مقــدمة:

بعد كثير من التجارب الفاشلة للإصلاح من أعلى وتجريب الوصفات الاستشراقية المُستوردة على البيئات المحلية المختلفة في العالم الثالث، سواء في سياق أطروحات التنمية عموماً أو ضمن برامج الأمم المتحدة والمنظمات الدولية لعلاج النزاعات المختلفة خصوصاً، تأكدت ضرورة الانطلاق من الداخل والاعتماد على القوى المحلية في أي عملية إصلاح؛ حيث تأكدت الطبيعة الهيكلية المحلية للمشكلات والنزاعات من جهة، والعجز المؤسسي لمؤسسات الدولة وعزلتها عملياً عن محيطها من جهة أخرى؛ بما فرض مدخلاً جديداً يعتمد على إشراك أصحاب المصلحة المحليين أنفسهم لمواجهة التحديات الهيكلية المرتبطة بمصالحهم، ولتجاوز عجز المؤسسات عن التعاطي الفعّال مع تلك التحديات والمصالح.

تنطلق هذه الدراسة من أن جذر الأزمات والنزاعات في المنطقة العربية هو فشل التنمية المرتبط بنمط النمو الحبيس بفخ الموارد، فهو أساس التفكك الاجتماعي (سبب النزاعات) والعجز المؤسسي (فشل الدولة وانحرافها عن تقديم حلول)؛ وهو ما يفرض مدخل التجاوب المحلي، الذي يقوم على دفع المبادرة الشعبية لاستعادة التنمية من خلال استعادة الوجود الاجتماعي الفاعل للجماعة الوطنية المحلية صاحبة المصلحة، ما يتم عبر محورين، هما:

– استعادة المُقدرات من خلال اقتصاد بديل وديمقراطية شعبية.

– واستعادة الوطن من خلال الاستقلال الوطني (السياسي والاقتصادي) القائم على ضمان السيادة والأمن القومي.

أولاً: الجذور الهيكلية للأزمات والنزاعات في الوطن العربي

1 – كل شيء يبدأ بنمط النمو: التفكك الاجتماعي والعجز المؤسسي

كانت الحقيقة الأساسية التي أثبتتها العلوم الاجتماعية مع نشأتها في العصر الحديث، هي أن المجتمع مُركب عضوي، يتداعى بعضه لبعض بالسهر والحمى على قول الحديث النبوي الشريف، لكن ليس بالمعنى الأخلاقي بل البنيوي، فكل عناصر المجتمع – ومن ثم قضاياه ومشكلاته – مترابطة تتبادل التأثير والتأثر.

وهكذا، عندما نناقش الأزمات والنزاعات بمعناها الواسع، فلا بد من ربطها بالمحركات الأساسية لوجود المجتمع واستمراره، التي يتمحور معظمها حول كيفية إعادة إنتاجه لذاته، أو نمط تجديده الاجتماعي، ما يسميه الاقتصاديون والاجتماعيون اختزالاً نمط النمو، الذي يمثل في المستوى الاقتصادي، بذاته وبما يتشعب عنه من آثار في مختلف جنبات البنية الاجتماعية، المصدر الأساس – إلى جانب عوامل أخرى تعزز ما يخلقه من اتجاهات أو تكبحها – لما نراه من تقدم أو تخلف على المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية كافة.

وأنماط النمو متعددة تتنوع بحسب توليفة الاتجاهات المُشكّلة لها، لكن للتبسيط النظري يمكن اختزالها في نمطَيْ نمو تجريديين، يمكن موضعة أنماط النمو الواقعية بينهما، بحسب درجة اقترابها من أحدهما وابتعادها من الآخر، وهما نمط التصنيع التنافسي ونمط فخ الموارد[1].

وبإيجاز سمات النمطين والفوارق بينهما، يتكشّف الترابط الوثيق بين نمط النمو كجذر هيكلي والأزمات الاجتماعية والمؤسسية كآثار له، تعيد إنتاجه وتعميق آثاره لاحقاً، ضمن علاقة جدلية بين مستويات البنية الاجتماعية المختلفة.

يقوم نمط التصنيع التنافسي على دولة تنموية تعزز التنوع التنافسي، بدفع التصنيع والإصلاح المؤسسي عند مستوى دخل فردي منخفض؛ بما يعزز توسّع الصناعة التحويلية كثيفة العمالة الموجّهة للتصدير؛ ومن ثم الاستيعاب السريع لفائض العمل الريفي ودفع سوق العمل لنقطة تحوّله (أي ارتفاع الأجور والاتجاه للرسملة وتنويع النشاط الصناعي)، وذلك ضمن مجموعة من التحولات الاقتصادية – الاجتماعية تشمل: تسارع التصنيع والتحضّر (ومن ثم التحوّل السكاني وانخفاض معدل الإعالة وارتفاع الادخار)، وتعقّد الاقتصاد (وبالتالي تزايد ضرورة المشاركة السياسية والاهتمام بالكفاءة ومكافحة السعي للريع)، وضبط سوق العمل وتحسّن توزيع الدخل (مع تزايد المهارات وانخفاض تكاليف الصفقات بتراكم رأس المال البشري والاجتماعي)؛ وما ينتج من كل ما سبق من اتجاه للدمقرطة الاقتصادية والسياسية وتماسك السياسة الاقتصادية واستقلالها وعدالتها النسبية.

أما نمط فخ الموارد فيعود إلى تطاول الاعتماد على صادرات السلع الأولية، بما يؤدي إليه من تأخير لمرحلة التصنيع كثيف العمالة (محرّك التحولات الأساسي في النمط النقيض)؛ وهو ما يؤدي إلى اتجاهات مناقضة لاتجاهات النمط السابق، أهمها : اتجاه التنويع الإنتاجي لسلع أو مصادر دخل أولية أخرى، وبطء أو تراجع التصنيع والتحضّر (ومعهما تأخر التحول السكاني وبطء انخفاض معدل الإعالة بنتائجهما)، وتأخر نقطة انقلاب سوق العمل (أي تزايد فائض العمل الريفي مع تزايد السكان من دون استيعاب المدن له وتزايد تفاوت الدخل والتوترات الاجتماعية).

وعادةً ما يرتبط بهذا النمط دولة نهب أوليغارشية، تعمل على نشر السعي للريع، وتعزيز المصالح الفئوية على حساب السياسات المتماسكة، وفرض سياسة حماية تحمي الاحتكارات الصناعية من دون أن تنمّيها لغياب المنافسة؛ فتكون النتائج النهائية لهذا النمط: انتقال الموارد إلى القطاعات المحلية غير الاتجارية محدودة الكفاءة، وتزايد اعتماد الاقتصاد على السلع ذات التنافسية والعوائد المتناقصة، وتزايد هشاشته واعتماده على الخارج، كذا تزايد التفاوت وبطء تراكم رأس المال المادي والاجتماعي والبشري، فضلاً عن تزايد البطالة وتشوّه توزيع الدخل والأصول الاجتماعية لصالح الأقليات المسيطرة سياسياً؛ ومن ثم تزايد الفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي؛ وبالتالي تفاقم الانقسامات الاجتماعية والتوترات السياسية.

بناءً على هذا التقديم النظري، نستكشف في البند التالي مظاهر التنمية العربية بمسح عام موجز؛ لتحديد إلى أيّ من نمطيّ النمو تنتمي معظم البلدان العربية؛ ومن ثم مقاربة الجذور الهيكلية للأزمات والنزاعات بالمنطقة .

2 – تراجع التصنيع وفشل التنمية العربية

بالنظر إلى اتجاهات التغيّر الهيكلي في المنطقة العربية، وخصوصاً من ناحية تحولات التكوين القطاعي، نجد اتفاقاً في الاتجاه مع سيادة نمط فخ الموارد، فنجد تراجعاً للتصنيع في أغلب بلدان المنطقة، وفي أحسن الأحوال تباطؤاً في نموه، غالباً في البلدان التي تسيطر عليها الصناعات الاستخراجية ولم تعرف تصنيعاً حقيقياً من الأصل. فنجد نسبة القيمة المُضافة للصناعات التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي للمنطقة العربية لم تتجاوز 9.8 بالمئة عام 2014 ، مقابل 34.2 بالمئة للصناعات الاستخراجية و43.2 بالمئة لقطاع الخدمات[2]؛ وهو ما يعكس تخلفاً في التكوين القطاعي وضعفاً في بنيته الإنتاجية والتكنولوجية وقدراته الكامنة على النمو الكمي والتطور الكيفي.

ويُلاحظ أن هذا الانخفاض الشديد في نصيب القطاع في القيمة المُضافة يأتي ضمن الانخفاض – المنطقي في ضوء الاتجاهات الهيكلية – عموماً في نصيب القطاعات السلعية منها، حيث بصعوبة بلغت نسبة القيمة المُضافة للقطاع الزراعي في الناتج 5.3 بالمئة في نفس العام[3]، وهو انخفاض أبعد ما يكون من الانخفاض المُشابه في الدول المتقدمة التي وصلت إلى مراحل متقدمة من التحول الهيكلي، ينخفض فيها نصيب القطاع الزراعي في الناتج بسبب ارتفاع إنتاجيته، ما يتأكد بضخامة الفجوة الغذائية في المنطقة العربية، التي تبلغ حوالى 37 بالمئة من إجمالي الحاجات الغذائية من السعرات الحرارية والبروتين والدهون[4]، فانعكس على أكثر من ثلث سكان المنطقة بسوء التغذية[5]، كما انعكس على حجم واردات المواد الغذائية؛ بما أثّر سلباً في الموازين الخارجية والداخلية وفي حجم الفوائض المُوجهة للاستثمار، وبطبيعة الحال في مستويات معيشة الجموع الفقيرة التي تتحمّل أسعاراً عالمية بأجورٍ محلية.

ويؤدي هذا الضعف النوعي للتكوين القطاعي، بضعف صناعته التحويلية، إلى ضعف في إمكانات التوظيف المنتج للقوى العاملة؛ بحكم انخفاض معامل التوظيف بقطاعَي الصناعات الاستخراجية والخدمات قياساً على قطاع الصناعة التحويلية؛ ما انعكس في تسجيل العالم العربي أعلى معدلات البطالة في العالم، وخصوصاً بين الوافدين الجدد على سوق العمل من الشباب والمتعلمين، بلغت بالمُجمل 11.3 بالمئة من إجمالي القوة العاملة عام 2014 [6]، وذلك بأبسط معاني البطالة وأكثرها تخلفاً، أي من دون نظر إلى التشغيل غير المنظم ولا البطالة المُقنَّعة ولا العمل الجزئي.

ويؤدي الضعف النسبي لمعدلات الاستثمار في المنطقة العربية إلى مضاعفة الأثر السلبي للضعف النوعي للتكوين القطاعي في معدلات التوظيف، فبلغت معدلات الاستثمار في المنطقة 25.2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2014، ما لا يكاد يقترب من المتوسط العالمي، بما يتسق مع الضعف النسبي للمناخ الاستثماري بالمنطقة، وهو ما وضعها في المرتبة الرابعة بين سبع مجموعات جغرافية في العالم[7]. فكان نتاج هذا كله فشلاً في التنمية، تجلّى جوهره في ضعف التنويع الاقتصادي نتيجة نمط فخ الموارد المذكور، الأمر الذي يضع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كمنطقة في مُجملها بترتيب متأخر على مؤشر التعقّد الاقتصادي (ECI) عام 2008، باستثناء إسرائيل في المرتبة 19، بينما يأتي لبنان كأول دولة عربية على المؤشر في المرتبة 44 يليه الأردن (45) وتونس (47)، بينما تتأخر معظم البلدان العربية إلى مؤخرة البلدان الـ 128 التي غطّاها المؤشر ذلك العام؛ الأمر الذي فسّره المؤشر بالسيادة الساحقة للنفط (وريوعه الإقليمية)؛ بما لم يسمح إلا بنطاق ضيق لتطور إنتاج المعرفة والتكنولوجيا[8].

وبالطبع، انعكس ذلك الفشل التنموي في ضعف معدلات النمو البالغة كمتوسط 2.5 بالمئة بالأسعار الثابتة خلال المدة 2000-2014 (مقابل معدلات نمو سكاني بلغت كمتوسط 2.2 بالمئة[9] خلال نفس المدة) وانخفاض متوسط الدخل الفردي البالغ حوالى 8000 دولار سنوياً (عام 2014)[10]، وارتفاع معدلات الفقر التي تتجاوز الثلث في بعض البلدان العربية، وخصوصاً غير النفطية منها، فضلاً عن التخلف المؤسسي كما تعكسه المؤشرات الدولية؛ ما انعكس كله في دوائر الحرمان الأربع كما سجّلتها إحدى الأوراق المرجعية لتقرير التنمية العربية، حيث أجمل الدردري أربع دوائر للحرمان، نتجت من أزمة التنمية العربية وفشل النظم العربية في التعاطي معها؛ فتشابكت وتبادلت التأثير والتأثر لتؤدي إلى انفجار الربيع العربي، وهي[11]:

أ- الحرمان والتهميش الاجتماعي، بكل ما فيه من تراجع لكمّ رأس المال الاجتماعي ونوعه، من صحة وتعليم وحماية اجتماعية.

ب- التهميش الاقتصادي، مُتجسداً في تراجع فرص العمل المحمية والمنظمة، وتراجع مستوى الدخل والأمن الغذائي، وضيق الفرص أمام الإبداع والمبادرة، وهيمنة الاحتكار، وعجز السياسات الكلية… إلخ.

ج- التهميش من السياسة والحكم، بسيادة المركزية وغياب حوكمة التنمية، وافتقاد الحد الأدنى من الشفافية والمساءلة والمشاركة، وعدم تخطيط وتنفيذ السياسات الاقتصادية والخدمات الاجتماعية من منظور عقد اجتماعي حديث بين المواطن والدولة.

د- الخلل في إدارة الموارد الأساسية من مياه وتربة وطاقة وارتباطها بخلل الموزانات الحكومية وسوق العمل، ما ظهر في ضخامة الفجوة الغذائية وسيادة الفقر المائي وهشاشة سوق العمل والعجز المالي المزمن … إلخ.

تعكس الدوائر الأربع المذكورة فشل التنمية واحتجاز عملية التحول الهيكلي ضمن نمط فخ الموارد، الذي انعكس بما له من سمات في تخلف وتفكك البنية الاجتماعية والسياسية وتفككها، ما ينقلنا من المستوى الاقتصادي إلى المستويين الاجتماعي والسياسي، اللذين طفت على سطحهما الأثمان الباهظة للريع.

2 – ثمن الريع: التفكك الاجتماعي والاستبداد السياسي

باجتماع ما سبق، تتكون شبكة خلق الأزمات ودفع النزاعات في المنطقة العربية؛ فيعمّ الفقر كنتاج لضعف الكفاءة وكإطار عام للصراع على الموارد، مع سيادة الطابع الريعي وغياب النمو الاحتوائي[12] المؤديان إلى التهميش الاقتصادي والتفكك الاجتماعي، فينتجان بدورهما – مع غياب الإطار المؤسسي المنظم لإدارة الموارد والقرارات الاجتماعية على أسس حديثة – تشرذمات اجتماعية تتخذ أشكالاً مناطقية وطائفية قروسطية، تتعزز بفشل الأنظمة الحاكمة وتآمر القوى والمصالح الدولية.

وبالرجوع إلى نمط الإنتاج، نجد أنه خلافاً لنمط التصنيع التنافسي الذي يؤدي – بطابعه الجامع إلى وحدة المجتمع إنتاجياً – إلى انقسام المجتمع «أفقياً» على أساس التناقضات في نطاق تعظيم عمليات التحويل الإنتاجي للموارد (أي الدخل الناتج من خلق ثروة جديدة)، يؤدي نمط فخ الموارد – بطابعه المتمحور حول الموارد والمُفكِك للمجتمع ريعياً – إلى انقسام المجتمع «رأسياً» على أساس التناقض في نطاق توزيع دخل الموارد نفسها (أي الدخل الناتج من استنزاف الثروة القائمة من دون خلق جديد منها). لا غرابة إذاً في أن تُوصف الدولة التي يسودها النمط الثاني، بأنها «دولة رعوية تقوم شرعيتها على سياسات توزيعية أكثر مما تقوم على سياسات تنموية»[13].

ومع غياب الصناعة – ذات الدور المحوري في أي تطور اقتصادي أو اجتماعي – عن هذا النمط، يؤدي غياب «المؤسسات الصناعية والفعاليات الإنتاجية إلى عدم ظهور بنية نقابية أو تطور ثقافة نقابية…، خصوصاً أنه من الصعب جداً قيام حركة نقابية من قطاع الخدمات…، ويصح هذا إلى حد كبيرٍ على الأحزاب، فبما أن دول رصد التخصيصات تتبع سياسة لا تتيح مجالاً لتمثيل المصالح الاقتصادية للمواطنين من غير صفوة القوم؛ فإن الأحزاب لن تظهر إلا لتمثيل توجهات ثقافية أو أيديولوجية»[14]؛ وهكذا تختفي الروافع الاجتماعية الأساسية للتعبير عن الفئات والمصالح في السياسة الحديثة، وتضعف معها الأشكال الأساسية للانقسامات الأفقية المرتبطة بالصراع التوافقي حول توزيع عوائد الإنتاج، لمصلحة الانقسامات الرأسية حول بقايا الهويات والانتماءات التي تخفي وراءها الصراع التناحري على توزيع الموارد نفسها.

وعليه يشكّل الانقسام الرأسي للمجتمع أرضيةً ملائمة للانقسامات الهوياتية، التي تخرج من مشكاتها مختلف النزعات والرواسب الطائفية والمناطقية والقبلية… إلخ؛ ما يشوّه الصراعات الاجتماعية ويحرفها عن مسار الصراعات السياسية الحديثة المرتبطة بانقسامه أفقياً على أساس المصالح الاقتصادية في إطار من الوحدة الاجتماعية الوطنية الحديثة (القائمة اقتصادياً على وحدة وقيادة سوق محلية مُنتجة)، إلى صراعات على صفة المجتمع نفسها وعلى حدوده وجغرافيته؛ بما أنها صراعات توجهها مصالح «استئثار» فئوية بموارد محدودة (مُوجهة أساساً للتصدير للأسواق الخارجية)، لا صراعات «توزيع» لثروات جديدة خُلقت من التحويل المُنتج لموارد مُتفق على تشاركها كملكية «اجتماعية» للمجتمع (سواء في صورة ملكية عامة أو خاصة).

ويعزز من هذا الانقسام الرأسي ونمط التوزيع اللاقتصادي (أي المحكوم باعتبارات سلطوية من خارج منطق الاقتصاد والمساهمة الإنتاجية في خلق القيمة) الطابع الريعي للدولة التي تبني شرعيتها على الزبونية السياسية وشراء الولاءات، بدلاً من بناء التوافق السياسي والاجتماعي على إدارة الموارد وبناء السياسات وخلق وتوزيع القيمة، وهكذا: يفسّر هذا الطابع الريعي «السلوك الأبوي للنخب الحاكمة والزبونية السياسية القائمة على مجموعة من الممارسات التي توظف سياسياً بعض النماذج من العلاقات الشخصية…، وهى نخب تتميز بترابط مصالح أعضائها وهيمنتها على مؤسسات الدولة وإدارتها، إنها فئات محظوظة مُتنفذة من داخل إدارة الدولة، وهي المستفيدة الأولى من الموارد الريعية، وخوف هذه الفئات من خسارة مواردها يجعلها لا تقبل بتداول السلطة السياسية على طريقة الديموقراطيات الغربية، فتسعى إلى تدعيم موقعها في الحكم عن طريق تهميش النخب الأخرى أو من خلال إقامة اتفاقات مرسومة الحدود مع بعض المجموعات المنظمة ضعيفة التمثيل من أجل تقاسم غير متكافئ لثمرات الريع» [15].

وكنتيجة، تقع هذه المجتمعات الريعية وشبه الريعية في مأزق غريب، وهو ازدواجية وتناقض دور الدولة الريعية وازدواجيتها فيها، فبينما تخلق هذه الدولة بطابعها ذاك أسباب تفكك تلك المجتمعات، سواء بطبيعتها واستبدادها و/أو بعجزها وفشلها المؤسسي، فإنها في ذات الوقت تمثل ضرورة لا غنى عنها لتلك المجتمعات، كشبكة أمان أخيرة لبقائها كوحدةٍ واحدة، حيث: «يمكن للطابع الريعي أن يمثل عنصر استقرار سياسي، فتكريس الوظيفة الريعية سيترافق مع تدعيم سلطة الدولة، لكن في المقابل يمكن لضعف سلطة الدولة أن يؤدي إلى نزاعات مسلحة وحروب أهلية من أجل إعادة توزيع الثروة، وهو مآل محتمل لا يهم المجتمعات ذات التنوع الإثني أو الطائفي وحدها» [16]. وهو ما تجلّى بوضوح في حالة العراق الذي ما إن ضعفت دولته المركزية، حتى تصاعدت فيه النزعات الانفصالية، وكذلك بصورة أوضح في حالة انتفاضات الربيع العربي، التي ما كاد ينجح بعضها جزئياً، حتى تفككت دولها وغرقت في الحروب الأهلية كسورية واليمن، أو دخلت مصاف الدولة الفاشلة كليبيا.

وبالنهاية اجتمع الفشل التنموي (بنتائجه من فقر وبطالة وتفكك اجتماعي… إلخ) مع العجز المؤسسي (بتخلف بنية الدولة وغياب الأسس الحداثية عنها) مع الاستبداد (حامي شبكة المصالح الريعية)؛ ليعيد إنتاج ذاته ويكرّس أزماته في صورة البنية الاجتماعية والمؤسسية المُنتجة للنزاعات في المنطقة.

ثانياً: أزمة البنية المؤسسية العربية

ينقلنا ما سبق إلى مزيد من التفصيل في نقطتي الاستبداد الداعم لبقاء الوضع، والعجز المؤسسي العاجز عن علاجه، بما أنتجاه من دولة مسروقة محلياً (لا تمثل شعبها) ومعزولة اجتماعياً (عاجزة عن التجاوب مع واقعه)، فلا هي راغبة في الإصلاح (بل تحتجزه في الحقيقة)، ولا هي قادرةً عليه (بحكم ضعف كفاءتها وتخلفها النوعي)، دولة عاجزة هيكلياً عن إدارة عملية التنمية وعن التجاوب مع متطلبات الواقع المحلي، وما ينتج منهما من أزمات ونزاعات.

1 – الدولة المسروقة: الاستبداد كضمانة للنهب

تمثل تلك الدولة الريعية دولة مسروقة من شعبها؛ إذ لا تمثّله بقدر ما تمثّل مصالح النخبة الريعية المسيطرة عليها، وبطبيعتها تلك وبموقعها التجاري الوسيط بين الموارد المحلية والأسواق الدولية التي تبيع فيها تلك الموارد، لا تكون مشغولة بسياسات إنتاجية لتنمية الاقتصاد المحلي وتوسيع السوق القومية؛ ما يلغي الحاجة إلى سياسة اقتصادية – بل وكل سياسة تقريباً – مُتماسكة تحظى بتوافق محلي (على ما سبق ذكره من سمات في نمط فخ الموارد)، فكل ما يلزم دولة كهذه سياسة مالية للتخصيص، يحكمها منطق حفظ الاستقرار البراغماتي.

كما أنه في ظل دولة كهذه لا تكون لمقولات كالفساد وما شابه معنى؛ فهي دولة لم تبلغ بعد عتبة الدولة الحديثة وفقاً للمفهوم الفيبري (كجهاز منظم يحتكر العنف ويقوم على البناء القانوني والإدارة العقلانية الملتزمة بالتخصص والتراتبية والكفاءة واللوائحية)، بل الأسوأ أنها دولة مُشوَّهة تنحو نحواً نهبياً مافيوياً؛ وهكذا فما نراه فيها فساداً بالمعايير الحديثة للدول، لا يعدو كونه جزءاً من آلية عملها.

فالزبونية السياسية وشراء الولاءات والمحسوبيات والمحاصصات القبلية والطائفية… إلخ، فضلاً عن احتكار الثروات العامة ونهبها لدرجة عدم التمييز أحياناً بين الموارد العامة والخاصة… إلخ[17] ، كلها سمات نموذجية للدول الريعية القياسية (وما يخرج عن ذلك استثناء)، وهي ممارسات توفّر من جهة الحوافز للحكم الاستبدادي أو لعدم التنازل عنه كإرث تاريخي، كما تتعزز وتستفحل بفضله وفي حمايته من جهة أخرى.

لهذا يسود تلك الدول الحكم الشخصي و/أو الأوليغارشي القائم على الزعامة الفردية والمؤسسات الشمولية والبروباغاندات القومية والدينية، حيث «يتزامن الطابع الريعي للدولة مع الأسلوب السلطوي في الحكم وتضخّم أجهزتها وحدّة أسلوبها الرقابي واحتوائها الشمولي للمجتمع…، ولا تعتمد النخب الريعية حكماً هادئاً، بل محتاجة دائماً لتنشيط وإذكاء التعبئة الرمزية والإعلامية كأداة للحكم، فعادةً ما يعتمد الحكم السياسي لهذه النخب على أيديولوجيا ومؤسسة الزعامة التعبوية والمستوعبة لكل الطبقات، والقائمة على التداخل بين الحكم الأوتوقراطي وسلطة الدولة» [18].

لا عجب في تأخر ترتيب معظم البلدان العربية على مؤشرات الديمقراطية وتقدمها على مؤشرات الفساد. فنجد معظم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقع ضمن مجموعة الأنظمة السلطوية على مؤشر الديمقراطية، بمجموع 14 دولة من إجمالي 20 دولة، وأربع دول ضمن الأنظمة الهجينة، ودولتين فقط (تونس وإسرائيل) صُنّفت كديمقراطيات معيبة، كما نجد بطبيعة الحال تقديرات شديدة السوء – بما يبعد كثيراً بالسلب من المتوسطات الدولية – للعناصر التفصيلية للمؤشر في معظم دول المنطقة، من أداء حكومي وحريات مدنية ومشاركة سياسية… إلخ [19].

أما على مؤشر مدركات الفساد، فسجّل معظم البلدان العربية أقل من 50 درجة على المؤشر (الشريحة الأعلى فساداً)[20]، وبمتوسط لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يبلغ 38 درجة[21] (من مجموع 100 درجة)؛ حيث تقع معظم دول المنطقة ضمن الشرائح الدنيا (الأكثر فساداً) من المؤشر، باستثناء الإمارات العربية المتحدة في المرتبة 24 عالمياً (من 176 دولة) بـ 66 درجة، وقطر في المرتبة 31 عالمياً بـ 61 درجة، وبينهما إسرائيل في المرتبة 28 عالمياً بـ 64 درجة[22].

2 – الدولة المعزولة: أبعاد العجز المؤسسي

إذا انتقلنا في مناقشة الدولة والبنية المؤسسية من دائرة الحوافز (الميل إلى الاستبداد والرغبة في الإصلاح أو على العكس) إلى دائرة القدرات (القدرة على التنمية والإصلاح من عدمها)؛ فإننا نجد دراسات أمبيريقية تؤكد سلبية العلاقة بين سيادة الريعية وانخفاض نوعية المؤسسات؛ فالدول المعتمدة على نحوٍ أكبر على الموارد لديها مؤسسات منخفضة النوعية قياساً على ما يجب أن يكون لديها بالنسبة إلى مستويات دخولها؛ ولهذا تتميز بمؤشرات حكم ومؤسسات أسوأ من نظيراتها في مستوى الدخل، كما يظهر في الشكل الرقم (1).

الشكل الرقم (1)

العلاقة بين مستوى الدخل ونوعية المؤسسات في بعض الدول المُنتجة للنفط والمعادن

المصدر:  Naazneen Barma [et al.], Rents To Riches?..The Political Economy of Natural Resource-led Development (Washington, DC: World Bank, 2011), <https://goo.gl/Zn3dd4>.

 

وهكذا نجد إلى جانب سوء مؤشرات الديمقراطية والفساد، سوءاً في مؤشرات نوعية المؤسسات عموماً، فيسجّل معظم الدول العربية أداءً سلبياً في الأبعاد الستة لمؤشر الحوكمة (WGI)، من مساءلة واستقرار سياسي ونوعية تنظيم وحكم قانون… إلخ، فلا يبرز بينها بأداء جيد نسبياً سوى عمان وقطر والإمارات [23].

ويعرض الشكل الرقم (2) تقييماً لأداء عدد من البلدان العربية وفقاً لمؤشر كفاءة الحكم مقارنةً بأداء عدد من الدول المتفاوتة المستوى التنموي، بما يظهر ضعف كفاءة الحكم ونوعية مؤسساته بدول العيّنة، سواء بالنسبة إلى غيرها من الدول أو بالمطلق، كما يظهر من وقوع معظمها على الجانب السلبي من المؤشر.

الشكل الرقم (2)

مؤشر كفاءة الحكم في عدد من البلدان العربية وغير العربية

المصدر: Ahmed Galal and Ishac Diwan, eds., The Middle East Economies in Times of Transition, International Economic Association Series (London: Palgrave Macmillan, 2016), p. 319.

 

وأخيراً، نشير إلى إحدى العلامات الدالة بخاصة على طبيعة اهتمامات هذه الدولة المسروقة من شعبها والمعزولة عن همومه، غير الراغبة في الإصلاح ولا القادرة عليه، وهي إهمالها قضية الأميّة الأبجدية، تلك الأميّة التي تشكّل بذاتها أحد عوامل إدامة الاستبداد، فضلاً عن مساهمتها في خفض الإنتاجية الاقتصادية واستدامة التخلف الاجتماعي وتهيئة التربة المناسبة لانتشار النزعات القبلية والطائفية… إلخ؛ فنجد بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال الوطني لمعظم الدول العربية، أن متوسط نسبة الإلمام بالقراءة والكتابة بين العرب البالغين أكثر من 15 عاماً يبلغ 76.9 بالمئة منهم، ما يقل عن المتوسط العالمي البالغ 84 بالمئة، ويضع المنطقة ضمن شريحة «التنمية البشرية المتوسطة»[24]، أو ضمن الشريحة قبل الأخيرة ضمن الشرائح الأربع للمؤشر.

ثالثاً: البديل الشعبي أو استعادة الوجود الاجتماعي

يتضح مما سبق أن الفشل التنموي الناتج من نمط النمو الريعي، هو القاعدة الأساس لانطلاق أزمات الوطن العربي ونزاعاته كافة، فهو:

– ما فاقم الفقر والتهميش الاقتصادي كإطار عام للأزمات؛

– وأدى إلى التفكك الاجتماعي على أسس اجتماعية ما قبل رأسمالية/وطنية (بفعل طابعه غير الاحتوائي وإقصائية دولته الاستبدادية)؛

– وكبح الاستجابات المؤسسية الضرورية لهذه الأزمات ولذاك التفكك الاجتماعي (بانعزال دولته عن هموم مجتمعها وضعف كفاءتها)؛

بناءً عليه، تتضح ضرورة الانطلاق من الداخل المحلي وحتمية الاعتماد عليه، باعتباره البديل الوحيد الباقي في ظل التشوّه الهيكلي والمؤسسي للدولة العربية القائمة، ما يتطلب حشداً وبناءً للجماعات الشعبية المستقلة صاحبة المصلحة في استعادة التنمية، أي استعادة الوجود الاجتماعي الفاعل لشعوب المنطقة في تحديد مصيرها، ودخولها العصر الحديث القائم على إدارة المجتمع وتوجيه عملية تجديده الاجتماعي على أسس من عقلانية الاقتصاد ورشادة السياسة بما فيه المصلحة العامة؛ ما يشترط استعادة سيطرتها على مُقدراتها ببناء ديمقراطية جامعة وطنياً، تقوم على اقتصاد بديل لتحقيق التنمية العادلة وديمقراطية شعبية لتحقيق السلام الاجتماعي، اللذين لن يتحققا إلا باستعادة الوطن نفسه باستقلال وطني يحميهما معاً.

1 – استعادة المُقدّرات: الاقتصاد البديل والديمقراطية الشعبية

وهو ما يتم على محورين كما هو واضح من العنوان:

  • محور اقتصادي، جوهره بناء اقتصاد بديل يحقق تنمية مُنتجة وعادلة ومُستدامة، يحفظ لشعوبه «فائض القيمة» الاجتماعية؛
  • محور سياسي: أساسه بناء ديمقراطية شعبية تحقق إدارة كفئة ونزيهة ومُستدامة كذلك، تحفظ لشعوبها «فائض القوة» الاجتماعية.

والمحوران متضافران متجادلان؛ فالاقتصاد البديل الذي تسيطر عليه الأغلبية المُنتجة ولا يخضع لهيمنة أقلية مُستغلة، هو الأساس الاجتماعي للديمقراطية الشعبية التي تعبر عن تلك الأغلبية، كما أن استمراره واستدامته مرهون بها؛ فهي كذلك الإطار المؤسسي لذلك الاقتصاد، ومن خلال السيطرة على هذين المحورين، تستطيع الشعوب استعادة مُقدّراتها والسيطرة على شؤونها في مواجهة أقليات النهب الريعي و/أو أوليغارشيات الاستبداد السياسي؛ ما يمكّنها من جهة من إدارة مواردها بكفاءة وفاعلية بعيداً من الإهدار والنهب، ومن جهة أخرى من حل مشكلاتها بقدر من الاستقلال عن مصالح الأوليغارشيات المُستغِلة وترتيبات الهيمنة المحلية والدولية.

انطلاقاً مما سبق ذكره حول محورية دور نمط فخ الموارد الريعي وما يرتبط به من دولة محاسيب رعوية، فإن الاقتصاد البديل المُقترح لا بد من أن يكون على الضد بالضبط من كل ذلك، بل أن يسعى أساساً لتفكيك هذا النمط وتحويله، وبشرط الانطلاق من أسفل، أي بعيداً من هيمنة الدولة ورأس المال، وفي هذا تتعدد وتتنوع المقترحات وينفتح الباب أمام الإبداع الشعبي والاجتماعي والخيال السياسي[25].

لكن مبدئياً قد تكون «التعاونيات» بمعناها الشامل، كشكل ملكية وإدارة اجتماعية وتكوين سياسي، نقطة انطلاق جيدة لهذا الاقتصاد البديل، وقاعدة لتكوين تنظيمات تلك الديمقراطية الشعبية؛ فهي قادرة، إذا أُحسنت إدارتها وتمكّنت من تحقيق أهدافها بعيداً من هيمنة الأقلّيات المُتنفّذة، من تحقيق ما يلي أو بعضه على الأقل من نتائج اقتصادية وسياسية:

أ – تقليص هوامش الأرباح الاحتكارية وحلقات التداول غير الضرورية؛ بما يرفع كفاءة السوق ويقلل الدخول الطفيلية والريعية ويحسّن توزيع الموارد لمصلحة القطاع الإنتاجي، فضلاً عن خفض الأسعار ورفع مستوى المعيشة.

ب – المساهمة في تغيير هياكل الأسواق لمصلحة المُستهلكين؛ بزيادة الإنتاج والعرض وتحويلها إلى أسواق بشروط المُستهلكين.

ج- توسيع مساحة الديمقراطية الاقتصادية؛ من خلال تعظيم مساحة المشاركة في نطاق الإنتاج، وكسر الاحتكارات في نطاق التبادل، وإعادة تخصيص الموارد في النطاق المالي… إلخ.

د- تكتيل قوى اجتماعية مُتماسكة حول مصالح اجتماعية واضحة؛ بما يطوّر منطق السياسة باتجاه الانقسام الأفقي على مصالح اقتصادية مُعلنة، وليس الانقسام الرأسي على أساس هويات مُلتبسة بمصالح الأقليات الريعية.

هـ- تقليص هيمنة بيروقراطية الدولة ورأس المال الاحتكاري المحلي والعالمي على المصالح المحلية؛ ومن ثم انتزاع جانب من السلطة الاقتصادية – السياسية لمصلحة القوى الاجتماعية الشعبية.

2 – استعادة الوطن: الاستقلال السياسي والاقتصادي

لا شك في أن هذه مجرد رهانات قائمة على تصوّرات وتحليلات لإمكانات هذه التعاونيات، ما يعني أنها قد تتحقق، وربما لا تتحقق كاملةً، فهذا يتوقف على العديد من الشروط والاعتبارات الاقتصادية والسياسية والتنظيمية وحتى الفنية، وهو ما يتطلب بحثاً مُستقلاً ولا يتسع المجال لذكره، لكن المؤكد أنها مشروطة بشرط اجتماعي – سياسي حاسم هو الاستقلال السياسي، الذي يقوم على ضمان السيادة والأمن القومي في مواجهة التهديدات الخارجية.

فهذا الاستقلال السياسي يمثل شرطاً لبناء السياسات المُتماسكة والدولة التنموية نفسها، وهي شروط جوهرية لأي تنمية ناجحة مُستدامة، كما هي شروط حاسمة لعلاج الأزمات ومواجهة النزاعات؛ فمن دونها يصبح البلد نهباً لحساب القوى الدولية ومصالحها وترتيباتها، فلا يمتلك قراره، وبالتبعية لا حاضره ولا مستقبله.

لكنه مرةً أخرى يتجادل ويتشابك معها – رهانات الاقتصاد البديل والديمقراطية الشعبية – فالاستقلال السياسي نفسه لا يكتمل اسماً ورسماً إلا باستقلال اقتصادي (تماماً كما يعتمد الاستقلال الاقتصادي عليه)، وهو ما قد تسهم في تحقيقه التعاونيات إذا نجحت في تحقيق الرهانات السابقة، وخصوصاً إذا حققتها في إطار توجّه نحو السيطرة الوطنية على شروط التجديد الاجتماعي لنمط الإنتاج، من مُكوّنات تجديد رأس المال الاجتماعي (المياه والطاقة والبنية التحتية والنظام المصرفي) ومستلزمات تجديد رأس المال البشري (الغذاء والتعليم والصحة)، فضلاً عن المفاصل الأساسية لرأس المال الإنتاجي (إنتاج التجهيزات وتطوير التكنولوجيا)؛ لتكتمل نمواً فتصبح تجربة تنمية مُستقلة عادلة، ونضجاً فتبني ديمقراطية شعبية فاعلة.

وبتكامل هذه الحلقات: التنمية العادلة والديمقراطية الشعبية (كقواعد للعدالة والكفاءة والاستقلال الاقتصادي) وضمان السيادة والأمن القومي (كإطار حماية يضمن الاستقلال السياسي)؛ يتحقق العدل الاجتماعي بما يعالج التفكك الاجتماعي ويعزز الانتماء القومي، ويتعزز تماسك السياسات الوطنية في مواجهة ترتيبات النهب والهيمنة الدوليين؛ فتتقلّص أسـباب الأزمـات ودوافـع النـزاعات، كما تتعاظم كفاءة الإدارة السياسية وفرص التنمية الاجتماعية.

خاتمة

إن جذر الأزمات والنزاعات في المنطقة هو ما تعانيه من فشل تنموي في صورة انحراف ريعي، أدى إلى تفكك اجتماعي ينتج الصراعات وانحراف سياسي عن المصلحة العامة وعجز مؤسسي عن معالجة الأزمات؛ الأمر الذي يفرض مدخلاً شعبياً بديلاً ينطلق من أسفل؛ لعلاج المرض والعرض معاً، فيركّز اهتمامه على حلقات الاقتصاد البديل الهادف للتنمية العادلة، والديمقراطية الشعبية الهادفة إلى توزيع الصلاحيات وتوسيع نطاق اتخاذ القرارات الاجتماعية، مُستهدفاً حلقة الاستقلال الوطني في شقيّه السياسي والاقتصادي؛ لينتهي من هذا كله بعلاج الفشل التنموي محلياً وتصفية التبعية والارتهان بترتيبات الهيمنة خارجياً، وبالتالي تصفية نتائجهما معاً من تفكك اجتماعي واحتراب سياسي.

 

قد يهمكم أيضاً  آثار التفكيك في الجوار العربي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #دراسات #التنمية_والنزاعات #العجز_المؤسسي_في_الوطن_العربي #البلدان_العربية #الاقتصاد_الريعي_في_العالم_العربي #الإصلاح #الأمن_القومي_العربي #الأزمات #النزاعات_في_العالم_العربي #التفكك_الاجتماعي #التبعية #الاقتتال_السياسي #ضعف_التنمية #الاقتصاد_البديل