المؤلف: نائل جرجس

مراجعة: عبد الحسين شعبان‏[1](**)

الناشر: دار المشرق، بيروت.

سنة النشر: 2016

عدد الصفحات: 380

 

«آسف لم يكن لديّ الوقت لكتابة ملاحظات مكثّفة، فكتبتُ هذه المخطوطة». كان ذلك ما أجاب به فريدريك أنجلز رفيقه كارل ماركس، الذي طلب منه كتابة ملاحظات حول مخطوطة كان قد أرسلها له، فانتظر عدّة أشهر، ولكنه فوجئ حينما وصلته حزمة أوراق هي أقرب إلى «مخطوطة» مع رسالة من سطر واحد، لكنّها كثيرة الدّلالات وعميقة المعاني، ويتلخّص مضمونها باعتذار عن التّأخير، وكان السّببُ كما برّر هو «ضيق الوقت». هذا ما واجهته حين طُلب مني تقريظ كتاب «نائل جرجس» القيّم، لأنّ التركيز يحتاج إلى تكثيف وتـأمّل وتأنٍّ، أي يحتاج إلى «وقت» كافٍ، وهو ما افتقدته.

أستهلُّ كلامي من العنوان: «المسيحيّون في المشرق العربي: نحو دولة المواطنة»، وهو يتضمّن فكرة الوجود المسيحي وفي الوقت نفسه الدعوة الحثيثة إلى إقامة دولة المواطنة، ولكن لماذا المسيحيّون؟ ألأنّ استهدافهم في المشرق العربي بات قضية وجود؟ أم لأنّ وجودهم بحدّ ذاته أصبح قضية تتعلّق باستهداف الدولة الوطنية ذاتها مثلما يتعلّق الأمر بمستقبلها؟

فإلغاء الوجود المسيحي يعني هدم ركن أساس من أركان الدولة العصرية التي يُفترض بها أن تقوم على المواطنة، مثلما يعني حذف جزء مهم وأصيل من تاريخ مجتمعاتنا، ناهيك ببتره من حاضرنا، فـ «المسيحيّون ملح الأرض» كما قال السيد المسيح، وهم متجذّرون فيها وليسوا «أغراباً» أو «وافدين»، وهم أهل البلاد قبل مجيء الإسلام وبعده، بل شركاء فيها، كما ورد في القرآن الكريم: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾ (سورة مريم، الآية 34).

أتـوقّـف عند ذلك لأنني لا أريد أن يستغرقنا التاريخ، وليس القصدُ في ذلك إهماله أو نسيانه أو الافتئات عليه، حتى وإنْ كان التاريخ «مراوغاً» على حدّ تعبير هيغل، وإنما أفضّل مناقشة واقع الحال، علماً بأن التاريخ لا يكتبه المؤرّخون وحدهم، بل يكتبه الأدباء والفنانون حسب غوركي، لأنهم يشتركون في هواية الغوص في التفاصيل، لكنّها غواية البحث عن الحقيقة دون أدنى شك.

– 1 –

أنطلقُ في قراءتي لكتاب جرجس من بعض الاستنتاجات التي خـلُصَ إليها وحاول أن يدرجَها في خاتمة كتابه، التي تتناول عدداً من المفاهيم والأطروحات ذات الصّلة بالعنوان الفرعي الذي وضعه، والمقصود بذلك «دولة المواطنة»، وأهمّها: العلمانية التي يرى أنها «الحلّ الأمثل لتحرير المشرق العربي» واقْتَرحَ نموذجاً شبيهاً بالحالة التركية.

والديمقراطية ودولة القانون، إذْ كان غيابهما سبباً في تدهور الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي تنامي «التطرّف الإسلامي والإرهاب والعنف، الذي يحصد أرواح المسيحيين وغيرهم من المواطنين…»؛ وهي استنتاجات وردت في ثنايا الكتاب، وشكّلت خيطاً ناظماً لفصوله، وهو ما يحتاج إلى إضاءات ترتبط بخصوصية كل حالة وتجربة.

وهو يرى أن الديمقراطية «الضمانة المثلى لإرساء السّلام والعدالة…» إذْ إن «دمقرطة» الشرق الأوسط هي الأساس لتحقيق احترام حقوق «الأقلّيات» وضمان اندماجها في مجتمعاتها. كما يدعو إلى اعتماد «الديمقراطية التـوافقيّة» لأنّها «تمثيل فئات الشّــعب كافّــة وحتى تقاسم السّلطة بينها»، ويستبعد فكرة النظم البرلمانية ونظام الحكم الرئاسي لأنّهما لا يلبيّان ما يطمح إليه.

ووفقاً لكثير من التجارب يمكن اختيار «الديمقراطية التوافقية» لمرحلة انتقالية محدودة، أي لتجاوز مراحل الانتقال والتحوّل الديمقراطي، التي غالباً ما تكون عسيرة، كما أنّها قد تؤدّي إلى المحاصصة والتقاسم الوظيفي، الديني أو المذهبي أو الإثني أو غير ذلك، في حين أنّ حقوق الإنسان وحدها تؤدّي إلى نوع من «التضامن» في تلبية حقوق المجموعات الثقافية المشروعة، وهي التي يمكن أن تؤمّن الضمانات الضرورية، وخصوصاً في المجتمعات المتعدّدة الثقافات، لأنه حتى الديمقراطية التي هي في التعريف «المبسّط» حكم «الأغلبية» قد تقود إلى تهميش أو إقصاء مجاميع ثقافية، دينية أو سلالية أو لغوية أو غيرها.

أمّا في خصوص الحالة التركية «صلُـحت أم لم تصلح؟» فـإنّه لا يمكن تعميمها وإنْ كانت الإفادة من التجارب جميعها ضرورية ولكن من دون استنساخ أو تقليد، نظراً إلى اختلاف الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتطوّر التاريخي لكل بلد.

ويطرح المؤلّف موضوع الفدرالية وإنْ كان بتردّد، فهو معها لأنّها يمكن أن تحدّ من انتهاك حقوق المسيحيّين والحفاظ على هويّتهم وتعزيز حقّهم في تقرير مصيرهم، لكنّ الطّابـع الدّيني يمكن أن يتحوّل إلى نوع من التقسيم أو إلى نظام طوائف (لبنان مثالاً) ويستبعد الانفصال أو الاستقلال، وقد وجدتُ ذلك ملتبساً.

وبعد أن يسلّط الضوء على عدد من العناوين الخاصة بحقوق الإنسان وتطبيقات الفكر الإسلامي المعاصر على غير المسلمين، والمساواة في دساتير دول المشرق العربي، يستعرض بعض الخلاصات المهـمّة، منها: عدم تطوّر العقلية العربية المشرقية وانخفاض مستوى الوعي الحقوقي، وعدم تمـثّل مفاهيم الحداثة وطغيان الهـويّة الدينية على مبادئ المواطنة وعدم إقرار مبادئ المساواة، وهي خلاصات أجدُني متّفقاً معها.

ويـركّز المـؤلّف على عدد من الحلول التي نشترك معه في خطوطها العريضة، منها الإقرار بالتعدّدية وصوغ قوانين وتشريعات أحوال شخصية خالية من التّمييز، مع مراعاة الاتفاقيات الدولية وسنّ قانون زواج مدني (المقصود قانون موحّد)، وإنْ كانت الفكرة غير واضحة، لأنّه ربطها مع إمكان المحافظة على قوانين الأحوال الشّخصية لكلّ طائفة، ناهيك بمراجعة المناهج التعليمية والتّربوية وتحريم الحضّ على الكراهية والعنف، وهي مسألة جديرة بالاهتمام. ويمكن أن نضيف الدّور المهمّ والبارز الذي يمكن أن يقوم به المجتمع المدني كـ «قوّة اقتراح» و«مشاركة»، وليس «قوّة احتجاج» و«اعتراض» وحسب، إضافة إلى ضرورة «إصلاح الفكر الديني» وتنقيته من كل ما علق به من شوائب لا علاقة لها بالدين، كما ينبغي التمييز بين الدين والنصّ الإلهي والتفسير والتأويل الفقهي، فهذه الأخيرة من صنع البشر وهم خطّاؤون.

– 2 –

أرى أنّ الباحث في جهده المضني قد نجح في مقاربة عدد من الأطروحات والمفاهيم ذات العلاقة بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان، مستخدماً – على نحو متقن ودقيق – مصادر ومراجع مـهمّة ومعتمدة، في إطار منهجيّة وضعها لنفسه بأسلوب سلس ولغة متماسكة، ما يفتح الشهيّة لنقاش حقوقي ومعرفي وثقافي، في ما يتـعلّق ببعض المفاهيم التي طرحها مثل «الأقـليّة» و«الأكثرية»، وهي مصطلحات بحاجة إلى رؤية مـوحّدة إزاءها نظراً إلى ما تحمله من إغراض وقصدية حتى وإن استخدمتها «الأمم المتحدة» في «إعلان حقوق الأقـليّات» الصادر عام 1992 و«إعـلان حقوق الشعـوب الأصلية» الصادر عام 2007. هنا يمكن أن نُــدرج عدداً من التناظرات في ما يتعلّــق بالهويّة، بقدر ما يرتبط بالعنوان الذي نناقشه، فهناك هـويّة ثابتة وأخرى متحوّلة، وهناك هويّة ساكنة وثانية متحرّكة.

لقد توّلدت عندي قناعة منذ نحو ثلاثة عقود من الزمان عن عدم استخدام مصطلح «الأقليّة» و«الأغلبيّة» إلّا «مجازاً»، ولا سيّما بخصوص المجموعات الثقافية، ولا أقول «الأقلّيات»، لأنّها تستبطن ضمنيّاً عدم المساواة والهيمنة من جهة، والاستتباع والرّضوخ من جهة أخرى. وأفترض أنّها مصطلحات تصلح لتوصيف القوى والتجمّعات السّياسية والحزبية والكتل البرلمانية لا «المجتمعات المتعدّدة الثقافات»، لأنّ المسألة لا تـتعلّق بالعدد والحجم، إنّما لها علاقة بالحقوق المتساوية التي ينبغي أن تتـمتّع بها المجموعات الثقافية صغيرها وكبيرها، بغضّ النظر عن عددها.

هذا الأمر الذي توقّفتُ عنده باجتهاد حاولت أن أحاجج فيه بأكثر من محفل وبحث وكتاب، ويمكن الإشارة هنا إلى كتابين: الأوّل بعنوان فقه التسامح في الفكر العربي – الإسلامي: المواطنة والدولة، والثاني: أغصان الكرمة: المسيحيّون العرب، لما لتلك المصطلحات من دلالات وانعكاسات على مجمل النّظام السّياسي ومبادئ المواطنة التي تقوم على الحرّية والمساواة والعدالة والشّـراكـة والمشاركة.

أضف إلى أن ثـمّة هـويّة عـامّة أو شاملة وهـويّة فرعية أو خاصة. والهويّة سواء أكانت «أقلّـويّة» أو «أغلبـويّة»، فهي قد تكون مضطهَدة أو مضطهِدة! مثلما يمكن أن تكون الهويّة مفتوحة أو مغلقة، وتتوزّع الهويّات الفرعية أحياناً بين الإثنيات والأديان والسلالات واللّغات والأيديولوجيات.

– 3 –

سأحاول أن أضعَ سيناريوهات هي أقرب إلى الأوهام التي عاشت معنا في خصوص حلّ مسألة الهويّات، دينية كانت أو إثنية أو غيرها، إذْ لا أجد هناك حلولاً مطلقة أو نهائية أو سرمدية لهذه المسألة، لأنّها تشبه الكائن الحي في تطوّرها وتفاعلها، إذْ إنّها كالحقوق الإنسانية تتخالق على نحو لامحدود. وفي هذا المجال يطيب لي أن أشتبك ودّياً مع المنظومة المعرفية والحقوقية التي يتبنّاها المؤلّف اتّفاقاً وتمايزاً.

السّيناريـو الأوّل أو الوهم الأوّل: إنّ الدول الصّناعية والمتقدّمة والدّيمقراطية والعلمانية والليبرالية حلّت مسألة الهويّة، بإقرار مبادئ المواطنة، لكنّ مثل هذا الحل كان مبتوراً وظرفياً وغير متكامل، لأنّ حاجات الإنسان في تطوّر دائم، الأمر الذي يتطلّب تعميقاً وتطويراً تلبية لحاجات جديدة تعبّر عن الهويّة في حقب زمنية لاحقة.

السّيناريو الثّاني أو الوهم الثّاني: إنّ تحقيق المواطنة الكاملة والمساواة التامّة في الدول الديمقراطية العلمانية المتقدّمة ذات التوجّه الليبرالي، يدفع صراع الهويّات إلى الخلف، لكنّ ذلك، مثلما تُبيّن التّجربة، لم ينهِ الصراع أو الجدل أو التفكير في خيارات وبدائل لانبعاث الهوّيات الفرعيّة.

وهناك نماذج كثيرة مثل الصّراع بين الوالانيين والفلامانيين في بلجيكا على الرّغم من أنها دولة ديمقراطية وفدرالية وعلمانية والمواطنة المتساوية فيها محترمة، وكذلك رغبة كاتالونيا وإقليم الباسك في الانفصال عن إسبانيا ومقاطعة الكيبك عن كندا، واسكتلندا عن بريطانيا، وحساسيّات ومشاكل جنوب فرنسا وجنوب إيطاليا وغيرها، إذْ توجد نحو 20 مسألة تتعلّق بحقوق المجموعات الثقافية تنتظر حلولاً ومعالجات مُرضية في الغرب.

الفارق الأساسي بين مجتمعاتنا والمجتمعات الديمقراطية هو أنها تمتثل حكم القانون في حلّ خلافاتها، وهو ما سعى المؤلّف لإبرازه ونتّفق معه، أي أنهم يلجأون إلى السلم والاحتكام إلى الدستور وإلى التفاهم والتسويات الرّضائية، في حين أنّ النزاع لدينا ينتقل إلى الوسائل العسكرية والعنفية، وأحياناً يتمّ الاستقواء بأطراف خارجية تزيد اللوحة تعقيداً.

السّيناريو الثّالث أو الوهم الثّالث: اعتقادنا أنّ الدول الاشتراكية السّابقة حلّت مسألة الهويّة، حتى ظنّ البعض أنّ ألمانيا الديمقراطية أصبحت «أمّة منفصلة» عن الأمّة الألمانية، وهو ما تبنّاه دستورها في عام 1977 بحكم نظامها الاجتماعي، لكنّ هذا الوهم سرعان ما أثبت «قصر النظر»، وأدّى لدى فريق من الذين كانوا ينظرون إلى التجربة الاشتراكية بوصفها «قوّة مثل» و«نموذجاً رائداً»، إلى القنوط واليأس والإحباط، وخصوصاً بعدما اندلعت الموجة الدينية والطائفية، بكلّ بدائيّتها في كثير من الدول الاشتراكية السابقة، وقادت هذه إلى انقسامات وحروب طاحنة؛ فيوغسلافيا انشطرت إلى ستة أقسام والاتحاد السوفياتي إلى خمسة عشر قسماً، وانفصلت جمهورية تشيكوسلوفاكيا مخملياً إلى جمهورية التشيك وجمهورية السلوفاك، ولا تزال الحروب والصّراعات قائمة والحلول بعيدة المنال، كان آخرها بين روسيا وأوكرانيا، وخصوصاً في شأن شبه جزيرة القرم.

السّيناريو الرّابع أو الوهم الرّابع: إنّ صراع الهويّات ينحصر في العالم الثالث، لكنّ ذلك ليس صحيحاً بالكامل، فقد استطاعت بلدان «عالمثالثية» أن تجد طريقها الخاص إلى الديمقراطية وتجد حلولاً لقوميات وأديان ولغات متعدّدة، مثل الهند وماليزيا، اللّتين لهما هويّات موحّدة، مع الهويّات المتعدّدة الدينية والطائفية والإثنية والسلالية واللّغوية، المختلفة والمتعايشة والمتصالحة في الآن، من دون أن يختفي الصّراع أو الجدل المحتدم بينها، وهناك تجارب أخرى على هذا الصعيد، والمسألة مرهونة بنوع نظام الحكم من جهة، ومن جهة أخرى بالخيارات المجتمعيّة ودرجة التوافق الوطني والثّقافي، ووسائل التعبير عن الشعور بالتميّز والخصوصيّة.

السّيناريو الخامس أو الوهم الخامس: ترفُّعنا عن الخوض في المسألة الدينية وذيولها الطائفية، بزعم «علمانيّـتنا» وإيماننا بالهويّة الوطنية الجامعة، العابرة للطوائف والإثنيات، بوصفها الحلّ الأمثل، لكنّ ذلك لم يكنْ إلّا هروباً إلى الأمام وعدم مواجهة للمشكلة التي تعيش بيننا، حتى إذا ما استفحلت أصبحت الحلول المطروحة لمعالجتها شحيحةً ومحدودةً، وخصوصاً أنها استُثمرت من قوى خارجية إقليمية ودوليّة.

ويبقى النموذج «الداعشي» مثالاً صارخاً في استهداف المسيحيّين، ولا سيّما بفرض «التأسلم» عليهم أو مطالبتهم بدفع الجزية أو الرحيل، وإلّا فإنّ القبور المفتوحة تنتظرهم. وذلك جزء من مخطّط بعيد المدى يسعى منذ عقود لتفريغ المنطقة من أهلها الأصليّين ليتحكّم أصوليّوها، ابتداءً من فلسطين مروراً بلبنان والعراق وسورية ومصر وغيرها. فداعش ودولة الخلافة «الخالصة» هي الوجه الآخر لدولة «إسرائيل» اليهودية «النقية».

– 4 –

والآن، لماذا يُستهدف المسيحيّون وهل حقّاً هم «أقليّة»؟

تقف عدّة أسباب خلف استهداف المسيحيّين وتتزامن مع نشوء تيار «أصوليّ» متطرّف ومتعصّب، سواء اتّخذ اسم تنظيمات «القاعدة» أو «داعش» أو «جبهة النصرة» (جبهة فتح الشام) أو أي مسمّى آخر، وواكبه احتلال العراق وما تركه من ردود أفعال على شعوب المنطقة.

السّبـب الأوّل: دفع المسيحيّيـن إلى الهجرة لترسيخ الاعتقاد السّائد – وخصوصاً لدى المجتمعات الغربية – بأنّ المسلمين لا يريدون العيش مع المسيحيّين في دول المشرق، وجوهر المشكلة هو تعـصّبهم وتطرّفهم حتى مع سكان البلاد الأصليّين. هذا ما تروّج له الصهيونيّة العالمية، وقد لقي صداه في الغرب إلى درجة أنّ هناك «رُهاباً» من الإسلام وهو ما يُطلق عليه «الإسلاموفوبيا».

السّبـب الثّانـي: تمزيق النّسيج الاجتماعي لمجتمعات وشعوب أصيلة ومتجذّرة في تعايشها وشراكتها، الأمر الذي سيؤدّي إلى مضاعفة أسباب الهجرة. وهنا تبرز مسألة معالجة «الاندماج والإدماج» التي تحدّث عنها جرجس، والتي ربطها بفكرة المواطنة.

السّبـب الثّالث: إظهار عدم التّعايش «الإسلامسيحي» في الشرق، وهو ما يعني عدم رغبة المسلمين في التعايش مع الغرب المسيحي، حيث يوجد ما يزيد على 15 مليون مسلم يعيشون في أوروبا وأمريكا وكندا وغيرها، وهو ما يثير مشكلات تتـعلّق بالهويّات وتفاعلها.

السّبـب الرّابع: تشويه صورة العرب والمسلمين في شأن الأديان الأخرى، والدليل محاولة «استئصال» المسيحيين، وهو ما تتعـكّز عليه «إسرائيل» مستفيدة في دعايتها السوداء من الأعمال الإجرامية لداعش والجماعات الإرهابية، لأنّها تدّعي أنّ صراعها مع العرب والمسلمين هو صراع دينيّ تناحريّ إقصائيّ لا يمكن حـلّه. وبما أنّ المسلمين يزيد عددهم على مليار ونصف المليار إنسان، فهذا يعني أنّهم يريدون «استئصال» اليهود من الوجود.

وتستهدف «إسرائيل» من وراء ذلك استدرار العطف من جهة وكسب الغرب والعالم إلى جانبها من جهة أخرى، بوصفها «ضحية».

وهكذا يختفي بطريقة مبرمجة ومدسوسة الجانب العنصري الصهيوني المتعصّب في الصراع مع العرب ليصبّ في مصلحة «إسرائيل»، التي تغتصب الأرض وتطرد سكانها الأصليين وتمارس العدوان منذ قيامها وحتى يومنا.

السّبـب الخامس: ضيق هامش الاعتراف بالتنوّع والتعدّدية وادّعاء الأفضليات والزعم باحتكار الحقيقة، وبالطبع شحّ مساحة الديمقراطية في الوطن العربي وتدنّي مستوى الحرّيات العـامّة والشخصية، ما شجّع على خلق بيئة خصبة لنمو العنف والإرهاب والاستبداد، حيث تجد التنظيمات الإرهابية ضالّتها في استهداف الآخر، ولا سيّما المسيحيين وأتباع الأديان الأخرى.

السّبـب السّــادس: استنزاف طاقات علميّة وفكريّة وفنيّة وأدبيّة يمتلكها المسيحيون، فضـلاً عن كفاءات اقتصادية واجتماعية هائلة تشكّل الموزاييك المجتمعيّ والتنوّع الطائفي. وفي ذلك خسارة كبرى لشعوب المنطقة وطاقاتها البشرية وإضعاف لدولها الوطنية.

السّبـب السّابـع: إضعاف التضامن المسيحي الدولي مع شركائهم المسلمين في الشرق، وتحديداً في ما يخصّ القضية الفلسطينيّة، علماً أن مسيحيّي الشرق، وخصوصاً الذين يعيشون في الفاتيكان قد دافعوا عن عروبة فلسطين بقوّة وجدارة، وقد رفض الفاتيكان حينها قرار التّقسيم الرقم 181 الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، وهو ما ورد على لسان رئيس أساقفة نيويورك سبلمان (Spelman) انطلاقاً من فكرة أنّ أرض فلسطين كلّها مقدّسة بالنّسبة إلى المسيحيّة، وذلك بعد إعلان بريطانيا انتدابها على فلسطين وإحالة القضية على الأمم المتحدة. وهنا أستحضر الموقف الريادي للمطران كبوجي.

– 5 –

خلاصة القول: كان المسيحيّون وسيبقون جزءاً من النّسيج الاجتماعي والسّياسي والتاريخي لبلدان المنطقة وشعوبها، ولعلّ واحداً من سرّ جمال التكوينات الثقافية العربية، ولا سيّما للمشرق العربي، هو التنوّع والتعدّدية التي عرفها. لكنّ المنطقة، ولأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، شهدت هجرة مسيحيّة في العقود الأخيرة الماضية، وإذا كان المسيحيّون قبل نحو قرن من الزمان يؤلفون نحو 20 بالمئة من سكان المنطقة، فإنّهم اليوم أقل من 5 بالمئة وقد تتراجع نسبتهم كلّما ارتفعت موجة العنف والإرهاب التي تدفعهم إلى الهجرة، وخصوصاً مع تزايد درجة معاناتهم وشعورهم بالاستلاب.

وقد حاولت «إسرائيل» منذ احتلالها فلسطين التركيز على تهجير المسيحيّين، وفصلهم عن المسلمين، بهدف تفريغ الوطن منهم بزعم أنّ الصراع ديني وهو بين المسلمين واليهود، وليس صراعاً كيانيّاً حقوقيّاً يـتعلّق بشعب احتُـلّت أراضيه، وبين مغتصب ومستعمر استيطاني إجلائي.

وحين أقول إنّ المسيحيين ليسوا «أقليّة» فلأنّ أغلبيتهم عرب، وهؤلاء بالطبع «أغلبية» في بلدانهم، كما أنّ الأكثرية السّاحقة منهم ترى أن الرابط العروبيّ، وخصوصاً اللّغة العربية، هو الذي يجمعهم بأوطانهم وبشركائهم، ناهيك بدورهم التنويري والحداثوي ومساهمتهم في نضال أمّتهـم وشعوبها من أجل انبعاثها الحضاري.

«المسيحّيون في المشرق العربي» موضوع راهني ومستقبلي، لأنّ معالجة قضايا التنوّع والتعدّدية وحقوق المجاميع الثقافية ترتبط بصميم المواطنة ودولة القانون والحقّ. وهو ما حاول نائل جرجس عرضه بتقديم رؤى وتصوّرات وطرح حلول وإجابات، وإن تغـلّب فيها السياسي أحياناً على الحقوقي، وهو ما يثير أسئلة متشابكة ومـعقّدة، بقدر تعقيدات الواقع العربي، بحاجة إلى حوار معرفي وموضوعي، بحيث تنسجم المقدّمات النظرية الحقوقية مع الاستنتاجات العملية ولا يترك للأحكام المسبقة أن تأخذ طريقها في إطار البحث العلمي. ويتطلّب الأمر تكوين رأي عام مجتمعي يؤمن بالمشترك الإنساني ويقرّ بمبادئ المساواة والعدالة والشراكة في فضاء من الحرّية، كيما تصبح مبادئ المواطنة ملزمة على صعيد الدولة والمجتمع.