حاسمًا – في رأي صحيفة الإندبندنت بما يتعلق بعمليات الخداع والتضليل والكذب، التي مارستها الحكومة البريطانية ورئيسها توني بلير، ولا بشأن عدم قانونية ولا مشروعية الحرب[2]. وطلبت الإندبندنت من لجنة تشيلكوت أن تجيب عن 6 أسئلة مهمة، أحدها: هل كان الغزو غير شرعي؟[3]. ومع أن التقرير انتقد الأخطاء التي ارتكبها رئيس الوزراء السابق بلير، إلا أنه لم يحمّله المسؤولية المباشرة لكي لا يساق إلى المحاكم كمجرم حرب.

ويبدو أن المماطلة في تأخير نشر التقرير لعدة سنوات صبّت في هذا المنحى. فكان من المفترض أن يكون التقرير جاهزًا للنشر بحلول نهاية عام 2010 [4]، لكن ذلك لم يحصل. وفي 16/11/2011 أعلن السير جون تشيلكوت أنه لا يمكن نشر التقرير قبل صيف 2012 «إذا أردنا للتحقيق أن يكون عادلًا نظرًا إلى التعقيدات التي ينطوي عليها». وفي 16 /7/ 2012 أعلن مجددًا بأنه لا يستطيع أن يقدم تقريرًا قبل صيف 2013 [5]. وفي كانون الثاني/يناير 2015 أعلن إرجاء نشر نتائج التقرير إلى ما بعد إجراء الانتخابات العامة في بريطانيا[6].

ولم تكن كل تلك التأجيلات لصالح التحقيق، ولا لصالح ضحايا الحرب، ولم تكن مبرراتها مقبولة، ولا علاقة لها بـ «الأمن الوطني البريطاني» – كما زعموا، مع أن الأمن الوطني قام بتدقيق التقرير- بحسب BBC [7]. وأكد رئيس اللجنة بان التقرير أحيل على الأمن الوطني لفحصه لتضمنه كما ضخمًا من المواد الحساسة. وقد اعتبر النائب العام السابق اللورد موريس، في نيسان/أبريل 2014: «عدم نشر نتائج التحقيق فضيحة وطنية، ومن غير المقبول مواصلة تأخير نشر النتائج حول حرب العراق»[8].

3 – الحصيلة والاستنتاجات

بعد انتظار طويل، دام 7 سنوات، نشرت اللجنة في 7/7/2016 تقرير نتائج تحقيقها، الذي بين أنها أنجزت عملًا كبيرًا، قامت خلاله بعقد نحو 130 جلسة استماع وعقدت أكثر من 200 اجتماع مع مسؤولين حكوميين، واستمعت إلى أكثر من 150 من الشهود، من الشخصيات السياسية والعسكرية ومن أجهزة الاستخبارات البريطانية، وراجعت نحو 150 ألف وثيقة حكومية، وقامت بتحليلها. وأنفقت قرابة 10 ملايين جنيه استرليني. فصدر تقريرها بـ 12 مجلدًا، مجموعها نحو 6 آلاف صفحة، مؤلفة من 2.6 مليون كلمة، مع مرفقات بـ 1500 وثيقة.

أهمية التقرير أنه يُعد – بحسب رأي الفايننشال تايمز – كلائحة اتهام شاملة للسياسة البريطانية خلال الحقبة 2001 – 2009،أي الحقبة التي سبقت الغزو وبعده وتداعياته.

أما حصيلة التقرير- فكما لخصتها صحيفة الغارديان بحق: «دولة دُمِّرت (إشارة إلى العراق) وثقة تهدمت (إشارة إلى بريطانيا) وسمعة تحطّمت (إشارة إلى رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير) بأثر من غزو العراق في 2003»[9].

في هذا الإطار، تحدث رئيس اللجنة – يوم الإعلان عن التقرير – ملخصًا أبرز الاستنتاجات التي تضمنها التقرير، واصفًا خيار المشاركة في الحرب على العراق في عام 2003 بأنه لم يكن الخيار الصائب، وقد تم اتخاذه قبل استنفاد الخيارات السلمية الأخرى، وأن عملية الغزو كانت عملية متسرعة، لم تفسح المجال للآليات الدبلوماسية، وقد بنيت على معلومات استخباراتية مغلوطة وغير دقيقة. وشكل الغزو تجاوزًا لبنود عمل الأمم المتحدة، حيث تجاوزت الإدارة البريطانية ما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة حفاظًا على الأمن والسلام الدوليين، رغم ادعاء الحكومة البريطانية بأنها كانت «تتحرك نيابة عن المجتمع الدولي». وفي هذا الشأن أشار رئيس اللجنة بأن المحامي العام وقتها اللورد غولد سميث لم يتحدث عن وجود أي أساس شرعي للحرب ضد العراق. وفي هذا الإطار، رأى تشيلكوت أن الحكومة البريطانية «أسهمت في تقويض سلطة مجلس الأمن الدولي عبر المشاركة في تدخل عسكري غير مدعوم منه».

وبذا، فإن بريطانيا لم تستنفد الخيارات السلمية قبل غزو العراق. وذكر التقرير أن العمل العسكري «ربما كان ضروريًا»، لكنه عند اتخاذ قرار الغزو لم يكن النظام العراقي مهددًا لمصالح بريطانيا، وكان بالإمكان اتباع خطة دبلوماسية تستمر لبعض الوقت لتسيير الملف، وبخاصة أن أغلبية أعضاء مجلس الأمن الدولي كانت تؤيد استمرار عمل الأمم المتحدة في التفتيش والمراقبة. وصرح رئيس اللجنة: استنتجنا أن بريطانيا قررت الانضمام إلى اجتياح العراق قبل استنفاد كل البدائل السلمية للوصول إلى نزع أسلحته، بينما لم يكن العمل العسكري آنذاك حتميًّا.

وعسكريًا اتهم التقرير الحكومة البريطانية بالتسرع، ولم يكن استعداد المملكة المتحدة للحرب على العراق مناسبًا – على حد وصفه، حيث كان الوقت قصيرًا جدًا لتجهيز ثلاثة ألوية عسكرية، كما لم يتم تحديد حجم المخاطر بدقة، في ظل نقص بيّن لتأمين المعدات. وفي هذا الإطار، اعتبرت صحيفة التايمز التقرير بمثابة «تقييم نهائي لتجربة عسكرية انتهت إلى خطأ كارثي لعدم وجود التخطيط الأساسي والاجتهاد الواجب».

لكن التقرير لم يكن واضحًا في شأن من هو المسؤول عن الثغر التي شابت عملية الغزو من نقص في المعلومات الاستخباراتية، وفي المركبات المدرعة وضعف آليات دعم التشكيلات العسكرية والتنسيق بينها.

وبخصوص العلاقة مع الولايات المتحدة، تحدث التقرير عن تصريحات مبالغ فيها أطلقها توني بلير عام 2002 أكد فيها لجورج بوش الابن أنه مع الولايات المتحدة «مهما كان»، وأكد التقرير، من جهته، أن تلك العلاقة ما كان يجب أن تتطلب دعمًا غير مشروط.

كما أوضح التقرير أن الخطط البريطانية لفترة ما بعد الحرب في العراق كانت غير مناسبة. وتضمن انتقادات لكامل الفريق السياسي والعسكري الذي شارك بلير قرار الحرب، ولا سيما وزير الخارجية آنذاك جاك سترو، ورئيس جهاز الاستخبارات الخارجية «MA-6» السير ريتشارد ديرلوف، ورئيس لجنة الاستخبارات المشتركة، السير جون سكارليت، ووزير الدفاع، جيف هون، ووزيرة التنمية الدولية، كلير شورت.

4 – من ردود الفعل

لم تكن نتائج التحقيق غير متوقعة لكثير من السياسيين البريطانيين، وجاءت متوافقة وآراء عدد من الشخصيات البريطانية. فقد أعلنت ناتالي بينيت، زعيمة حزب الخضر: «كنا نعرفها، والآن تأكدنا منها: الحرب على العراق كانت مبنية على الخداع والكذب. كانت غير قانونية، ولا يمكن تبريرها». وشدد جيرمي كوربين، زعيم حزب العمال: «نحن نعلم أن البرلمان تعرض للتضليل في مرحلة ما قبل الحرب، وعليه أن يقرر كيف يريد أن يتعامل مع هذا الأمر بعد مضي 13 عامًا». وأضاف: «على الذين كشفهم تقرير تشيلكوت أن يواجهوا نتائج أعمالهم، أيا كانت»[10].

لكن، مما يؤخذ على اللجنة، أنها لم تتوصل إلى حد اتهام بلير بارتكاب جرائم حرب لقراره الخاطئ في المشاركة بغزو العراق. وعلى الرغم من تفادي تقرير تشيلكوت إدانة قرار غزو العراق، أو حتى وصفه بـ«اللاقانوني»، غير أن سياسيين بريطانيين لا يستبعدون ملاحقة بلير قضائيًا، بوصفه «المسؤول الأول عن جرّ بريطانيا إلى حرب» – وصفها التقرير – بـ«غير الضرورية»، و«الفاشلة».

وبموازاة صدور التقرير، تظاهر المئات من معارضي غزو العراق أمام منزل بلير، وأمام «مركز الملكة إليزابيث للمؤتمرات»، حيث عقد السير تشيلكوت مؤتمره الصحافي للإعلان عن خلاصات تقرير لجنة التحقيق، مطالبين بملاحقة بلير لارتكابه «جرائم حرب».

وفي هذا السياق، اعتبرت حركة «أوقفوا الحرب» التي عارضت غزو العراق أن «تقرير تشيلكوت اتهام صريح لتوني بلير والمحيطين به، في دفعنا إلى الحرب في العراق». وذكرت الحركة في بيان صدر بعد الإعلان عن نتائج لجنة التحقيق أن «الحركة المناهضة للحرب والملايين الذين تظاهروا ضد قرار الغزو، يطالبون الآن بالعدالة».

المفارقة المؤلمة والمخجلة أن ضمائر المتنفذين في عراق اليوم لم تهتز وكأن الموضوع لا يعنيهم، في الوقت الذي هزت فيه نتائج التحقيق الضمائر الحية للبريطانيين وغير البريطانيين في أرجاء العالم، وطالبوا بتحرك عراقي عاجل أمام المحكمة الجنائية الدولية، مبدين عزمهم دعمه إنصافًا للضحايا.

مثل هذا الموقف ليس جديدًا ولا مستغربًا على من ساهم في تدمير العراق وتحطيم شعبه!![11].

ثانيًا: اللجنة والحرب والأسلحة

 

1 – مزاعم أسلحة الدمار الشامل العراقية

شكّل اتهام الدولة التي دُمِرت (العراق) في إثر حرب عام 2003 بـ «امتلاك أسلحة الدمار الشامل» أحد أبرز «مبررات» غزوها، كما هو معروف، وسبقت الحرب حملة واسعة من أبواق الحرب للتأثير في الناس في كل مكان بامتلاك العراق للأسلحة المذكورة، وأنها تهدد الأمن والسلم الدوليين ومصالح الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وأن العالم بأجمعه مهدد بوجود أسلحة الدمار الشامل العراقية.

لكنه رغم الضجة الكبيرة، ومزاعم امتلاكهم للأدلة والأثباتات «القاطعة»، لم يثبت خبراء الأمم المتحدة ولا خبراء الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ولا غيرهم، امتلاك العراق لمثل هذه الأسلحة لا قبيل الغزو ولا بعده.

ويذكر أن بلير سُئل في عام 2010 من جانب لجنة التحقيق إن كان الادعاء الوارد في الملف المقدم عن العراق في أيلول/سبتمبر 2002، من أن «خطر أسلحة الدمار الشامل يمكن أن يشمل بريطانيا خلال 45 دقيقة من إطلاقها»، فأصر على أنه «استنادًا إلى الأدلة التي كانت متوافرة في ذلك الوقت فإن العراق كان مستمرًا في تطوير قدراته التسليحية دون أدنى شك». علمًا بأن العراق لم يكن وقتها أكثر الدول إثارة بخصوص امتلاك أسلحة الدمار الشامل. فقد نقلت الكاتبة البريطانية لويز كيتيل عن مدير التعاون الدولي في الخارجية البريطانية ويليام إهرمان، قوله إن بين عامي 2000 و2002 كان البرنامج النووي لكل من ليبيا وإيران وكوريا الشمالية يمثل خطرًا أكبر بمراحل على العالم وعلى مصالح بريطانيا من خطر العراق.

وكان خبراء الأمم المتحدة قد أكدوا أن العراق دمر بنفسه كل هذه الأسلحة عقب «عاصفة الصحراء». وأوضحت لويسي كيتيل أن بريطانيا كانت ستذهب إلى الحرب في العراق بغضّ النظر عن الخسائر، حيث أوضح التقرير أن أول تقدير لتكاليف الحرب على بريطانيا انتهى قبل شهر واحد من المشاركة الفعلية في العمليات العسكرية. وأكد كذلك أن رئيس الوزراء توني بلير وجميع المسؤولين في حكومته لم يهتموا بهذه التقديرات، التي كلفت البلاد 9 مليارات و240 مليون جنيه استرليني[12].

2 – تجاهل اللجنة لاستخدام الأسلحة الفتاكة

بينما تأكدت لجنة التحقيق في شأن أسلحة الدمار الشامل العراقية من أنها مزاعم باطلة، والدليل أنه لم يعثر أحد على هذه الأسلحة في العراق، تجاهلت اللجنة في المقابل، الأسلحة الفتاكة التي استخدمتها القوات البريطانية والأمريكية في غزو العراق، للمرة الثانية، وهي ذخائر اليورانيوم المشعة، وما سببته من كارثة رهيبة للمدنيين الأبرياء. وقد أهملت حكومة بلير كل التحذيرات العلمية في شأن أضرار استخدامها. وتجاهلت لجنة التحقيق التقارير العلمية الرصينة في شأن طبيعتها ومخاطرها ومخالفة استخدامها للقانون الإنساني الدولي، وهو ما سنأتي عليه.

3 – دراسات وتقارير أهملت

عقب غزو العراق بثمانية أشهر نشرت المنظمة البريطانية المعروفة مدآكت (Medact org.) نتائج دراسة علمية مكرسة للتكاليف الصحية والبيئية للحرب على العراق، أجرتها المنظمة بالتعاون مع منظمة أطباء العالم لمنع حرب نووية IPPNW)) الحائزة جائزة نوبل للسلام لعام 1985، وبدعم من منظمة OXFAM البريطانية ومؤسسة PPChF الخيرية. أنجز الدراسة فريق من الباحثين: صابية فاروق؛ دايفيد ماككوري؛ جاك بيانشو؛ إيزابيل غيتاغ. وحررت التقرير جين سالفيج، خبيرة شؤون الصحة العالمية. وساعد فريق البحث مجموعة كبيرة من الاستشاريين[13].

تناولت الدراسة تأثيرات الحرب والأسلحة التي استخدمت فيها وتأثيراتها في البيئة والصحة العامة البدنية والنفسية والعقلية للمدنيين والمحاربين. وأشار التقرير إلى الاستخدام العشوائي لبعضها، والتي أصابت المدنيين، إضافة إلى العسكريين، على حد سواء، من دون التفريق بينهم.

ومن بين الأسلحة التي استخدمت ضد العراقيين: أسلحة اليورانيوم والقنابل العنقودية والنابالم والأسلحة الخارقة للمخابئ EPWs)) وذخائر أخرى وأعتدة وألغام. وتضمنت الدراسة جدولًا بالأسلحة التي استخدمت على نحوٍ غير قانوني، والجيش الذي استخدمها، ونوعية الأسلحة وكميتها رسميًا، ووصفًا لها، والأهداف والخسائر التي سببتها. وأشار إلى مغالاة قادة الولايات المتحدة وبريطانيا في تباهيهم بقدرات أسلحتهم على «دقة» القصف بالصواريخ وفي «تفاديها» للمدنيين. فقد أثبتت الحرب أن الأسلحة التي استخدمت لم تؤد إلى إيقاف الخروق للقانون الإنساني الدولي، ولم تؤد إلى التقليل من إصابة المدنيين، وإنما أصابت مناطق سكنية وأسواقًا شعبية ومستشفيات ومدارس وشبكات المياه والصرف الصحي والاتصالات وفنادق وغيرها.

وجاء في الدراسة: «إن العواقب الصحية المترتبة على الحرب على العراق في عام 2003 ستبقى محسوسة لدى الشعب العراقي طوال سنوات، وحتى لأجيال»؛ وأكدت أن أضرار تلك الأسلحة لا تقتصر على قتل وإصابة المتحاربين والمدنيين الأبرياء وحسب، بل ستستمر مخاطرها على الصحة العامة لزمن طويل بعد انتهاء الحرب. ومن بين الاستنتاجات التي توصلت إليها أن الأمر الحيوي هو أن الحرب أدت إلى مقتل وإصابة الألوف من العراقيين، عسكريين ومدنيين؛ وسببت الحرب تدهور الصحة العامة في العراق إلى الأسوأ، كما ساعدت على انتشار الأمراض واختلال التوازن البيئي. وعدى التأثيرات المباشرة، أدت الحرب إلى دمار شبكات المياه والمجاري والكهرباء والإسكان، واستمرار دمارها، وسببت شحة المواد الغذائية وتفاقم معاناة الشعب العراقي على المديين القريب والمتوسط. وأوضحت الدراسة أن صحة المدنيين والمحاربين عانت كثيرًا، ولا تزال تعاني[14].

وفي تموز/يوليو 2010، استجابة لطلب لجنة التحقيق، قدمت الشبكة البريطانية لأسلحة اليورانيوم (UKUWN)، إحدى المنظمات البريطانية المعنية، تقريرًا علميًا وافيًا مكرسًا لاستخدام المملكة المتحدة لذخائر اليورانيوم المنضب في العراق، شرحت فيه طبيعتها وصنوفها وحجم ما استخدم منها على العراق. وتناولت بالأدلة العلمية القاطعة المخاطر الصحية لليورانيوم المنضب، مستندة إلى نتائج دراسات وأبحاث رصينة، أثبتت سمّيته الكيميائية والإشعاعية على العسكريين والمدنيين، مجسدة بـ«أعراض حرب الخليج» وانتشار الإصابات السرطانية والتشوهات الخلقية وعلل مرضية أخرى غير قابلة للعلاج وسط العسكريين من مستخدمي تلك الأسلحة وضحاياها، ووسط المدنيين الأبرياء وفي مقدمتهم الأطفال.

وللتغطية على هذه الأضرار، أكد التقرير أنه حتى اليوم لم يتم من جانب صناع هذه الأسلحة وتجارها إجراء دراسة واسعة النطاق لتقييم الآثار الصحية من ضحايا استخدامها في ميادين القتال. ورغم هذا، ثمة أدلة علمية وفيرة مقنعة بأن أسلحة اليورانيوم المنضب تشكل خطرًا على المدنيين والعسكريين، حيث ثبت علميًا سمّية اليورانيوم المنضب الكيميائية والإشعاعية التي تجعلها سامة للجينات (Genotoxic) وتالفة للغدد الصماء[15]. وقد أثبت برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) وجود غبار اليورانيوم في الهواء والتربة بعد سنوات من استخدام أسلحته. ولليوم لا يتم الإفراج عن البيانات الرسمية في برنامج البحوث التي أشرفت عليها وزارة المحاربين القدامى[16].

ثالثًا: تحذيرات علمية ضُرِب بها عرض الحائط

تعلم وزارة الدفاع البريطانية وكبار القادة العسكريون البريطانيون جيدًا بأن أسلحتهم من اليورانيوم المنضب هي أسلحة فتاكة، لكونها مصنعة من نفايات نووية خطيرة، حاوية على النظائر المشعة كافة (Isotopes) الموجودة في اليورانيوم الطبيعي (U-238 و U-235 وU-234) بنسبة أقل، إضافة إلى مواد أخرى أشد خطورة، وهي شديدة الإشعاع، مثل: النظير U-236 والبلوتونيوم (Plutonium) والتيتانيوم (titanium)  والموليبدينوم (Molybdenum)، وغيرها. من هنا تأتي فاعليتها الفائقة في التدمير والفتك[17]. وتبين أن ذخيرتها سريعة الاشتعال (Pyrophoric)، بسبب اليورانيوم المنضب، حيث تسبب الحرارة الناتجة من ارتطامها بالهدف احتراق الدروع مهما كانت سميكة ومتينة. إلى جانب سهولة اختراقها. هذه الميزة وصفها العالم الألماني الراحل سيغفرت هورست غونتر أشبه بقص قطعة زبدة بسكين حادة. عند إطلاق القذيفة وضربها للهدف تنفجر وتحترق، مولدة سحابة كثيفة من الغبار المشع تنتشر في المحيط. تخلف القذيفة الواحدة حسب حجمها 1 – 5 كغم غبارًا. وتشع القذيفة الواحدة 260-270 ملي راد (mRad) من الإشعاع في الساعة[18]، بينما الحد المسموح بالتعرض لهذا النوع من الإشعاع هو 100 ملي راد في السنة. وحتى الخرطوشة الفارغة (بعد الاستعمال) لطلقة بطول سيجارة تطلق إشعاعًا في الساعة الواحدة يعادل ما مسموح به خلال سنة كاملة.

عند تحلل اليورانيوم المنضب ونواتج تحلله تنبعث إشعاعات «ألفا» و«بيتا» و«غاما». وقد أثبت العالم الأمريكي من أصل كرواتي دوراكوفيتش (Asaf Durakovic)، رئيس قسم الطب الذري، كلية الطب بجامعة جورج تاون، واشنطن، أن المليغرام الواحد من اليورانيوم يطلق خلال سنة 390 مليون من أشعة «ألفا»، و780 مليون من أشعة «بيتا»، إضافة إلى أشعة «غاما». وينتج المليغرام الواحد من نظير 238-U في اليوم الواحد نحو مليون و70 ألف من أشعة «ألفا»، إضافة إلى «بيتا» و«غاما». ويطلق كل جزيء من أشعة «ألفا» ما بين 4.15 و4.20 مليون إلكترون فولت (Mev) [19]، فتشكل بدورها تعرضًا إشعاعيًا خارجيًا وداخليًا للذين يتعاملون مع ذخائره. علمًا بأن لنظير U-238، الذي يمثل أغلبية النظائر المشعة في اليورانيوم المنضب، نحو نصف عمر Half-life [20] 4.5 مليار سنة، أي أنه يبقى مشعًا مدى الحياة.

وكشف العلماء أيضًا أن أشعة «ألفا» المنبعثة من اليورانيوم المنضب هي أخطر كثيرًا من أشعة «بيتا» و«غاما» عند دخولها للجسم، من طريق تنفسها أو بلعها مع الطعام أو الشراب الملوث. وأثبتوا أنها تمتلك خاصيات فيزيائية وبيولوجية فريدة، مثل «التأثيرات بالجيرة» [21](Bystander Effects)، أي أن إشعاع الخلية التالفة ينتقل إلى الخلية السليمة المجاورة ويتلفها، وهذه تتلف الخلية المجاورة لها، وهكذا دواليك. الخاصية الأخرى هي تآزر فعل (Synergism) السمية الكيميائية والإشعاعية معًا وفي آن واحد[22]. وتستطيع أن تسبب، بطاقتها الإشعاعية والتأينية العالية، تدميرًا خلويًا جسيمًا للبناء الحيوي لجسم الإنسان، مهاجمة الرئتين والعقد اللمفاوية والكلى والدم والعظام والدماغ والمعدة والمبايض وحتى الأجنة بأكملها[23]. هذا إضافة إلى ما تبعثه نواتج التفاعل من جزيئات أشعة بيتا وغاما، التي تسبب تلفًا إشعاعيًا إضافيًا. وبالرغم من أن اليورانيوم المنضب لا يمثل ضررًا خارجيًا ملحوظًا، إلا أنه يمثل ضررًا داخليًا جسيمًا من طريق التنفس والبلع أو الجروح الملوثة[24]. وتبعثُ مُخترِقات اليورانيوم المنضب أو أجزاء منها أشعة بمقدار 300 ملي ريم/ الساعة[25]، ولذا لا يسمح بلمسها أو التقاطها من دون قفازات واقية[26].

ارتباطًا باستخدام أسلحة اليورانيوم في الحرب على العراق انتشر الإشعاع في أرجائه. ولا تزال المخلفات الحربية المشعة منتشرة في مناطق من العراق[27]. وأظهرت النتائج تلوثًا عاليًا جدًا في التربة، وقد وصل متوسط الخلفية فيها 2.8 بكريل/كغم (متوسط عالمي)[28]. وكشفت التحريات الميدانية في العراق التي أجراها العالم الألماني غونتر (Siegwart Horst Günther) أن الجرعة الإشعاعية على سطح قذيفة اليورانيوم المستخدمة (الخرطوشة) كانت 11 مايكروسيفرت (μSv) في الساعة[29]، بينما الجرعة السنوية المسموح بها في ألمانيا هي 300 مايكروسيفرت. أي أن التعامل مع مثل هذه القذائف يعطي الجرعة السنوية في يوم واحد[30]. وكشفت أوسع دراسة ميدانية إشعاعية أجراها عقب توقف حرب عام 2003 بخمسة أشهر فريق من علماء مركز أبحاث طب اليورانيوم (UMRC)، وهو مركز بحثي دولي مستقل، بقيادة العالم الكندي ويمان (Tedd Weyman)، نائب مدير المركز، أن معدلات الإشعاع المنبعث من ذخائر اليورانيوم قد بلغت 10 – 30 ألف مرة عن الحدود المسموح بها دوليًا في عدد من المناطق العراقية.وقد شملت الدراسة بغداد ومحيطها ومحافظات الوسط والجنوب كافة[31].

قبل حرب عام 1991 قليلًا حذرت مؤسسة التطبيقات العلمية الدولية (SAIC)، التي كانت مكلفة من قبل البنتاغون بإعداد تقرير حول استخدام اليورانيوم المنضب، من أن «الآثار القريبة المدى للجرعات العالية يمكن أن تؤدي إلى الوفاة، في حين أن الآثار الطويلة الأجل للجرعات الصغيرة من المحتمل أن تؤدي إلى الإصابة بالسرطان»[32].

وتأكيدًا لتحذيرات SAIC، حذر تقرير لهيئة الطاقة الذرية البريطانية (UKAEA) المسؤولين البريطانيين من عواقب استخدام ذخيرة اليورانيوم على السكان، وبخاصة الاطفال. وقدرت الهيئة أن وجود نحو 50 طنًا من اليورانيوم المنضب من شأنه أن يسبب وفاة ما يصل إلى نصف مليون نسمة[33]، مؤكدة «أن الخطر الأكبر يأتي من غبار اليورانيوم المتولد من انفجار القذائف بعد إصابتها للدبابات والعربات وحرقها […] وهي من الناحية الكيمياوية سامة جدًا للكلية البشرية، وإشعاعيًا – خطرة على الرئتين»[34].

وأكد العالم البريطاني كلارك (Michael Klarke) الخبير بأبحاث الطاقة الإشعاعية والإشعاع النووي تحذير العلماء البريطانيين للحكومة البريطانية من خطورة وفاعلية اليورانيوم كمادة مشعة، إذ يؤدي استنشاقها إلى تأثر الرئتين على نحو بالغ بإشعاعات تلك المادة([35]).

وقد نبّه ميركاريمي (Ross B. Mirkarimi) خبير البيئة في مركز بحوث رقابة الأسلحة (ACRC) في سان فرانسيسكو – إلى «أن النتائج البيئية لحرب الخليج سوف تقتصر على منطقة القتال، وما لم يجرِ تحليل صحيح لمنع آثار الحرب الطويلة الأمد، فقد يصبح عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء، على بعد يصل إلى 1000 ميل، ضحايا لإصابات إضافية». وأضاف: «من المحتمل جدًا أن يدفع الاطفال غير المولودين حتى الآن في المنطقة الثمن الأغلى، ألا وهو سلامة عواملهم الوراثية»[36].

وأعلن العالم البريطاني كوغهيل (Rogers Coghill)، وهو أحد علماء البيولوجيا التجريبية، أمام المؤتمر العلمي الدولي الذي عقد في لندن في تموز/يوليو 1999 وكرس لليورانيوم المنضب وأضراره، أن ثمة علاقة بين اليورانيوم المنضب وأنواع السرطان في العراق، موضحًا أن جزيئًا واحدًا من هذه المادة يستقر في العقدة اللمفاوية كفيل بتدمير جهاز المناعة بالكامل. وقال: نحن نعلم أنه تم إطلاق نحو مليون قذيفة من اليورانيوم المنضب في حرب الخليج الثانية، ولا يزال الكثير منها موجودًا في الصحراء، الأمر الذي ينجم عنه أنواع خطيرة من السرطان وتشوهات الأجنة. وأكد أن العلاقة بين الاثنين قائمة ظاهريًا من الوجهة البيولوجية[37].

وكتبت العالمة برتل (Rosalie Bertell): «لقد حولوا المقاتلين في حرب «عاصفة الصحراء»، مع الشعبين العراقي والكويتي، ضحايا لآخر التجارب الحربية على الكيان البشري. وأرى أن التغاضي عن ذلك جريمة مدانة»[38]. وكان العالم الأمريكي دوغ روكي- المسؤول السابق عن مشروع السموم الحربية للبنتاغون – قد أعلن من على فضائية «الجزيرة»: «أن استخدام أسلحة اليورانيوم في الحرب جريمة بحق الله والبشرية». وارتباطًا بانتشار إشعاعات ذخائر اليورانيوم في أرجاء العراق انتشرت معه التشوهات الخلقية الرهيبة والأمراض السرطانية وعلل أخرى غير قابلة للعلاج. وقد لاحظ الأطباء عقب الحرب حصول تغيرات كبيرة على وبائية الأمراض السرطانية في المناطق التي استخدمت فيها أسلحة اليورانيوم. والكثير من الحالات الغريبة لدى أبناء وبنات المناطق التي تعرضت للقصف، وخصوصًا في محافظات البصرة وميسان والناصرية، ومنها:

– كثرة حالات الإجهاض المتكرر والولادات الميتة.

– ظهور حالات من التشوهات الولادية ليست فقط رهيبة، بل وغير معروفة من قبل.

– انتشار العقم لدى رجال ونساء، وبينهم من خلف أو أنجب من قبل.

– كثرة الإصابات السرطانية في المناطق التي قصفت بالأسلحة الغربية.

– انتشار الحالات السرطانية وسط عوائل لم يصب أحد منها من قبل، وأحيانًا أكثر من فرد في العائلة الواحدة. ولاحظ الباحث جواد العلي إصابة المريض الواحد بأكثر من حالة سرطانية (2 و3 وحتى 4 حالات) في آن واحد.

– انتشار أمراض سرطانية وسط أعمار غير الأعمار المعروفة طبيًا، مثل سرطان الثدي لدى فتيات بعمر 10 و 12 سنة، وسرطانات أخرى نادرًا ما تصيب شريحة الأطفال.

– ارتفاع الإصابات السرطانية والوفيات بالسرطان بنسب عالية جدًا، بلغت أضعاف أضعاف ما كانت عليه قبل عام 1989 [39].

وأكدت منى خماس – أستاذة علم الأمراض الخبيثة بجامعة بغداد – أنه تم تسجيل تغيرات جوهرية في أنواع السرطان: معدل عمر مرضى السرطان هو أقل من السابق، بمعنى أنه قد سجلت حالات الإصابة في عمر مبكر على نحوٍ مناقض للمعايير الدولية؛ ووقوع إصابات ببعض أنواع السرطان التي لم تكن معروفة أو مألوفة في العراق سابقًا، مثل سرطانات الدماغ والكبد، التي تم تسجيلها بأعداد متزايدة؛ وحصول عدد كبير من التشوهات مقارنة بالطبيعي… إلخ. وكل هذه الحقائق موثقة جيدًا ومقدمة للمنظمات الدولية[40] ويعرفها خبراء البنتاغون ووزارة الدفاع البريطانية وحلف الناتو.

ولم يسلم مستخدمو هذه الأسلحة من أضرارها، حيث يعاني – وفقًا لتقارير مسربة – أكثر من 360 ألف عسكري أمريكي ونحو 60 ألفًا من البريطانيين والفرنسيين والكنديين والهولنديين والإيطاليين والعرب وغيرهم من «متلازمة حرب الخليج» (GWS) أو أعراض حرب الخليج، وقد مات منهم بالسرطان أكثر من 40 ألف عسكري أمريكي، وقرابة 22 ألفًا من دول التحالف الدولي. وشملت الإسقاطات المتكررة والتشوهات الولادية والسرطانات، التي تعانيها الأسر العراقية عشرات الآلاف من أسر العسكريين الذين شاركوا بالحرب في الخليج والبلقان.

رابعًا: إهمال الضحايا العراقيين

 

1 – الغزو ومشروع ضحايا حرب العراق

استجابة لطلب لجنة تشيلكوت، قدمت المنظمة البريطانية MedAct.org تقريرًا خاصًا وافيًا مكرسًا لأضرار النزاع على صحة المدنيين والبيئة[41]. وأرفقته برسالة رفعتها لرئيس لجنة تحقيق حرب العراق السير جون تشيلكوت، باسم «مشروع ضحايا حرب العراق» (The Iraq Body Count Project)، دعته إلى ضرورة أن يشكل ضحايا العراق جزءًا من التحقيقات في حرب العراق، موضحة بأن منظمة ضحايا حرب العراق (IBC) التي هي عضو في MedAct.org عملت على تسجيل أعداد الضحايا في العراق الناجمة عن العنف الحاصل هناك منذ التدخل العسكري في عام 2003، وطالبت لجنته بأن تأخذ في الحسبان الضحايا العراقيين نتيجة الحرب والانهيار الذي حصل بعدها في نظام الأمن المدني، وأن تسمح للمنظمة بأن تقدم إلى لجنة التحقيق الأدلة المطلوبة لهذا الطلب تحديدًا[42].

وانتقدت الرسالة الحكومة البريطانية لتعتيمها على البيانات الخاصة بالضحايا العراقيين، الأمر الذي أدى بشخصيات معروفة، مثل الـ 52 دبلوماسيًا بريطانيًا السابقين، أن ينشروا رسالة مفتوحة في نيسان/أبريل 2004، انتقدوا فيها سياسات الشرق الاوسط التي اتبعها رئيس الوزراء السابق توني بلير، والتي وصفوها بأنها «فضيحة لفشل قوات الائتلاف في تتبع وتسجيل الضحايا العراقيين». وقالت الرسالة أيضًا: «إن لجنة التحقيق في حرب العراق تمثل فرصة فريدة، حتى لو كانت متأخرة، للتحقيق في ضحايا العراق بشكل شامل وبتفاصيل دقيقة، وأيضًا تقييم طبيعة ومدى الضرر الناتج من إهمال حكومتنا المستمر لهذه القضية. حسب رأينا، إن المصادر «الكثيرة» للجنة التحقيق توفر لكم فرصة جيدة للتحقيق بشكل شامل وصحيح في قضية ضحايا العراق؛ فالمصادر الكثيرة تجبركم على فعل ذلك».

2 – تجاهل الضحايا المدنيين وتفاقم محنتهم

شهد القاصي والداني أن الطفولة العراقية أصبحت الجيل الذي تحمّل أعباء الحرب أكثر من غيرهم. ومن هذه الأعباء انتشار الإسقاطات (الإجهاضات) المتكررة لدى الأمهات العراقيات والولادات الميتة، وتضاعف حالات التشوهات الخلقية والأمراض السرطانية، وغيرها، عقب الحرب واستخدام الذخائر المشعة. إضافة إلى صدمة ما بعد الحرب، ومع وصول الحرب إلى سنتها الثالثة عشرة، برز جيل كبر في هذه الأجواء، وأصبحت الطفولة العراقية من الخسائر الأخرى. ملايين الأطفال كبروا على حياة العنف اليومية وعلى حياة القنابل والإطلاقات النارية والافتقار إلى التعليم والفقر والخوف ومشاهدة الموت يوميًا. ليس هذا فقط، وإنما تجنيد البعض من الأطفال كجنود، وتم تصويرهم في أفلام دعائية وهم ينفذون إعدامات.

حيال هذا، تساءلت هامورتزيادو (Lily Hamourtziadou) بحق: عندما يكبر هؤلاء الأطفال ما الذي سيكونون عليه؟ كيف ستؤثر الحرب في حياتهم؟.. واختتمت: سواء كانت هذه الحرب أخلاقية أو لاأخلاقية، فقد نتج منها عنف لا ينتهي وإجرام وعداء ومعاناة وموت. الحروب العينية والكلامية قوت إحداهما الأخرى ليكونا وحدة سياسية، علينا أن نعيش جميعًا في ظلها، وهي تمنع، بدلًا من أن تسهل، إيجاد الحلول[43].

أقر تقرير تشيلكوت ضمنيًا بأن ضحية الحرب في المقام الأول هو العراق، لكن لجنة التحقيق لم تولِ الضحية الأساسية اهتمامًا مطلوبًا، كما أولت المسائل الوطنية البريطانية ذات العلاقة. إزاء ذلك نظمت MedAct org، وغيرها، احتجاجًا جماهيريًا على تقرير تشيلكوت، معتبرة التحقيق غير جدي، إذ لم يهتم بضحايا الحرب- الشعب العراقي، وأهملت تقرير MedActorg و IBCالمفعم بمعطيات موثقة عن محنة الضحايا المدنيين بسبب الغزو[44]. وقد كشف النقاب مؤخرًا عن أن الحكومة البريطانية كانت قد ضللت بشأن المصابين والمتوفين من المدنيين ضحايا أسلحتها، فلم تسجل أعدادهم لرغبة في لير بتقليص العدد[45]، ضاربة عرض الحائط بتقارير الطواقم الطبية العاملة في العراق والبلقان المنبِّهة لارتفاع معدلات السرطان والتشوهات الخلقية، والرابطة إياها باستخدام أسلحة اليورانيوم، وإن لم تمتلك دراسات وبائية واسعة تؤكد ذلك[46].

المفارقة الغريبة أن تعطي لجنة التحقيق لعوائل الضحايا البريطانيين، من قتلى وجرحى ومعوقين، ممن شاركوا بحرب عام 2003، الحق بالمطالبة بتعويضات، بينما أنكرت هذا الحق على نظرائها من العراقيين، وإن دل هذا على شيء فإنما يدلل على استهانتها بجسامة كارثة الغزو والأسلحة التي استخدمها الغزاة ضد العراقيين، التي لخصتها العالمة الأمريكية لورين مورين بحق: «إن المستقبل الجيني للعراقيين على وجه التحديد قد تم تدميره»[47].

خامسًا: المسؤولية والشرعية

 

1 – انتهاكات للمواثيق الدولية

أسلحة اليورانيوم المنضب ليست للآن محظورة على وجه التحديد بموجب القانون الدولي للحد من التسلح ساري المفعول نظرًا إلى المعارضة الشرسة من قبل مصنعيها والمتاجرين بها ولخضوع الكثير من الدول للضغوط الأمريكية. بيد أن استخدام هذه الأسلحة يتعارض مع الكثير من مبادئ القانون الإنساني الدولي، المدونة منها والقائمة على العادات العرفية. لذا يناقش موضوعها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة كل عامين منذ عام 2008، وفي كل مرة يزداد عدد الدول المصوتة إلى جانب حظر استخدامها، حيث صوتت في الدورة الحادية والسبعين للجمعية العامة 151 دولة، وامتنعت 27 دولة عن التصويت. وصوتت ضده كالعادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وإسرائيل. وستتواصل المعركة غير المتكافئة حتى يتم حظر استخدامها دوليًا.

على الرغم من وجود التزام عليها بموجب اتفاقيات جنيف والامتناع عن استخدام الأسلحة التي تسبب أضرارًا مفرطة أو آلامًا لا لزوم لها، أو التي لها تأثيرات عشوائية، اختارت المملكة المتحدة، إلى جانب الولايات المتحدة، استخدام اليورانيوم المنضب أبان حرب عام 2003، متجاهلة تحذيرات الخبراء بشأن مخاطره، ضاربة عرض الحائط بما حددته اللجنة الدولية للصليب الأحمر كمعيار للقانون الدولي الإنساني العرفي بأن «جميع الاحتياطات الممكنة يجب اتخاذها لتجنب، وللحد في كل الأحوال من الأضرار العرضية للبيئة» خلال الحرب، وأن نقص اليقين العلمي بشأن التأثيرات البيئية للسلاح، لا يعفي أي طرف من هذه المسؤولية[48].

علاوة على ذلك، كون المملكة المتحدة طرفًا في البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، فإنها ممنوعة من استخدام الأسلحة ذات التأثيرات العشوائية[49]، ويجب أن تتخذ جميع الاحتياطات المستطاعة عند اختيار وسائل وأساليب الهجوم بهدف تجنب أي خسارة في أرواح المدنيين[50]. بأخذ هذه الأحكام معًا، فإنه يمكن بوضوح أن ينظر إلى أن هناك التزامًا قانونيًا ملزمًا للمملكة المتحدة لتوخي الحذر والحيطة عند النظر في استخدام اليورانيوم المنضب في العراق وأن استخدامه في المناطق الحضرية مثل الزبير بمحافظة البصرة في جنوب العراق يتعارض جذريًا مع هذا الالتزام. على هذا النحو يشكل استخدام اليورانيوم المنضب في الحرب من قبل المملكة المتحدة أيضًا انتهاكًا للقانون الإنساني الدولي. إن استخدامه فشل في الارتقاء إلى مستوى الالتزامات القانونية الدولية للمملكة المتحدة، التي ضاعفت من الفشل بإهمالها تنظيف التلوث باليورانيوم المنضب، أو لاتخاذ خطوات للحد من المخاطر التي يتعرض لها المدنيون العراقيون.

على المملكة المتحدة، بوصفها عضوًا في التحالف الدولي، أن تتحمل أيضًا المسؤولية عن تصرفات حليفتها الولايات المتحدة، التي استخدمت اليورانيوم المنضب وأحجمت عن توفير المعلومات عن الأهداف التي ضربتها للوكالات الدولية، وهو ما عرّض، بلا شك، الشعب العراقي لمخاطر لا داعي لها، والتي يجب أن تتحمل المسؤولية معها الحكومة البريطانية.

كقوة احتلال، تتحمل المملكة المتحدة أيضًا مسؤوليات محددة تجاه سكان العراق، عن سوء الإدارة والمساعي المتخلفة لتقييم مدى التلوث، ومنع التحركات لبناء تصور عن التأثيرات الصحية لاستخدام اليورانيوم المنضب في النزاع. وتتحمل قوى الاحتلال المسؤولية عن انعدام الأمن المروع خلال السنوات التي أعقبت الغزو، وفقدان الكثير من المدنيين العراقيين لحياتهم[51].

2 – التنصل من تنظيف العراق من مخلفات الحرب

شاركت المملكة المتحدة مع قوات التحالف ضد العراق بإلقاء أكثر من 3200 طن متري من اليورانيوم المنضّب، عدا عمّا خلفته أسلحتها من دبابات ومدرعات وعربات ومدافع ودشم وغيرها مضروبة في أرجاء العراق، وتركتها مكشوفة، من دون أن تحذر المواطنين من خطورة الاقتراب منها، فتعرض آلاف المدنيين، وبخاصة الأطفال، لإشعاعاتها وأصيب مئات الألوف منهم بأمراض خطيرة، ومات الآلاف منهم بالسرطان والتشوهات الخلقية الشديدة وعلل أخرى غير قابلة للعلاج.

لم تكتفِ الحكومة البريطانية، توافقًا مع الإدارة الأمريكية، بانتهاك القانون الإنساني الدولي الخاص بالعمليات العسكرية وضحايا الحرب واستخدام الأسلحة، بما فيها الأسلحة المحرمة دوليًا، غير منفذة ما يستوجبه القانون الدولي من التزامات لحماية المدنيين، تاركة البيئة العراقية بما لوثته قواتها وأسلحتها من دون تنظيف، الأمر الذي عرض حياة وصحة آلاف المدنيين للخطر.

ولم تفرج الحكومة البريطانية، شأنها شأن الإدارة الأمريكية، عن خرائط المواقع المضروبة بقذائف اليورانيوم، التي قدرها برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) بالآلاف[52]، ولم تنبه إلى خطورتها، ليعرِّف بها الناس أو المجتمع المدني وليتجنبوا الاقتراب منها. وفوق هذا، لم تتبادل مثل هذه المعلومات مع برنامج الأمم المتحدة للبيئة، ولا بشأن الكمية الحقيقية من اليورانيوم المنضب التي أطلقتها على العراق[53].

ولم تكن لديها وحلفاؤها النية لتنظيف مخلفات حربهم، مع أن الحكومة البريطانية أعلنت بأنها ستساعد على تنظيف البيئة العراقية من اليورانيوم المنضب الذي خلفته قواتها، وأقرت وزارة الدفاع بالتزامها من الناحية الأخلاقية، كما فعلت في الماضي وساعدت على إزالته من كوسوفو. وقد رحب بهذا القرار مالكوم هوبر (Malcolm Hooper)، أستاذ الكيمياء الطبية بجامعة سندرلاند، والمستشار العلمي لـ «جمعية جنود حرب الخليج الثانية المتقاعدين بالمملكة المتحدة»، الذي ذكر «أن وزارة الدفاع محقة عندما قالت بأن هناك واجبًا أخلاقيًا يجب عليها أن تؤديه، وأعتقد أن هناك أيضًا واجبًا قانونيًا عليها في ظل إصابة الأطفال بالسرطان وحالات تشوّه ولادي نراها في العراق منذ استخدام اليورانيوم المنضب في حرب عام 1991»[54].

فيما بعد، تراجعت وزارة الدفاع البريطانية عن المسؤولية القانونية، واعتبرتها «أخلاقية» فقط. وفشلت المملكة المتحدة وشريكتها الولايات المتحدة على نحو صارخ بالتعامل مع التلوث البيئي ومع الأضرار الجدية المهددة لصحة وحياة المدنيين العراقيين، تحت تأثير البنتاغون، الذي أعلن أنه لن ينظف العراق من مخلفات قواته. وعَدّتا أن المهمة ليست مهمة من يلوث وإنما هي مهمة البلد الذي يتلوث بذخائر اليورانيوم، ولا يتحمل من يلوث مسؤولية قانونية عما سببه من تلوث… هكذا بكل صلافة!

وأشار الباحث وير (Doig Weir)، منسق التحالف الدولي لحظر أسلحة اليورانيوم (ICBUW) إلى أن وزارة الدفاع البريطانية أخفت عن لجنة التحقيق وثيقة عسكرية أعلنت فيها في عام 2003 عن نيتها إزالة مخلفات اليورانيوم المنضب والذخائر غير المنفجرة من المناطق العراقية المقصوفة، وأقرت فيها بأن: «لدينا، لا على المدى الطويل، مسؤولية قانونية لتنظيف العراق من مخلفات اليورانيوم المنضب»[55].

وكانت الشبكة البريطانية لأسلحة اليورانيوم (UKUWN)، وهي عضو في التحالف الدولي لحظر أسلحة اليورانيوم (ICBUW)، وإحدى المنظمات البريطانية المعنية، قد لفتت انتباه لجنة تشيلكوت في عام 2010 إلى تكرار استخدام وزارة الدفاع لذخائر اليورانيوم في غزو العراق، رغم علمها المسبق بمخاطر استخدامها، بوصفها ذخائر مشعة مصنعة من نفايات نووية خطيرة[56]. وأكد ذلك البرفسور هوبر بقوله: «تتراكم الأدلة بشأن خطورة اليورانيوم المنضب، حيث يمثل استنشاق جزيئات غباره خطرًا صحيًا تعرفه المؤسسة العسكرية منذ عام 1974»[57]. وكشفت صحيفة الديلي تلغراف أن الحكومة البريطانية حظرت على قادة الجيش الرد على نتائج تقرير تشيلكوت بشأن حرب العراق، ومنعتهم من إبداء وجهات نظرهم الخاصة للجنود والبحارة والطيارين. وبحسب أوامر الاتصالات التي اطلعت عليها الصحيفة مُنعت المقابلات مع القادة، وقدمت الحكومة إليهم توجيهات متفقًا عليها لتمريرها إلى الجنود.

خاتمة

تجاهلت الحكومة البريطانية مخاطر الحرب وأضرار استخدام أسلحة اليورانيوم المشعة على المدنيين، وانتهكت المواثيق الدولية الخاصة بحماية المدنيين أثناء النزاعات، وكذبت وضللت الرأي العام لتبرير غزو العراق واحتلاله. البعض من هذا ثبتته لجنة تشيلكوت في تقريرها. بيد أن اللجنة تجاهلت بدورها ضحايا الغزو من المدنيين العراقيين الأبرياء، ولم تعر اهتمامًا لمحنتهم المتفاقمة. ومارست التسويف والمماطلة، ولم تدن حكومة توني بلير. وبذلك لم تكن مستقلة وإنما تحيزت، شاءت أم أبت، إلى جانب مجرمي الحرب والمجرمين بحق الإنسانية. وأفقدت مبادرة رئيس مجلس الوزراء جوردون براون أهميتها.

أما الحكومة العراقية فهي تواصل التفرج على محنة مواطنيها المدنيين، ولم تتحرك للمطالبة بحقوقهم المشروعة!.

 

قد يهمكم أيضاً  الأطفال الجنود في ظل القانون الدولي الإنساني

اضغطوا للقراءة حول  فلسطين وإسرائيل وشعرية الإبادة الجماعية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العراق #ضحايا_الغزو_على_العراق #الاحتلال_الأمريكي_البريطاني_للعراق #لجنة_تشيلكوت #الحرب_على_العراق #غزو_العراق #الضحايا_المدنيين #ضحايا_الحرب_العراقيين