مقدمة:

إن للنزوح القسري من الوطن العربي وإليه وضمنه تاريخاً طويلاً. كما تعدّدت أسباب النزوح القسري في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وهي تتضمن المفاعيل الاستعمارية (كما في حالة طرد الفلسطينيين من أرضهم) وسياقات ما بعد الاستعمار (مثل اللاجئين الصحراويين والأكراد)، والحرب الأهلية (مثل اللاجئين اللبنانيين) وأوضاع الصراع وما بعد الصراع (مثل اللاجئين العراقيين). وإضافة إلى تجارب النزوح الداخلي، شهدت المنطقة أيضاً عمليات متقاطعة لنزوح قسري وتوطين قسري لسكان رحّل وبدو تشكّل الحركة والترحال عنصرين محوريَّين في حياتهم ومعيشتهم.

منذ إقامة الدول القومية في المنطقة لا تزال الحدود التي تفصل بين دولها هشة، وهو ما مكّن اللاجئين من التنقّل بسهولة نسبياً في مختلف أرجاء هذه المنطقة دون الإقليمية طوال القرن الماضي، والوصول إلى دول أبدت تسامحاً كبيراً مع وجودهم على مستوى رسمي. نحن نتكلم على نحو 800.000 فلسطيني تستضيفهم المنطقة منذ أربعينيات القرن الماضي، وعلى نحو مليوني إلى أربعة ملايين سوداني فرّوا إلى مصر منذ ثمانينيات القرن الماضي[1]، ومليون عراقي نزحوا في تسعينيات ذلك القرن، و2.4 مليون عراقي هاجروا منذ سنة 2003. لكنّ هذه الحركة العالية النشاط من ناحية، والتسامح الرسمي من ناحية أخرى، لا ينفي أن أقطار الوطن العربي همّشت أعداداً كبيرة من السكّان، حارمة إيّاهم من «حقّ امتلاك الحقّ» بحسب تعبير حنة أرينت[2].

بالنظر إلى النطاق الواسع لحالات النزوح في منطقة الوطن العربي، اخترنا في هذا الدراسة عيّنة صغيرة من دراسات الحالة لإبراز تنوّع الحالات والتجارب والردود على الهجرة القسرية من زوايا مختلفة. سنعرض طائفة من أزمات اللجوء والأشخاص النازحين محلّياً، بما في ذلك أزمة اللاجئين العراقيين الذين فرّوا من بلادهم بسبب الحرب الأهلية؛ وأزمة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التي طال الزمن في لبنان، ومؤخراً حراك قسري للاجئين والنازحين السوريين بسبب قمع النظم المستبدّة في أثناء الربيع العربي. كما نناقش بإيجاز صوراً أخرى للحراك، مع الإشارة إلى النزوح بسبب المناخ، والاتّجار بالبشر، وانعدام الجنسية، وهي صور كان لها في مجملها وقْع كبير على التجارب الفردية والجمعية والوطنية في المنطقة. إشكالياً، تركّز هذه الدراسة على العلاقات بين الدولة المضيفة والنازحين، وعلى التحدّيات الكبيرة المتمثلة باستخدام مخيمات اللاجئين كحلّ سكني للاجئين في المنطقة عندما يكون اللجوء مديداً.

أولاً: الأطر الإقليمية السياسية والقانونية

حتى عام 2011، شكّل الفلسطينيون الأغلبية العظمى من اللاجئين في الوطن العربي، إذْ يبلغ عددهم نحو 4.3 مليون لاجئ من أصل 5.1 مليون لاجئ مقيم في المنطقة حالياً (56 بالمئة من مجموع اللاجئين القسريين). بعد ذلك أصبحوا في المرتبة الثانية بعد السوريين. وفي ضوء النزوح الفلسطيني المديد، نشأت علاقة خاصّة بين الأقطار العربية والنظام «الدولي» للاجئين (International Refugee Regime). وإذا كان ماضي وحاضر وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) وعلاقتها بالمفوّضية العليا للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) محطّ تركيز كثير من الباحثين، مثل مارك بريلسفورد (Mark Brailsford)، حريّ بنا الآن تقديم لمحة عامّة موجزة عن النظام الإقليمي القائم لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين.

فوّضت الجمعيةُ العامّة للأمم المتّحدة بين عامي 1948 و1979 وكالتين أمميتين منفصلتين لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين وحمايتهم، هما لجنة التوفيق التابعة للأمم المتّحدة والخاصة بفلسطين (UNCCP)، ووكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)[3]. تضمّن تفويض لجنة التوفيق توفير الحماية لجميع اللاجئين والأشخاص النازحين في فلسطين وتسهيل التوصّل إلى حلول دائمة، كما هو مبيّن في الفقرة 11 من القرار (أي العودة والاسترداد والتعويض بناء على اختيار اللاجئ الفردي). إن إفراد الفلسطينيين بوكالة أممية، جعل علاقة الدول العربية المعنية بلجنة التوفيق التابعة للأمم المتّحدة والخاصّة بفلسطين معقدة جداً: تردّدت هذه الدول، باستثناء اليمن، في المصادقة على اتّفاقية سنة 1951 وبروتوكولها مخافة أن تدعم اللجنةُ حلولاً دائمة قائمة على دمج الفلسطينيين محلّياً أو إعادة توطينهم على حساب حقّهم في العودة. وفي المقابل، جميع دول شمال أفريقيا (باستثناء ليبيا ومصر) موقّعة على اتفاقية سنة 1951 وبروتوكولها لسنة 1967، وإن لم يطوّر أيٌّ منها إلى هذه الساعة نظم لجوء وطنية.

مع أن لجنة التوفيق تشكّلت لتوفير حماية دولية والبحث عن حلول دائمة للاجئين في العالم أجمع، اعتُبرت وكالة الأونروا غداة تشكيلها في سنة 1950 منظّمة تقديم خدمات للاجئين الفلسطينيين، وقد منحتها الأمم المتّحدة تفويضاً خاصاً لا يشمل حمايتهم ولا إعادتهم. لكنّ هذا التفويض الصارم لم يمنع الأونروا من تجاوزه أحياناً خلال السنوات الخمس عشرة الماضية، كما من خلال توفير «حماية سلبية» للاجئين الفلسطينيين في أثناء الانتفاضة الأولى. في الحقيقة، ربطت الأونروا منذ اجتماعها الخاصّ بالدول المانحة في جنيف في سنة 2004 تقديم خدماتها بالحصول على الدعم، لتبرز مقاربة معتمدة على الحقوق في تفويضها الإنساني. وتستخدم الأونروا في منشوراتها لغة قوية اللهجة نسبياً على نحو ملموس للفت انتباه المجتمع الدولي إلى استمرار محنة اللاجئين الفلسطينيين. لكنّ التركيز على الإسكان وحقوق الطفل والمرأة، وعلى الحقوق الأخرى، لا يعني أن حقّ العودة بات جزءاً من استراتيجية الدعم التي تعتمدها الوكالة. من الناحية الفعلية، ترى الولايات المتّحدة وعدد من الدول الأوروبية التي تقدّم للأونروا المنح أنه إذا كانت الوكالة تسعى إلى حل دائم مثل العودة، سيطرأ على تفويضها تسييس خطر، لكنّ حالة لجنة التوفيق أظهرت من الناحية العملية أن المشاركة في البحث عن حلول دائمة لا يتعارض مع تفويضها الإنساني[4].

إذا كانت الأونروا قد اضطلعت بدور عظيم الأهمّية في تمكين اللاجئين الفلسطينيين من توفير الخدمات التعليمية والصحية، بل والعمل أحياناً، فذلك لم يكن كافياً لتمكين الفلسطينيين من الاندماج في المجتمعات التي تستضيفهم، بل إن الوكالة وافقت في بعض الأحيان على سياسات الدول المضيفة التي تقضي بالإبقاء على مخيمات اللاجئين كمساكن مؤقّتة. وقد كانت محاسن الإسكان الذاتي ومساوئه وفرصه ومخاطره وسياسة الإيواء في المخيمات والدمج المحلّي للاجئين، محلّ نقاش مكثف، لكن يلزم إجراء بحث إضافي لمعاينة نقدية لإيثار أقطار الوطن العربي أنواعاً معيّنة من مخيمات اللاجئين في المنطقة. فقد فُرض على العديد من جماعات اللاجئين (بما في ذلك جماعات الفلسطينيين في دول المشرق والصحراويين في الجزائر) فصل مكاني في المخيمات المقامة في المدن وفي الصحراء، مع إتاحة أدنى قدر من الفرص للدمج الاجتماعي والثقافي على مرّ عقود كثيرة، لكنّ سورية استقبلت في العقد الأول من القرن الحالي أكبر مجموعة من اللاجئين الحضريين في الوطن العربي ودمجتهم بسرعة في المدن المختلفة. من الناحية الفعلية، أُغلق في حزيران/يونيو 2004 مخيم كان قد أقيم في الحسكة لاستضافة اللاجئين العراقيين في تموز/يوليو 2003‏[5].

وينبغي أن نتقصّى بالتفصيل الأسباب التي جعلت دولاً معيّنة تستضيف سكاناً لاجئين معيّنين في مخيمات، فيما شجّعت جماعاتٍ لاجئة أخرى على الاندماج محلّياً في مناطق حضرية، ولا سيَّما في ضوء ردود الأقطار العربية على النزوح عقب الربيع العربي.

إضافة إلى الإطار القانوني للأمم المتّحدة الخاصّ باللاجئين الفلسطينيين، طوّرت الأقطار العربية حلولاً من خلال جامعة الدول العربية لتسهيل الأوضاع السكنية والمعيشية للفلسطينيين في الأقطار العربية التي تستضيفهم. وصادق بعض هذه الأقطار على بروتوكول معاملة الفلسطينيين في الأقطار العربية لسنة 1965 (الذي يُعرف باسم بروتوكول الدار البيضاء)، الذي منح اللاجئين الفلسطينيين حقّ العمل والتملّك في الأقطار الموقّعة. وقد صادقت سبعة أقطار على البروتوكول من دون تحفّظ (وهي الأردن والجزائر والسودان والعراق وسورية ومصر واليمن)، وصادق لبنان والكويت وليبيا على بروتوكول الدار البيضاء مع التحفّظ (مثل حرمان الفلسطينيين حقّ العمل في قطاعات معيّنة)، في حين لم تصادق العربية السعودية والدولة المغربية وتونس لغاية سنة 2013 على البروتوكول.

هناك هيئتان وثيقتا الصلة إلى جانب جامعة الدول العربية، الأولى منظّمة المؤتمر الإسلامي واللجنة الإسلامية للهلال الدولي التابعة لها، والتي تأسست في سنة 1977، وكُلّفت بـ «المساعدة على تخفيف أسباب المعاناة الناجمة عن الكوارث الطبيعية والحروب».

تضم الثانية عدداً من دول شمال أفريقيا الأعضاء في الاتحاد الأفريقي الموقِّعة على اتفاقية منظّمة الوحدة الأفريقية التي تحكم الجوانب المحددة لمشكلات اللاجئين في أفريقيا لسنة 1969. وهذه الاتفاقية صالحة للتطبيق في الجزائر ومصر وليبيا وتونس، وهي تتيح إمكان تقييم حالات طلب اللجوء بناء على التعريف الواسع للاجئ الإقليمي، إضافة إلى تعريف اتفاقية جنيف لسنة 1951.

وفي ما يتعلق بالأشخاص النازحين محلّياً، وقّعت خمسة أقطار (هي الجزائر وليبيا ومصر وتونس والجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية)[6] بحلول ربيع العام 2013 على اتّفاقية الاتحاد الأفريقي لحماية ومساعدة الأشخاص النازحين محلّياً في أفريقيا، وإن كان لا يزال ينبغي تقييم وقْع هذه الاتّفاقية الإقليمية على الدول الموقّعة عليها.

ثانياً: الاتجاهات الإقليمية المتّصلة
بأسباب النزوح وأنواعه

 

1 ـ اللاجئون والنازحون

شملت جموع السكّان اللاجئين الرئيسيين في المنطقة في العقد الأول من القرن الحالي لاجئين عراقيين في سورية والأردن، ولاجئين صوماليين وإثيوبيين وسودانيين في مصر، ولاجئين صوماليين وإريتريين في مصر واليمن، ولاجئين سوريين نزحوا إلى الأردن ولبنان وتركيا في عامي 2012 و2013.

وتشير إحصاءات سنة 2011 بوضوح إلى أنه إضافة إلى استقبال 6.680.635 لاجئاً من المجموعات التي تقدّم ذكرها، كانت المنطقة العربية الموطن الأصلي لـ 7.512.968 لاجئاً وطالب لجوء، منهم 4.319.991 لاجئاً فلسطينياً (انظر الجدولين الرقمين (1) و(2)). وتصدّرت الأراضي الفلسطينية والأردن ولبنان الدولَ التي استقبلت لاجئين من حيث النسبة المئوية لسكان هذه الدول، في حين يُؤوي العراق وليبيا واليمن أكبر عدد من السكّان النازحين محلّياً من المسجلين لدى المفوّضية السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين (1.773.242 نازحاً).

الجدول الرقم (1)

المهاجرون القسريون في الوطن العربي بحسب مكان اللجوء

طالبو اللجوءالأشخاص النازحون محلّياًاللاجئونالمجموع
الأردن4975451009455984
الإمارات العربية المتّحدة45677722
البحرين160199359
تونس55530483603
الجزائر8169414894964
السعودية80572652
سورية1830755445757275
العراق41961332382351891371767
عُمان4383126
فلسطين51000005100000
قطر4980129
الكويت11183351453
لبنان1736884510581
ليبيا2894935657540103999
مصر1893895087114025
المغرب6157361351
اليمن5878347295214740567913
المجموع43928177324267677338584903

المصدر: «Statistics on Displaced Iraqis around the World,» UNHCR (September 2011), Global Overview.

2 ـ ذوو اللجوء الطويل الأمد

إن أكثر من ثلثي اللاجئين في العالم عالقون في أوضاع لجوء مديدة، وتختصّ المنطقة العربية بأهم حالات اللجوء: فلسطينيون هُجّروا منذ أربعينيات القرن الماضي؛ وأكراد نزحوا عن العراق وسورية وتركيا وإيران؛ والصحراويون الذين ذكرت المفوّضية العليا للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين أنهم يعيشون «أحد أكثر أوضاع اللجوء الطويل الأمد في العالم»، ويناظرون ثاني أقدم حالة لجوء لدى المنظّمة[7].

تُظهر هذه الحالات المصاعب الكبيرة في إيجاد حلول دائمة والتحدياتِ التي واجهها أفراد وأُسر وجماعات في هذه السياقات. إن أوضاع اللجوء الطويل الأمد ناجمة عن مجموع تأثير عدم القيام بعمل أو العمل الدولي غير المستدام، سواء في بلد الأصل أم في بلد اللجوء، حيث يتدبّر اللاجئون أمر معيشتهم غالباً من دون حقوق اجتماعية اقتصادية أو مدنية، مثل حقّ العمل ومزاولة المهن وإدارة الأعمال التجارية وحيازة الملكية.

غالباً ما يقيم اللاجئون الذين يعيشون أوضاعاً طويلة الأمد في مخيمات أو في مستوطنات معزولة يعتمدون فيها على المساعدات الإنسانية من الناحية الفعلية. ومع أن المراقبين الغربيين وصفوا مخيمات اللاجئين الصحراويين في جنوب غرب الجزائر بأنها مخيمات «مثالية» مكتفية ذاتياً، وأشادوا بهياكلها الديمقراطية والعلمانية والسياسية الاجتماعية المؤاتية للمرأة[8]، اعتُبرت مخيمات اللاجئين في أماكن أخرى في المنطقة «جزراً أمنية» (وهي عبارة استخدمتها الأحزاب السياسية اليمينية في لبنان)، وأنها تعامَل كحيّز استثنائي ومختبر لإجراء التجارب على كيفية السيطرة والمراقبة[9].

تعاملت الدول المضيفة والمنظمات الإنسانية على السواء في هذه السياقات مع اللاجئين الذين يعيشون أوضاعاً مديدة كأفراد ينبغي إدارتهم عوضاً عن أن يكونوا أفراداً خاضعين لأفعال تاريخية أو اجتماعية. لكنّ ذلك لا يعني أن اللاجئين الذين يعيشون أوضاعاً مطوّلة لا يستطيعون النهوض ومقاومة هذه السيطرة، ولكن يعني سيادة الدولة والمساعي الحكومية الإنسانية لتقليص المسارات الذاتية لهؤلاء الأفراد.

الجدول الرقم (2)

المهاجرون القسريون في الوطن العربي بحسب البلد الأمّ

طالبو اللجوءالأشخاص النازحون محلّياًاللاجئوناللاجئون الخاضعون لسلطة الأونرواالمجموع
الأردن519224818583621861129
الإمارات العربية المتّحدة12486498
البحرين46215261
تونس159919513550
الجزائر199161208111
السعودية98745843
سورية1411719900442363476380
العراق23981133238214283082784671
عُمان26062
فلسطين16359412117392661835022
قطر795102
الكويت12111201241
لبنان135415013270000286367
ليبيا150593565333598405
مصر2477793410411
المغرب110423123416
اليمن11143472952322350731
المجموع516821773242158628543099917721200

المصدر: «Statistics on Displaced Iraqis around the World,» UNHCR (September 2011), and Elena Fiddian-Qasmiyeh, The Ideal Refugees: Gender, Islam and the Sahrawi Politics of Survival (Syracuse, NY: Syracuse University Press, 2014).

برغم وجود أكثر من 400.000 لاجئ فلسطيني مسجّل لدى الأونروا حالياً، لا يقيم في لبنان حالياً غير 270.000 في الوقت الحالي، وذلك استناداً إلى مسح أجرته الجامعة الأمريكية في بيروت ووكالة الأونروا[10].

إن وجود اللاجئين الفلسطينيين حالة وثيقة الصلة على الخصوص لتميّزها بانقسامات إثنية ووطنية عميقة، وبمواجهة سياسية وخلاف أيديولوجي في السنين التي أعقبت الحرب الأهلية. ومن بين اللاجئين الـ 260.000 ـ 270.000 المقيمين في لبنان، تخدم الأونروا ما يصل إلى ثلثي المقيمين في مخيمات اللاجئين أو في مجتمعات صغيرة (تُسمَّى «تجمعات») مجاورة للمخيمات، حيث يحصل الناس على خدمات الأونروا، وعلى الخدمات التي تقدّمها منظمات فلسطينية ومنظمات غير حكومية أخرى.

إن حالة انعدام الثقة بين اللاجئين والمواطنين في لبنان موثَّقة جيداً، إذْ يحمّل العديدُ من المواطنين اللبنانيين (ولا سيَّما الموارنة المسيحيين) اللاجئين الفلسطينيين مسؤولية إشعال الحرب الأهلية. وتعارض أغلبية المواطنين اللبنانيين بشدة دمجاً دائماً للفلسطينيين في بلادهم[11]. كما يرفض الفلسطينيون التوطين بقوة، ويتمسّكون بحقّ العودة إلى فلسطين. وغالباً ما تزيد الإشارة إلى التوطين فوبيا الحقوق الأساسية للفلسطينيين. والنقاشات الدائرة حول الحقوق المدنية والاقتصادية للفلسطينيين تبدأ في العادة بالتشديد على وجوب ألا يكون الهدف توطينهم، مع الاستعاضة بطريقة منهجية عن حقوق الفلسطينيين بحلول إنسانية أو أمنية. في الحقيقة، الأرضية الوحيدة المشتركة بين الأحزاب السياسية اللبنانية المتنوعة في سياق سياسي وطائفي شديد الانقسام هي أن التوطين من المحرّمات. كما يُترجَم الموقف اللبناني من الدمج المحلي للفلسطينيين في سياسات تمييزية، لأنه بعد 60 سنة من العيش في لبنان، تبقى الوضعية القانونية للاجئين الفلسطينيين وضعية أجانب مع انتهاج الدولة اللبنانية سياسات تقييدية حيال حقوق الفلسطينيين الاجتماعية والاقتصادية والمدنية[12].

إن سياسة الإيواء المطوَّل في المخيمات مثار إشكاليات كثيرة على مستويات عدة. وفي حالة اللاجئين الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية وفي لبنان، يلاحظ المرء أن سكان المخيمات طوّروا هوية معيّنة ذات صلة بطبيعة هذه المخيمات. يهيّئ المخيم، باعتباره حيّزاً مغلَقاً، الأوضاعَ التي تسهّل استخدام أنواع محدّدة من السياسات التي تنتهجها الدول المضيفة ووكالة الأونروا، كون اللاجئين متجمّعين في مكان مركزي خاضع للسيطرة، ويجعلهم تحت رقابة مستمرّة. وبحجة تسهيل تقديم الخدمات، يُنظر إلى المخيم على أنه المكان الوحيد المتاح، لكن نظام «الرعاية والعلاج والسيطرة» هذا حوّل مخيمات اللاجئين إلى أماكن لفرض النظام أو إلى أماكن لعزل غير المرغوب فيهم.

لدى معاينة حالة مخيمات الصحراويين المقامة في الجزائر، تشير الدراسات التي أجرتها إلينا فيديان ـ قاسمية[13] إلى نمط حوكمة مثار للإشكاليات أيضاً. أقيمت مخيمات اللاجئين الصحراويين بجهود جبهة البوليساريو بدعم جزائري بين عامي 1975 و1976، ويقدَّر بأنها تُؤوي ما بين 90.000 و125.000 لاجئ، وهي خاضعة لإدارة البوليساريو، وتحظى بدعم قوي من جانب الأمم المتحدة والوكالات الإنسانية وشبكات المجتمع المدني. وتقيّم إلينا فيديان ـ قاسمية بأسلوب نقدي[14] الوضعَ الإجمالي لتلك المخيمات على الوجه التالي:

إذا كانت [جبهة البوليساريو] تقدّم المخيمات للمراقبين الإنسانيين دائماً على أنها مخيمات لاجئين «مثالية» ومكتفية ذاتياً، وتحقّق أولويات المانحين على صعيد «الحوكمة الرشيدة»، [هناك] حاجة ماسّة إلى التشكيك في الفرضيات السائدة بشأن الأوضاع والديناميات داخل مخيمات اللاجئين الصحراويين، وإلى تطوير سياسة وردود برمجية بناء على ذلك. ولذلك أهمية خاصّة بالنظر إلى أنّ التصوير المثالي للحياة في مخيمات اللاجئين الصحراويين يحمل في طيّاته خطراً محتملاً يتمثل بتطبيع الوضع الراهن، وبالتالي إخفاء الطبيعة الشاذّة لنزوح الصحراويين المطوَّل، وللفشل في دراسة الأسباب السياسية والتأثيرات والحلول المحتملة للصراع.

إضافة إلى أهمية العلاقة بين الدولة المضيفة واللاجئين، والتي سلّطنا عليها الضوء في حالة الفلسطينيين المقيمين في لبنان، تُظهر حالة اللاجئين الصحراويين طرق تأثير الجهات الدولية، بما في ذلك المفوضية العليا للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين، وكذلك شبكات المجتمع المدني الأوروبية والأمريكية الشمالية والمنظمات غير الحكومية، في التجارب التي يعيشها اللاجئون وتجلّيات الإيواء المطوَّل في المخيمات في المنطقة. إن مضامين هذه التدخلات الوطنية والدولية، التي تتراوح بين خطابات «الحوكمة الرشيدة» وشروط المساعدات و/أو السياسات التي تشجّع على الاكتفاء الذاتي أو تعيقه، هي نواحٍ تكتسي أهمية خاصة ينبغي معاينتها ودراساتها في سياق عمليات النزوح المستمرة الأخيرة نتيجة الربيع العربي.

ثالثاً: الصراعات الحديثة منذ تسعينيات القرن الماضي

لا يَظهر في الجدولين الرقمين (1) و(2) ديناميات النزوح التي ظهرت في المنطقة بمرور الوقت، كما أنهما لا يُبيّنان كيفية ردّ الأفراد والأُسر على أوضاع الصراع التي حملتهم على النزوح داخل أوطانهم الأمّ، والنزوح إلى الدول المجاورة في المنطقة العربية. على سبيل المثال، شكّل العراقيون أكبر مجموعة من الأشخاص الذين نزحوا حديثاً في النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحالي. ويقدَّر بأنه يوجد أكثر 4.4 مليون نازح عراقي في العالم لغاية أيلول/سبتمبر 2007‏[15]، منهم نحو 2.2 مليون نازح محلّي داخل العراق، وعدد مشابه في الدول المجاورة، حيث استقبل الأردن وسورية الحصّة الأكبر منهم، إذْ وصل إلى الأردن 450.000 ـ 500.000 نازح، في حين وصل إلى سورية 800.000 نازح[16]، إضافة إلى استضافة نحو 200.000 نازح في أماكن بعيدة، بحسب المفوضية العليا للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين[17].

حدّد مسح فافو بعض الخصائص الرئيسية لواقع الأسر والأفراد العراقيين في الأردن في أيار/مايو 2007: نزوح العراقيين إلى الأردن نزوح أُسري في الغالب، حيث انتقل أكبر عدد من هؤلاء النازحين في عامي 2004 و2005، بحسب سلطات الحدود الأردنية. يعيش عامّة هؤلاء العراقيين على مدّخراتهم أو على حوالات مالية، إذ يتسلّم 42 بالمئة منهم حوالات مالية من العراق. وهذا يجعل شريحة واسعة من العراقيين المقيمين في الأردن معرضين للخطر لنضوب مدّخراتهم، بحيث إن واحداً من أصل كل خمسة عراقيين خطّط فعلياً للهجرة إلى دولة ثالثة في سنة 2007. كما أننا نجد لدى كافة شرائح النازحين العراقيين رغبة في التوجه إلى دولة ثالثة، لكنها تصحّ خصوصاً في حالة المجموعات الأشدّ فقراً والأشخاص من أتباع الديانات غير الدِّين الإسلامي. ومع شيوع الدمار والنزوح الناشئ عن الربيع العربي الذي حلّ مؤخراً، يواجه اللاجئون العراقيون في دول متأثرة بالصراع، مثل سورية، مأزق البقاء في سياق استضافتهم غير الآمنة على نحو متزايد أو العودة إلى الفلتان الأمني المستمرّ في العراق.

لا ريب في أن الثورات الأخيرة التي عمّت الوطن العربي أطلقت موجات نزوح جماعي وهجرة مختلطة داخل مصر وليبيا وتونس وسورية، وبين هذه الدول. لكنّ حالة اللاجئين السوريين دقيقة خصوصاً، إذْ أشارت تقديرات المفوضية العليا للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين في حزيران/يونيو 2014 إلى نزوح 3,8 مليون شخص داخل البلاد، وإلى فرار 3 ملايين سوري آخرين إلى تركيا والأردن ولبنان. يشوب مخيماتِ اللاجئين السوريين في الأردن وأماكن استضافتهم الحضرية في لبنان كراهيةُ الأجانب وأوضاعٌ معيشية غير إنسانية. وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة أيضاً إلى أنه في حين سارع الأردن إلى إقامة مخيم الزعتري لإيواء اللاجئين السوريين، رفضت الحكومة اللبنانية إقامة مخيمات لاجئين لهؤلاء السوريين الذين عبروا الحدود (وللفلسطينيين طبعاً الذين كانت تستضيفهم سورية)، لأسباب منها الخوف من إمكان ترسّخ وضعية لجوء طويلة الأمد أخرى على أراضيها.

رابعاً: التحدّيات والتطورات السياسية الجارية

 

1 ـ الرابط بين البيئة والنزوح

إن للمنطقة العربية خاصّيات ثلاث تجعل الناسَ، المتأثرين بالضغوط البيئية خصوصاً، عرضة للنزوح، وهي ندرة المياه، والطبيعة العابرة للحدود لهذه المياه، والزحف العمراني. وبناء على قاعدة بيانات الكوارث الدولية لمكتب المساعدة الخارجية الأمريكية المعنيّة بالكوارث (OFDA)، ومركز بحوث أوبئة الكوارث (CRED) في الجامعة الكاثوليكية في لوفان، يستعرض الجدول الرقم (3) البيانات الخاصّة بالأقطار العربية والدول الرئيسية المجاورة. تشمل قاعدة البيانات 342 كارثة[18] وقعت خلال السنوات العشرين الماضية (1991 ـ 2010) وطالت تأثيراتُها أكثر من 33 مليون شخص عبر اقتلاعهم من مواطنهم الأساسية وتهجيرهم من الأماكن التي نزلت بها الكوارث. ولعل السودان والصومال وموريتانيا هي الأكثر تأثراً، حيث اضطر الكثير من السكّان إلى النزوح والهجرة واجتياز الحدود للوصول إلى الأقطار العربية المجاورة. وبحسب قاعدة البيانات، يُعتبر السودان أكثر الأقطار العربية تأثّراً لنزوح 18 مليوناً من أبنائه بسبب الكوارث الطبيعية (أي نصف إجمالي عدد النازحين في الوطن العربي بأسره)، يليه الصومال (8 ملايين)، وموريتانيا (2 مليون)، وسورية (1.6 مليون) (انظر الجدول الرقم (3)). وتشكّل الفيضانات أكثر أنواع الكوارث شيوعاً، إذْ حصل 3820 فيضاناً في شمال أفريقيا والقرن الأفريقي، و1093 فيضاناً في المشرق العربي بين عامي 1991 و2010.

لكنّ أعداد السكّان المتأثرين محدودة، كونها لا تحدّد إن كان الترحال والنزوح مؤقّتَين أو دائمَين. وفي الحقيقة، يمكن اعتبار شيوع الهجرة الدائرية القصيرة المسافات في سياق تردّي حالة الأرض والتصحّر، ولا سيَّما في المناطق المعتمدة على الزراعة المطرية أساساً، شكلاً من أشكال تنويع الدخل ربما يشمل النشاط ذاته ـ الزراعة ـ في أماكن مختلفة، أو الانخراط في أنشطة مؤقَّتة غير زراعية، وبخاصّة عندما تقلّ الحاجة إلى العمالة في الحقول. وربما ينتقل أفراد الأُسر إلى المراكز الحضرية أيضاً، ولا سيَّما حين يكون هناك طلب على العمالة المهاجرة، ويرسلون حوالات مالية إلى الديار بشكل منتظم. ومع أنه لا يوجد بحوث كثيرة تعاين بشكل مباشر وقْع العوامل البيئية على تنويع الدخل والترحال في المنطقة، تُظهر أدلّة كثيرة أن هذه الاستراتيجيات المترابطة عناصر جوهرية في معايش سكّان الريف والحضر على السواء[19]. بناء على ذلك، يمكن توقّع أن يصبح تنوّع الدخل هذا، المعتمد على الأنماط والاتجاهات الحاليّة، عنصراً يزداد أهمّية في التكيّف مع التغيّر المناخي البطيء في المنطقة.

الجدول الرقم (3)

وقْع الكوارث الطبيعية في الأقطار العربية (1991 ـ 2010)

الدولةعدد الكوارثعدد القتلىإجمالي عدد المتأثّرينقيمة الأضرار ($)
الأردن941348237401000
الإمارات العربية المتّحدةــــ
البحرينــــ
تونس54533708ـ
الجزائر5040124801365762846
جزر القمر1186294112ـ
جيبوتي142889775722119
السعودية1042824118900000
السودان60759418272810526200
سورية61181629375ـ
الصومال5663968486022100020
العراق1283777831300
عُمان4129200833951000
فلسطين2ـ500ـ
قطرــــ
الكويت22201ـ
لبنان426121590155000
ليبيا1ــ42200
مصر2014512628131342000
المغرب2317404443521567059
موريتانيا231571938202ـ
اليمن309433906581611500
المجموع342235393380227216362244

المصدر: EM-DAT: The OFDA/CRED International Disaster Database, <http://www.em-dat.net>, Universite Catholique de Lovain-Brussels-Belguim.

2 ـ الاتّجار بالبشر

إن عمليات تهريب البشر لافتة للنظر في المنطقة العربية، ولا سيَّما على صعيد استغلال العمّال في منطقة الخليج، بمن في ذلك العمّال المحليون والعمال الوافدون من دول شرق وجنوب شرق آسيا. ومع أن 13 من أقطار المنطقة وقّعت على بروتوكول مكافحة الاتّجار بالبشر (بروتوكول باليرمو) بحلول نهاية سنة 2013، هناك القليل من المؤشرات الدالّة على تراجع حجم الاتّجار بالبشر في المنطقة. لقد اتسمت ردود فعل الأقطار العربية بخجلها في التعامل مع الصور المتنوّعة للاتّجار بالبشر في المنطقة. وفي الحقيقة، برغم زيادة الاهتمام بالعمالة القسرية، اختُزل الخطابُ المتّصل بالاتّجار بالبشر بفئة وحيدة هي العمالة الجنسية للفتيات والأطفال[20]. وفي ما يتصل بالقضية الأخيرة، لطالما كان الاتّجار بالبشر والاستغلال الجنسي للنساء مشكلة في العراق، على سبيل المثال، ذلك أنهنّ يُرغَمن على الزواج، وعلى العبودية المنزلية. لكن ذُكر أن عدد النساء اللاتي هُرّبن إلى الأردن وسورية، وإلى السعودية والإمارات العربية المتّحدة كذلك، زاد زيادة كبيرة منذ غزو العراق بقيادة الولايات المتّحدة[21].

في الحقيقة، الإمارات العربية المتّحدة مكان رئيسي لهذه الممارسات. وبحسب تقرير الاتّجار بالأشخاص الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية في سنة 2008:

الإمارات العربية المتّحدة دولة مقصودة للرجال والنساء اللاتي يتاجَر بهنّ لغايات العمل والاستغلال الجنسي التجاري… [نحن ننصح للإمارات العربية المتّحدة] بمواصلة تعزيز جهود فرض القانون لتحديد هويات القيّمين على الاتّجار الجنسي ومقاضاتهم ومعاقبتهم… من الناحية العملية، لا تزال السلطات الحكومية تفسّر قانون مكافحة الاتّجار بالبشر على نحو يستثني بعض من يُستغلّون قسراً في العمالة الجنسية التجارية.

ونجد الظاهرة نفسها الآن لدى اللاجئات السوريات في الأردن ولبنان.

إضافة إلى التحدّيات التي تواجهها الأقطار العربية في سياق صياغة تشريعات تكافح الاتّجار بالبشر، وتفسيرها بما ينسجم مع بروتوكول باليرمو، نُظّمت حملات دولية وغير حكومية لتشجيع أقطار المنطقة على كبح الاتّجار بالبشر. زد على ذلك أن البحوث الأكاديمية تنتقد تركيز بروتوكول باليرمو على الاتّجار العابر للحدود بتسليط الضوء على وجود حالات اتّجار داخلي، وعلى مضامينه ضمن أقطار المنطقة، وهي القضية التي عاينها جُرَيديني، على سبيل المثال، من خلال حالة العمالة المنزلية المستغلَّة في مصر، والتي قدم أفرادها من مناطق ريفية وجُنّدوا من خلال وكالات محلّية[22].

3 ـ انعدام الجنسية

إضافة إلى الفلسطينيين العديمي الجنسية، يُعتبَر انعدام الجنسية ظاهرة مشاهَدة في منطقة الخليج أساساً. يوجد نحو 100.000 من البدون أو الأشخاص عديمي الجنسية في الكويت، وهم يشكّلون 10 بالمئة من السكّان المحليين. تعود أصول هؤلاء إلى قبائل شمال شبه الجزيرة العربية، ولا يمكن تمييزهم من المواطنين الكويتيين، وهم مع ذلك محرومون الجنسية. لكنّ دورهم في بناء الدولة الحديثة، لم يمنع من تصنيفهم «مهاجرين غير شرعيين» في سنة 1986، ولا يزال وضع البدون الضبابي مسألة محلّية خفية[23].

لكنّ بعض السياسات الحكومية في الخليج بدأت مؤخراً بالتعامل مع مشكلة انعدام الجنسية العويصة. مثال ذلك، صيغ قانون الجنسية في عُمان لدمج السكّان الذين رُحّلوا من زنجبار؛ وفي البحرين، عولجت القضية في سنة 2001 حين منح الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة أمير البلاد آنذاك الجنسيةَ البحرينية لما بين 10.000 و20.000 من البدون ذوي الأصول الإيرانية في معظمهم (عجم) كـ «مكرُمة ملكية» في محاولة لتنفيس التوتّرات الاجتماعية والطائفية. ثم طفت القضية على السطح في الإمارات العربية المتّحدة في تشرين الأول/أكتوبر 2006 حين تعهّد أميرها الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان بحلّها، وهو ما أدّى بعد سنتين إلى تسجيل طلبات حصول على الجنسية. وفي السعودية وقطر، لم يتحوّل انعدام الجنسية إلى قضية بارزة بعد، مع أنه يؤثّر في السعودية تأثيراً كبيراً بلا شك، لكن لا يُعرف إن كان يؤثّر في قطر بالقدر ذاته.

خاتمة

سيبقى اللاجئون والأشخاص النازحون محلّياً وجماعات المهاجرين القسريين الأخرى قضية شائكة في العالم بعامّة، وفي المنطقة العربية بخاصّة، بسبب وضعية مخيمات اللجوء الطويل الأمد المثيرة للإشكاليات الآنفة الذكر في المنطقة، وكذلك بالنظر إلى عمليات تشكّل الهوية الوطنية الجارية والتحدّيات المستمرّة التي تواجه من يعيشون أوضاع لجوء مطوَّل في المنطقة.

ومع أن بناء الهوية الوطنية في المنطقة العربية بدأ في أيام الانتداب البريطاني والانتداب الفرنسي أولاً، يظلّ تبلور هذه الهوية الوطنية ظاهرة حديثة نسبياً، وهي ظاهرة لا تزال حاضرة في سياقات عديدة من الناحية الفعلية. وبالنظر إلى الهشاشة النسبية لعملية التبلور هذه، أضحت الدولة في المنطقة العربية دولة لخلق الشعور الوطني لدى سكانها (Nationalizing State)، أعني بذلك أنه بعد تكوين سورية ولبنان وتونس والأردن، واجهت هذه الأقطار تحدّي تحديد من هم السوريون والتونسيون والأردنيون. إن لعملية تكوين الدولة وقْعاً كبيراً على تكوين الهوية، وكذلك بالطبع عمليات الثورات وإعادة البناء بعد الصراع التي تؤثّر وتُوجد مواطنين ولاجئين على حدّ سواء. وتصبح العلاقة بين الدولة والمواطن قوّةً إقصائية تجسّد التقنيات والعمليات التي تؤمّن من خلالها الدولُ شرعيتها في عيون المواطنين الذين تحكمهم، لكن يمكن فكّ تلازم هذه العلاقة بالمثل حين يتزعزع استقرار تلك الشرعية وسلامة الدولة القومية، كما هي الحال في الربيع العربي. إن العمليات التي تشكّل الأساس لتكوين المواطنة وترسيخها ليست مرتبطة بإحلال الديمقراطية (أو إحلال الاستبداد بالطبع) وحسب، بل مرتبطة بالصراعات الدائرة في نواة استراتيجيات تشريع الدولة، بما في ذلك تشكّل وتحوّل الهويات والمجتمعات السياسية؛ وتوزيع الحقوق والمسؤوليات والموارد وإعادة توزيعها؛ والمفاوضات المتّصلة بالتمثيل والمشاركة. وفي الوقت الذي تواصل الأقطار العربية صراعها للتشديد على شرعيتها، وفيما يتحدّاها مواطنوها واللاجئون فيها والسكّان عديمو الجنسية على حدّ سواء، ستبقى عمليات النزوح والتهجير المتنوّعة تميّز المنطقة.

إضافة إلى حالات النزوح الأخيرة والمستمرّة والمستقبلية على الأرجح، سيبقى اللجوء الطويل الأمد وضعاً إشكالياً على نحو استثنائي في مختلف أرجاء المنطقة. إن الهجرة الجماعية للعمّال اللاجئين الفلسطينيين الذين طُردوا من الكويت إلى الأردن وسورية ولبنان في تسعينيات القرن الماضي عقب الغزو العراقي لذلك البلد، إضافة إلى حالة العمّال والطلاب اللاجئين الصحراويين والفلسطينيين الأخيرة الذين أُجبروا على النزوح بسبب الثورة الليبية في سنة 2011، تُظهر حاجة ماسّة، بحسب إلينا فيديان ـ قاسمية[24]، إلى «تقييم نقدي للآليات الحمائية المعتمَدة لدعم اللاجئين الذين يهاجرون «طوعاً» لغايات اقتصادية وتعليمية. ومثل هذا التقييم مهمّ، خصوصاً لزيادة اهتمام صنّاع السياسة بتقديم الترحال كـ «حلّ دائم رابع». ترى إلينا فيديان ـ قاسمية أنه يتعيّن عدم الحكم على من يعيشون أوضاع لجوء طويلة الأمد، ويلجأون إلى «الهجرة الطوعية» بحثاً عن عمل في الدول المجاورة بأنهم خسروا حقّ المطالبة بوصف اللاجئ والحماية. وهي تدعو، في المقابل، إلى إطار عمل مفاهيمي جديد لوضعيات اللجوء «المتداخلة» و«المتعدّدة» (2012) الذي يناسب سياق المنطقة العربية على الخصوص، حيث كثيراً ما عانى الأشخاص الذين يعيشون أوضاع لجوء طويلة الأمد عمليات نزوح ثانية وثالثة من الأقطار التي تستضيفهم، والذين سيعايشون هذه العمليات في المستقبل المنظور على الأرجح.

أخيراً، إن النموذج الحالي للدولة القومية، القائم على «ثالوث» القومية ـ الدولة ـ الأرض، لا يسمح بالإتيان بحل لمشكلة اللاجئين، وخاصة الفلسطينيين منهم. ينبغي إذاً وضع تصور مفاهيمي لنموذج جديد من الدولة القومية يقوم على أساس الحدود المرنة، والمواطَنة[25] المرنة، وانفصال من نوع ما بين القومية والدولة، أي ما أدعوه بدولة قومية امتدادية (Extra-territorial Nation-state). وهذا نموذج بنيوي من الدولة القومية، وهو يمثل نموذجاً متوسطاً بين «الدولة القومية ذات الحيّز الجغرافي المحدد» (Territorially-based Nation-State)، و«الدولة القومية غير المعرّفة جغرافياً» (De-territorialized Nation-state)‏[26].

 

للمزيد اقرؤوا  هجرة الشباب والأدمغة الفلسطينية إلى الخارج