أولاً: مفتتح إشكالي

أثارت الأعمال الفكرية لمحمد أركون الكثير من الجدل بين الفلاسفة ورجال الدين والمفكرين العرب، حول الآليات التجديدية التي حملتها مضامين هذا الخطاب الفكري الذي لم يعهد له العقل العربي نظيراً منذ عصر النهضة، متوسـلاً صاحبه في إنتاجه بعدة منهجية مستعارة بشكل مكثف من الحقل المعرفي الغربي في الكثير من مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة. وسم صاحب هذا الخطاب الفكري مشروعه بنقد العقل الإسلامي وعدّه بمنزلة البديل المعرفي للخطاب الاستشراقي؛ ذلك الخطاب الذي يقصد به في أبسط مفهوماته تلك المعارف التي أنتجها الغرب حول الشرق، ويتفرع إلى التيارات العديدة التي يتخذ جزء منها الفكر الإسلامي موضوعاً للبحث والدراسة، ويستخدم دارسوه جملة من المناهج الوضعية واللغوية والفيلولوجية والتاريخية، ويسعون إلى تقديم تفسيرات علمية لمصادر هذا الفكر، والوقوف على أدواته العقلية والمنطقية واللاهوتية.

وسعى أركون من هذا المنطلق التنويري إلى إعادة تثوير الفكر الإسلامي، وإخراجه من شرنقته، ومضى مشتغـلاً على التراث الفكري الإسلامي لتبيان تاريخيته، والكشف عن محدودية أفقه المعرفي بربطه بمجموعة الظروف السياسية والاقتصادية التي تولد عنها. وانطلاقاً من هذه الحماسة المعرفية التي تحلى بها محمد أركون، وقع خطابه الفكري في مزالق وعقد منهجية عديدة، أثارت الكثير من اللغط حول بنية هذا الخطاب ومقوماته ومقولاته؛ فلم يكن من خصومه الفكريين سوى أن اتهموا خطابه مقيمين عليه الحجة العلمية بأنه خطاب استشراقي لكن برؤية مغايرة، وإن شئنا قلنا برؤية حداثوية مستفيداً من الفتوحات المنهجية للعلوم الإنسانية.

ومن المعلوم أن الخطاب الاستشراقي تعرض لنقد حاد من طرف بعض المفكرين العرب، أمثال إدوارد سعيد الذي عدَّه إحدى الأدوات التي يستخدمها الغرب في عملية السيطرة والهيمنة على الشرق ومقدراته، وأن الاستشراق هو دراسات معرفية تحيزية تعلي قيمة العقل الغربي وتاريخه، وتجعل الحضارة الغربية مركز الكون، في حين تحط قيمة بقية الثقافات الإنسانية وتحسبها ثقافات عجائبية سحرية، تغلب عليها الميتافيزيقا وأنها تمثل مرحلة من مراحل القصور وعدم النضج العقلي.

لذلك طرحت تساؤلات عميقة عن جوهر هذا الخطاب، فهل نصل الخطاب الفكري الأركوني بالدائرة الاستشراقية التي اتهمها أركون بالقصور لاعتماده المفرط على المناهج الوضعية والمناهج الفيلولوجية اللغوية، وعدم تقبل المستشرقين النقد الإبستيمولوجي لأعمالهم، وعدم أخذهم بالمناهج الحديثة للعلوم الإنسانية، وهو ما جعل الخطاب الاستشراقي عقيماً من جهة عملية تتحليل الأنظمة الفكرية التي ظهرت في المجتمعات الشرقية والإسلامية؟ أم أنه خطاب تجديدي في الفكر اللاهوتي الإسلامي كما يرى أركون (الإسلاميات التطبيقية)، ومحاولة معرفية في اتجاه تحريره من المدرسة السلوكية الفقهية التي سيطرت على العقل الإسلامي وتمثلاته للعالم والمعارف لقرون؟ وهل يمكن أن نعدّ الخطاب الأركوني بمنزلة خطاب معرفي يمكِّن العالم العربي والإسلامي من ولوج الحداثة كما ولجتها المجتمعات الغربية المعاصرة؟

في المقابل، يشعر القارئ المتمرس لخطاب أركون بالنثر الاستشراقي في تفاصيل هذا الخطاب إما صراحة وإما ضمناً، ويقف في نصوصه على شكلين من الخطاب، من جهة يلحظ تهجّم أركون على المناهج التقليدية التي يستخدمها المستشرقون في توليد نصوصهم، ودعوته إلى تطويرها ليكتسب الاستشراق الصبغة العلمية، ومن جهة أخرى يستشهد أركون ببعض الأعمال الاستشراقية، ويؤكد أنها تتقاطع مع مشروعه الفكري رغم الاختلاف معها في المنهج المستخدم.

إذاً، وفق هذه الطبيعة الجدلية التي تحكم تلابيب هذا الخطاب الفكري لمحمد أركون، والتي ستكون كمبرر معرفي ومنهجي لنا لإعادة الفصل في طبيعة هذا الخطاب الذي ولده، للوقوف على حقيقته وتفاصيله، متوسّلين بالمنهج النقدي لتفكيك مقولاته والوقوف على منهجياته التي استخدمها، والتعرف إلى مواقفه من الاستشراق والمستشرقين، ومحاولين عن طريق القراءة المنهجية النقدية للنتائج التي توصل إليها أركون، أن نجيب عن التساؤلات التي خالجتنا وأرّقتنا: هل فعلياً نتائج الخطاب الفكري الأركوني تختلف كلية عن نتائج الخطاب الاستشراقي؟ أم أن أركون رغم نقده للاستشراق، لم ينتج في النهاية سوى خطاب استشراقي بامتياز؟ وكأن المسلكيات المعرفية التي استخدمها أوصلته إلى نتائج المستشرقين أنفسهم الذين اختاروا مسالك معرفية مغايرة، وسبقوه للبحث في هذه الموضوعات؟

وتأسيساً على ما سبق، فإن مدار اشتغالنا في هذه المقالة العلمية يدور حول السعي إلى الإجابة عن التساؤلات التالية:

1 – ما هي مواقف محمد أركون المعرفية والمنهجية من الخطاب الاستشراقي؟

2 – ما هي المواقف النقدية لمحمد أركون من المستشرقين؟

3 – ما هي حدود الاتصال – الانفصال بين الخطاب الفكري لمحمد أركون والخطاب الاستشراقي؟

4 – في الأخير، هل يمكن أن نصف الخطاب الأركوني بأنه خطاب استشراقي بأدوات ومناهج مغايرة؟

ثانياً: مواقف محمد أركون المعرفية والمنهجية من الخطاب الاستشراقي

لا يخلو مؤلَّف أو كتاب أو مقال لمحمد أركون من تناول الاستشراق، إما ناقداً متهكماً على مناهجه، وإما مشيداً بنتائجه، لذلك يلحظ القارئ المتعمق لأعمال أركون بنثر الاستشراقيين أسطر كتبه ومؤلفاته ومقالاته، وكأن الاستشراق تحوَّل إلى هاجس مرضي ومعرفي عند أركون؛ فمنذ أن استهل مشروعه الفكري تحت عنوان نقد العقل الإسلامي، وهو يعلن حربه الخفية والعلنية على المناهج التي تناول بها المستشرقون التراث الإسلامي وعلومه وآدابه، وبخاصة نصوصه المقدسة، وكأنه يريد أن يقنعنا بضرورة القطيعة الإبستيمولوجية مع المنهجية التي كُتبت بها الأعمال الاستشراقية الكلاسيكية، ونجمل الانتقادات التي وجهها للاستشراق في النقاط التالية:

1 – نقد المنهجية التقليدية المستخدمة في الاستشراق الكلاسيكي

فتح أركون النار على الخطابات الاستشراقية حاسباً أنها خطابات تعتمد بشكل مكثف على المناهج اللغوية الفيلولوجية في دراسة التراث والأنظمة الفكرية الشرقية، ومستشهداً بمجموعة من الأعمال الصادرة حديثاً معلقاً عليها، بقوله: «في الواقع إن جميع المساهمات الواردة في الكتب الجماعية الثلاثة تخضع لمنهجية واحدة: هي المنهجية التاريخيوية الفيلولوجية التي سيطرت على الاستشراق الكلاسيكي طيلة القرن التاسع عشر وحتى وقت قريب، فاستمرارية الإشكاليات التاريخيوية والمجريات الفيلولوجية والفضول المعرفي الهامشي، كلها أشياء تسيطر على هذه الدراسات»‏[1]. إذاً، يرى أركون أن الفكر الاستشراقي لا يزال يستخدم المنهجية الوضعية نفسها التي استُخدمت في القرن التاسع عشر، ولم يتحرر منها، بقوله: «إن كل العلم الاستشراقي كان محصوراً بالتأريخ للوقائع الخام للتراث أو استعادتها من طريق استخدام المنهجية الفيلولوجية من نحوٍ وصرفٍ ومعاجم ودراسة تركيب الجمل… إلخ، وكان محصوراً بالمنهجية التاريخية التقليدية التي سادت في القرن التاسع عشر والتي كانت تحصر عملها بسرد الوقائع كما هي الواحدة بعد الأخرى أو الكشف عنها والتحقق منها»‏[2].

2 – نقد أركون الخطاب الاستشراقي لعدم أخذه بمناهج العلوم الإنسانية المعاصرة

دعا أركون المستشرقين إلى التخلي عن المنهجية التقليدية في إنتاج خطاباتهم، وضرورة انفتاحهم على المكتسبات الإبستيمولوجية للعلوم الإنسانية المعاصرة، والعمل على إحداثهم قطيعة إبستيمية مع المناهج اللغوية الفيلولوجية، حيث يسعى الكثير من المستشرقين إلى جمع المعلومات والمعارف حول الشرق ومراكمتها دونما تفكيكها أو إخضاعها إلى الأشكلة كما يقول أركون، أي نزع طابع البداهة عنها، إذ يفقدها طابعها العلمي ولا تسهم في الكشف عن طبيعة الأنظمة المعرفية التي تولدت عنها، «فقد استخدمت مصطلح التبحر الأكاديمي عن قصد لكي ألفت الانتباه إلى رفض هؤلاء المستشرقين لأي انخراط ابستيمولوجي في موضوع دراساتهم واكتفائهم فقط بجميع المعلمات الوصفية وتراكمها إلى أقصى حد ممكن»‏[3].

ولاحظ أركون أن زملاءهم في كليات التاريخ والمهتمين بدراسة المجتمعات الغربية، استفادوا كثيراً من الفتوحات المعرفية لمنهجيات العلوم الإنسانية، بينما المستشرقون لم يكلفوا أنفسهم عناء تطوير أدوات منهجية في بحوثهم، فيرى أركون أنه يقود الصراع «ضد مواقف المستشرقين الذين يرفضون الدخول في أي مناقشة ابستيمولوجية مع زملائهم الغربيين المشتغلين في الاختصاصات الأخرى أو حتى فيما بينهم بحجة أن المسلمين الذين ينتقدونهم يمارسون ذلك من موقع المماحكة الجدالية فقط وليس من موقع العلم»‏[4].

وكان من المفترض أن تحفز الأعمال المنهجية للعلوم الإنسانية المستشرقين إلى تطبيق هذه المنهجيات على الثقافة الشرقية الإسلامية، إلا أن معظم المستشرقين بحسب أركون لم يفعلوا ذلك، ولم يتحمسوا وأصروا على تطبيق الممارسات المنهجية التقليدية في بحوثهم، بل إنهم يرفضون «فتح مناقشة ابستميولوجية بخصوص ممارستهم ومناهجهم العلمية وذلك من منظور نظرية المعرفة التي كانت ستضع حدا مرة واحدة وإلى الأبد للتصورات والقناعات الأيديولوجية لكل منهم: إنهم يرفضون القيام بذلك على الرغم من أن نقل المناهج والمفاهيم المتبلورة انطلاقاً من الثقافة الغربية وتطبيقها على ثقافة أخرى يحرّضهم بشكل مزدوج لفتح هذا النقاش»‏[5].

ويرى محمد أركون أن البحث الاستشراقي لا يزال يتجاهل النقد الإبستيمولوجي المعاصر، لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار مكتسبات العلوم الإنسانية، فهي بالنسبة إليه موضة عابرة، كما يرفض مناقشة إبستيمولوجية نقدية للمسلّمات والفرضيات التي تستند إليها الممارسات المنهجية للمستشرقين؛ فما يعيبه أركون «على الفيلولوجيا هو إهمالها للأساطير والتصورات الخيالية، وهي بذلك تفتقر إلى حد كبير إلى المضامين الحقيقية لكل وجود اجتماعي»‏[6]. والواقع أن المستشرقين «يكتفون بالمعاينة والتفحص السريري إذا جاز التعبير لموضوع دراستهم، أكبر مما يسهمون في الجهد التنظيري انطلاقاً من أمثلة وحالات تاريخية مختلفة عن تلك التي تغذي بشكل عام ممارسة العلوم الاجتماعية بصفتها منتجات للمجتمعات الغربية وأدوات لها»‏[7].

ويذهب أركون في نقده الخطاب الاستشراقي إلى اعتبار أن: «الاستشراق الأكاديمي الذي احتل الساحة منذ القرن التاسع عشر لم يتراجع فقط في مجال البحث والتعليم، وإنما حطوا من قيمته وراحوا يعتبرونه ماضوياً، تقليدياً في النزعة الثقافوية والوصفية والنضالية والتاريخوية والفيلولوجية»‏[8]؛ فكل المستشرقين يزدرون المناقشات المنهجية والقلق الإبستيمولوجي، ولا يهتمون إلا بدارسة «الوقائع المادية المحسوسة بالمعنى الذي يقصدونه وضمن الإطار المعرفي الذي يختارونه»‏[9].

يُرجع أركون رفض المستشرقين للحفر العميق في بنية التراث الإسلامي إلى أنهم «لا يبالون إطلاقاً بمصير المسلمين والمجتمعات الإسلامية عندما يدرسون الإسلام ويكتبون عنه، فهذه ليست مشكلتهم، كما يقولون صراحة حتى يومنا هذا، فعلى كاهل المسلمين أنفسهم تقع مهمة التجديد وزحزحة الحدود التقليدية لفكرهم ومعرفتهم»‏[10].

3 – تطابق الخطاب الاستشراقي الكلاسيكي مع الخطاب الإسلامي الأرثوذكسي

يتمثل النقد المعرفي الثاني الذي وجهه أركون للخطاب الاستشراقي بتطابق الخطاب الاستشراقي مع الخطابات الإسلامية الأرثوذوكسية؛ تلك الخطابات التي ينتجها المسلمون حول ماضيهم الديني والتاريخي والتراثي، حيث يعتمد كلا الخطابين على المنهج الاستردادي نفسه للتاريخ الإسلامي وأنظمته الفكرية، فيسعون لرسم صورة تاريخية مثالية متعالية تفتقد البعد الإبستيمولوجي في المناولة والمعالجة. وتميل تلك الخطابات إلى عدم ربط التراث الإسلامي بجملة الشروط التاريخية والسياسية والثقافية التي أسهمت في توليده، حيث إن موقف «الاستقالة الثقافية والعقلية هذا قد أصبح شائعاً لدى المستشرقين، كلما راح الخطاب الإسلامي «الأرثوذكسي» يوسع من مجال سيطرته وهيمنته. إننا نفهم أن يتخذ المستشرق احتياطات شفهية أو كتابية عندما يتحدث أمام جمهور كهذا رغبة منه في الحفاظ على التواصل معه وعدم إغضابه، ولكننا نؤكد مع ذلك علة أن المسؤولية الثقافية كباحث تبقى كاملة وليس له أي عذر في التخلي عنها وخصوصاً إذا كان يتمتع بهيبة علمية»‏[11].

وحتى لا يغضب الخطاب الاستشراقي الجمهور الإسلامي، يسعى للتطابق معه في المسلمات والفرضيات نفسها التي يتبناها هذا الجمهور حول ماضيه التاريخي وتراثه الفكري والفقهي والفلسفي، رغم أن الخطاب الاستشراقي في بداياته الأولى كان صدامياً مع جمهور المسلمين، كما نجد ذلك في الأبحاث التي أُنجزت في القرن التاسع عشر، «فكانت الأرثوذكسية الإسلامية تضغط دائماً بالمحرّمات على الدراسات القرآنية وتمنع الاقتراب منها أكثر مما يجب وقد سهل المستشرقون في المرحلة التاريخوية والفيلوليجة أن ينتهكوا هذه المحرمات أكثر مما يسهل علينا اليوم، لماذا؟ لأن العقل العلمي كان آنذاك في أوج انتصاره، وكان مدعوماً من طرف الهيمنة الاستعمارية التي رافقته»‏[12].

ويرى أركون أن الخطاب الاستشراقي أصبحت مهمته محصورة في نقل العقائد الإسلامية من اللغة العربية إلى اللغات الأوروبية، واعتبرها عملية معرفية اختزالية وسطحية، تقيم صورة مشوهة عن التراث الإسلامي، «فليس المؤمنون وحدهم هم الذين بقوا منغلقين على أنفسهم داخل السياج الدغمائي وإنما التبحر الاستشراقي الأكاديمي نفسه ظل منغلقاً داخل نفس السياج لزمن طويل عندما اكتفى بنقل أفكار الإسلام السني الأغلبية إلى اللغات الأوروبية، وذلك قبل أن يفعل الشيء ذاته مع الإسلام الشيعي»‏[13].

ويبرر أركون من زاوية أخرى سبب تقاطع الخطاب الاستشراقي مع الخطاب الإسلامي الأرثوذوكسي، ويرى أن بعض المشتغلين على هذا النوع من الخطاب يشتركون مع المسلمين في العقائد والتصورات نفسها حول الوجود وأنظمة المعرفة اللاهوتية، فنجد كبار المستشرقين «يترجمون العقائد الإيمانية الإسلامية من العربية إلى الفرنسية والإنكليزية أو الألمانية، إنهم يترجمونها ويصفونها بكل اهتمام وخشوع، ولكنهم لا يسمحون لأنفسهم أبداً بأن يفككوا هذه العقائد من الداخل: أقصد أن يفككوا البديهيات والمسلّمات والموضوعات أو المضامين التي تنسج وتؤسس المسلك المغاير لكل إيمان»‏[14]، ويرى أركون أن منتجي الخطابات الاستشراقية ينتمون إلى الدائرة الإيمانية ذاتها – اليهودية والمسيحية – وبالتالي يشاطرون المسلمين المعتقدات نفسها عن الألوهية، «فنحن نعرف حجم الدور الفعّال الذي مارسه المستشرقون المسيحيون واليهود في دراسة الإسلام وتراثه، وهؤلاء يشاطرون المؤمنين المسلمين إبستيمولوجياً، بالأوليات اللاهوتية للدفاع عن «الإيمان» بنفس الإله الواحد، ونفس الوحي المعطى أو معطى الوحي، ونفس الخضوع للقانون الديني (أو الشريعة)»‏[15].

إذاً، يتعامل الخطاب الاستشراقي مع العقائد الإسلامية بروح معرفية باردة، لأن المستشرقين يؤخذون بمبدأ المسافة في معالجتهم وتناولهم الفكر الإسلامي، فقد اتخذ الخطاب الاستشراقي «الاعتقاد أو الروحانيات الإسلامية كمجرد مادة توصف وتدرس وتنقل إلى اللغات الأوروبية بكل مسافة باردة من قبل العالم الغنوصي (على طريقة هنري لاوت مثـلاً) أو على طريقة العالم المؤمن الذي يتصدى لمعرفة الغير بكل محبة وحرارة ونزعة وعظية إرشادية (كما يفعل ج. جومييه أو كنيث كراغ مثـلاً)»‏[16].

ويرى أركون أن هناك محاولات بذلها بعض المستشرقين المعاصرين تلتقي معه في الخط المنهجي نفسه، وتتحدد معالم هذه المنهجية في محاولة فك الارتباط بين الخطابات الاستشراقية والخطابات الإسلامية، فيرى أركون أن المشكلة الكبرى «ليست التركيز – كما يفعل المستشرقون – على أصالة النص وعلى القول المتكلم الفقيه الحق، وليست قضية تبين الإيمان الحقيقي لدى المؤمنين، كما يفعل فقيه الملة، وإنما توضيح التبدل الذي يتيح الانتقال من مستوى إلى آخر»‏[17]، قد فرض الاستشراق هذه النظرة النكبة على «الإسلام» المتواطئة مع نظرة المسلمين أنفسهم، إذ أجمع كلاهما على أن هناك «إسلاماً» جوهرياً ذاتياً لا يقبل التغيير ولا يخضع للتاريخية ولا يزال مسمراً هو هو كالأقنوم الإلهي يؤثر في الأذهان والمجتمعات ولا يتأثر بها‏[18].

ثالثاً: نقد محمد أركون المعرفي بعض الأعمال الاستشراقية

بعد أن تناولنا الانتقادات المنهجية التي وجهها أركون إلى الخطاب الاستشراقي، ننتقل إلى دراسة بعض مواقف أركون النقدية من بعض الأعمال الاستشراقية التي ذكرها في أعماله الفكرية، ونجمل القول فيها كما يأتي:

1 – نقد المنهج الوصفي التاريخي في دراسة التراث في الأعمال الاستشراقية

من النماذج التمثيلية للاستخدام المكثف للمنهج الوصفي التاريخي في الدراسات الاستشراقية، أعمال المستشرق الألماني جوزيف فان إيس. ورغم إشادة أركون بعمله الإبداعي اللاهوت والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة، إلا أنه انتقده في الاستخدام المبالغ فيه للسرد التاريخي الوصفي، حيث يرى أركون أن: «جوزيف فان إيس لا يتجاوز حدود التاريخ الوصفي أو السردي للعقائد المطروحة (أي عقائد الفرق الإسلامية المختلفة)، ولكن الميزة الأساسية لمشروع فان إيس تكمن فيما يأتي: لقد قدم لنا درساً رائعاً في إسباغ الصيغة التاريخية على الفترة التأسيسية للفكر الإسلامي»‏[19].

صحيح أن فان إيس استخدم المنهجية الفيلولوجية باقتدار وتميز، وقدم دراسة صبغت التاريخية على التراث الإسلامي، لكن أركون رأى أن فان إيس لم يبحر بعمق معرفي في هذا التراث، نتيجة لتبنّيه موقفاً سلبياً تجاه واقع المسلمين. وبرأي أركون أن موقفه هذا نابع من خوفه من غضب جمهور المسلمين، فنلاحظ أن هذا العالم المؤرخ «يحاول جاهداً أن يدفع عن نفسه تهمة التدخل في شؤون المسلمين، وذلك بحجة أنه باحث غير مسلم، وبالتالي فلا يحق له التدخل في الشؤون الداخلية للمسلمين، وبالتالي لا يحق له التدخل في المناقشات اللاهوتية أو التفسيرية أو السياسية للإسلام، وهو يعلن ذلك أكثر من مرة، وبكل إلحاح، يعتقد أنه سوف يتحاشى غضب المحافظين أو الأصوليين الإسلاميين الذين يصبون جام غضبهم على المستشرقين»‏[20].

ويرى أركون أن البعد المنهجي الأكاديمي للأعمال الاستشراقية كعمل فان إيس مهم من الناحية المعرفية، لكن لا ينبغي أن يكتفي «الباحث بالتبحر الأكاديمي أو بتجميع المعلومات، وإنما ينبغي عليه أن يفكر في الصلاحية الإبستيمولوجية لهذه المعلومات، والاستخدامات المؤمنة التي قد تعرض لها من قبل الفاعلين الاجتماعيين المتنافسين دائماً على لعبة إنتاج المعنى ورهانات الإنتاج»‏[21].

2 – نقد أركون التوحيد الأيديولوجي الديني للمشرق الإسلامي

إن الملاحظة المنهجية الدقيقة التي وجهها أركون للأعمال الاستشراقية، هي قضية توحيد كل الموضوعات التي يدرسها المستشرقون تحت مسمى الإسلام، وكأنها صفة اختزالية للشرق بتنوعه وتعدده وثرائه الفكري والإثني والأنثروبولوجي، «فمن نافل القول إن جميع علماء الإسلاميات السابقين واللاحقين وأياً كان اختصاصهم قد فرضوا استخدام المصطلحات التالية: إسلام، إسلامي، مسلم، وعاملوها على نطاق جغرافي واسع جداً ومليء بالفئات العرقية – الثقافية الشديدة التنوع والاختلاف»‏[22].

من هذه الرؤية الاختزالية لجغرافيا الشرق الإسلامي، بتعدده اللغوي والإثني ومختلف أنظمته السياسية والثقافية، يتم دائماً النظر إلى الشرق تحت مسمى الإسلام، «فإننا نجد المستشرق ينساق بسهولة لتطبيق اسم الإسلام ومشتقاته عليها، هذا في حين أنها تحوي أشياء أخرى عديدة غير الإسلام وعقائده، أو قد يطبقون عليها اسم الشرق، أو العرب، وهي كلمة يطابقون بينها وبين الإسلام في الاستخدام العادي، لكأن جميع العرب مسلمون، أو لكأن جميع المسلمين عرب..»‏[23].

ويبرر المستشرقون هذا الاستخدام الفضفاض والعفوي لكلمة الإسلامي على كل مجتمعات المنطقة، بحجة واهية معرفياً من منظور أركون، بدعوى أن الإسلام أثر في كل شرائع ومؤسسات هذه المجتمعات، لأنها حجة تنساق وراء الخطابات الرسمية التي حددت نموذجاً مثالياً لتلك المجتمعات التي توصف بالإسلامية في حين يتم غض النظر عن المهمشين واللامفكر فيهم.

ومن الأمثلة البيّنة على هذا النوع من التصور الاستشراقي للتوحيد الديني لتاريخ المجتمعات التي وصفت بالإسلامية، عمل الباحثة مايا شاتزليمر، في كتابها مفهوم العمل في العالم الإسلامي القروسطي، بحسب أركون استخدمت الباحثة كلمة الإسلام في عملها البحثي لكون الإسلام هو السلطة السياسية التي حكمت بها في تلك الفترة، «وتبرر تطبيق النعت الإسلامي على جميع المناطق من طريق وجود سلطة سياسية وحيدة هي السلطة الإسلامية، وتقول بأن هيمنتها كانت مطلقة خلال الفترة التي درست فيها المجتمعات»‏[24].

وتضيف الباحثة كلمة الإسلامي لكل التوصيفات التي استخدمتها في الدراسة مثـلاً: الشرق الأوسط الإسلامي، النقود الفضية الإسلامية، … وكأن كلمة الإسلامي أصبحت التعبير السحري لكل التضاريس الثقافية للشرق الإسلامي، وكأنه نوع من التضخيم والتفخيم لا طائل منهجي من ورائه، حيث «يضخم المستشرقون من تأثير الإسلام إلى درجة أنهم يجعلونه يشمل كل شيء ويتدخل في كل شيء، وهكذا يحولونه إلى أقنوم هائل مهيمن يمكن عن طريق تفسير كل ما يحدث في العالم الذي انتشر فيه هذا الدين»‏[25].

ورغم بعض المحاولات المعاصرة التي بذلت من طرف باحثين غربيين، حاولوا تجاوز المنهجية الاستشراقية الكلاسيكية بتوظيف المنهجية الأنثروبولوجية التاريخية، إلا أنهم برأي أركون لا يزالون يستخدمون «كلمة الإسلام بالمعنى الأقنومي الضخم الذي يشمل كل شيء ويفسر كل شيء… فالإسلام بالحرف الكبير Islam لا يزال يعني لدى الكثير من الباحثين المستشرقين نطاقاً عقائدياً وثقافياً وحضارياً منفصـلاً ومتمايزاً عن كل ما عداه»‏[26].

ويُرجع أركون سبب هذا التوظيف الأقنومي لكلمة الإسلام بوصفها العامل الرئيسي الذي شكّل التراث الإسلامي، عدم انفتاح المستشرقين على الدراسات التاريخية المعاصرة التي تناولت المجتمع الأوروبي في العهد الوسيط، حيث إن المناقشات المنهجية والإبستيمولوجية «تظل نادرة في أوساط الاستشراق … ولولا أن هذه المناقشات حصلت لتنبه المستشرقون إلى أن علماء التاريخ المختصين بالقرون الوسطى الغربية لم يتحدثوا عن المدينة المسيحية كما يتحدثون هم عن المدينة الإسلامية… إلخ، ولا يستخدم علماء التاريخ هؤلاء مصطلح المسيحية إلا للدلالة على المجتمعات التي تهيمن عليها الأستاذية العقائدية المسيحية»‏[27].

ولا يتوقف أركون عن إلحاحه في دعوة المستشرقين للتخلي عن هذا التوظيف الأيديولوجي للدين في دراسة المجتمعات الشرقية، «فكان بالإمكان تجديد الدراسة على النحو الذي أدعو إليه لو أن المستشرقين قبلوا بالتخلي عن التحديد الأيديولوجي – الديني للشرق المدعو بالإسلامي أو للغرب المدعو بالمسيحي أولاً، ثم بالحديث المعلْمن لاحقاً، كان ينبغي أن يتخلوا عن هذه النظرة القديمة للأمور ويحلّوا محلها النظرة الجغرافية – التاريخية الخاصة بالبحر الأبيض المتوسط»‏[28].

3 – نقد العامل الاقتصادي والاجتماعي الذي يستخدمه المستشرقون في تفسير التراث والتاريخ الإسلامي

يتمثل النقد المنهجي الثالث الذي وجهه أركون للأعمال الاستشراقية بمحدودية تفسير التراث والتاريخ الإسلامي من خلال العامل الأوحد الاقتصادي والاجتماعي، فنجد «أن نصوص كلود كوهين هذه ونصوص رودنسون الأكثر توسعاً منها (وبخاصة كتابيه: محمد، والإسلام والرأسمالية) تتخذ أهمية كبيرة حقاً، لماذا؟ لأنها تبين لنا مدى أهمية تطبيق منهجية التاريخ الاقتصادي والاجتماعي على دراسة الإسلام، ثم محدودية هذه المنهجية بالذات، فعندما نتطرف في تطبيقها يحصل نوع من الانزلاق والخروج من الخط الصحيح وإطلاق الأحكام الخاطئة»‏[29].

فيرى أركون أن نزعة التخصص الدقيق لا تؤدي إلى نتائج علمية هامة عند دراسة التراث الإسلامي، لأن التخصص يؤدي إلى تجزئة الحقيقة الاجتماعية، «فهناك عدة اختصاصات داخل الاستشراق أو داخل علم الإسلاميات، وكل باحث ينغلق على نفسه داخل اختصاص واحد وينسى ما عداه، أي كل الاختصاصات المجاورة له، وهذا ما يفصله ليس عن الحقيقة الاجتماعية الكلية للمجتمعات الإسلامية، وإنما عن الرؤية التوحيدية للفكر والتي كانت سائدة في القرون الوسطى»‏[30].

ومن بين المستشرقين الذين انتقدهم أركون، منتغمري واط، رغم أنه يستخدم العامل الديني بدلاً من العامل الاقتصادي كما عند كلود كوهين، ورغم أن محاولته رآها أركون أكثر اتزاناً معرفياً، وحاولت أن تجمع بين البعد الروحي والبعد المادي في دراسة التاريخ الإسلامي، إلا أنه في الأخير وقع في نوع من التسطيح عندما اختزل دور العامل الروحي في الأيديولوجيا السياسية؛ «أقصد أنها ليست كافية تلك المسألة المتعلقة باختزال العامل الروحي (أو الديني بالمعنى العالي والتنزيهي للكلمة) إلى مجرد أيديولوجيا سياسية حزبية»‏[31].

في الأخير، يرى أركون أن الاستشراق الكلاسيكي يقصي من دائرة اشتغاله تأثير العامل الروحي في المجتمعات، بسبب سيطرة المنظورات الوضعية على باحثيه، الذين يختصرون الوجود كله بالبعد المادي. لذلك يرى أركون ضرورة تجاوز هذه المنهجية الاستشراقية الكلاسيكية التي «تظل مصرة على وضعيتها التي لا تهتم بالكشف عن الوقائع الثابتة والمادية التي يمكن التحقق منها، وبما أن الإيمان لا يشكل حقيقة مادية ملموسة فإنه لا يدخل في حساب المؤرخ النقدي على الطريقة الاستشراقية»‏[32].

رابعاً: حدود الاتصال – الانفصال بين الخطاب الفكري لمحمد أركون والخطاب الاستشراقي الكلاسيكي: أو نحو إسلاميات تطبيقية

بعد أن عرضنا لأهم الانتقادات التي وجهها أركون للخطاب الاستشراقي الكلاسيكي، الذي رفض وفقه المسشرقون الانفتاح على مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة، وظلوا يراكمون المعلومات حول التراث والتاريخ الإسلامي، مستخدمين منهاج الفيلولوجيا دونما القيام بعملية تفكيك ونقد إبستيمولوجي لها؛ لذا فالتساؤل المطروح: هل أركون من خلال نقده الاستشراق كتخصص معرفي أراد أن يوسع دائرة اشتغاله المنهجي والمعرفي، مستفيداً من مناهج العلوم الإنسانية؟ أم أن أركون سعى بحكم تضامنه مع طائفته الإسلامية ليؤسس لخطاب علمي حول تراث وتاريخ المجتمعات التي توصف بالإسلامية، لتتمكن من الولوج إلى الأزمنة الحديثة؟

تقتضي منا الإجابة عن هذا التساؤل، أن نحدد في البداية حدود الصلة بين الخطاب الفكري الأركوني والخطاب الاستشراقي، فمن خلال الخطاب الأركوني ذاته، كثيرة هي النصوص التي يمتدح فيها أركون الخطاب الاستشراقي كخطاب علمي ومعرفي أعاد الوصل بالمدوّنات التراثية الإسلامية، فهذا يعَدّ بحد ذاته ملمحاً إيجابياً يحسب للأعمال الاستشراقية، «ولنكن متواضعين في ذات الوقت، ولنعترف بمكتسبات العلم الاستشراقي وإنجازاته، فالعدل أو الإنصاف يفرض علينا ذلك، ولذا فإنني أحيي بكل اعتراف بالجميل جهود ومكتسبات رواد الاستشراق من أمثال يوليوس فيلهاويزين، وهوميير غيرم، وتيودور نولدكه، وفردريك شوالي، وقون ج. بيرغرايسر، وم. برافمان»‏[33].

ويذهب أركون إلى أبعد من هذا، حينما يتساءل «إلى متى يظل العقل الإسلامي يعادي الاستشراق ومكتسباته؟» فحتّام يستطيع المسلمون أن يستمروا في تجاهل الأبحاث الأكثر خصوبة وتجسيداً من الناحية الاستكشافية – المعرفية؟ قصدت بالطبع أبحاث العلماء الغربيين الذين يدعونهم المستشرقين، أقول ذلك وأنا أفكر بأبحاث نولدكه، وجوزيف شاخ، و.هـ. ا. جوينبول عن الحديث النبوي، وغيرهم كثير»‏[34].

ولا يقصد أركون، في دعوته إلى إحداث القطيعة الإبستيمولوجية مع الأعمال الاستشراقية الكلاسيكية، معاداة الاستشراق من منطلق أيديولوجي كما يفعل الكثير من الباحثين في العالم الإسلامي، بل مهمته معرفية بالأساس تقضي منه توسيع مجال الدراسات الإسلامية الكلاسيكية عن طريق توظيف منهجيات العلوم الإنسانية المعاصرة، «فقد يفهم من كلامي السابق أنني أريد تهديم الاستشراق أو المشاركة في المعركة الأيديولوجية ضده أو نكران الفضل له إذا كان القارئ قد فهم ذلك فإنه مخطئ حتماً في إدراك مقصدي»‏[35].

وأشاد أركون ببعض الأعمال الاستشراقية التي تتقاطع معه في المناولة المنهجية للتراث الإسلامي، حيث حظيت الباحثة جاكلين شابي بإطراء كبير من أركون، بعد إصدارها كتاب رب القبائل، إسلام محمد، ووجد أن أعمالها تتقاطع وتتطابق مع الاتجاه الذي يسعى إلى ترسيخه في دراسة التراث الإسلامي، المتمثل بأرخنة النصوص التراثية، والكشف عن جملة الظروف السياسية والاجتماعية التي ولدتها، «فأشعر بالسعادة فعـلاً لأن أشير إلى كتاب قيِّم مثل هذا، كتاب يمشي في الاتجاه الذي يرغب الباحث المفكر ويسعى إليه، إن كتابها يقدم المثال العملي المحسوس عن إمكانية تحقيق طرفة نوعية، إبستمائية وإبستيمولوجية، في الكتابة التاريخية عن القرآن»‏[36].

هذا على مستوى المدح الذي قدمه أركون للخطاب الاستشراقي، مما يجعل خطابه موصولاً بالخطاب الاستشراقي من هذه الزاوية، بينما على مستوى التشكي والعتاب من الخطاب الاستشراقي، فيمكننا الحديث منهجياً عن انفصال خطابه عن الخطاب الاستشراقي، فعمد أركون إلى تقسيم المستشرقين في عمله المركزي نقد العقل الإسلامي، ومن منطلق أيديولوجي محض لا تسنده أي مبررات معرفية ومنهجية، وإنما تسنده وجهة نظر ذاتية إلى الأصناف التالية:

1 – المستشرقون المتدينون، الذين يدافعون عن الفكر اللاهوتي، «فهناك المستشرقون الذين يدعمون التيارات المحافظة في الفكر الإسلامي باسم الدفاع عن القيم الروحية المشتركة ضد الهجمات الإلحادية والمادية»‏[37]، وبرأي أركون أن هذا التضامن الروحي من قبل المستشرقين ذوي النزعات اللاهوتية، يؤدي إلى إعادة الكشف عن النصوص المقدسة بدلاً من ممارسة النقد تجاهها.

2 – المستشرقون المتسكعون، أو ذوو التكوين العلمي والمعرفي المنحط والضعيف، وهؤلاء يقول أركون «بالكاد أن يتموا أطروحة دكتوراه تافهة، ثم يحتلون بعدئذ كرسي الأستاذية في الجامعة لفترة طويلة»‏[38]، فهل يمكن أن نعتد بأعمالهم في القيام بثورة منهجية في دراسة التراث الفكري الإسلامي؟

3 – المستشرقون المناضلون، وهؤلاء هم ذوو توجهات أيديولوجية ماركسية يبدون نوعاً من التعاطف مع المجتمعات التي توصف بالإسلامية، «وهناك المثقفون اليساريون المناصرون للعالم الثالث والمليئون بروح التسامح والمحبة للبلدان المستعمرة سابقاً»‏[39].

4 – المستشرقون من موظفي الإدارة أو الهواة، وهؤلاء يستحيل برأي أركون أن يستفيدوا من المعارف المعاصرة التي أتت بها العلوم الإنسانية في دراسة الشرق وتراثه، لذلك أعمالهم هي مجرد أعمال يغلب عليها الطابع العجائبي وسخرة الرشق.

من هذا المنطلق، دعا أركون إلى مشروعه البديل للاستشراق الكلاسيكي وسماه الإسلاميات التطبيقية، مسوغاً مبرراته التي توزعت بين النضال الفكري والرغبة في الاستفادة من مناهج علوم الإنسان، وحددها في:

أ – عودة الديني إلى المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وأصبح يحمل خطاب أيديولوجيا سياسية لحركات الإسلام السياسي، «لقد استرد الإسلام، كدين وتراث فكري، حيوية مطابقة لتسارع التاريخ في كل المجتمعات الإسلامية، إنه يلعب اليوم دوراً من الطراز الأول في عملية إنجاز الأيدولوجيا الرسمية»‏[40].

ب – التطور الذي عرفته العلوم الإنسانية في الحقل المعرفي الغربي، سواء على مستوى المناهج أو على مستوى المفاهيم، أدى إلى: «قلب شروط (ظروف) ممارسة الفكر العلمي في الغرب. ابتدأ الفكر الإسلامي يحس بالكاد بالضربات المعاكسة للهزات التي أخذت تولد الفكر الحديث في أوربا منذ القرن السادس عشر»‏[41].

وفق هذا المنظور النقدي، يرى أركون أن خطاب الإسلاميات التطبيقية متجاوز من جهة الخطاب الاستشراقي الكلاسيكي، ومن جهة ثانية متجاوز لبنية الفكر الإسلامي الكلاسيكي. وحشد أركون لمشروعه العديد من المناهج والمفاهيم والتصورات التي تنتمي إلى حقول معرفية شتى: الأنثروبولوجيا الدينية، وعلم النفس التاريخي وعلم الاجتماع، وغيرها، ودعا إلى تطبيقها، غير أن دعوته في الكثير الغالب لم تتعدَّ منطوق المنهج وتوصيفه، وتبيانه أهميته، إلى الممارسة التطبيقية لتلك المناهج في دراسة علمية محددة، يثبت من خلالها فعالية المنهج وفعالية ما يدعو إليه، من تحديث للخطاب الاستشراقي الكلاسيكي.

لذلك وتأسيساً على ما سبق، نتوصل إلى جملة من القضايا التي أثارها الخطاب الفكري الأركوني بتداخله مع الخطاب الاستشراقي الكلاسيكي. فأركون رغم نقده اللاذع للمناهج التي استخدمها الاستشراق الكلاسيكي إلا أنه اعتبرها ضرورية في بداية التأسيس للدراسة العلمية للتراث الإسلامي، وهذا أول خيط منهجي يصل خطابه بالخطاب الاستشراقي، فينبغي حسب أركون: «أن نعلم أن جميع المعارف والمعلومات المتبحرة في العلم وتراكمها لا تؤدي بالضرورة إلى توليد فكر نقدي أو إبداعي، أو تحريري، فإن تجميع المعلومات يشكل مرحلة لا بد منها، أي المرحلة الأولى من الدراسات العلمية، ولكن لا ينبغي الاكتفاء بها كما يفعل المستشرقون التقليديون أو الكلاسيكيون، وإنما ينبغي تجاوزها إلى منهجية التفكيك والتعرية الأركيولوجية والنقد الجذري لأنظمة الفكر التراثي»‏[42].

اعتمد أركون في بعض الدراسات حول الظاهرة أو الحدث القرآني، على نتائج بعض المستشرقين، في التأسيس المعرفي والمنهجي لموضوعه العلمي، حيث «إن موقف أركون السلبي من الإسلاميات الكلاسيكية أو التقليدية لا يتعارض البتة مع موقفه الإيجابي مما أنتجه المستشرقون من بحوث، عد بعضها فتحاً لم يتم بعد تجاوزه رغم مرور زمن طويل على كتابته؛ لأن انتقاده لمنهجهم كان بدافع حثهم على تبني ما استجد من مناهج»‏[43]، فمثـلاً يكرر أركون نفس الكلام للمستشرق الفرنسي «ريجي بلاشير» عن قضية كتابة وتدوين القرآن الكريم، فيكرر «مزاعم عدد من المستشرقين في موقفهم من القرآن الكريم ومنهم المستشرق الفرنسي «ريجي بلاشير» والذي ينفي كتابة القرآن الكريم قبل الهجرة، وأن مرحلة حفظ القرآن في صدور المسلمين قبل الكتابة استمرت عشرين سنة، وأن جمع القرآن على حد زعمه حدثت فيه أخطاء كثيرة»‏[44]، «إن مفهوم الوحي في السياق القرآني قبل انتشار «المصحف الرسمي المغلق» كان أكثر اتساعاً من حيث الآفاق والرؤية الدينية مما آل إليه بعد انغلاق الفكر الإسلامي داخل التفسير التقليدي الموروث عن الطبري ومن نقل عنه إلى يومنا هذا»‏[45].

وفي رد أركون على بعض الدراسات الفكرية العربية التي كشفت عن البعد الإمبريالي للخطاب الاستشراقي، وعن توظيفه من طرف الدوائر السياسية الغربية لخدمة مصالحها ومخططاتها الاستعمارية، فإنه يؤكد أن هذه الخطابات الأيديولوجية يجب أن نتجاوزها، ويجب العمل على ترجمة الأعمال الاستشراقية ومناقشتها للإفادة منها، «فلم يعد ممكناً اليوم أن نتكلم عن الاستشراق والمستشرقين كما كنا نفعل حتى السبعينيات من القرن العشرين، وذلك من أجل رفضهم وإدانتهم والإعراض عن إنتاجهم العلمي، بل يجب علينا أن نقوم بترجمة أهم الأعمال المخصصة للدارسات الإسلامية، والتي ينتجها هؤلاء المستشرقون الأكاديميون بالذات، وذلك لكي نتمكن من مناقشتها على أسس علمية موضوعية لا على أساس أيديولوجي وعقائدي»‏[46].

إذاً، تحدد هذه الخطوات المنهجية الثلاثة صلة الخطاب الأركوني بالخطاب الاستشراقي، لنصل إلى اعتبار أن خطابه عبارة عن تحديث للمنظومة المعرفية الاستشراقية، ولم يسهم بشكل أو بآخر في تحديث الفكر الإسلامي، فجل النتائج التي توصل إليها عن تاريخية النصوص التراثية سبقه إليها المستشرقون الذين وصف أعمالهم بالكلاسيكية.

على سبيل الختم: نحو أفق جديد للاستشكال

إن أهم النتائج التي توصلنا إليها في هذه المقالة عن طبيعة التداخل المعرفي والمنهجي بين الخطاب الاستشراقي والخطاب الفكري لمحمد أركون، نوجزها في:

– لم تعد برأي أركون المناهج الفيلولوجية اللغوية التي استخدمها المستشرقون تفي بالغرض العلمي في دراسة التراث الإسلامي، لذلك من الضروري أن ينفتح الخطاب الاستشراقي على مناهج العلوم الإنسانية المعاصرة، ليكشف عن طبيعة النظام المعرفي الذي خضع له هذا التراث الإنساني.

– لم تعد كافية برأي أركون عملية التبحر الأكاديمي التي قام بها كبار المستشرقين، فتتمثل المهمة الثانية بعد مراكمة المعلومات حول التراث في النقد الإبستيمولوجي له، وهي الخطوة التي لم يتحمس لها المستشرقون بسبب تخوفهم من رد فعل الجمهور الإسلامي، لذلك تكون نتائجهم مطابقة لنفس المسلّمات التي يرددها الخطاب الإسلامي، إضافة إلى توحيد المستشرقين الشرق بإثنياته وتعددية دياناته في مصطلح الإسلامي، وفق عملية اختزالية لا تقدم رؤية صحيحة عن الشرق وتراثه.

– إن الانتقادات التي قدمها أركون للخطاب الاستشراقي لا تعني أنه يقود معركة أيديولوجية ضده، كما فعل بعض المفكرين العرب، بل إن همه معرفي محض، وأنه سعى في مشروعه الإسلاميات التطبيقية الذي قدمه كبديل للاستشراق الكلاسيكي، للكشف عن تاريخية الفكر الإسلامي، وتاريخية نصوصه المقدسة.

– إن الخطاب الأركوني يتأسس في مجمله على النظام المعرفي الغربي، وفي أعمالهم التطبيقية يتأسس على نتائج الاستشراق الكلاسيكي، لذلك سعى أركون إلى تطوير الخطاب الاستشراقي، رغم زعمه أنه يناقض هذا الخطاب، لكن القارئ المتمرس يكشف أنه خطاب استشراقي معاصر بمدونات معرفية معاصرة ألسنية وأنثروبولوجيا ومقارنة الأديان.

– إن تشكي أركون في آخر مقالاته من عدم رواج أعماله في الغرب وعدم اهتمام المستشرقين بمشروعه، والمعارك الأيديولوجية التي خاضها – بزعمه – المفكرون العرب والاسلامويين ضده، تكشف عن حجم ومقدار الترهل الذي أصاب مشروعه، ومن هذا المنطلق نطرح بدورنا جملة التساؤلات التالية:

– إذا سلّمنا جدلاً مع أركون بتاريخانية التراث الإسلامي ونصوصه، فإننا نوجه التساؤل التالي للخطاب الأركوني: لماذا رفع خطابك من التنوير ومبادئه إلى الكونية، ولماذا أضفيت على التنوير صفة التاريخانية؟ أليس هذا نوعاً من الانتقال من متعالٍ إلى متعالٍ، ومن أسطرة تراث الماضي إلى أسطرة تراث الحاضر، فيعتبر أركون أن الحداثة الغربية هي الأفق الذي يجب أن نأخذ به، أليس من الواجب أن نقرأ الحداثة الغربية كتجربة بشرية ولدتها جملة من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

– إذا سلّمنا جدلاً مع أركون أن المعرفة تولدها الصراعات السياسية والسياقات الاجتماعية، وأن الفقه الإسلامي ولدته الفرق السياسية التي ظهرت في العالم الإسلامي، لماذا لا نسائل أركون قائلين أنت عملت ودرست في جامعة السوربون العريقة، وهذه المؤسسة تابعة للدولة الفرنسية، أي أن خطاباتها المعرفية والفكرية تعكس الرؤية السياسية الفرنسية الغربية لمجمل القضايا الإنسانية، ومنه الخطاب الاستشراقي على حد تعبير إدوارد سعيد: «عبارة عن أدوات يستخدمها الغرب للسيطرة على الشرق»، لذلك رفضت هذه المؤسسة مشروع أركون الذي دعا فيه إلى إعادة تأسيس إبستيمولوجي للخطاب الاستشراقي يسهم في نهضة المجتمعات التي توصف بالإسلامية، أليس هذا نوعاً وضرباً من التناقض المنطقي الذي وقع فيه محمد أركون؟

– ضبابية تعددية المناهج التي دعا أركون إلى استخدامها في دراسة التراث والفكر الإسلامي: في ظل متغيرات التعليم المعاصرة التي تدعو إلى التخصص العلمي ليتمكن الباحثون من المناهج العلمية هل يمكن للباحث المسلم أو الغربي المختص في مجال الاستشراق أن يلم بكل العلوم الإنسانية: الأنثروبولوجيا، واللسانيات، وعلم اجتماع المعرفة، وعلم الاجتماع التاريخي، والأنثروبولوجيا الدينية، والسيميائية،…، أليست هذه عبارة عن دعوة لا أساس علمي لها؟ والتساؤل الثاني الذي يمكن أن نوجهه لأركون: هل هذه العلوم المتعددة التي وحدت بينها هي علوم متجانسة إبستيمولوجياً ومعرفياً ومنهجياً؟ أم أنها علوم تحوي في طياتها العديد من النظريات والمفاهيم المختلفة والمتناقضة، وتقف على أرضيات إبستيمولوجية متعددة (وضعية، هيرمونطيقية، ظاهراتية، بنيوية… إلخ)؟

– والسؤال الآخر الذي يمكن أن نوجهه لأركون هل أثمرت المناهج التي استخدمتها في دراسة التراث والفكر الإسلامي؟ فمعظم النتائج التي توصل إليها أركون سبقه إليها مستشرقون، وبعض النتائج لا مبرر معرفي ومنهجي لها كالقول بأن القرآن كتب في نسخ عديدة، تم إقصاؤها والإبقاء فقط على نص عثمان، لذلك خلط أركون في مشروعه الفكري بين النضال الفكري وتحيُّزه الإثني ونقمته من أوضاع مجتمعه الأصلي وبين البناء المعرفي السليم للعلم وشروط إنتاجه.