في دراستين للعددين الأخيرين من مجلة سياسات (عدد ٤٨ وعدد ٤٩-٥٠) تطرق الكاتب إلى الانتخابات الأمريكية لعام ٢٠٢٠ من حيث برامج المرشحين والأحزاب وتفاعلاتها مع الوضع الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية وأثرها في الإقليم العربي وبوجه خاص في فلسطين. تأتي هذه الورقة كمتابعة لسياسة الإدارة الأمريكية الديمقراطية الجديدة تجاه فلسطين. وفي هذا الإطار تحلل الدراسة بداية إرث إدارة ترامب السابقة بشأن القضية الفلسطينية، ثم تناقش كيف ستتعامل معه الإدارة الجديدة بناءً على تصريحاتها وسلوكها حتى لحظة إنهاء كتابة هذا النص في العاشر من آذار/ مارس ٢٠٢١، وكيف تتكيف مع التطورات الداخلية والخارجية التي حصلت منذ انتقلت الرئاسة من أوباما إلى ترامب؟ وما الجوانب التي ستبقيها الإدارة الجديدة من قرارات ترامب في التعامل مع القضية الفلسطينية، وأي الجوانب التي ستلغيها، ولماذا، في ضوء التفاعلات الأمريكية الداخلية والإقليمية الفلسطينية – الإسرائيلية. بعد التحليل لهذه العوامل تذهب الورقة إلى استشراف المواقف الأمريكية تجاه فلسطين، حيث ترجّح الدراسة تعزز التوجه الأمريكي إلى إدارة الصراع أو الانسحاب منها إلا إذا حدثت انتفاضة فلسطينية أو تغيرات كبرى في المنطقة يمكن أن تجبر الإدارة الأمريكية على التدخل من أجل تسوية الصراع. بعد ذلك تفحص الورقة ممكنات إحداث التغيير في المواقف الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية والمنطقة والسبل التي يمكن استخدامها وتوظيفها من خلال أجندة عمل فلسطينية للتعامل مع الساحة الأمريكية الرسمية وغير الرسمية في آن معًا. وتنتهي الورقة بخاتمة تلخص بعض ما جاء فيها وتقترح أن أوراق تعطيل الحل موجودة عند أمريكا وهو ما يستوجب تغييره، عبر طرح أفق للعمل يقوم على شحذ الدور الفلسطيني تجاه قضيته داخل الوطن وخارجه كمحفز للآخرين كي يتحركوا بشأنها.

 

أولًا: إرث إدارة ترامب واتجاهات إدارة بايدن بشأن فلسطين

تسلم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مسؤولياته في مطلع عام ٢٠١٧ على وقع فشل إدارة الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما في تحقيق اتفاق تسوية للقضية الفلسطينية بين المفاوضَين الفلسطيني والإسرائيلي. وتعددت أسباب هذا الفشل بين موقف حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف بزعامة بنيامين نتنياهو، وبين المواقف الأمريكية التي عبر عنها جون كيري وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، والتي رغم تناقض رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مع بعض مكوناتها ولا سيما في ما يتعلق بالعاصمة الفلسطينية في ضواحي القدس والاستيطان الصهيوني، فإنها قد تقاطعت مع مواقف الحكومة الإسرائيلية في طرح ضرورة اعتراف الفلسطينيين بيهودية دولة إسرائيل، ورفض عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل، واعتبار القدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل، والقبول فقط بإقامة عاصمة فلسطينية في ضواحيها إما داخل الحدود البلدية المفروضة على المدينة منذ احتلال ١٩٦٧ كمنطقة بيت حنينا، أو خارج هذه الحدود كمنطقة أبوديس الواقعة في محافظة القدس، وأخيرًا القبول بضم الكتل الاستيطانية إلى إسرائيل مع تبادل أراضٍ. ومع هذا الفشل انتقل جون كيري للتفاوض ثنائيًا مع إسرائيل على بنود اتفاق إطار للتسوية بدلًا من اتفاق للتسوية ابتداء من تشرين الأول/ نوفمبر ٢٠١٣، وذلك بدون إشراك الرئيس الفلسطيني محمود عباس في هذه المفاوضات، والتي شكلت نتائجها صدمة للرئيس محمود عباس عندما أطلعه جون كيري على نتائجها أثناء لقائهما في باريس في آذار/ مارس ٢٠١٤ بسبب عدم توافقها مع الحد الأدنى المقبول فلسطينيًا (رافيد، ٢٠١٤). بقية القصة بعد ذلك معروفة حيث رفضت حكومة نتنياهو إطلاق دفعة رابعة من الأسرى كان متفقًا عليها، خيث أدى إلى توقف المفاوضات. وحمّل كيري إسرائيل مسؤولية فشل المفاوضات، ولكن لم يترتب عن هذا التحميل أية عقوبات أو ضغوط أمريكية جادة لثنيها عن مواقفها.

مع ذلك، لم ييأس جون كيري من توقف المفاوضات، فقد استمر في محاولاته عام ٢٠١٦ بعد أن كرّس عام ٢٠١٥ لإنجاز الاتفاق النووي مع إيران. ففي شباط/ فبراير ٢٠١٦ عقد مؤتمر رباعي في مدينة العقبة الأردنية شارك فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والملك عبد الله ملك الأردن والرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس مصر، وجون كيري وزير الخارجية الأمريكي. ناقش المؤتمر إطلاق مبادرة اقليمية أعدها جون كيري لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تتضمن الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، ووجود دولتين لشعبين فلسطينية وإسرائيلية مع تعديلات حدودية متفق عليها، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين في إطار الدولة الفلسطينية، وعاصمتين للشعبين في القدس، على أن يتلو هذه التسوية تطبيع عربي مع إسرائيل وعدت الأردن ومصر أن تشمل السعودية ودولة الإمارات. وخلال الاجتماع رفض نتانياهو خطة كيري وطرح خطة بديلة من جانبه تتضمن بعض التحسينات للفلسطينيين مثل توسيع البناء في المنطقة ج، ولكن مقابل قبول توسيع الكتل الاستيطانية الإسرائيلية الكبرى في الضفة، وهكذا فقد انتهى الاجتماع إلى الفشل (رافيد، ٢٠١٧).

مثّل المؤتمر الإقليمي الذي عُقد في مدينة العقبة أساسًا للبناء عليه من جانب إدارة الرئيس ترامب اللاحقة، ولكن مع تغيير هذه المرة. فإذ نصت مبادرة كيري على مواكبة عربية من الأردن ومصر، ودول الخليج بدرجة معينة للمفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية حتى نجاحها ليتلو ذلك تطبيع عربي مع إسرائيل، فإن إدارة ترامب قد أرادت بناءً على نصائح نتنياهو أن تجعل التطبيع العربي- الإسرائيلي يأتي أولًا، على أن تتم تسوية (أو تصفية) الموضوع الفلسطيني في مرحلة لاحقة بعد هذا التطبيع. وقد صرح نتنياهو بعد لقائه بالرئيس ترامب في واشنطن إثر تنصيبه قائلًا: “لأول مرة في حياتي ولأول مرة في حياة بلدي، فإن الدول العربية لم تعد ترى في إسرائيل عدوًا وإنما حليفًا”(رافيد، ٢٠١٧). ويبدو أن هذا التصريح كان كشفًا لما كان يجري من محادثات تطبيع سري وعلني مع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب والتي أنتجت علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل في حالات الإمارات والبحرين والسودان تحت اسم “اتفاقيات إبراهيم” وعلاقات جزئية على مستوى مكاتب تمثيل بين المغرب وإسرائيل عام ٢٠٢٠. مثلت هذه التحولات تغييرًا للمبادرة العربية للسلام والتي اشترطت حدوث التطبيع بانسحاب إسرائيل أولًا من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة عام ١٩٦٧. وبهذا التحول تكون إدارة ترامب قد وضعت مسارًا جديدًا أمام إدارة بايدن لن تستطيع هذه الأخيرة سوى دعمه، فلِم تقول لا للتطبيع العربي الذي تم مع إسرائيل خارج سقف المبادرة العربية للسلام؟ ولِم لا ترحب به كما فعلت منذ أيامها الأولى في الحكم؟ ولِم لا تسعى لاحقًا للمزيد من تطبيع دول عربية إضافية مع إسرائيل بدون حل القضية الفلسطينية؟ مثلت هذه المسألة النقطة الأولى التي تركها ترامب لبايدن ولن يستطيع الأخير تجاوزها.

أما المسألة الثانية التي خلفها ترامب لبايدن فهي تتعلق بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس تنفيذًا لقرار اتخذه الكونغرس عام ١٩٩٥، وعكفت الإدارات الأمريكية السابقة على تأجيل تنفيذه لعدة شهور مرة بعد مرة من خلال أوامر رئاسية، حيث جاء ترامب ونفذ القرار مزيلًا بذلك عثرة كانت قائمة في العلاقات بين البيت الأبيض وبين الكونغرس بديمقراطييه وجمهورييه الذين أيدوا جميعًا نقل السفارة إلى القدس. لذا سيجد الرئيس بايدن نفسه بتوافق مع الكونغرس في هذا النقل الذي تم للسفارة إلى القدس ولن يعيدها إلى تل أبيب. في المقابل طرحت إدارة بايدن إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس للتعامل مع الفلسطينيين وهي القنصلية التي كان قد أغلقها ترامب. حتى لحظة إنهاء هذا النص لم يكن قد أعيد فتح القنصلية الأمريكية في القدس، بينما استمرت وحدة الشؤون الفلسطينية في السفارة الأمريكية في القدس المقاطعة فلسطينيًا تتابع الشؤون الفلسطينية.

وهنالك ثلاثة مسائل أخرى خلّفها ترامب لبايدن، ولم يغيرها الأخير وهي: ثالثًا، قرار إدارة ترامب بوسم منتجات المستعمرات الإسرائيلية ومنتجات المنطقة ج من الضفة الغربية المصدرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية على أنها منتجة في إسرائيل. ورابعًا: قرار إدارة ترامب وسم المنتوجات الفلسطينية الواردة إلى أمريكا من الضفة بعبارة “الضفة الغربية” والأخرى الواردة من غزة بعبارة “قطاع غزة” على أساس أن الضفة وغزة هما وحدتان إداريتان منفصلتان لا تجمعهما فلسطينيتهما تحت تسمية واحدة. وقد تم إعلان القرارين المذكورين في ثالثًا ورابعًا أثناء زيارة مايك بومبيو الوداعية لإسرائيل في تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠٢٠. وخامسًا القرار الذي صدر في تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠٢٠ بمنح الأمريكيين المولودين في القدس حق كتابة عبارة “مولود في إسرائيل” في جوازات سفرهم بدلًا من عبارة “مولود في القدس” كما كان عليه الحال في قرارات الإدارة السابقة، وما ينطوي على ذلك من تعزيز الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل. وعندما سئل نيد برايس الناطق بلسان وزارة الخارجية في عهد الرئيس جو بايدن في مؤتمره الصحافي في شباط/ فبراير ٢٠٢١ عمّا إذا كانت إدارة بايدن تنوي تغيير هذا الترتيب المتعلق بجوازات سفر الأمريكيين المولودين في القدس، أجاب: “ليس لدينا تغييرات بشأن هذه النقطة” (برايس، موقع وزارة الخارجية الأمريكية، شباط/ فبراير، ٢٠٢١).

بناء على ما تقدم، فإن هنالك خمسة أمور متعلقة بفلسطين حدثت في عهد ترامب، ولم تقرر إدارة بايدن تغييرها: الأول يتعلق بعكس مسار التطبيع العربي مع إسرائيل ليستند مجددًا إلى نص المبادرة العربية للسلام بأن لا تطبيع قبل انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة كافة، والثاني يتعلق بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، والثالث يتعلق باعتبار المستعمرات والمنطقة ج من الضفة الغربية ومنتجاتها جزءًا من إسرائيل، والرابع: اعتبار الضفة وغزة وحدتين إداريتين منفصلتين، ولا عجب بناءً على ذلك أن يرد في تقرير صدر عن مؤسسة راند البحثية الأمريكية خيار يدعو إلى الكونفدرالية بين إسرائيل ودولتين فلسطينيتين واحدة في الضفة والأخرى في غزة (إيغل وسي روس وآخرين، ٢٠٢١). وخامسًا: النظر إلى القدس كعاصمة موحدة لإسرائيل عبر تسجيل مكان الولادة للأمريكيين المولودين في القدس على أنه إسرائيل.

عدا هذه المسائل الخمس أعلنت إدارة بايدن أنها ستغير ثلاثًا أخرى، ولكنها تركتها للمقايضة مع الجانب الفلسطيني حولها وهذه المسائل هي: أولًا، إعادة المساعدات الأمريكية للسلطة الوطنية الفلسطينية التي بقيت مشروطة بموافقة السلطة الوطنية الفلسطينية على التوقف عن دفع مساعدات لعائلات الشهداء والأسرى. ثانيًا، إعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن حسب الترتيب السابق قبل إغلاقه من جانب إدارة ترامب، أي بقرارات مؤقتة تجدد مرة كل ستة أشهر من أجل التحايل على قرار للكونغرس اتخذ في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي يعتبر م ت ف منظمة إرهابية. والمسألة الثالثة تتعلق باعادة تمويل وكالة الغوث الدولية الذي لم ينفذ حتى الآن رغم تخصيص الميزانيات لذلك من جانب الكونغرس. وما عدا ذلك لم تشر الإدارة الجديدة أيضًا إلى إعادة دعم مستشفيات القدس الشرقية التي أوقف ترامب دعمها.

 

ثانيًا: تصريحات الإدارة الجديدة

وإذا ما أتى المرء إلى تصريحات الإدارة الجديدة وأقطابها بعد تنصيبها، فلن يجد تصريحًا رسميًا يقول بشكل جلي لا لبس فيه بأن إدارة بايدن قد قررت إلغاء خطة صفقة القرن المسماة “خطة السلام من أجل الازدهار”، وبمراجعة الصفحتين الإلكترونيتين الرسميتين للبيت الأبيض ووزارة الخارجية لم يجد الباحث أي نص من هذا القبيل، وفي المقابل وجد أحاديث عن أن المستوطنات الإسرائيلية هي عقبة في طريق السلام، بدلًا من لغة اعتبارها غير شرعية كما جاء في قرار مجلس الأمن، ووجد أحاديث أخرى عن أن الحل للنزاع يتم من خلال التفاوض المباشر بين الطرفين وليس استنادًا إلى قرارات الشرعية الدولية. أي العودة إلى السياسة التقليدية للولايات المتحدة التي تمنح إسرائيل حق التقرير بشأن الدولة الفلسطينية حدودًا ومساحة وسلطات وكأنه لا توجد قرارات أممية مرجعية تحدد هذه الأمور.

وإذْ لم يتطرق الرئيس بايدن في خطابه الأول إلى القضية الفلسطينية، وأعطى الأولوية لقضايا الصراع مع الصين وروسيا، ولمعالجة الملف النووي الإيراني كما فعل ذلك في وثيقته الأولية للأمن القومي حيث جاء فقط ذكر السعي لاستئناف الدور الأمريكي لتحقيق حل الدولتين بدون تعهدات محددة في هذا الإطار (البيت الأبيض ٢٠٢١، وعيسى ٢٠٢١). وترك الرئيس الملف الفلسطيني الإسرائيلي لوزير خارجيته أنتوني بلينكن الذي تحدث عنه في مرات عديدة لعل أهمها أثناء لقائه مع وولف بليتزر على قناة سي إن إن، حيث رحب الوزير بلينكن باتفاقيات إبراهيم، كما تحدث عن إمكان الانخراط الأمريكي في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بشرط أن تنخرط الأطراف ذاتها قبل ذلك، وقال إن “الحقيقة الصعبة هي أننا على مسافة بعيدة، ورؤية انطلاقة وحل نهائي للمشاكل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإنشاء دولة فلسطينية” (بلينكن، شباط ٢٠٢١). وأضاف أن توجه وزارته بناءً على ذلك مبنيٌّ على مقاربة عدم إحداث الضرر (Do No Harm)، وذلك عبر مطالبة الطرفين بعدم القيام بأية إجراءات أحادية تعطل العمل من أجل خلق ظروف مواتية لإعادة استئناف مفاوضات السلام. وأضاف أنه لن يعاد نقل السفارة الأمريكية من القدس إلى تل أبيب. وردًا على سؤال مقدم البرنامج بليتزر بشأن دعم أمريكا لإقامة عاصمة فلسطينية في القدس، فقد استنكف الوزير عن تقديم دعم أمريكي كهذا وقال بأن هذا الأمر يتعلق بالمفاوضات النهائية بين الطرفين (بلينكن، شباط/ فبراير ٢٠٢١). وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس قد صرح أيضًا بأنه قد تقرر إعادة الدعم الأمريكي للفلسطينيين، وأنه تجري عملية فحص الكيفية التي ستتم بها إعادة هذه المساعدات بالاستناد إلى القيم والمصالح والقانون الأمريكي. وفيما يتعلق بقرار الصندوق القومي اليهودي الشروع بشراء أراضي للاستيطان في الضفة الغربية قال السيد برايس إن على الطرفين التوقف عن القيام بأية إجراءات تصعّد التوتر وتعقّد جهود إحياء عملية السلام مثل ضم الأراضي والنشاط الاستيطاني وعمليات الهدم من جانب إسرائيل، والتحريض على العنف وتقديم مساعدات للأفراد المسجونين بسبب أنشطة إرهابية من جانب الفلسطينيين (برايس، موقع وزارة الخارجية الأمريكية، شباط/ فبراير ٢٠٢١). وعلق السيد برايس على قرار محكمة الجنايات الدولية بدء تحقيق ضد الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧)، قائلًا: “فلسطين ليست دولة مستقلة، لذا فإن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية غير مناسب، وقد عارضت الولايات المتحدة صلاحية المحكمة الجنائية الدولية لفحص جرائم الحرب الإسرائيلية”. (موقع وزارة الخارجية الأمريكية: شباط/ فبراير ٢٠٢١). وأخيرًا فقد صوّت مجلس الشيوخ الأمريكي في أوائل شباط/ فبراير ٢٠٢١ على إبقاء السفارة الأمريكية في القدس بمصادقة ٩٧ من أعضاء المجلس مقابل معارضة ٣ فقط هم بيرني ساندرز وإليزابيث وارين وتوم كاربر (لازاروف، شباط/ فبراير ٢٠٢١).

يترتب عما سلف أننا نشهد حالة عودة إلى السياسة الأمريكية التقليدية تكررت في التصريحات أعلاه، وفي مبادرة كيري ٢٠١٣-٢٠١٤وسياسة الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما وثقها كلها الدكتور المرحوم صائب عريقات في كراساته عن تطورات العملية السياسية والتفاوضية منذ٢٠١٠ وحتى وفاته العام الماضي (عريقات ٢٠١٠- ٢٠٢٠). ووردت كذلك في برنامج الحزب الديمقراطي للانتخابات الأخيرة (صفحة الحزب الديمقراطي)، وتقضي هذا السياسة بدعم غير مشروط لإسرائيل والتحالف الاستراتيجي والعضوي معها كونها جزءًا لا يتجزأ من السياسة الأمريكية الداخلية المرتبطة بالتوجهات الإنجليكانية وبنفوذ اليهود الاقتصادي والسياسي هناك، وضمان وجود إسرائيل واستمرارها والاعتراف بها ضمن حدود آمنة ورفض فرض أي عقوبات عليها بما في ذلك من مجلس الأمن الدولي، أو رفع قضايا ضدها في المحاكم الدولية، أو وقف المساعدات لها، وفي المقابل إقرار دولة فلسطينية مشروطة بموافقة إسرائيل على حدودها وطبيعة سلطاتها ومناطق سيادتها، وتكون منزوعة السلاح وتعترف بدولة إسرائيل كدولة يهودية، وتمتنع عن المطالبة بإعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى داخل إسرائيل، وتقبل بالقدس عاصمة موحدة لدولة إسرائيل مع ترتيبات عاصمة فلسطينية في أطرافها، وقبول ضم الكتل الاستيطانية الكبرى إلى إسرائيل وبقاء الجيش الإسرائيلي في غور الأردن لفترة طويلة، وتمتنع عن إشراك أية أطراف فلسطينية لا تعترف بحق إسرائيل في الوجود ولا تنبذ الإرهاب ولا تعترف بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل في الحكومة الفلسطينية، وتقبل وقف المساعدات لعائلات الشهداء والأسرى وتوقف التحريض ضد إسرائيل داخليًا وخارجيًا.

فرضت صفقة القرن بعض المتغيرات على السياسة الأمريكية التقليدية تجاه القضية الفلسطينية يمكن استنباطها من الفوارق بين “خطة السلام من أجل الازدهار” (صفقة القرن) وتلك السياسة التقليدية. ولكن لعل الفوارق تتعلق بجوانب كمية وليس نوعية، ففي الحالتين هناك دولة فلسطينية تقام بشروط مفروضة إسرائيليًا ودوليًا وبدون سيادة على القدس ولا عودة للاجئين إلى داخل إسرائيل. ولكن هذه الدولة في السياسات الأمريكية السابقة لصفقة القرن تتمتع بمساحة أكبر في الضفة الغربية مما جاءت عليه في صفقة القرن، إذ كانت تزيد على تسعين بالمئة من الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧ مضافا إليها عملية تبادل أراض، فيما لم تتخطَّ النسبة المعطاة لفلسطين في صفقة القرن السبعين بالمئة من الضفة يضاف إليها مناطق من النقب قرب غزة والخليل تبقى خاضعة للسيطرة الأمنية الإسرائيلية. عوضًا من ذلك فإن السيطرة الأمنية الإسرائيلية على الدولة الفلسطينية في صفقة القرن أكبر مما هي عليه في المبادرات الأمريكية السابقة، كما أن الدولة الفلسطينية في صفقة القرن تخضع للسيادة الإسرائيلية بينما لا تتعدى صلاحياتها الشؤون المدنية وخدمة السكان ويحق للجيش الإسرائيلي أن يدخل أي رقعة منها لدواع أمنية في أي وقت (نصوص صفقة القرن). يضاف إلى ذلك أن الادارات الأمريكية السابقة اعتمدت أسلوب الضغط على الفلسطينيين باستخدام القوة الناعمة أكثر من القوة الخشنة وذلك من خلال استخدام لغة التهديد والوعيد والضغط، بينما لجأت إدارة ترامب أكثر فأكثر إلى القوة الخشنة من خلال قطع المساعدات وفرض الوقائع على الأرض في سياق ما عرف في حينه باسم استراتيجية “تحقيق الانتصار التام على الفلسطينيين” التي طرحها دانييل بايبس وشكل لها كتلتي مناصرين في كل من الكونغرس الأمريكي والكنيست الإسرائيلي (بايبس، ٢٠١٧). وأخيرًا فإن صفقة القرن قد عززت التطبيع العربي مع إسرائيل بمعزل عن تطبيقها المسبق لبنود مبادرة السلام العربية، وذلك بعكس ما كانت عليه السياسات الأمريكية السابقة التي طلبت تطبيعًا جزئيًا من العرب مع إسرائيل خلال المفاوضات ولكن لا يصبح كاملًا إلا بعد التوصل إلى حل تفاوضي شامل.

بناءً على ما تقدم يمكن الاستخلاص أن السياسة الأمريكية التقليدية لحل القضية الفلسطينية ستشهد بعض الخطوات إلى الخلف والتي تجعلها غير مواتية أكثر للحقوق الفلسطينية، فمدخل التطبيع العربي الإقليمي على حساب حل القضية الفلسطينية وعلى حساب الالتزام بالمبادرة العربية للسلام هو متغير جديد دخل خلال فترة ترامب وستستمر تداعياته خلال فترة بايدن، كما أن الانتخابات الإسرائيلية لنهاية آذار/ مارس ٢٠٢١ هي انتخابات يكتنفها الصراع بين اليمين واليمين ولن تنتج حكومة مستعدة لحل القضية الفلسطينية بشكل عادل، زد على ذلك التفكك العربي وانهيار النظام القومي العربي والسكون المسيطر على الساحة الفلسطينية لجهة غياب أية مقاومة فعالة لا يخلق ضغوطًا تدفع العالم وأمريكا للتحرك من أجل حل القضية الفلسطينية. وأخيرا هنالك رؤية الإدارة الأمريكية الجديدة بأن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي هو صراع بعيد عن الحل حاليًا (كما عبر عن ذلك انتوني بلينكن في تصريحه الوارد أعلاه) وأن الأولوية هي لملفات الصين وروسيا وإيران، يضاف إلى ذلك تقلص أهمية الشرق الأوسط لديها في ضوء تراجع قوة الإسلام السياسي فيه وتراجع احتياج الولايات المتحدة لنفطه في ضوء نمو إنتاج النفط الصخري الأمريكي، هذا ناهيك بأن الإدارة الأمريكية الجديدة قد تكون معنية بتجميد الملف الفلسطيني- الإسرائيلي لأسباب داخلية أمريكية بحتة يقع على رأسها أن تفعيل العمل لحل هذا الصراع ربما يترتب عليه تصعيد الانشقاق بين اليمين واليسار داخل الحزب الديمقراطي ذاته حول طرق ومقاربات حل هذا الصراع، كما قد يترتب عليه في المقابل إطلاق حملة مضادة من القوى الإنجليكانية التي دعمت ترامب ومن ترامب نفسه ضد السياسات الجديدة للرئيس بايدن في وقت تحتاج فيه أمريكا إلى تعزيز الوحدة الداخلية بعد الانقسام العميق الذي شهده المجتمع الأمريكي وتتوج بالهجوم على الكابيتول من جانب أنصار ترامب يوم السادس من كانون الثاني/ يناير ٢٠٢١ وما خلفه هذا الهجوم من تداعيات. في هذا الإطار قد تفضل الإدارة الأمريكية الجديدة تعزيز التطبيع العربي الجاري مع إسرائيل عبر جلب أطراف عربية أخرى له مثل السعودية كما يرشح من بعض الأنباء وربما حتى سورية (بالتعاون مع روسيا)، ولكن مقابل صفقات إنسانية وإعادة قبول النظام السوري دوليًا وليس إعادة الجولان، وربما أيضا بما يشمل أطرافًا من العراق واليمن وليبيا عبرت مرارًا عن رغباتها في التطبيع مع إسرائيل، هذا ناهيك بموريتانيا، واستئناف المفاوضات اللبنانية- الإسرائيلية حول ترسيم الحدود البحرية وحقول الغاز.

في ظل هذا التجميد للقضية الفلسطينية وتفعيل التطبيع العربي- الإسرائيلي ستقوم الإدارة الأمريكية الجديدة بإدارة النزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ومن أجل ذلك استنكفت الإدارة الجديدة عن تعيين مبعوث خاص لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ولكنها في المقابل قامت بتعيين السيد هادي عمرو المعروف بمهاراته في مجالات إدارة النزاع نائبًا لوزير الخارجية الأمريكية للشؤون الفلسطينية -الإسرائيلية. والسيد عمرو هو فلسطيني ولد في بيروت عام ١٩٦٧ وترعرع في نيوجيرسي وفيرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية وهو اقتصادي عمل في وزارة الدفاع في عهد الرئيس بيل كلينتون، ولاحقًا في القطاع الخاص، ثم عمل في فرع معهد بروكينغز في الدوحة، تلى ذلك عمله كسكرتير مساعد للشؤون الإسرائيلية- الفلسطينية في عهد الرئيس باراك أوباما حيث اشتغل على مسائل إنسانية مثل محاولة إدخال نظام 3G لقطاع غزة ودعم إغاثي لها، وأنظمة مجاري للضفة. وضمن مهماته في الإدارة الأمريكية الحالية فإنه يعمل على تنظيم صرف ٧٥ مليون دولار خصصها الكونغرس لمشاريع تنموية في فلسطين، والإعداد لمؤتمر المانحين للسلطة الوطنية الفلسطينية في ٢٣ شباط/ فبراير، وإعداد ورقة سياسات مقترحة حول الانتخابات الفلسطينية، وسيقوم السيد هادي بتمثيل الولايات المتحدة مع الفلسطينيين في غياب وجود قنصل أمريكي في القدس حتى الآن، كما سيمثل أمريكا في اللجنة الرباعية في ضوء عدم تعيين الرئيس بايدن لمبعوث أمريكي خاص لعملية السلام (رافيد، ٢٠٢١). وبينما يتم العمل على هذه الجوانب الإنسانية في إطار استمرار الاحتلال والتوسع الاستيطاني وعمليات الضم الزاحف، يستمر توسع التحالف العضوي الأمريكي الإسرائيلي حيث قررت الحكومة الإسرائيلية في شباط/ فبراير ٢٠٢١ شراء طائرات دفعة جديدة من طائرات F 35 وطائرات التزود بالذخيرة في الجو، وذخيرة من أمريكا بقيمة تسعة مليارات دولار تمول من المساعدات الأمريكية لإسرائيل (إسرائيل اليوم، شباط/ فبراير ٢٠٢١) وبدأت إسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى مشروعًا مشتركًا لتطوير نظام حيتس ٤ الصاروخي الدفاعي الذي يشمل أنظمة رادار واعتراض صواريخ متطورة (الجيروساليم بوست، شباط/ فبراير ٢٠٢١). كما اتفق الرئيس بايدن مع نتنياهو أثناء اتصاله به رغم مجيء هذا الاتصال متأخرًا يوم ١٧ شباط/ فبراير ٢٠٢١ على توثيق التحالف الاستراتيجي والتشاور بين البلدين في المجالات كافة بما فيها الملف الإيراني (صفحة البيت الأبيض).

مع ما سبق، فقد لا يرافق التوجه الأمريكي لإدارة النزاع إدارة بايدن طيلة فترة حكمه، فهنالك عوامل فلسطينية وإسرائيلية وإقليمية ودولية متحركة يمكن أن تدفع الإدارة للتدخل مجددًا لمحاولة حل أو تسوية النزاع ترد أدناه.

 

ثالثًا: حراك العوامل وتغيير الموقف الأمريكي

من تصريحات المسؤولين في إدارة الرئيس بايدن يمكن استشفاف أن هذه الإدارة تأخذ بنظرية الواقعية التقليدية التي تهتم بالاعتبارات الأمريكية الداخلية بعين الاعتبار، ممزوجة مع الليبرالية الدولية (بيرنز، ٢٠٢٠)، لذا تهتم بالتعاون مع اليابان والهند والاتحاد الأوروبي من أجل احتواء الصين وروسيا، كما تهتم باعتماد القوة الدبلوماسية الناعمة مع إيران بمشاركة دول أخرى وذلك من أجل احتواء المشروع النووي الإيراني بما يوقف تهديد هذا المشروع لإسرائيل والدول الحليفة لأمريكا في المنطقة، وتطرح قضايا حقوق الإنسان كموجه لسياستها الخارجية وبالتركيز في منطقة الشرق الاوسط على السعودية والإمارات ومصر وتركيا، ولكن الاستثناء لهذه السياسة الأمريكية هو فلسطين، حيث تصمت هنا عن انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان الفلسطيني مما يعكس ازدواجية في المعايير.

على أن الدول تتحرك أيضًا تبعًا للضغوط عليها من جانب الشعوب أو من دول أو كتل دولية أخرى، وتجدر الإشارة إلى أن التحرك لا يعني بالضرورة التحرك لحل الصراع أو تسويته، ولكنه قد يكون تبعًا لعامل الضغط المحدد تحركًا لتهدئة الصراع وإعادته إلى حالة قابلة للإدارة بدلًا من الحل من جديد، أو يكون التحرك هادفًا لدعم أحد الأطراف وإنقاذه من ورطة. وهكذا تتعدد أطراف وأشكال الضغوط وتتعدد أنواع التحرك المختلفة بناءً على هذه الضغوط المختلفة.

أول العوامل التي يمكن أن تجعل الإدارة الأمريكية تتحرك لتسوية الصراع هو العامل الفلسطيني، وبالذات عبر نشوب انتفاضة فلسطينية تحدث ما أحدثته الانتفاضة الفلسطينية الأولى لعام ١٩٨٧ والتي أجبرت الولايات المتحدة وإسرائيل على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية والتفاوض معها. وهنالك أيضًا احتمال نشوب حرب على جبهة قطاع غزة أو لبنان، وهي كما علمت التجارب السابقة لن يكون لها نفس الأثر على الولايات المتحدة كما الانتفاضة، ففي الحالة الأولى قد تضطر الولايات المتحدة إلى التدخل لمحاولة حل الصراع، أما في الحالة الثانية فقد تتدخل لوقف الحرب فقط ومعالجة آثارها بالتعاون مع حلفائها الاقليميين والدوليين.

وفي ما يتعلق بالعامل الإسرائيلي فإن الصورة القائمة في إسرائيل لا توفر أي فرصة لطرح مبادرة إسرائيلية نحو التسوية مع الشعب الفلسطيني. فإسرائيل تشعر بأنها قادرة على فرض الحقائق على الأرض بدون مقاومة فلسطينية فعالة، يرافقها أيضًا إقبال عربي على التطبيع معها. ولهذا يتجه العامل الإسرائيلي منذ تنصيب إدارة بايدن إلى استكمال بناء المشاريع الاستيطانية الاستعمارية الضخمة والوفيرة من حيث عدد الوحدات السكنية المزمع بناؤها والتي تقررت في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والتي سيستغرق تنفيذها مدة توازي فترة رئاسة الرئيس بايدن على مدى سنواتها الأربع وربما أكثر، وعليه قد لن تكون هنالك حاجة إلى إقرار مشاريع استيطانية استعمارية جديدة تحرج إدارة بايدن وتسبب نقدًا منها لإسرائيل إلا في حالات قليلة قد تطرأ في الضفة، مع الاستمرار في التوسع الاستيطاني الاستعماري بشكل مضطرد في نطاق القدس الكبرى مما يقلل الاحتكاك مع إدارة بايدن بهذا الشأن. من جهة أخرى تم إحياء المنتدى الإسرائيلي الأمريكي حول إيران، وذلك للحيلولة دون نشوء أي احتكاكات مع الإدارة الأمريكية يمكن أن تؤثر سلبًا في العلاقات الاستراتيجية بينهما (عرب ٤٨، ٢٠٢١). عوضًا من ذلك ستسعى إسرائيل إلى إقناع الإدارة الأمريكية ببذل مزيد من الجهد لتحقيق المزيد من التطبيع العربي معها (أي مع إسرائيل). كما ستطلب إسرائيل من إدارة بايدن الاستمرار في الدعم السياسي لإسرائيل في المحافل الدولية كافة والدفاع عنها في وجه تحقيقات محكمة الجنايات الدولية ومعاقبة الفلسطينيين في حال توجههم إلى المحكمة ضد إسرائيل، وتعزيز التعاون العسكري وتزويدها بالأسلحة المتطورة والذخائر، وتنفيذ كل الاتفاقات الاستراتيجية بين الجانبين بهذا الشأن، ودعم التعريف الإسرائيلي للاسامية ومكافحة القوى التي يشملها هذا التعريف داخل الولايات المتحدة وخارجها. كما ستصطف إسرائيل مع بعض دول الخليج للضغط على إدارة بايدن بشأن طرق التعامل مع الملف الإيراني.

في العامل العربي، ومقابل اتجاه التطبيع سابق الذكر يمكن الانتباه إلى الدور الأردني- المصري في إطار مجموعة ميونيخ التي تم تأليفها مع فرنسا وألمانيا في مدينة ميونيخ الألمانية في شباط/ فبراير ٢٠٢٠. وهي مجموعة تهدف لتحقيق اتفاق تفاوضي إسرائيلي فلسطيني يفضي إلى دولتين تعيشان معًا بسلام وأمن واعتراف متبادل. التقت المجموعة عدة مرات بين ميونيخ والقاهرة وعمان، ومن آخر نشاطاتها لقاء سفرائها في شباط/ فبراير ٢٠٢١ مع مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية ألون يوشفيز ومع وزير الخارجية الفلسطينية رياض المالكي في اجتماعين منفصلين. في اللقاء مع الجانب الإسرائيلي طرح سفراء المجموعة أن تقوم إسرائيل بتزويد الفلسطينيين بلقاحات ضد فيروس كورونا، ووقف تجميد حسابات الأسرى الفلسطينيين، والإفراج عن الجثث الفلسطينية المحتجزة لدى إسرائيل وتجميد البناء في المستوطنات، وقد رفض المسؤول الإسرائيلي هذه المطالب. أما مع الوزير المالكي فقد طلبت منه المجموعة التعاون مع إسرائيل بشأن توفير اللقاحات ضد كورونا، وإعادة إحياء لجنة التنسيق المدنية الإسرائيلية- الفلسطينية المشتركة وإصلاح نظام الدفع للأسرى ولعائلات الشهداء. ومن أنشطة المجموعة المخططة في آذار/ مارس ٢٠٢١ عقد لقاءين منفصلين مع كل من وزير الخارجية الفلسطيني ووزير الخارجية الإسرائيلي (رافيد ٢٠٢١). فهل يمكن أن تنضم الولايات المتحدة الأمريكية إلى هذه المجموعة؟ أم أنها ستكتفي بتفعيل الرباعية الدولية للسلام في الشرق الأوسط مع الاتحاد الأوروبي وروسيا والأمم المتحدة؟ وهل سيتم مثلًا اقتراح ضم مصر والأردن للرباعية الدولية ليكون لها مكون إقليمي؟ في كل الأحوال ترتبط هذه الأسئلة بالسؤال الرئيس وهو: هل ستتحرك الولايات المتحدة نحو العمل على صيغة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ وفي غياب أي استعداد إسرائيلي للحل، هل تكون اللجنة الرباعية – مع إضافة الأردن ومصر إليها أو بدون ذلك – مستعدة للضغط على إسرائيل لقبول صيغة الحل القائمة على حل الدولتين؟ لا يبدو ذلك ممكنًا في الأفق سوى إن استطاع الفلسطينيون فرض أنفسهم على الطاولة من خلال كفاحهم في ستة اتجاهات هي: السياسية والدبلوماسية، والاقتصادية التنموية، والقانونية، والكفاحية الميدانية والمعرفية، والإعلامية. فكيف يكون ذلك؟

 

رابعًا: الفلسطينيون والإدارة الأمريكية: أجندة عمل

في ضوء التجارب السابقة مع الإدارة الأمريكية، والتي بلغت ذروتها في التجربة الصعبة مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قررت القيادة الفلسطينية في الأعوام الأخيرة رفض التوجه الأمريكي المنفرد في إدارة المفاوضات والمطالبة بدل ذلك بعقد مؤتمر دولي كامل الصلاحيات يعقد بإشراف اللجنة الرباعية ومجلس الأمن يمهد للانخراط في عملية سلام حقيقية نحو حل الدولتين وعودة اللاجئين الفلسطينيين والقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين. وقد كرر الرئيس محمود عباس الدعوة إلى هذا المؤتمر في كلمته المسجلة التي ألقيت أمام الدورة الـ ٧٥ للجمعية العامة للأمم المتحدة التي عقدت يوم ٢٥ أيلول/ سبتمبر من عام ٢٠٢١، ودعا عباس في كلمته أن يعقد المؤتمر الدولي في مطلع عام ٢٠٢١ (وكالة وفا، أيلول/ سبتمبر ٢٠٢٠). السؤال الذي تنشغل به القيادة الفلسطينية الآن هو عمّا إذا ما نشأت ظروف جديدة بعد انتخاب إدارة الرئيس بايدن تستوجب العودة عن فكرة المؤتمر الدولي كامل الصلاحيات لصالح إدارة أمريكية منفردة للمفاوضات مجددًا؟

تفيد آخر تجارب التفاوض السابقة برعاية أمريكية إلى ضغط أمريكي على الفلسطينيين تلاه تحميلهم مسؤولية فشل المفاوضات (تجربة بيل كلينتون مع ياسر عرفات أثناء مفاوضات كامب ديفيد عام ٢٠٠٠ وما بعدها)، أو تراجع أمريكي عن التسوية الشاملة لصالح اتفاق إطار يتم التفاوض ثنائيا بشأنه بين الإدارة الأمريكية وإسرائيل وبدون مشاركة فلسطينية (تجربة جون كيري مع بنيامين نتانياهو وتسيبي ليفني ٢٠١٣- ٢٠١٤) وبين هاتين التجربتين قام المبعوث الأمريكي جورج ميتشل بين ٢٠١٠ و٢٠١١ بوساطة بين الطرفين أسفرت عن اتفاق مع نتنياهو على تجميد جزئي للاستيطان تلاه محادثات تقريبية بين الطرفين بوساطة أمريكية في عمان انتهت بالفشل. يشير ذلك إلى خلاصة مهمة وهي أن الاعتماد الأمريكي على الموافقة الإسرائيلية لإقامة الدولة الفلسطينية من خلال المفاوضات هو مشكلة المشاكل أمام التوصل إلى حل في ظل الرفض الإسرائيلي للحل القائم على دولتين على حدود ١٩٦٧ أو ضمن تعديلات حدودية متفق عليها. رافق ذلك تقاطع المواقف الأمريكية مع المواقف الإسرائيلية في بعض القضايا كما تم تحليله سابقًا واتجاه أمريكا بدل ذلك للضغط على الجانب الفلسطيني لقبول سقف أدنى. يترتب عن ذلك ضرورة الاستمرار في رفض الانفراد الأمريكي برعاية المفاوضات، وفي ذات الوقت الانخراط الإيجابي في حوار مع الجانب الأمريكي حكومة ومؤسسات لمناقشة ومعالجة قضايا هامة لفلسطين هي التالية:

أولًا، إعادة الاعتبار لمرجعيات الحل السياسي ممثلة بقوانين الأمم المتحدة وقرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية للسلام.

ثانيًا، تطوير القناعة لدى أمريكا بعقم منهج المفاوضات الثنائية الذي يوفر لإسرائيل حق الفيتو على قيام الدولة الفلسطينية بدون موافقتها، واستبدال ذلك بالضغط الأمريكي على إسرائيل باستخدام كل الوسائل الممكنة من أجل ترتيب مؤتمر دولي للسلام يناقش آليات التنفيذ نحو الوصول إلى دولتين على حدود عام ١٩٦٧ وضمان عودة اللاجئين، أي مؤتمر لتطبيق ما تم الاتفاق عليه في المفاوضات السابقة وليس العودة إلى التفاوض من جديد من نقطة الصفر.

ثالثًا، ترتيب العلاقات الفلسطينية الأمريكية بما يستدعي إلغاء قرار الكونغرس باعتبار “م ت ف” منظمة إرهابية، واعادة فتح مكتب المنظمة في واشنطن بدون شروط ومنها قرار الكونغرس المذكور، وفتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية مجددًا، واعادة سفارة واشنطن إلى إسرائيل من القدس إلى تل أبيب. وإعادة الدعم المالي لدولة فلسطين بدون شروط مثل الدفعات لعائلات الأسرى المعتقلين، وإعادة الدعم المالي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين، وقبل كل ذلك مطالبة الإدارة الأمريكية بالاعتراف بدولة فلسطين وسيادتها على كامل أراضيها بدون إجحاف، والاعتراف بعاصمتها القدس الشرقية وحقها بالتمتع الكامل بالأمن للدولة ولكل مواطنيها، ودعم التحاق دولة فلسطين كدولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة، وحقها في مقاضاة إسرائيل في المحاكم الدولية كافة، ووقف الاستيطان الاستعماري على أراضيها بوصفه غير شرعي ومناقضًا للقانون الدولي، وتطوير آلية لتطبيق قرار مجلس الأمن ٢٣٣٤ ضد الاستيطان الذي تم تبنيه في آخر عهد الرئيس أوباما. والموافقة على تكوين النظام السياسي الفلسطيني وفق القرار الفلسطيني المستقل.

رابعًا، تبني موقف أن الاحتلال الإسرائيلي عام ١٩٦٧ هو احتلال غير شرعي للأراضي المحتلة كافة في ذلك العام، وبالتالي التصويت في الأمم المتحدة وفي كل المحافل على القرارات التي تدين هذا الاحتلال وتطالب بإنهائه.

خامسًا، وقف الضغوط غير المنصفة على الجانب الفلسطيني كالضغط لقبول دولة إسرائيل كدولة يهودية مما يجحف بالذاكرة والتاريخ والهوية الفلسطينية، أو الضغوط لعدم رفع قضايا ضد إسرائيل في المحاكم الدولية، أو لمنع مشاركة فصائل فلسطينية مثل حماس وغيرها في الحكومات الفلسطينية، والضغط لمنع حرية عقد الانتخابات الفلسطينية وبمشاركة جميع قوى وأحزاب الشعب الفلسطيني في كل مكان داخل الوطن بما في ذلك القدس الشرقية، وغيرها من الضغوط.

سادسًا، التفاهم حول تعريف للاسامية لا يجرّم معاداة الاحتلال بأنها لاسامية، وبالتالي الفصل بين معاداة الاحتلال ومعاداة اليهود بعكس الدعاية الصهيونية التي تحاول وصم كل معاداة للاحتلال بتهمة اللاسامية.

تتطلب القضايا أعلاه اتخاذ قرارات عاجلة بإلغاء جلي وصريح لكل المبادرات والقرارات المجحفة التي اتخذتها إدارة ترامب السابقة وعلى رأسها إلغاء صفقة القرن، واعتبار منتوجات المستوطنات والمنطقة ج المصدرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيلية المنشأ، وفصل الضفة وغزة كوحدتين منفصلتين بعضهما عن بعض ويتم التعامل على هذا الأساس مع صادراتهما إلى الولايات المتحدة، واعتبار إسرائيل على أنها بلد الولادة لكل أمريكي يولد في القدس.

تمثل هذه الأجندة سقفًا فلسطينيًا عاليًا لا ينبغي التردد في طرحه، وفتح حوار صبور ومديد حوله لا ينحصر على الإدارة الأمريكية وحسب، وإنما يمتد ليشمل التوجه بها أيضًا إلى أعضاء الكونغرس، وقيادات الحزب الديمقراطي ومختلف اتجاهاته من اليسار واليمين، ولمراكز الأبحاث وصنع الرأي ومؤسسات الضغط والشباب واللاتينيين والأفريقيين والآسيويين الأمريكان وللجامعات ومؤسسات المجتمع المدني والشركات ضمن خطة مصممة بعناية تضمن تركيم الإنجازات خطوة وراء خطوة. ولعل ذلك يتطلب تضافر جهود المؤسسة الرسمية الفلسطينية مع جهود الجالية الفلسطينية والجاليات العربية والاسلامية ومنظمات الدعم والتضامن الأمريكية ضمن خطة أخرى مشتركة معها تستعمل كل الوسائل السياسية والاقتصادية والقانونية والميدانية والإعلامية والمعرفية لإحداث تغيير متدرج في أمريكا لصالح قضية فلسطين العادلة.

 

خاتمة

لا يظهر حتى الآن أن ٩٩ بالمئة من أوراق الحل للقضية الفلسطينية هي بيد أمريكا كما جاء في المقولة التي راجت في المنطقة العربية بعد حرب أكتوبر عام ١٩٧٣، ولكن ما يبدو صحيحًا هو العكس، وهو أن ٩٩ بالمئة من الأوراق التي تمنع حل القضية الفلسطينية هي عند أمريكا بسبب تحالفها العضوي مع إسرائيل، وكون إسرائيل جزءًا من تفاعلات السياسة الداخلية في أمريكا، كما لا تبدو أمريكا اليوم هي الساحة التي يمكن التعويل عليها لحل القضية الفلسطينية حاليًا، فهي تملك ٩٩ بالمئة من أوراق الضغط على إسرائيل المتمثلة بحمايتها من المحاسبة داخل مؤسسات الأمم المتحدة وتشجيعها على عدم تنفيذ قرارات الأمم المتحدة بشأن القضية الفلسطينية وغض النظر عن التوسع الاستيطاني الاستعماري الإسرائيلي أو الاكتفاء بإصدار بيانات الإدانة له والنظر إليه على أنه مجرد عقبة في طريق السلام. هذا إضافة إلى الدعم الاقتصادي والعسكري غير المحدود لإسرائيل من الحكومة الأمريكية والاتجاه الإنجليكاني وقسم من يهود أمريكا. ويظهر التطبيع العربي مع إسرائيل قبل قبولها وتطبيقها للمبادرة العربية للسلام أن إدارة بايدن ستسير نحو مزيد من التطبيع العربي مع إسرائيل، كما لن يقف بايدن بقوة ضد المشاريع الاستيطانية الاستعمارية الإسرائيلية، مما يعني أن سياسته ستكون أوباما ناقص، أي أقل من السياسة التقليدية الأمريكية السابقة. لذا فإنه من المبالغة النظر إلى التناقضات الناشئة بين رؤيتي الإدارة الأمريكية وإسرائيل حول الأجندة الإقليمية الشرق أوسطية وحول أجندة الاستيطان والتوسع على أنها تناقضات ستفجر العلاقة بين البلدين. فهذه التناقضات تدور حتى الآن في إطار حلفهما الاستراتيجي ورؤية كل منهما لما هو الأفضل لحماية إسرائيل واستمرار وجودها. مثلًا ترى الإدارة الأمريكية الحالية أن أفضل وسيلة لحماية إسرائيل من سلاح إيران النووي هو عبر احتواء إيران باستخدام القوة الدبلوماسية، كما ترى أن التوسع الاستيطاني الاستعماري قد يضر باستمرارية وجود إسرائيل ذاتها، لذا تريد الإدارة حماية إسرائيل من نفسها للحفاظ على بقائها.

مع ذلك هنالك شروخ بدأت تظهر في تأييد بعض قطاعات المجتمع الأمريكي لإسرائيل، من الشباب والأفارقة واللاتينيين والآسيويين، وكذلك داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي وقسم من يهود  أمريكا الذين باتوا يرون أن إسرائيل تعاني خطرًا وجوديًا إذا ما استمرت في نشاطاتها العدوانية والتوسعية، لذلك باتوا يطالبون بحماية إسرائيل من نفسها للحفاظ على وجودها عبر اتخاذ إجراءات تجبرها على الحد من مشروعها التوسعي. مشكلة هذا الاتجاه – رغم تنوع تلاوينه – لا تزال أنه لا يقدم في المقابل طروحات ترقى إلى الحد الأدنى الذي يطمح له الفلسطينيون في دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام ١٩٦٧ بدون وجود كتل استيطانية استعمارية داخلها أو مضمومة لإسرائيل وبدون تقسيم القدس الشرقية بين الطرفين مع إبقاء القدس الغربية حصة خالصة لإسرائيل، كما يرفض هذا الاتجاه عودة اللاجئين الفلسطينيين. لا يزال هذا الاتجاه يضع شروطًا حول طبيعة العاصمة الفلسطينية في القدس ويرفض العودة الكاملة لمن يرغب من اللاجئين، ويطالب بضم الكتل الاستيطانية الكبرى إلى إسرائيل، ويطرح أن الحل للصراع يأتي فقط عبر التفاوض مما يعني عدم الاستناد بالكامل إلى الشرعية الدولية وقراراتها. مع ذلك يشير هذا الاتجاه إلى تطور مهم في الساحة الأمريكية يتطلب التفاعل معه بصبر من أجل تطوير مواقفه أخذًا بعين الاعتبار أيضًا تباين مواقفه حيث تذهب الأقلية منه نحو مواقف أفضل لصالح فلسطين من تلك الموصوفة في هذه الفقرة، وحيث إن مواقف هذه الأقلية قد باتت تنعكس ولو جزئيًا على مواقف الجانب الرسمي، وكمثال على ذلك يجد المرء التباين في المواقف بين وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي أدان حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل، وبين جين ساكي الناطقة بلسان البيت الأبيض التي رفضت إدانة ذات الحملة (صفحة البيت الأبيض، كانون الثاني/ يناير ٢٠٢١)، وأمثلة أخرى.

بناءً على ما تقدم يجدر السؤال: هل أمريكا جاهزة الآن لفرض حل منصف للقضية الفلسطينية؟ جواب هذا السؤال هو لا، ليس بعد. ولكن الجواب هو نعم حول إمكان أن تصبح أمريكا جاهزة لهذا الحل بعد عمل فلسطيني مثابر ومتراكم لسنوات داخل الساحة الأمريكية مترافقًا مع مقاومة فلسطينية سلمية وبالمشاركة الشعبية طويلة النفس ضد الاحتلال.

 

قد يهمكم أيضاً  نحو إعادة المعنى للقضية الفلسطينية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #فلسطين #القضية_الفلسطينية #بايدن_وقضية_فلسطين #إدارة_بايدن_والقضية_الفلسطينية #الدعم_الأمريكي_لإسرائيل #الانحياز_الأمريكي_لإسرائيل #عملية_السلام_في_الشرق_الأوسط #الإحتلال_الإسرائيلي #المستوطنات #السياسة_الخارجية_الأميركية #الإدارة_الأميركية_والشرق_الأوسط #التطبيع