«هذا الجسد الذي هو لي. هذا الجسد الذي ليس لي. هذا الجسد الذي هو، على الرغم من ذلك، لي. هذا الجسد الغريب. إنّه مسقط رأسي وخيمتي وملجئي الوحيد. عليّ إعادة غزوه وإرجاعه لي من جديد».

إدجاين هفرارد

Jeanne Hyvrard in «la Meurtritude»

مقدمة:

من وجهة نظر سوسيولوجية، يمكن لنا القول إنّ التّنمية لا تقاس بمستوى معدّلات النموّ وبارتفاع نسبة الإنتاج والإنتاجيّة فحسب، وإنما كذلك وفي ذات الحين بتأسيس مواطنة تعترف أولاً وقبل كل شيء بإنسانية الفرد وحقه في التمتع بالحقوق كافة التي نصّت عليها كل المواثيق العالميّة الكافلة لحقوق الإنسان، والتي يأتي على رأسها الحق بحياة آمنة ومستقرّة في الأسرة والعمل والمجتمع. فلا تنمية بلا مواطنة، ولا مواطنة من دون أن يتمتع الفرد – إمرأة كان أم رجـلاً – بهامش من الحرية والاستقلالية تمكنه من المشاركة في تسيير الحيّ. ولا يمكن لهذه الاستقلالية أن تمارس على الأرض من غير تأسيس جادٍّ لمنظومة حقوقيّة تناهض العنف الموجَّه ضدّ المرأة، وتعتبره انتهاكاً مباشراً لإنسانيتها.

تتصدّر اليوم مشكلة العنف ضدّ المرأة إحدى أكبر أولويات النشاط الإنساني والحقوقي منذ أن أصبح هذا الموضوع يعدّ مؤشراً تتجلى فيه كل أشكال القهر وعدم التكافؤ بين الجنسين في ظل توزيع غير عادل للثروات والسّلطة والعمل والمعرفة بين الرّجال والنّساء.

إنّ مثل هذا العنف يبدو وكأنّه السبب والنتيجة في ذات الحين لتوسيع الفوارق بين الجنسين. وهو يبدو في الآن ذاته الوسيلة والأداة والمظلّة لصناعة امرأة خاضعة، قانعة، مهدورة، مسجونة في الفضاء الخاص، مغيَّبة تماماً عن الشأن العام وعن صناعة القرار وعن الصراع القائم بين القوى الفاعلة في حلبة الصراع الاجتماعي.

من هنا يصبح البحث في هذه الإشكالية ضرورةً ملحّةً، لا ترفاً فكرياً لنساء الطبقة البرجوازية أو البرجوازية الصغيرة كما يدّعي البعض؛ لا بل إنَّ الصمت عن مسألة بهذه الأهمّية وبهذه الخطورة يُصبح بحدّ ذاته نوعاً من العنف. فالصّمت عن العنف هو في ذاته، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، إقرار ضمنيّ له، ومحاولة واعية أو غير واعية لتكريسه وشرعنته وتطبيعه بطريقة أو بأخرى.

هذه إذاً هي إشكالية بحثنا في هذه الدراسة. فما هي أهمّ ملامح هذه المرأة المعنّفة في الأردن؟ ولماذا يُسلّط العنف على المرأة دون الرجل كما يسلّط على الأطفال وعلى الفقراء والمستضعفين والسّود والمهاجرين أكثر ممّا يسلط على الطبقات العليا من النبلاء والبرجوازية وأصحاب النفوذ؟ وفيمَ يتمثّل هذا العنف؟ وما هي أوجهه؟ وما الغاية من ورائه؟ ومن المستفيد منه من القوى الفاعلة في الصراع الاجتماعي في آخر المطاف؟

للإجابة عن هذه الإشكالية، ارتأينا أن نوجّه البحث إلى ثلاث واجهات.

على واجهة أولى، سنحاول أن نبحث في المسألة نظريّاً. ونحن لا نعني بالنّظرية الوقوف على أفكار عامة غير قابلة للترجمة إلى أبعاد يمكن أن نقيسها على الأرض. فالعمل النظري هو عمل يمكن بواسطته أن نرى المسألة أكثر وضوحاً. وهو عبارة عن محاورة بالمعنى البختيني للكلمة؛ أي بعبارة أخرى عن سجال بين باحثين جادّين لإنارة السبيل وتسيير الفهم. من هذا المنطلق سنخصّص هذه الواجهة للقيام بمحاورة مع بعض المفكرين الباحثين المتميزين الجادّين المختصّين في موضوع العنف وفي موضوع الجندر بغية أن نحدّد ماذا نقصد بمفهوم العنف وماذا نقصد بالهوية الجندرية كهوية مفروضة على المرأة بالقوّة. كما سنقوم بعرض قصير للدراسات السابقة عن موضوع العنف ضد المرأة في الأردن، وذلك بهدف الإضاءة على بعض جوانب واقع هذه الإشكاليّة في مجتمع الدراسة.

على واجهة ثانية، سنحاول أن نبيّن منهج البحث الذي سنقتفي أثره في هذه الدراسة. ونحن لا نعني هنا اختزال المنهج في التقنيات وأدوات القياس فقط. فالتقنيات وأدوات القياس ليست سوى تبعات للمنهج ونتائج أو ملاحق له، إذ إن المنهج هو الرؤية أو الفلسفة أو وجهة النظر التي يتمّ بواسطتها ومن خلالها بناء الموضوع. «إنّ وجهة النظر هي التي تخلق الموضوع» هكذا يفتح فيردناند سوسير دروسه في الألسنيات العامة (شنوقة، 2008).

هذا يعني أن الموضوع في الإنسانيات لا يوجد إلّا من خلال وجهة النظر هذه التي أشار إليها سوسير والتي من دونها لا يمكن بناء الموضوع. من هنا جاءت أهمية بيان وتوضيح وتعرية وجهة النظر التي ننتمي إليها، أو المدرسة السوسيولوجية التي نقتفي أثرها ونقف وراءها. في هذه الواجهة سنبين لماذا نحن في هذه الدراسة انتمينا إلى التيار أو المنهج الديناميكي دون غيره، وكيف أنّا تبنّينا لهذا المنهج جعلنا نعتمد في عملية القياس على الجماعات المركّزة وعلى المقابلات شبه الموجهة (Semi Structured)، دون غيرها من الأدوات والآليات، ثمّ لماذا وقع اختيارنا على الزرقاء والمفرق دون غيرهما من مدن الأردن الأخرى.

على واجهة ثالثة وأخيرة سنحاول الاستماع إلى مقاطع دالّة من المقابلات، أو من خطاب الجماعات المركزة (Focus Groups) التي قمنا بها في العمل الميداني. وهي محطة أساسية لأنّ لا أحد يستطيع أن يعوّض كلام المبحوثين أنفسهم. ثمّ سنسعى في ذات الحين لتحليل هذا الخطاب أي لإرجاعه إلى القوى الفاعلة والظروف الاجتماعية التي أنتجته لنرى ما الذي يُراد قوله وما الذي يُراد طمسه من خلال هذا الخطاب حول موضوع العنف المسلّط على المرأة.

أولاً: تحديد مفهوم العنف ضد المرأة

في هذا الجانب النظري، علينا أن ندقّق النظر في مسألتين أو في مفهومَين أساسيَّين وهما مفهوما العنف وهوية المرأة المعنفة.

1 – تحديد مفهوم العنف

يحاول الحسّ المشترك – الذي عادة ما يتبنى الفكر المهيمن ويردّد في أغلب الأحيان خطابه – حملنا على الاعتقاد بأن العنف هو لغة الطبيعة وليس لغة الثقافة. فالعنف، حسب الرأي العام، هو لغة من لا ثقافة لهم. ومن لا تاريخ لهم ومن لا رؤية لهم. بالنسبة إلى الحس المشترك، هؤلاء هم على وجه الخصوص «البدائيون المتوحشون» نترجم: البدائيون، بالنسبة إلى الحسّ المشترك، هم، تحديداً، البدو والمزارعون والعمال والمهاجرون والمستضعفون عموماً بما في ذلك النساء.

ستتصدّى الأنوار بشراسة لهذه الرؤيا المهيمنة. وأوّل ما يتصدى لها هو جان جاك روسّو في كتابه خطاب في اللامساواة بين البشر يبيّن روسّو أنّ اللامساواة والاستغلال والاستبداد والعنف ليست لغة الطبيعة، وليست لغة من هم أقرب إلى الطبيعة، بل هي لغة الحضارة ولغة الثقافة ولغة أصحاب السلطة والمال والجاه (العلوي، 2005).

فلاسفة الريبة والشك، نعني ماركس ونيتشه وفرويد عملوا، كل بطريقته، على تدعيم هذه الفكرة الرائدة لروسو. يرى ماركس في كتابه مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي أن العنف لا يأتي من الطبيعة بل من نمط الإنتاج ومن التشكيلة الاجتماعية. فالعنف هو نتيجة للتوزيع غير المتكافئ للثروات والسلطة، ونتيجة أيضاً للتقسيم الاجتماعي للعمل بين مالكي وسائل الإنتاج وغير المالكين لها وبين النساء اللاتي يقمن عادة بأعمال اليد والرجال الذين يهتمون عادة بأعمال الفكر (Marx, 1971).

نيتشه بدوره يؤكّد هو الآخر أن العنف لا يأتي من الطبيعة بل هو نتيجة للسلطة والخطاب والمعرفة؛ إذ إن من يملك السلطة هو الذي يتكلم. جينيولوجيا الأخلاق والذي يتكلم بقوّة هو الذي يخلق ويبدع. ومن لا سلطة له لا صوت له ولا حقيقة له ولا وجود له. فالسلطة عنف موجه لخلق الحياة والإبداع والحقائق على الأرض (شيحة، 2015). على واجهة أخرى شدّد فرويد في كتابه قلق في الحضارة هو الآخر على فكرة روسّو مبيّناً أن العنف لا يأتي أبداً من الطبيعة ومن الغرائز الكامنة فينا بل من الثقافي الذي كان وراء وضع الحدود والقوانين والممنوعات وما ينتج منها من كبت وتسامٍ وحلم وإبداع وأمراض عقلية (فرويد، 1995).

هذه المقاومة الشرسة لمحاصرة الرأي العام وإرجاع العنف لا إلى الطبيعة بل إلى الثقافة، هذا المدّ الهائل من روسّو إلى ماركس إلى نيتشه إلى فرويد سيكون منطلقاً لفوكو لإعادة تعريف المفهوم وإحداث منعطف كبير ورجّة هائلة في هذا المجال. فما هي الإضافة التي قدّمها فوكو؟

بطبيعة الحال، لم يأتِ فوكو بجديد عندما أكد في كتابه المعاقبة والمراقبة (Discipline and Punishment) أن العنف وجه من وجوه السلطة ووجه من وجوه الخطاب. ولكنّ الجديد في هذا الكتاب هو أن يبيّن فوكو أن للعنف وجوهاً تختلف باختلاف وجوه السلطة ووجوه الخطاب. في هذا الكتاب يركّز فوكو على نوعين من العنف: عنف تتميّز به المجتمعات الغربيّة قبل الثورة الفرنسية. وعنف آخر حلّ محلّ الثاني في هذه المجتمعات بعد الثورة. ففي عهد النظام الملكي، اعتمدت السلطة أساساً على العقاب. كل من حاول إلحاق الضرر بالشأن العام الذي كان يمثل جسد الملك، كان لا بدّ من أن يعاقب عقاباً شديداً. فيُهان جسده أو يعذب وفي الحالات القصوى يعدم شنقاً أمام الجميع في احتفال حاشد يقام في الساحات العامة ليكون عبرة لمن يعتبر.

منذ بداية القرن التاسع عشر، هذا النوع من العقاب لم يعد مجدياً لسببين: الأوّل قد تتعاطف الجماهير مع الذي سيقع إعدامه، فينقلب الاحتفال من تدعيم للسلطة إلى ثورة عارمة ضدّها. السبب الثاني هو أن النظام الجمهوري الذي حلّ محلّ النظام الملكي لم يعد يعتمد على العقاب بقدر ما يعتمد على المراقبة. هذا النظام الجديد لا ينصب المشانق في الساحات العامة بل يقيم ما يسميه فوكو «السجن الكبير» (The Great Confinment) لمن يعارض السلطة، وذلك ببناء ثكنات ومعامل ومدارس ومستشفيات ومصحّات وكنائس لتأديب وترويض وإدماج من كان خارج النظام من الحالمين والمهمَّشين والغاضبين والرافضين والمعارضين والمنتقدين للسلطة. فأصبح هذا النوع من الإقصاء وهذا «السجن الكبير» أدوات وتقنيات للمراقبة تطمح من خلالها السلطة إلى إعادة تأهيل السجين من أجل إدماجه وإخضاعه للخطاب المهيمن وللنظام الرأسمالي القائم (Foucault, 1995). أي أنّ مفهوم العنف في النظام الجمهوري، بالنسبة إلى فوكو، لم يعد يسلّط على الجسد كما كان في النظام الملكي بل أصبح رمزياً يطمح إلى ترويض النفس أو الروح لتعود مطمئنة راضية مرضية إلى السلطة التي قامت مع اندلاع الثورة لتأسيس النظام الرأسمالي الجديد.

كل هذا الجهد من روسو إلى فوكو يساعد، على ضبط مفهوم العنف في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. ولكن الذي يهمّنا في هذا البحث هو أن نتساءل كيف يمكن استغلال هذا الجهد في فهم وضبط وتحديد مفهوم العنف عند العرب وفي منطقة البحث أي في الأردن وعلى وجه التحديد، في منطقتي الزرقاء والمفرق؟

مما لا يدع مجالاً للشك أن هشام شرابي، أستاذ تاريخ الفكر الأوروبي الحديث بجامعة جورج تاون بواشطن كان ملمّا بهذا الجهد عندما قدم في السبعينيات من القرن الماضي أمام طلبته سلسلة من المحاضرات حول المجتمعات العربية، محاضرات تمّ تعريبها ونشرها في ما بعد تحت عنوان مقدمات للمجتمع العربي. في هذه السلسلة من المحاضرات، يشدّد هشام شرابي كما شددّ من قبله المفكرون في الغرب على فكرة أن العنف لا يمكن فهمه إلّا بإرجاعة إلى الهيمنة والسلطة. وهي فكرة روساوية متداولة في الفكر الغربي كما بيّنا ذلك وليست، بالتالي، فكرة جديدة خرج علينا بها هشام شرابي. الذي يمكن حقيقة أن يُعتبر إضافة في هذه المحاضرات هو تركيزه على فكرة أنّ السلطة في المجتمعات العربية تجمع بين أنواع مختلفة ومتباعدة من العنف. فهي تستعمل في ذات الحين العقاب الذي استعمل في النظام الملكي قبل الثورة الفرنسية لإذلال الفرد وكسر شوكته. وهي تستعمل أيضاً المراقبة من خلال السجون والثكنات والمدارس والمصحّات والمساجد والمعامل والورشات لترويض الفرد وإعادة إدماجه.

هذا العنف الذي مُورس كما بيّنّا في فرنسا وفي الغرب عموماً بعد الثورة في النظام الجمهوري. وهي تستعمل كذلك التلقين وحب المعاشرة وسطوة المجموعة على الفرد (شرابي، 1975)، – وهو عنف هيمن عند المجتمعات البدائية مثل البدو والمزارعين – لكي يكون الفرد دائماً تابعاً للجماعة، خاضعاً لها بعيداً من الفكر النقدي وما ينتجه من استقلالية وثقة بالنفس.

من هذا المنطلق يمكن أن نقول إنّ السلطة في المجتمعات العربية تستثمر كل أنواع العنف لكسر شوكة الفرد وهدر طاقاته. لقد تطرّق حجازي في كتابه الإنسان المهدور لكل أنواع الهدر التي لحقت بالإنسان العربي: الهدر الاقتصادي، الاجتماعي، الثقافي، السياسي إلى حدّ أنّ الفرد في المجتمعات العربية يلاحق ويسجن ويعذّب ويهان من أجل فكرة، من أجل حلم ومن أجل قصيدة. (حجازي، 2002). في شرق المتوسط، يصف لنا عبد الرحمن منيف في نصّ سردي رائع كيف أن رجب، بطل الرواية، يصبح في وطنه متّهماً، ويصبح في هذا السجن الكبير ضحية أنواع شتى من العنف؛ لا لشيء سوى لأنه أراد أن يحلم. فيحاصر رجب وتحاصر أمّه وأخته وعائلته كلّها (منيف، 2001).

فكيف يشتغل هذا العنف الذي يجمع في ذات الحين بين العقاب والمراقبة والتلقين والتدجين وحب المعاشرة وقهر الفرد من الجماعة في صناعة هويّة المرأة بالأردن؟

2 – هويّة المرأة المعنّفة

في الجنس الثاني، – وهو بحث نشر في منتصف القرن الماضي – تقول سيمون دي بوفوار (De Beauvoir, 1952) «إنّ المرأة لا تولد امرأة بل تصبح امرأة» وهو إعلان ما زال يدوّي في سماء العالم إلى حدّ هذه الساعة. ولقد صار يُعدّ من أهمّ منطلقات علوم الجندر ومن أهم ركائزها. وهذا الإعلان ما زال يبيّن لمن له مشاكل في الفهم أنّ المرأة، في الأساس، ليست لها طبيعة وإنما لها تاريخ أو قل، إن شئت، إنها تاريخ. وهذا يعني أنّ المرأة لم تكن أبداً معطى طبيعيّاً جاهزاً لا يتغيّر ولا يتبدّل. ولم تكن أبداً قضاءً وقدراً، ولم تكن «ناقصة عقـلاً وديناً» بطبيعتها. ولم تكُ المرأة كائناً ضعيفاً طائعاً خاضعاً منذ ولادتها، وإنّما هي، أولاً وقبل كلّ شيء، صيرورة ومسيرة ومسار وبناء تاريخي يُبنى لبنة لبنة على عدّة مراحل. بعبارة أخرى، هذا يعني أنّ هويّة المرأة ليست جبلّة وجوهراً خالداً، وإنما هي بناء وخلق وصناعة وإنتاج للقوى الفاعلة في حلبة الصراع الاجتماعي. فالأنوثة، مثلها مثل الرجولة، هو إنتاج ثقافي خالص. ولقد بيّنت ذلك مارغريت ميد (Mead, 2002))) منذ الثلاثينيات من القرن الماضي في بحوثها الميدانية حول بعض قبائل غينيا الجديدة.

فإذا ما كانت هوية المرأة لا تُعطى وإنما تُصنع وتُكتسب، فهذا يعني أن الأنوثة لا تختلف من ثقافة إلى أخرى مثلها مثل الرجولة فحسب، وإنما أيضاً يكون بإمكان الفرد أو الجماعة تغييرها. فإذا ما كانت إمكانية التغيير ممكنة نظريّاً، فلماذا عمليّاً على الأرض تفشل أغلب الثورات في تغيير هويّة المرأة من هويّة خاضعة إلى هويّة فاعلة؟ لماذا كانت المرأة وما زالت أداة للتبادل بين الرّجال للحفاظ على الملكية والجاه والسلطة كما بيّن ذلك لفي استروس في رسالة أطروحته المتميزة (يتيم، 2015). لماذا ما زال الخطاب والسلطة والمعرفة والثروة في أغلب المجتمعات بيد الرجال؟ لماذا المرأة في مجتمعاتنا العربية على اختلافها ما زالت غائبة عن الشأن العام وعن تسيير الحيّ وعن المبادرة في أخذ القرار رغم أنها تعلمت وتخرجت بامتياز في الجامعات؟ لماذا ما زالت المرأة عند العرب والمسلمين عورة يجب أن تستر، وحرمة يجب أن تصان، وبضاعة يجب أن تخضع للتبادل بين الرجال؟ لماذا يكون التغيير صعباً وبطيئاً وغير مضمون كلّما تعلّق الأمر بتغيير معنى الأنوثة وبتبديل خصائص هويّة المرأة؟ ما الذي يجعل الهيمنة الرّجولية ضاربة في الأرض وبخاصّة عند العرب حيث تقتل المرأة ويهدر دمها لقصيدة شعر؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، ارتأينا استدعاء بيار بورديو للنظر في عمله، وبخاصة منها الهيمنة الرجولية (Bourdieu, 1998)، الذي يمثل زبدة ما وصل إليه في دراساته السابقة.

لم ينطلق بورديو في هذا الكتاب من المجتمعات المعاصرة وإنما من التجمعات البدائيّة التي بدأت تنقرض شيئاً فشيئاً.. لقد اقتفى بورديو هذا المنعطف الإثنولوجي وانطلق من العشائر الأمازيغية التي تقطن هذه المرتفعات الجبلية الصعبة بمنطقة القبائل بمحافظة تزي وزو بشمال شرق الجزائر العاصمة، لما لهذه العشائر من بلاغة وبيان ووضوح وطلاقة للتعبير عن المعنى التي تعطيه لمفهومَي الرجولة والأنوثة. فالشرف، بالنسبة إلى هؤلاء المزارعين في هذه الأراضي الجبليّة، هو أن ترفع رأسك وأن تلقي البصر في وجه مخاطبك وأن تمشي رافع القامة والرأس. هذه الثقة بالنفس من دون تعالٍ ولا كبرياء هو يسمى عند الأمازغيين «بالنيف» مقابل الحرم أو الحرمة التي تُلزم المرأة أن تستتر وأن تلقي ببصرها إلى الأسفل، وأن تختفي وأن تتخفى وأن تستر جسدها وتحجب وجهها، وأن لا تحطّ بصرها على الرجال وأن لا تظهر على أعيان القوم سافرة؛ لا بل عليها كحرمة أن تتغيّب وتغيب عن الساحة العامة وعن الشأن العام. أو قل بعبارة أخرى، إن الشرف بالنسبة إلى الحرمة يحيلنا على الحضور مقابل الغياب. والأهم من ذلك هو أنّ هذه الثنائية بين الشرف والحرمة تبدو هنا وكأنها ثنائية كونيّة، رمزية، ميثولوجية، لسانّية، عقائدية، طقوسية بين النهار والليل، بين النور والظلمة، بين الاستقامة والاعوجاج، بين الجفاف والرطوبة، بين اليابس والأخضر، بين الأعلى والأسفل، بين اليمين واليسار، بين الخارج والداخل، بين الحركة والسكون، بين المقدّس والمدنّس، بين الطهارة والنجاسة إلى غيرها من الثنائيات التي تعود بكلمة واحدة وباختصار شديد إلى الثنائية بين الثقافة والطبيعة. وهي ثنائية تعيد إنتاجها الطقوس والتقاليد واللغة والميثولوجيا والاحتفالات والأعراس وكل حركة أو سكون في الحياة اليومية. ويضاف إلى هذه الآليات في المجتمعات المعاصرة كل أدوات المراقبة كالورشة والمدرسة والمستشفى والثكنة والسجن، وكذلك الإعلام وآليات التواصل الاجتماعي والاحتفالات الرياضية والموضة وغيرها من أدوات التدجين لإعادة إنتاج هذه الثنائية بين الشرف والحرمة، أو قل إن شئت بين الرجولة والأنوثة.

لقد بيَّن لنا هذا البحث الإثنولوجي بوضوح كبير كم أن التغيير صعب لهذه الثنائية التي تمثل الركيزة والرأس لهيمنة الرجال على النساء. وكم أن التحرك على المستوى الاجتماعي والسياسي لا يكفي كما تتوهّم بعض الحركات النسوية وبعض منظِّري ومنظِّرات الجندر. أجل لقد بيَّن هذا البحث الإثنولوجي لبورديو أن الفعل الاجتماعي والسياسي لا يكفي بما أن العنف المسلط على المرأة هو عنف اجتماعيّ، اقتصادي، سياسيّ يتعاضد مع عنف رمزي جاثم منذ آلاف السنين في هذه التصنيفات أو في هذه البقايا من التصنيفات والرؤى القديمة الجديدة المندسّة بين ثنايا الثقافة. فيتجمع هذا العنف المختلف الأوجه ويُحوّل من تاريخ يُصنع وثقافة تُبنى إلى طبيعة طبيعية أو إلى كونيّة أو قداسة لا تُمسّ وذلك بطريقتين: أولاً ببَولَجته (Peologization) واستبطانه وجعله جسداً ومعطى بيولوجياً خالصاً يمكن للباحث أن يباغته في طريقة حملنا للجسد أو في الرؤية أو الصورة التي نحملها للرجولة والأنوثة. وهكذا يصبح هذا العنف هو الجسد نفسه واللحم والدّم والعظام. وثانياً بتحويله إلى ميثولوجيا وإلى قداسة وإلى حقائق كونية أي إلى وحدات تصنيفية تعمل على تقسيم الزمن والفضاء والبشر والحجر حيث تكون دائماً وراء عملية إعطاء المعنى وتحديد منطق الأشياء. وهكذا بعملية التطبيع (Naturalization) هذه وبتحويل الثقافي وتعريفه بما ليس هو، يمكن لهذا العنف المحدّد تاريخياً وإنثروبولوجياً أن يحملنا على الاعتقاد على أنه كلام الإله وكلام الأوّلين وكلام الطبيعة وكلام الحق الخالد الأبدي، الواحد، الأوحد.

فمن هذا المنطلق، يصبح من الصعب جدّاً مساءلة عملية التطبيع هذه، إذ إنه من العسير جدّاً تعريتها كاملة وفضحها وإرجاعها إلى حقيقتها كبناء تاريخي وثقافي يتميز بالنسبية والاختلاف. وهذا النوع من الجنيولوجيا (Genealogy) أو قل من الحفريات (Archeology) حول العنف الرمزي هو محاولة أقل ما يقال فيها إنها مستعصية لا يقدم عليها سوى قلة قليلة من المبصرين مثل فوكو وبورديو ونيتشه. فهذه الحفريات العميقة في منطق الأشياء وفي الفكر الإنساني تهدف إلى إعادة رسم الحدود بين الوجود والعدم، بين من يحق له البقاء وبين من حُكم عليه بالإعدام قبل أن يولد. وهذا ليس بهيِّن. وهي، لذلك كله، عملية خطيرة وموجعة ككل مخاض وولادة لكونها تمثل عنفاً ثورياً يعمل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على إزاحة عنف قديم جديد ودحض السلطة القائمة عليه، أو على الأقل خلخلة وزحزحة هذا العنف وهذه السلطة المرتبطة به وإرباكهما بتنسيب ما بدا مطلقاً وتثقيف أو تأريخ ما بدا معطى أو جوهراً وطبيعة أزليّة.

فكيف يمكن ترجمة هذا العنف المسلط على المرأة إلى أبعاد ملموسة يمكن قياسها والتأكد منها علمياً؟

ثانياً: المنهج أو عمليّة بناء موضوع

هناك خلط عند أغلبية الطلبة، وعند بعض الباحثين، لا بين المنهجية والتقنيات فحسب، كما أشرنا سابقاً في مقدمة الحديث، وإنما أيضاً بين النظريات والمناهج. يختزل بعضهم النظرية في إعلان الباحث زواجه أو التزامه أو قربه أو ميله إلى مدرسة سوسيولوجية أو إنثروبولوجية دون أخرى. كما يختزل البعض المناهج في عملية الاختيار بين الكمّي والكيفي، أو بعبارة أخرى بين الإثنوغرافي الذي عادة ما يتعلق بمجتمعات صغيرة وبين الإحصاءات التي تمسح مجالات أوسع وأرحب. هذه المزاعم هي نوع من الفلكلور أو من الأوهام أو من الأحكام المسبقة التي يجب محاصرتها والتصدي لها.

إن النظرية لا تعني أبداً أن نقول نعم أمام القارئ، أو أمام الشاهد، أو أمام ضابط الحالة المدنية لنتزوّج بمدرسة سوسيولوجية أو إنثروبولوجية دون أخرى. وغالباً ما يعلن الباحث المبتدئ زواجه من دون أن يتزوّج أصـلاً! كلّنا يعلم أنّ التنظير هو من أهمّ المحطات التي من دونها لا تقام البحوث. وهو يهدف أساساً توضيح الرؤيا كما أشرنا إلى ذلك في بداية هذا الحديث. وعملية التوضيح هذه تنقسم إلى محطتين أساسيتين. يجب، أولاً وقبل كل شيء أن نقطع مع الرأي العام الذي لا يعني فحسب التسطيع والتبسيط والأحكام المسبقة. الرأي العام أو الحسّ المشترك ليس جامداً وليس عبارة عن خطأ يمكن أن يصوّب بسهولة. إنه هذه المعرفة الهائلة أو قل بالتدقيق هذه اللامعرفة الهائلة التي تُصنع كل يوم في حلبة الصراع من القوى الفاعلة لضرب الخصوم أو للدفاع عن مصالح خاصة. على السوسيولوجي أو الإنثروبولوجي الذي يطمح لبناء الكل (Totality) أن يتصدى لهذه المعرفة أو اللامعرفة التي لا تنتهي من التجديد ويعمل على تعميق ما يحاول الرأي العام تبسيطه وتعقيد ما يحاول الرأي العام تسطيحه وتجميع ما يحاول الرأي العام تقسيمه. وهذه هي المحطة الثانية للبحث؛ وهذا ما يسمى عند السوسيولوجيين والإنثروبولوجيين ببناء الموضوع. فنحن في عملنا النظري حاولنا ان نتصدّى أولاً للرأي العام الذي يٌردّد ما تقوله الهيمنة وهو أن العنف ناتج من الطبيعة وعن من هو قريب من الطبيعة مثل ما يطلق عليهم «بالبدائيين» و«المتوحشين» و«المتخلفين» أي البدو والمزارعين وكل المستضعفين في الأرض. حاولنا دحض هذه الفكرة وربط العنف لا بالطبيعة – كما يدّعي الرأي العام – بل بالثقافة وبالسلطة وبالطبقات المهيمنة. من هنا بدأنا في بناء الموضوع أي في إيجاد علاقة بين السلطة كعنف متعدّد الاوجه وهوية المرأة لا كطبيعة كما تدّعي الهيمنة بل كصيرورة وكتاريخ وكمسار. ونحن في أثناء تحديدنا لهذه العلاقة بين الهيمنة والهوية الجندرية، التقينا في طريقنا بمفكرين حاولوا إنارة السبيل لنا. هذا اللقاء أو هذه المحاورة أو هذا السجال بيننا وبين العاملين في هذا الحقل أي بيننا وبين القائمين بحفريات عميقة في هذا المجال. هذا اللقاء أو هذه المحاورة هي محطّة أساسية لا بدّ منها في العمل النظري لأن العلم سجال أو لا يكون. من وراء هذا السجال أو هذه المحاورة، يمكن أن يتجلى للقارئ كيف أننا ننتمي أو لا ننتمي لهذه الفكرة، أو لهذه الرؤيا، أو لهذه المدرسة السوسيولوجية أو الإنثروبولوجية دون أخرى. فنحن عندما اعتبرنا خلال هذا السجال أن السلطة هيمنة وأن هذه الهيمنة لها ورشات وآليات ومعامل لصناعة الهوية الجندرية وأن هذه الأخيرة ليست طبيعة بقدر ما هي صيرورة تصنع في حلبة الصراع، فنحن إذا ما أردنا أن نصنف أو أراد القارئ تصنيفنا فلا يمكن أن نكون غير ديناميكيين في هذا البحث ولا يمكن أن ننتمي سوى إلى المدرسة الديناميكية التي هي وحدها القادرة على دراسة أثر الصراع الاجتماعي وأثر القوى الفاعلة في هذا الصراع في صناعة وإنتاج الهويات بما في ذلك الهويات الجندرية. هذا ما نعنيه بالنظرية.

المنهجية مرة أخرى ليست النظرية وفي ذات الحين ليست التقنيات؛ إذ لا يمكن بأية حال من الأحوال اختزالها في تقنيات القياس، سواء أكانت هذه التقنيات كيفية أو كمية، سواء أكانت تقنيات الإثنوغرافيا أو آليات الإحصاء. المنهجية هي الطريقة التي بها ومن خلالها يتم بناء الموضوع. أو بعبارة أخرى على ترجمة للنظرية. وبالتالي هي ترجمة لانتمائنا السوسيولوجي أو الإنثروبولوجي إلى وجهة نظر معينة أو إلى طريقة معينة لبناء الموضوع. خذ مثـلاً اللسانيات. منهجياً حاول سوسير أن لا يوجه البحث لكلام الناس أي للاستعمالات اللغوية لأنه يعتبرها موضوعاً معطى ملوثاً بأهواء الناس وغاياتهم. ووجه البحث إلى اللغة في ذاتها ولذاتها كنظام مستقل أي كعلاقات متكررة بين الكلمات. فمنهج سوسير هنا كان منهجاً بنيوياً يوجه البحث إلى البنية، بل إلى التاريخ وإلى الثابت، لا إلى المتحرك. نحن منهجياً قمنا بعكس ما قام به سوسير. لم نوجه البحث إلى البنية وإلى النظام بل إلى التاريخ. لذلك سنركز على القوى الفاعلة في الصراع الاجتماعي. وهو ما يجعلنا نختار كتقنيات للقياس المقابلات والجماعات المركزة دون غيرها من آليات القياس. وهو ما يجعلنا نختار لفضاء البحث مدناً تتميز بالحراك كالزرقاء والمفرق كمكان للدراسة.

1 – القوى الفاعلة في صناعة المرأة المعنّفة

في المخيال السوسيولوجي وهو من الكتب القليلة المتميزة التي يجب أن نضعها في أعلى مقام في مكتباتنا، وهو كتاب ما زال لم يعرّب إلى حدّ هذه الساعة، ركز ميلز (Mills, 1959) على أنّ السّوسيولوجيا ليست خطاباً يتحدّث على نظريّات عامّة وفي أغلب الأحيان بلغة صعبة وغامضة، وليست أيضاً بتعداد لأشياء صغيرة وضياع في حسابات ضيقة تشبه إلى حدّ بعيد حسابات تاجر الحيّ وهي حسابات تلقي بنا في سجون الإمبيريقي (Impirical) من دون أن نعرف كيف نخرج منها. بعبارة أخرى السوسيولوجيا ليست النظريات بالمعنى السلبي للكلمة في حدّ ذاتها وليست البحوث الإمبيريقية في حدّ ذاتها أيضاً، وإنما هي محاولة الرّبط بين الجزئي والكلي، بين الذاتي والموضوعي، بين السّيرة الذاتيّة (Piography) والتّاريخ (History)؛ فكيف يمكن إرجاع السّيرة الذاتيّة – التي بإمكاننا الوصول إليها من خلال الميدان – إلى التاريخ؟ وماذا يقصد ميلز بالتاريخ؟

إذا كان ميلز يعني بالتاريخ القوى الاجتماعية الفاعلة في حلبة الصراع الاجتماعي، فما هي القوى الفاعلة بالأردن التي تتصارع حول هذا الرهان المتمثل بصناعة الهوية الجندريّة؟ يمكن أن نقول إن هناك بالأردن صراع بين قطبين أساسين. كنت قد بينت في أطروحتي حول المرأة الأردنية (العتوم، 2015) أن هناك قطباً يعمل على إنتاج التقليد وهو يتألف من البرجوازية الكمبرادورية أو من السماسرة ومن مالكي الأراضي والعقارات ومن الحرفيين والبدو والمزارعين والمثقفين المحافظين المدافعين عن النظام الاجتماعي القديم وعلى التقليد. وهناك قطب يعمل على تأصيل الحداثة وهو يتكوّن من القوى الحيّة من الشباب ومن العمال ومن المثقفين العضويين بالمعنى الغرامشي للكلمة ومن الحالمين ونشطاء المجتمع المدني الذين يعملون على تنسيب الحقائق وخلخلة التقليد وخلق إمرأة قادرة على المساهمة في الحداثة وقادرة على أن تسهم في تسيير الحي وفي صناعة المعرفة. إذا ما أردنا اقتفاء أثر ميلز، علينا إرجاع – إلى هذين القطبين – السيَر الذاتية التي سيتم الوصول إليها من خلال المقابلات والجماعات المركزة. ولكن لماذا تمّ اختيارنا على المقابلات والجماعات المركزة دون غيرها من أدوات القياس؟

2 – العنف: إحصاءات وأرقام

إذا ما أردنا رسم خارطة تقريبيّة للعنف فإننا نجد أنه على المستوى العالمي يمكن الرجوع إلى الدراسة التي قادتها منظمة الصحة العالميّة في عشر دول شملت فيها الأماكن الريفية والحضريّة، وقد كان تركيز الأسئلة فيها على المستجيبين الذين خبروا تجربة خاصة من العنف الجسدي من قبل الشريك، وقد قاست الدراسة درجة حدوث وانتشار العنف، فجاءت النتائج لتشير إلى أن العنف المرتكب من الذكر كان هو الظاهرة المهيمنة في كل مجتمع الدراسة المكوَّن من العشر دول، مؤثراً في ما بين 13 إلى 63 بالمئة من النساء وبالمعدل 23 إلى 49 بالمئة من مجتمع المبحوثين (Heise and Garcia-Moreno, 2010).

وفي كل المجتمع المبحوث في دراسة منظمة الصحّة العالميّة، كان العنف الجنسي هو الأكثر حدوثاً من العنف العام في معظم الحالات، وكانت معظم حالات العنف تحدث بشكل عام في المناطق الريفية أكثر من المدنية في الدول النامية، مع التشديد على حقيقة التنوع الهائل بين الدول من حيث شكل وحجم انتشار الظاهرة، مما يؤكد أن العنف ليس ظاهرة حتمية الوجود في كل المجتمعات ولا يحدث بنفس المعدلات (Heise and Garcia‑Moreno, 2010).

وتأتي أهميّة الدراسة العالميّة الثانية (2015) من طبيعة كونها دراسة عابرة للحدود، (Cross-National International Study) للعنف الموجه ضد المرأة، وخرجت بنتائج تقول إنَّ ما نسبته 35 بالمئة من المتعرضات للعنف هن من النساء ما فوق 16 سنة، وأنّ عدد النساء اللاتي خبرن على الأقل حادثاً واحداً من التعرض للعنف الجسدي أو الجنسي من العمر 16 فما فوق كان ما بين 20 و60 بالمئة. وأن العنف الممارس من قبل الشريك المباشر أو الرجال المعروفين للضحية هو أعلى كثيراً من العنف الممارس من قبل غرباء، وكان الشريك الحميم هو المتورط الأكبر في ممارسة العنف، وبشكل لافت في كل البلدان التي شملتها الدراسة والتي كان من بينها بلدان عربيّة.

ففي بلد مثل أميركا يُعدّ العنف المبني على النوع الاجتماعي من أهم أسباب الوفاة بين النساء الأمريكيّات في الفئة العمرية ما بين 19 و44، أكثر من الملاريا وأكثر كذلك من الحوادث الناتجة من السير مجتمعة، ومسبب للوفيات والإعاقات بنسب تقارب ما يسببه مرض السرطان (Johnson, Ollus, and Nevala, 2008) ومن بين كل الجرائم فإن الأذى الجنسي والعنف الصادر من الشريك هي الأكثر معدلاً بين الجرائم.

أما هنا في الأردن فإننا لن نجد في الواقع أرقاماً أو إحصاءات واضحة وشاملة على المستوى الوطني للظاهرة، فكل ما لدينا من أرقام لا يتعدى حدود الدراسات والبحوث التي قام بإجرائها باحثون مستقلّون أو مؤسسات اعتمدت المعلومات المتاحة في بيانات الحالات المدوّنة في سجلات وملفّات حالات العنف لإدارة حماية العنف الأسَري في المملكة.

وعلى أهميّة هذه البيانات وقيمة دلالاتها، إلا أنها لا ترقى إلى المستوى الذي يمكن أن نحدد من خلاله وبوضوح حجم الظاهرة على المستوى الوطني الأشمل؛ فاستقصاء مثل هذه الظواهر يواجه بالعادة مشكلة التكتم والمواربة، على اعتبار أنها مادة خاصة وسريّة لا يمكن للأفراد والجماعات الحديث عنها بحريّة في مجتمع ما زال محسوب على المجتمعات التقليديّة، بالإضافة إلى الغموض والتشويش المفاهيمي الذي ما زال يكتنف العنف ورمزيته الثقافيّة.

حيث تكاد تتفق الدراسات على بعض الحقائق والأرقام إلا أنها قد تختلف من ناحية نوع العنف الأكثر انتشاراً ومناطق انتشاره؛ فالعنف الجسدي هو النوع المهيمن على معظم حالات العنف بنسب تزيد على الـ 80 بالمئة وليس الجنسي كما في كثير من البلدان، وأن أغلبية العنف يقع في المناطق الحضريّة الفقيرة بنسبة تفوق الـ 70 بالمئة، وليس في المناطق الريفيّة، لكن الدراسات تتفق مع الدراسات العالميّة على حقيقة أن الذكور هم الأكثر ممارسة للعنف وبنسبة تزيد على 90 بالمئة، وأن هؤلاء الذكور هم على الأغلب من الفئات غير المتعلّمة بنسبة 80 بالمئة، وأن أغلبهم كانوا أزواجاً في الدرجة الأولى ثم إخواناً للضحيّة أو آباء (المجلس الوطني لشؤون الأسرة، 2013).

أما إحصاءات إدارة حماية الأسرة فتشير إلى أنه تم تسجيل حوالى 300 حالة عنف أسري للعام 2009 ارتفعت عام 2010 لتصل إلى 1371 حالة، 46 بالمئة من هذه الحالات كانت ضد الزوجات، لترتفع هذه النسبة عام 2011 إلى 57 بالمئة من الحالات (إدارة حماية الأسرة، 2011).

لقد أظهر التقرير التحليلي لبيانات مكتب شكاوى المرأة التابع للجنة الوطنية الأردنية لشؤون المرأة للسنوات (2009 – 2012) أن نساء العاصمة عمّان هنَّ الأكثر تقدماً بشكاوى التعرّض للعنف، وأن هناك زيادة في عدد المشتكيات من الفئة العمرية 50 عاماً فأكثر، حيث كانت نسبتهن 0.3 بالمئة عام 2010 وارتفعت إلى 2 بالمئة عام 2012 لتصل إلى 8 بالمئة عام 2012.

أمّا المشتكيات من الفئة العمرية 30 سنة فأقل، إذ تراوحت نسبتهن بين 10 بالمئة عام 2010 إلى 16 بالمئة عام 2012، أمّا المشتكيات اللاتي تتراوح أعمارهن ما بين 30 إلى 49 كنّ النسبة الأكبر من المتعرضات للعنف حيث وصلت عام 2012 إلى 50.5 بالمئة.

تلتقي نتائج هذا البحث مع نتائج الدراسة التي قام بها المجلس الوطني لشؤون الأسرة عام 2013 حول الخصائص الاجتماعية والاقتصادية لحالات العنف الأسري المسجلة لدى مراكز حماية الأسرة في المملكة، حيث أظهرت نتائج الدراسة أنّ أكثر أنواع العنف الأسري ممارسة كان العنف الجسدي بالضرب بنسبة 86 بالمئة، و76 بالمئة بالصراخ والتحقير والشتائم، ثم إهمال الزوجة ومنع المصروف بنسبة 18.1 بالمئة و18.5 بالمئة على التوالي، وأن هذا العنف يمارس على الأغلب من قبل فرد واحد من أفراد الأسرة بنسبة 95.6 بالمئة.

وأن 40 بالمئة تقريباً من حالات العنف كانت تمارس في الأسر التي لا يتعدى دخلها 300 دينار شهرياً، وأن نسبة 76 بالمئة من المُساء إليهم هم من الإناث.

كما تشير الدراسة إلى أنّ ثلاثة أرباع النساء المعنفات هن من ذوات التعليم المنخفض (أقل من الثانويّة العامّة)، وأنَّ 64 بالمئة منهن عاطلات من العمل، وما يقارب النصف منهن من المتزوجات، وأن تكرار العنف لدى الحالات وصل إلى 47 بالمئة من الحالات.

الذكور هم الأكثر ممارسة للعنف بنسبة 92 بالمئة وأن أغلب مرتكبي العنف هم من ذوي التعليم المنخفض بنسبة 80.4 بالمئة وأن ثلثي المُعنفين (المسيئين) هم من فئة العاملين وهم على الأغلب يرتبطون بعلاقة زوج أو أب بنسبة 71 بالمئة مع العلم أن أكثر من نصف مرتكبي العنف الأسري (المسيئين) تكررت ممارستهم للعنف بنسبة 51.9 بالمئة.

أما جرائم الشرف فتكاد تحتفظ بمعدّل ثابت يتراوح بين العشرين والخمس وعشرين حالة جريمة شرف في الأردن سنوياً (دائرة الإحصاءات العامّة، 2013).

أ – لماذا المقابلات والجماعات المركزة دون غيرها من أدوات القياس؟

لم تكن أبداً السيرة الذّاتيّة خطاباً موضوعيّاً يحاول أن يتحدّث بدقة على وقائع وعلى تاريخ بقدر ما كانت سلاحاً للدفاع عن النفس وأداة للسجال والتصدّي للخصوم. فالسّيرة الذاتية تهمّنا هنا من هذه الناحية حيث إنها لا تأتي بخبر بقدر ما تكون سلاحاً للقوى الفاعلة في حلبة الصراع الاجتماعيّ. والمقابلات مثلها مثل الجماعات المركزة هي الأدوات التي من دونها لا نتوصّل إلى حصاد وجني هذه السّير الذاتية وهذا الخطاب للمستجوَبين. ثمّ إن المقابلات الحرّة والشّبه مسيّرة مثلها مثل الجماعات المركزة تُمكّن المتحدّث أن يغوص بعيداً في أعماقه وأن يكتشف ذاته. كما تتيح هذه الأدوات للباحث التعمّق أكثر في موضوع البحث. لذلك قمنا بعشرين مقابلة شبه موجّهة مع نساء معنَّفات بالمنطقتين وعشر مقابلات شبه موجّهة هي الأخرى، ست منها مع رجال عاديين بالمنطقتين وأربع مع شخصيات قيادية من الرّجال والنّساء (رجال دين، شيوخ عشائر وقياديون أو مفكرون من الجنسين منخرطون في أحزاب أو في منظمات من المجتمع المدني أو بجامعات أو معاهد بالمنطقتين). كما اعتمدنا على منهجية الجماعات المركزة لمجموعة تتألف من ستّ نساء معنفات بالزرقاء واخرى بالمفرق ولمجموعتين من الرجال بالمنطقتين تتكوّن هي الأخرى من نفس الحجم.

ب – لماذا المفرق والزرقاء دون غيرهما من المدن؟

لقد بيّنا في هذه الدراسة كيف أن بورديو لكي يتحدّث عن الهيمنة في المجتمعات المعاصرة وفي الزمن الراهن وفي أكبر مدن المجتمعات الغربية المتقدمة، قام بمنعطف إثنوغرافي وانطلق من الأمازيغ أي من منطقة القبائل بالجزائر، أي من قرية جبلية منغلقة على نفسها. وبيّن لنا كيف أن التصنيفات التي تتحكّم في منطق الأشياء وبخاصة في تعريف الرجولة والأنوثة عند الأمازيغ هي ذاتها التي تهيمن باختلاف بسيط في مجتمعاتنا المتحضرة. نحن في هذا البحث تعمّدنا اختيار المفرق والزرقاء فضاءً لبحثنا الميداني. وهما من المدن التي تجمع بين البداوة والمدنيّة وبين التقليد والحداثة مما يجعلها مكاناً مثالياً لدراسة هذه الظاهرة لما تحتويه من تنوع.

تعتبر مدينتا الزرقاء والمفرق من المدن الحديثة النشأة حيث تكوّنتا بعد تأسيس الإمارة الأردنية في عام 1921. واللافت للنظر أن المدينتين تقعان على حافة البادية الأردنية حيث الصّحراء شرقاً وإقليم البحر المتوسط شبه الجاف غرباً؛ ولهذا سادت حرفتا الزراعة والرعي فيهما وتميزتا بالإنتاجية المتدنية والمتذبذبة. وكان الهدف من ممارستها هو للاكتفاء الذاتي فحسب، بمعنى أنه لم يكن هناك فائض في الإنتاج يدفع إلى خلق الأسواق والمدن في المنطقتين (Attour 2010).

نشاهد اليوم تراجعاً في حرفة الرعي في منطقة الزرقاء والمفرق إلى حدّ كبير كما تراجعت الزراعة بنسبة أقل. في المقابل ازدهرت ظاهرة التحضر في البلدتين نتيجة للهجرة من البادية والريف من جهة، ومن فلسطين المحتلة من جهة أخرى. ويمكن القول إن المهاجرين في الحالتين تميزوا بضعف بنيتهم الاقتصادية، الأمر الذي دفعهم إلى العمل إما في الوظائف العامة أو في ممارسة أعمال حرفية صغيرة تميز الدخل في كليهما بالمحدودية (مؤسسة نهر الأردن، 2012).

ثمّ إن هذه الهجرة التي لم تنقطع أحدثت في المدينتين هوّة بين الزيادات السكانية من جهة وتوفير الخدمات وفرص العمل فيهما من جهة أخرى. وقد أدى كل ذلك إلى الازدحام السكاني وتفشي الفقر والبطالة وتدنّي الدخل وظهور الجريمة والبغاء والمخدّرات. ولهذا نجد أن معدل استهلاك الفرد سنوياً (المواد الغذائية وغير الغذائية) يصل على مستوى المملكة إلى 1262 ديناراً ولكنه ينخفض إلى 706 دنانير في الزرقاء وإلى 609 دنانير في المفرق (الأقل في المملكة). الأنكى من ذلك أن هذا المعدل يتراجع في الزرقاء بعكس مناطق الأردن كافة (وزارة التخطيط والتعاون الدولي، 2015).

يجب الملاحظة أنّ تطور مدينة عمان أسهم منذ أواسط القرن الماضي في بروز ما يعرف بظاهرة اللامركزية الإقليمية (Inter-regional Decentralization) والتي تعني انتقال الأعمال من العاصمة – وبخاصة من قطاع الصناعة – إلى الأقاليم المجاورة. فجاء انتشار المصانع في ضواحي المدينتين كنتيجة لتطور مدينة عمان وليس بسبب التطور الذاتي لهما. وفي هذه الحالة تنساب العائدات الاقتصادية إلى المدينة الأم، عمّان، أو إلى المستثمرين من خارج الأردن ولا يبقى منها إلا اليسير في المدينتين، ناهيك بالآثار البيئية المدمرة. وقد زاد الطين بلة تضاعف عدد السكان الناجم عن تدفق المهاجرين السوريين في السنوات القليلة الماضية (وزارة التخطيط والتعاون الدولي، 2015).

ثالثاً: البحث الميداني: ملامح المرأة المعنَّفة

لقد وقع ترتيب النتائج وفق محاور رئيسة كما يلي:

1 – المرأة المعنّفة كما تصف نفسها وكما يراها الرجل العادي

أ – حجم العنف المبني على النوع الاجتماعي الموجّه ضد النساء ونوعه

تنتشر ظاهرة العنف في الزرقاء والمفرق بصورة كبيرة قد تصل إلى نسبة نصف النساء في المنطقتين. وهذا ما أكّدته إفادات أفراد جماعات التركيز من النساء. كما لم ينفِ هذه المعلومات أفراد هذه الجماعات من الرجال، بل كانوا في كل مرّة يؤكّدون صحتها سواء من خلال الاعتراف بأنهم هم أنفسهم يمارسون هذا العنف ضد زوجاتهم أو أخواتهم أو بناتهم، أو من خلال الإشارة إلى دائرة المعارف والأصدقاء والتشديد على علمهم بانتشار هذه الظاهرة بشكل يتفق مع النسبة التي ذكرتها النساء.

أمّا نوع العنف الأكثر انتشاراً حسب أفراد مجموعتَي التركيز في المحافظتين فكان الضرب والضرب المبرح والشتائم القاسية والصراخ. ولم يتم ذكر العنف النفسي والتحرش الجنسي والحرمان من العمل إلا من قِبل قلّة قليلة من النساء.

وكان لافتاً عدم الإشارة إلى وجود أنواع أخرى من العنف كتلك المنصوص عليها في الاتفاقات والمواثيق الدوليّة، فلم يتم الاعتراف بالحرمان من الحقوق السياسيّة أو التعليميّة أو الحق بالعمل أو الخروج خارج المنزل دون إذن الزوج أو الأب أو الأخ على أنه عنف، لأن ذلك يعتبر (بالنسبة إلى الأغلبيّة) من صلاحيات رب المنزل، واعتبروها أموراً مرهونة برغباته وتقديره للمصلحة وفق ما يراها، فكانت عبارات من مثل، «أنا لا أسمح لزوجتي بالعمل خارج المنزل، أو المرأة يجب أن لا تخرج إلا بإذن الزوج أو وليّ الأمر»، أو «سبّب عمل النساء مشاكل للأسر وجعلت الوظيفة النساء تستقوي على الرجال وتهمل شؤون المنزل»، أو «الأمومة واجب مقدس والعمل خارج البيت يؤثر في تربية الأطفال»، أو من قبيل «لا أخرج بدون إذن زوجي فهذا حرام شرعاً»، أو «يجب على المرأة المضطرة إلى العمل أن تسهم في مصروف البيت لأن زوجها سمح لها بذلك على حساب راحته وواجبات أبنائه… إلخ»، وهذه العبارات هي الأكثر تردّداً على ألسنة المتحدّثين.

أمّا المُعنِّفون فهم الأزواج بالدرجة الأولى ثم الآباء بالدرجة الثانية ثم الأخوة الذكور بالدرجة الثالثة، ولقد تم ذكر حالة واحدة فقط لإمرأة تضرب زوجها بالتعاون مع أبنائها الذكور.

ب – التفسيرات الاجتماعيّة المهيمنة على مواقف المتحدّثين

(1) الفقر والبطالة: يبدو أن الفقر والبطالة هما من أهمّ الأسباب التي تؤدي إلى انتشار ظاهرة العنف، حيث أن أغلب المتحدثين من النساء ومن الرجال على حدّ سواء يتذرّعون بالفقر والبطالة لتبرير العنف المسلط على المرأة. فكانت الإجابات كالتالي «كثرة طلبات المرأة من زوجها هي سبب العنف»؛ «أنا ضربت زوجتي على رأسها لكثرة طلباتها، أنا ما معي مصاري من وين أجيب؟»؛ «يجب على المرأه المحترمة أن تتفهم وضع زوجها». رجل آخر: «أنا نفسي حاولت الانتحار أكثر من مرّة، وأنا زلمه بخاف الله ومستحيل أسرق. حتى مدير السجن تفهّم حالتي وما رضي يدخلني النظارة لمّا حكيتله إني ضربت زوجتي من كثرة طلباتها، وطلبلي شاي وقهوه وقالي مبيّن عليك زلمه محترم»؛ «أنا زوجي كان يضربني ضرب مبرح لدرجة إنو كسر يدي اليسرى، ووقتها رحت شكيت عليه ودخلوه النظارة، بس لو يرجع الزمن لورى ما بشتكي، لأنو الأسى ما بينتسى، كل يوم بذكّرني بأني اشتكيت عليه وبترجع علاقتنا تتوتر من جديد، وأنا حقيقة أعذره، الله يعينه ما معهوش مصاري يصرف علينا. وما بلاقي حدا يتفشش فيه غيري أنا والأولاد، الله يساعده».

من البديهي، أن الفقر يعدّ سوسيولوجياً من أبرز الأسباب المحرّضة على العنف. هذا لا يعني أن العنف المسلط على المرأة لا يوجد عند الطبقات المحظوظة. ولكن إذا ما تناولنا حجم انتشار هذه الظاهرة لوجدناها أكبر وأوسع انتشاراً بين الطبقات الفقيرة التي يتشاجر فيها الزوج والزوجة على فنجان قهوة أو على شراء فتافيت صغيرة.

وإذا ما أرجعنا كما يقول «ميلز» السيرة الذاتية إلى التاريخ، فإنّنا سنرى أن ذلك ناتج، في الخطّ الرئيسي العام، إلى تبعية الاقتصاد المحلي والمجتمع المحلي إلى الاقتصاد العالمي الذي استطاع أن يحتكر في سنوات قليلة معظم مجالات الإنتاج. فالعولمة قد قضت قضاء مبرماً على الملكية الصغيرة للمزارعين والحرفيين، كما قضت على كل فرص العمل التي كان يوفرها هذا القطاع للرجال وللنساء. وبهذا التدمير الذي لا يرمّم للملكية الصغيرة، لم تترك العولمة مجالاً للعمل سوى في قطاعَي التعليم والصحّة أو الخدمات. وفي هذه المجالات، فاض العمل بمن فيه من العاملين وخاصّة من النساء. فأصبحت البطالة ظاهرة متفاقمة بشكل ملحوظ يعانيها كلا الجنسين في زمن تأصلت فيه ثقافة الاستهلاك.

هذا ما تؤكده «شيفا» (Shiva, 2013) في دراساتها التي تناولت الهند كميدان خصب لظاهرة العنف ضد النساء حيث تبيّن كيف أن النظام العالميّ يعمل على خلق الحروب والمجاعة والإرهاب.. وفي هذه الحروب يصبح الذي هو أكثر هشاشة كالفقراء والنساء أكثر الفئات المتضرّرة. وعادة ما تدفع المرأة ضريبة مضاعفة، فهي الضحية الأولى للفقر والبطالة والاستغلال والتشريد والسبي والاغتصاب.

وما يزيد الطين بلّة، تفسّخ أنظمة الأمان الاجتماعي لكثير من دول هذه المجتمعات النامية في التخلف وما ينتج من ذلك من افتقار إلى الأمن العذائي في الحياة اليومية للمواطن (Johnson, Ollus, and Nevala, 2008). ولقد أسهم انعدام الأمن الغذائي بشكل مباشر أو غير مباشر في تعميق ظاهرة تأنيث الفقر الذي له أثر كبير في إنتاج وإعادة إنتاج أنواع العنف المسلط على المرأة.

(2) الهجرة وأثرها في تأجيج العنف: أدت الحرب القائمة في سورية إلى إلحاق الضرر بكل من مدينتي المفرق والزرقاء جراء اللجوء السوري، حيث استقبلت مدينة المفرق بمفردها أكثر من 120 ألف لاجئ سوري، وهو عدد يفوق عدد سكان المدينة من الأردنيين الذي لا يتجاوز 80 ألف نسمة.

هذا اللجوء الذي لم يضغط على نوع وكميّة الموارد والخدمات في هاتين المحافظتين فحسب، بل أدى إلى تفاقم مشكلة البطالة لدى فئة الشباب فيها؛ حيث إن اليد العاملة السورية في البناء والفلاحة والمخابز والنجارة والحدادة والميكانيك وغيرها من المجالات هي أرخص كثيراً من اليد العاملىة المحلية، وهو ما زاد من بطالة أبناء البلد. ناهيك بالتهديد الذي أصبحت تعانيه النساء في تلك المناطق من توافر فرص الزواج الثاني من سوريات مستعدات للارتباط بأي رجل بسبب الفقر والحاجة للإعالة، واستعدادهن للعمل بأي وظيفة وبأقل أجر بالإضافة إلى مهارة بعضهن في تصنيع المواد الغذائيّة المنزليّة وبيعها. الأمر الذي حرم الكثير من نساء المجتمع المحليّ من التفكير حتى بمشاريع صغيرة على هذا المستوى.

وقد تكرر ذكر ذلك من مجموعتَي التركيز الذين أكّدوا أنَّ حالات الزواج من النساء السوريات قد أصبحت ظاهرة ملموسة في مجتمع الدراسة. تقول امرأة في الثلاثينيات «زوجي دائماً يهددني بالزواج من سوريّة أجمل مني». ويقول رجل في الأربعين: الزواج من سورية لا يكلف أكثر من 200 دينار». رجل في الثلاثينيات: «السوريين أشطر منا ويقبلون بأجر أقل لذلك هيمنوا على أغلب فرص العمل». إمرأة في العشرينيات «أنا أهلي من بلدة الخالديّة وبعرف ناس كثير تزوجوا على زوجاتهم من سوريات، وهنّ ماهرات في تصنيع المكابيس والحلويات ويبعنها بأثمان معقولة… إلخ».

(3) ارتباط العنف بالتأويلات الدينية: يروق أغلب المتحدثين ربط العنف بالابتعاد عن تعاليم الإسلام. فهم في أغلبهم بما فيهم النساء يرون المرأة عورة يجب أن تستر وحرمة يجب أن تصان. «س. ف»: هذا الرجل الملتحي ذو الخمسين ربيعاً والذي يلبس الثوب القصير ويبدو عليه التديّن، تولى مهمة الرد على الرجل الأول الذي اعترف بضرب زوجته بقوله «يا أخي إن الفقر مبرر غير مقبول لضرب زوجتك، وذلك لأن المرأة قاصر، وهي أسيرة عندك، فالنساء في الإسلام مكرّمات، والمرأة كالطفل كلمة تجيبها وكلمه تودّيها…، عندما تضرب زوجتك أنت لا تحل مشكلة، لذلك عامل زوجتك بالحسنى يا أخي، والرزق على الله فهو قاسم الأرزاق».

وعند سؤال زوجته التي كانت تجلس على يمينه فيما إذا كانت قد تعرّضت للعنف أجابت بنعم، هذا بالطبع بعد أن استأذنت زوجها الشيخ بالحديث، حيث أفادت «بالطبع أنا تعرّضت للضرب والشتائم والصراخ، إحنا كلنا بشر وما حدا معصوم عن الخطأ»، وهنا يرد الزوج «هذا طبيعي ويحدث في كل بيت، هنالك أخطاء يجب أن تُضرب الزوجة عليها، كنوع من التأديب ليس أكثر».

على الرغم من اعتراف الشيخ بأن هذه هي زوجته الثانية وأنه تزوج على زوجته الأولى دون أي سبب قهري يدعوه إلى ذلك، فهو يقرّ بأن زوجته الأولى جميلة وصالحة وأنجبت له من الأبناء ثمانية إلا أنه تزوج بأخرى، وعند سؤاله عن تبرير ذلك أجاب: «لقد تزوجت الثانية من باب التعدد، فالتعدد في الإسلام هو الأصل والاستثناء هو القبول بواحدة فقط، كما أني أرغب بتكثير النسل لما دعانا رسول الله (ﷺ) إلى ذلك. كما أن الزواج الثاني يقلل من نسبة العنوسة».

كما رأى بعضهم أنَّ «الحكم الذي لا يرجع إلى شرع الله هو حكم باطل وهو أحد أسباب شيوع الفساد والعنف في المجتمع» وأيّد بعضهم قيام دولة «خلافة إسلاميّة» كحل وحيد لمشكلات المجتمع.

رجل، تاجر، في الستين من عمره «لي من زوجتي الأولى أربعة أبناء، جميعهم منحرفون ويتعاطون الحبوب المخدرة، أما ابني وبناتي من زوجتي الثانية فالحمد لله أمورهم تمام وجميعهم صالحون، ابنتي الكبرى درست الشريعة وهي الآن معلّمة في مدرسة». وهنا يقاطعه الشيخ بقوله «اسمحلي يا جار، أنا لا أتفق معك بمسألة أن تبعث بناتك على الجامعة، أنا بفضل الله ابني في السنة الرابعة من الجامعة، أما بناتي الأربعة فبفضل الله زوّجتهم قبل الثامنة عشرة، والسبب هو الانفلات غير العادي للأخلاق في الجامعة، وهذا الاختلاط المحرّم، ناهيك بالملابس الفاضحة للفتيات، الحمد لله جوّزت بناتي وسترت عليهم بكير»، «و.ع» يرد هنا باستحياء «بنتي راحت على الجامعة غصباً عني، بس هي بحمد الله درست شريعة إسلاميّة، خليني ساكت… (مع تنهيدة طويلة)».

اتفق مع الشيخ خمسة عشر من أصل أربع وعشرين من جماعات التركيز في ما يخص حرمة التحاق الفتيات بالجامعة. أما من خالفه فكانوا لا يرون في تدريس البنات أي إشكاليّة ما دامت البنت متحجّبة ومحتشمة ومجتهدة في دروسها. امرأة في الثلاثينيات من العمر تقول «أنا لا أرى ضرورة لتدريس البنات ما دام المنزل هو مرجعها ومكانها في النهاية، وبعدين احكيلي ما ضرورة أن تتعلم الفتاة وما فيش فرص عمل، يعني صرف فلوس ومشاوير وقلق على الفاضي، أنا بحكي لبنتي تعلمي للأول ثانوي وبكفي، مرجوع المرة للبيت وللصغار». امرأة أخرى «أنا أولادي من البيت للمسجد وأبوهم لا يسمح لهم بالاختلاط بأولاد الحي بسبب انتشار ظاهرة المخدرات وقلّة الأدب على الإنترنت، وهو لا يضربهم إلا على شيء واحد هو التقاعس عن أداء الصلاة».

في الوقت الذي عزا فيه معظم أفراد الدراسة العنف إلى الابتعاد عن تعاليم الدين، كانت معظم العبارات المحمّلة بالعنف التي يرددونها يحلو لهم إسنادها إلى القرآن وإلى الرسول وإلى الصحابة أي إلى الدين وإلى تعاليمه حسب قراءاتهم واستعمالاتهم الاجتماعية للدين. فهم يرددون دائماً عبارات مثل: «المرأة قاصرة، المرأة أسيرة عند الرجل، الإسلام كرّم المرأة، المرأة كالطفل، النساء بسيطات كلمة تجيبها وكلمة توديها، المرأة إذا غضبت تكيد، النساء ضعيفات بسبب العاطفة، النساء ناقصات عقـلاً وديناً»… عبارات كانت تتردد على ألسنة المبحوثين من الجنسين. وهي معاني بمجملها تشكّل جزءاً لا يتجزأ من رأس المال الرمزي المهيمن اجتماعياً وسياسيّاً وثقافيّاً في الطبقات الشعبية وفي قطب التقليد بالأردن.

فهذا الشيخ الذي تزوَّج من ثانية لا يجد أنه بزواجه الثاني قد مارس العنف ضد زوجته الأولى. وهو يعتبر الضرب نوعاً من التأديب ويرى فيه واجباً شرعياً تدعوه إليه مسؤوليته كزوج وربّ أسرة. وقد لقي حديثه هذا الاستحسان والقبول والتأكيد من باقي المجموعة الذين كانوا يومئون برؤوسهم في إشارة إلى الموافقة والإذعان والدعم. وهم، وإن لم يقوموا بممارسة هذا العنف بطريقة مباشرة، إلا أن إذعانهم يعني أن هنالك عنفاً من نوع آخر تمارسه الهيمنة بشكل خفي. وهذا العنف الذي لا يعلن عن نفسه هو نوع من الموافقة الضمنية على ما يحدث وإن كان ذلك بصورة مبطّنة وخفيّة.

هذا يعني أنّ المدرسة ومؤسسة الزواج والمؤسسة الدينيّة تتعاضد وتشتغل كآليات للمحافظة على الهيمنة الذكورية. فالمرأة التي تُضرب أو تُنهر وتعنّف أو تُهان، إنما ليقال لها «احذري تجاوز الوظيفة والمكانة والفضاء الذي أُعدّ إليك، وأن من تتعدّى الحدود لن تلقى إلّا العقاب» (العتوم، 2012).

أن لا تتعدى المرأة دور الأمومة فهي أمّ أولاً وقبل كلّ شيء، وأن تبقى غائبة عن الشأن العام، هذا ما يتفق عليه أغلبية الرجال وثلثا النساء. كلا الجنسين يرفضان بأغلبيّة مطلقة عدم طاعة الزوجة لزوجها أو الفتاة لأبيها أو إخوتها، أو إهمال المرأة لبيتها وأطفالها، أو خروج المرأة من بيت زوجها بلا إذنه أو عناد المرأة والرد على الرجل بالمثل أو «إطالة اللسان» على حد تعبير بعضهم؛ هذا مع تأكيد أغلب جماعات التركيز على أنّ للسحر والشعوذة دوراً كبيراً في زرع الفتنة بين الأزواج، الأمر الذي يؤدي إلى تعنيف الزوج لزوجته بتأثير من السحر «أنا امرأة عمري 31 سنة، زوجي تزوج علي وأنا لا أرى أنه ظلمني، فهو ليس بعقله، هو تحت تأثير السحر، أدعو له في كل صلاة أن يفك سحره ويعود لعقله. الحاضرون: هو لم يظلمها، المسحور يتصرّف بدون وعي أو إرادة، الكثير من الناس تلجأ للسحر من أجل تحقيق رغبات في أنفسهم».

«ل.م» رجل في الأربعين من العمر عسكري متقاعد ويعمل لدى إحدى شركات أمن المتاجر يقول «إذا أخطأت المرأة تُضرب، ولكن ليس ذلك الضرب المبرّح، وللضرب شروط منها عدم طاعة الزوج أو الخروج من المنزل دون إذنه أو مخالطة ناس لا يوافق الزوج على أخلاقهم…». مبحوث آخر «الرجل سيّد البيت وكلمته يجب أن لا تسقط أمام الزوجة والأبناء، والأصل في العقوبة التدرج الذي يبدأ بالموعظة الحسنة ثم الهجر بالمضاجع، وأخيراً الضرب». «و. ع» مندوب مبيعات إحدى شركات بيع الأدوات المنزليّة وعمره أكثر من 46 سنة: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيّته، الرجل يجب أن يتقي الله في بيته وعلى المرأة أن تطيعه بما يرضي الله، والله تعالى أعطى السيادة والقوامة للرجل لأنه أقدر على ضبط مشاعره؛ فالنساء عاطفيات ولا يحسنَّ التصرف في كثير من المواقف، والضرب يجب أن يكون بحدود، يعني إذا كان ضربها كف لا يعتبر عنف، العنف هو ما يسبب الأذى مثل أن يكسر لها ذراعها أو يتسبب لها بعاهة مستديمة لا سمح الله». «ل. ع» امرأة في الثلاثينيات متزوجة ولديها ثلاثة أطفال: «النساء لا يصلحن للقيادة: المرأة كلمة بتجيبها وكلمة بتودّيها، سيّد البيت هو الرجل وهو المسؤول عن تأديب المرأة والأطفال بالضرب أو التقريع، ولكن بما يُرضي الله».

لقد أرجع ثلث المتحدثين وخاصة في محافظة المفرق أسباب العنف إلى وجود سوريات لاجئات يقبلن الزواج بمهور بسيطة، وهو ما دعا الكثير من رجال المنطقة إلى الإقبال على الزواج المتعدد، وكان من اللافت هيمنة خطاب مؤيد للزواج المتعدد لدى الرجال وقليل من النساء، بشرط أن يكون الرجل قادراً مادياً. فكانت العبارات الأكثر تردّداً «التعدّد هو الأصل، على الرجل القادر أن يتزوّج بأكثر من واحدة كحل لمشاكل العنوسة، تكثير النسل سنّة نبويّة… إلخ».

تعيدنا هذه الحالة من المفارقة المفاهيميّة على هشام شرابي (1975) وما بيّنه في كتابه مقدمات لدراسة المجتمع العربي في تقديمه للمجتمع العربي كمجتمع أبوي قائم على مفهوم العقاب البدني والترهيب وإرجاع الفرد إلى الجسد الممتد للجماعة كنوع من التأديب، ومنعاً للتمرّد والانشقاق، ففي ثقافة الجماعة لا مكان لمن انبتَّ وانشقَّ وشـذَّ عن الهيمنة الأبويّة للمجتمع.

فهذه الثقافات العربيّة التي لا تعترف بالفرد والفردانيّة ولا تقبل للفرد الاستقلال بمعزل عن الجسد العام للجماعة؛ هذه الثقافات ما زالت تعيش حالة من الصراع أو عدم الاتفاق مع ما تحاول أن تفرضه ثقافة الحداثة من إعلان لحرية الفرد ولحقوق الفرد وحماية الفرد من الجماعة. فمسألة العنف ضدّ المرأة ليست فقط مسألة تعود إلى الفقر والبطالة وليست فحسب مسألة تعود إلى استعمالات الدين الاجتماعية وإنما كذلك تعود لتصنيفات ضاربة العمق في الثقافة كما يقول بورديو.

(4) الدلالات والمعاني والرموز والصور المبنيّة حول الذكورة والأنوثة: جاء الاتفاق على عدة صفات إذا ما توافرت في المرأة فهي مثاليّة وفق رؤية المتحدثين من النساء والرجال. ومنها: «المرأة المطيعة التي ترضي الله وزوجها وأهلها والناس» أو المرأة الملتزمة بيتها كنز» أو «خير متاع الدنيا المرأة الودود الولود، أو المرأة صاحبة الدين التي تحتشم في لباسها وأخلاقها» أو «المرأة الجميلة نعمة من الله اذا ما منّ عليها الله بالأخلاق» أو «أفضل الرزق هو الزوجة الصالحة» أو «المرأة الجميلة والأصيلة هي الصابرة على الأذى» أو «المرأة المطيعة وغير المسترجلة هي المرأة المستورة التي لا تخرج أسرار بيتها إلى الخارج» أو «المرأة المثاليّة هي الأم التي تربي وتُحافظ على شرفها ومال زوجها» أو «المرأة الطيبة هي التي كلّما نظرت إليها سرّتك بجمالها وأخلاقها»…

أما معاني الرجولة، فكانت تختزل في عبارات من قبيل «الرجل هو اللي عنده غيرة على عرضه ودينه» أو «الرجل الحقيقي هو الذي يلبّي حاجات بيته وهو صاحب الهيبة والنفوذ» أو «الرجل الحقيقي من كان قوي الشخصيّة وصاحب الكلمة المسموعة في أهله وعشيرته ولا ينقاد من النساء».

(5) نتائج متضاربة حول العلاقة بين تمكين المرأة وتعرضها للعنف: بالنسبة إلى جماعات التركيز كان معظم المتحدثين يتراوحون في درجة تعليمهم بين الابتدائي والثانويّ. ولم يكن منهم إلا ثلاثة أفراد ممن أكملوا الدرجة الأولى من التعليم الجامعي أي شهادة بكالوريوس. ولئن لم تكن كل النساء اللاتي شاركن في الجماعات المركزة تعمل خارج البيت، غير أنهن يرين أنّ المرأة الأكثر تمكيناً تكون أقل تعرضاً للعنف من غيرها.

ولكن في المقابل نجد الرجال في أغلبهم يرى أن معظم مشاكل العنف التي تواجهها النساء راجعة بالدرجة الأولى إلى عمل بعض النساء بوظائف خارج المنزل. وهو ما تسبب في إهمال طلبات الزوج والأولاد والتقصير بواجباتها المنزليّة. ناهيك باستقوائها على الرجل، على حد تعبيرهم، مبررين ذلك بمقولة أن وظيفة المرأة الأساسيّة هي داخل المنزل، وأنَّ الله خلقها لهذه الوظيفة أي للأمومة دون غيرها.

وبالرغم من كثرة الدراسات التي تؤكد أن تمتع المرأة بوظيفة وبدخل شهري قارّ يقللان فرصة تعرضها للعنف والتهميش، إلا أنه يجب أن لا نُغفل أنَّ الهويات الذكورية التي بنيت تقليدياً وعبر معظم الثقافات العربيّة على دور المُعيل وصاحب الرزق والمتحكم برأس المال، تميل إلى إبعاد النساء عن هذا الامتياز وعن كل ما يوفره الفضاء العام من فرص وحرّيات قد تتمتع بها النساء في حال حصلن على عمل، أو أصبحن متحكمات ولو جزئياً بالاستقلاليّة الماديّة.

(6) مراكز حماية الأسرة ليست الحل الأمثل لمشكلة العنف: لم يتقبّل أفراد الجماعات المركّزة فكرة اللجوء إلى مراكز حماية الأسرة بنسبة ثمانين بالمئة. أمّا النسبة المتبقية فكانت مؤيدة مع تحفّظات، فهؤلاء لا يرون أنّ اللجوء إلى هذه المراكز قد يساهم في حل مشكلة إلا إذا كانت الأضرار بالغة ولا يمكن علاجها، أما إذا كانت الإصابات بسيطة فلا داع للتوجه لأي جهة خارج العائلة. وقد كانوا يعبّرون عن ذلك بعبارات من قبيل «أنا لا أستوعب أن تتجرأ البنت على أبيها أو الزوجة على زوجها وتشتكي عليه» أو «بنت الأصول تصبر وتحتسب عند الله» أو «المرأة المحترمة تتحمّل جوزها،» أو «بنت العشيرة ما بتفوت مراكز أمن وشرطة، عيب وعار عليها» أو «عيب وفضيحة بين الناس» أو «أنا أؤيد أن تشتكي في حال وصلت للعناية المركّزة» أو «مش كل ما انضربت المرأة كف تروح تشتكي…» هنا أيضاً نصطدم بهذه التصنيفات الميثولوجية التي تقسّم الأدوار والمكانات والصلاحيّات بين الجنسين، هي ذاتها التي تمنح المهيمن حق الكلام وتنكره على المهيمن عليه، وهي ذاتها التي تجعل من كل هذه الصفات والتصنيفات الثقافيّة للمرأة «المثاليّة» بنظرهم تبدو وكأنها طبيعيّة غير قابلة للمساءَلة.

2 – المرأة المعنَّفة في عيون الشخصيات القيادية

لقد وقع التركيز بصفة خاصة في المقابلات على أبرز الشخصيات والقيادات المحليّة التي يفترض فيها أن تكون أكثر اطّلاعاً على أحوال الناس وأوضاعهم المعيشيّة، كما يفترض أن تتمتع بنوع من السلطة أو قوّة التأثير في الأوساط الاجتماعيّة المحلية. وكان الهدف من إجراء هذه المقابلات التعرّف إلى نوع المعرفة التي تمتلكها هذه الشخصيّات في ما يتعلّق بظاهرة العنف المسلط على المرأة.

كان من بين هذه الشخصيّات رجال دين مسلمون (مفتون شرعيون) ومسيحيون (قساوسة وناشطون في العمل الإنساني والخدمات الاجتماعيّة) ورؤساء بلديات وأعضاء مجالس بلديّة، وناشطون وناشطات في ميدان العمل النسوي وحقوق الإنسان، ونائبة في البرلمان، ومرشدون نفسيون في مراكز التوعية والإرشاد الأسري، وواعظات شريعة إسلاميّة، ومحاميات ومحامون في اتحاد المرأة ومديرات مراكز تنمية، وباحثات في مراكز تنمويّة.

ولقد توصلنا من خلال هذه المقابلات إلى النتائج التالية:

أ – مفهوم ملتبس للعنف

لم تختلف هذه الشخصيات القيادية على أن العنف هو نوع من أنواع القهر والإقصاء والتهميش بمستوياته المختلفة. فالعنف بحسب هؤلاء لا يقتصر على الضرب أو إلحاق الأذى الجسدي بضحاياه فحسب، بل إنّ العنف هو أيضاً عنف اقتصادي مادي وعنف ثقافي وسياسيّ واجتماعيّ وسياسيّ. وهو أيضاً عنف في ما يتعلق بالتمييز الجنسيّ بين الذكور والإناث في التعامل والتعليم وفرص العمل، وهو أيضاً عنف في ما يتعلق بعدم المساواة في الميراث… وهو تعريف أكثر عمقاً على عكس فئة النساء المعنفة والرجال العاديين (من جماعات التركيز) الذين كانوا يعبّرون في تعريفهم للعنف على مفاهيم أضيق وأكثر مباشرة، كالعنف بالتعدّي بالضرب والشتم وإحداث الأذى الجسدي.

ويمكن إرجاع هذا الاختلاف في تحديد العنف إلى متغيرات اجتماعية من أهمها مستوى التعليم، والهرميّة الاجتماعيّة والقدرة الاقتصاديّة وغيرها من وسائل القوّة والتمكين. ففي حين كان أغلب المتدخلين من الفئة الأولى من ذوي الدخل المحدود، والمرضى، والمهمّشين اجتماعياً كانت أغلب الشخصيّات القيادية مستويات أعلى من التعليم والمكانة الاجتماعيّة والاقتصاديّة.

ففي الوقت الذي اعترف الجميع بأن الضرب هو من أبرز أنواع العنف، إلا أن نصف المتحدثين من الشخصيات القيادية تقريباً كانوا يبرّرون نوعاً من الضرب يرون أنه مشروع. وها هو إمام يرى: «الضرب في الإسلام يأتي كمرحلة ثالثة بعد وعظ المرأة أولاً ثم هجرها بالمضاجع، إذا كانت زوجة، ثم في حال لم تنفع هذه الوسائل على الرجل أن يمارس حقه بتأديب البنت أو الأخت أو الزوجة بالضرب الذي لا يُلحق الأذى» وها هو عضو مجلس بلدي يقول «يجب أن يحتفظ الأب بحق تأديب زوجته وأبنائه لكي يحافظ على نوع من الضبط والنظام وكذلك لكي لا يخسر هيبته أمام عائلته».

كما اختلفت هذه الشخصيات في مسألة اعتبار الزواج الثاني عنفاً. فها هي واعظة شرعيّة تقول: «زواج الرجل بأخرى لا يعد عنفاً ما دام الرجل عادلاً». ويقول واعظ: «تعدد الزوجات هو الأصل في الإسلام ما دام الرجل قادراً ولا يمكن أن نقول عن شرع الله إنه عنف»، في الوقت الذي رفض النصف الآخر الضرب جملة وتفصيـلاً واعتبروه وسيلة همجيّة ولاإنسانيّة ولا تتمتع بأي شكل من المشروعيّة في أي حال من الأحوال. رجل دين مسيحي يرى «الضرب مرفوض بكافة أشكاله». ناشطة في حقوق الإنسان: «الضرب للحيوانات وليس هناك حق للزوج في أن يضرب زوجته لأي سبب من الأسباب». محامية: «يجب أن نُخضع النص الديني لتفسير حديث يتلاءم مع حقوق الإنسان، فمن غير المنصف أن نقول إن القوامة حق للرجل في بيوت أصبحت تسهم المرأة فيها بما لا يقل عن ثلثي الأعباء الماديّة وغير المادية». مديرة مركز إرشاد أسري: «الزواج الثاني عنف مباشر، كيف يمكن أن لا نعدّه كذلك، لا يوجد امرأة لديها ذرّة من كرامة ترضى بأن تكون زوجة ثانية أو ثالثة، أنا أرفض ثقافة الجواري تلك، فالحياة الأسرية شراكة بين اثنين بالاحترام والتساوي».

وهذا الاختلاف في معنى العنف كان مرده انتماؤهم بنيوياً وفكريّاً بطريقة واعية أو غير واعية إلى قطب التقليد أو إلى قطب الحداثة. ورغم هذا الاختلاف فإن الأغلبية تتفق على أن الأمومة هي دور المرأة الأساسي. فمكانها في البيت وفي الشأن الخاص وليس لها أن تتدخل في الشأن العام وتتقدّم إلى مناصب سياسيّة.

ب – النساء هنَّ الفئة الأكثر هشاشة وأكثر عرضة للعنف

اتفق أغلب الشخصيات القيادية على أنَّ المرأة هي المعنَّف الأول في المجتمع، والزوجة على وجه الخصوص، ثم تأتي الأخت فالبنت ثم الأطفال بشكل عام سواءٌ في المنازل أو المدارس، وعزا الجميع ذلك إلى ضعف هذه الفئات وافتقارها إلى السلطة والمعرفة. فكانت تتردد عبارات مثل «المرأة ضعيفة لا تستطيع الدفاع عن نفسها» أو «المرأة فقيرة وغير مستقلة اقتصادياً» أو «الثقافة لا تحترم المرأة كما تحترم الرجل» أو «المرأة حلقة ضعيفة، المرأة غير حرّة».

ج – العنف النفسي هو العنف الأكثر انتشاراً في المجتمع

ترى الشخصيات القيادية أن العنف النفسي يحتل المرتبة الأولى من حيث درجة الانتشار في المفرق والزرقاء. وترى أنه يمارس بأساليب متعددة مثل: «تحقير المرأة، هجرها» أو «الاستهزاء بها والتشهير بسمعتها وتهديدها بالطلاق والزواج بامرأة ثانية» أو «تحقيرها بالأجر المتدني في العمل… ثم يأتي الضرب في عيون الشخصيات القيادية في المرتبة الثانية، ثم العنف الاقتصادي المتمثّل بالحرمان من العمل أو الميراث أو التملّك العقاري أو الحرمان من حق التصرّف بالأجر، أو الراتب الذي تتقاضاه بعض النساء من عملهن. على عكس جماعات التركيز الذين صنفوا الضرب كأكثر أنواع العنف انتشاراً.

د – الذكور هم الأكثر ممارسة للعنف

ترى الشخصيات القيادية أنّ الذكر هو الممارس الأول للعنف ويأتي الأزواج في أول قائمة الذكور ثم يتبعه الأخوة ثم الآباء ثم أصحاب العمل من مديرين ورؤساء مصالح.

هـ – الموروث الاجتماعي من أكبر أسباب العنف

تتفق الشخصيات القيادية على أن أهم أسباب العنف المسلط على المرأة هو بالدرجة الأولى الموروث الثقافي، على عكس فئة النساء المعنفات والرجال العاديين الذين يعتقدون أن العنف هو وليد الفقر والبطالة والحرمان. فها هي محامية ترى: «العادات والتقاليد تقلل من قيمة النساء وتجعل من الرجل سيداً ورئيساً ومسؤولاً، وتمنحه معظم الصلاحيات في الوقت الذي تعتبر المرأة تابعاً ضعيفاً». رجل دين مسلم: «لدينا موروث اجتماعي لا يحترم المرأة لأن الناس ابتعدت عن الدين». ناشطة نسويّة: «الفهم الخاطئ للدين هو أساس المشكلة، أنا أعمل في مركز إرشاد أسري وأغلب الحالات التي تراجعني هن من النساء المتزوجات من رجال دين أو من رجال متديِّنين». قسيس بكنيسة: «منظومة القوانين لدينا ضعيفة وقديمة وتحتاج إلى تحديث». نائبة في البرلمان: «افتقار المجتمع إلى الوعي والثقافة من أهم أسباب العنف، وأنا أعرف أغنياء وأصحاب مناصب يمارسون العنف ضد زوجاتهم إلى حد الضرب». واعظة شرعيّة: «الابتعاد عن الله وقلة الدين هي سبب انتشار العنف في المجتمع».

و – انتشار كبير للعنف المسلّط على المرأة

يعترف أغلب الشخصيات القيادية بانتشار واسع النطاق للعنف في هذه السنوات الأخيرة. ها هي ناشطة اجتماعيّة تقول: «ينتشر العنف بنسبة 60 بالمئة من مجموع العائلات في المجتمع». واعظة شرعيّة ترى أنّ: «العنف يحدث في أكثر من نصف المنازل». رجل دين مسيحي: «ليس أكثر من 30 بالمئة على حد اطّلاعي». عضو بلديّة: «يحدث العنف في أكثر من ثلث المنازل وخاصة الضرب». مفتٍ شرعيٌّ: «يحدث العنف في أغلب المنازل». ناشطة في قضايا المرأة وحقوق الإنسان: «هنالك ازدياد ملحوظ لحالات العنف في المجتمع الأردني وأكثر من نصف المنازل حسب خبرتي يحدث فيها ضرب الزوجات».

ز – عدم الثقة بالمؤسسات الرّسمية

أغلب الشخصيات القيادية لا تثق بالمؤسسات الرسمية التي تتوافر فيها هذه الخدمات في حال تعرضت المراة إلى العنف. وهذا الاعتقاد يوجد كذلك عند النساء المعنفات التي ترى أن لا أحد يمكن أن يحميها من العنف المسلّط عليها. وكانت تعليلاتهم كما يلي: رجل دين مسيحي: «أفضّل أن تتجه المرأة لرجال الدين، أو الأخ أو الأب أو الأقارب، المرأة إذا اشتكت على زوجها لجهة غريبة تسجّل ضدها نقطة سوداء وتثير على نفسها العداء». محامية: «لا أفضل أن تفضح المرأة زوجها وأبناءها بين الناس». عضوة مجلس بلدي: «يجب على المرأة أن تقيس النتائج والتبعات الاجتماعيّة في حال توجهت إلى جهات خارج العائلة، يمكن أن تتضرر بناتها في المستقبل من ناحية فرصهنَّ بالزواج». رجل دين مسلم: «لعلّ الإصلاح والردع من الأقارب يكون أنجع… إلخ».

ويرى ثلثا الأفراد من القيادات أن التوجه إلى العائلة هو الحل الأفضل.

أما الشخصيات الذين كانوا مؤيدين لفكرة التوجه إلى الجهات الرسمية كالأمن والمستشفى؛ فهي ترى أن الجهات المختصّة هي الأقدر على حل هذه المشاكل حـلاً جذرياً لما لها من معدات ومعرفة علمية وطبيّة. كما ترى أنّ تدخل الأقارب يزيد الطين بلة.

مرشدة نفسيّة في مركز توعية أسرية: «الأشخاص من الأقارب غالباً ما يسقطون مشاكلهم على تجربة الشخص المعنّف ويقدمون له النصح الخاطئ». رئيسة لجنة تنمية مجتمعيّة: «نحن دولة قانون والمفروض أن نحتكم إلى القانون، أنا على علم بمشاكل صغيرة تعاظمت لتشمل في عنفها عشائر بكاملها». محامية وناشطة: «رجال الدين عادة ما يستخدمون الترهيب ويطلبون من المرأة التنازل والصبر والخضوع، وهذا برأيي لا يحل مشكلة… نحن لدينا أمثلة كثيرة على قصص نجاح حققتها المراكز المتخصصّة».

ح – الجهات المقترحة للمشاركة في مكافحة العنف

تنوعت مقترحات المتدخلين، فمنهم من اقترح إشراك شيوخ العشائر في المناطق المحليّة ورؤساء الاتحادات النسائيّة والمحامين وخطباء المساجد. كما اقترح أكثر من ربع الشخصيات القيادية استبعاد رجال الدين مقابل ثلاثة أرباع المجموعة مؤيدون لتدخّل، لا رجال الدين والقضاة في المحاكم الشرعيّة فحسب وإنما أيضاً نشطاء المجتمع المدني والأطباء.

كلّ هذه الخطابات على اختلافها تستمّد قوّتها من ارتباطها بمعظم المؤسسات الاجتماعيّة كالمؤسسة التربوية والتعليميّة، ومؤسسة الأسرة والمؤسسات الدينيّة ومؤسسة الإعلام. وكذلك كل الطرق والاستراتيجيات التي تنظم وتضبط وتدير الحياة الاجتماعيّة للناس. فتشخيص المؤسسة الطبيّة للمرأة المعنفة على أنها الشخص الذي وقع عليه العنف وهو يحتاج إلى علاج، فذلك يعني نوعاً من الشرعنة لجعل جسد هذا الفرد موضوعاً لكل الأحكام والإجراءات الطبيّة والقانونيّة والأخلاقيّة. وهذا ينسحب على كل المؤسسات الاجتماعيّة ذات الهيمنة في كل المجتمعات، فالميل إلى اعتماد التفسيرات الدينيّة، أو إلباس معظم التبريرات لباساً دينياً، كما لمسنا من إجابات معظم المتدخلين، هو دليل لا يدعو إلى الشك في قوّة المؤسسة الدينيّة وفي قوّة خطابها وعمق تأثيره في تشكيل أفكار وسلوكات الناس.

ولكن هذا لا يعني أنَّ الخطابات أبديّة، أو لا يمكن تغييرها، فالخطابات تولد وتموت ولها تاريخ، كما أن هناك دائماً فرصة لخطاب موازٍ أو بديل. وهذا ما لمسناه في دراستنا هذه من تضارب للرؤى والتمثلات لمفاهيم ثقافيّة مركزيّة مثل مفهوم العنف والعقاب والـتأديب والتقسيم الاجتماعي للعمل بين الجنسين.

فكان أبرز ما ميّز خطاب بعض أفراد هذه الشخصيات القياديّة هو تلك الأصوات المغرّدة خارج السرب أو تلك الرافضة لخطاب الهيمنة من خلال تبنّيها لرؤية مخالفة. تلك الرؤية التي كانت منسجمة مع المبادئ الأساسيّة لحقوق الإنسان والمنطلقة من تجريم العنف بكل أشكاله ومعانيه.

إن مهمتنا في هذه اقتصرت على ما سمّاه غيرتز عملية إعطاء المعنى، أي إبراز هذا الصراع بين الرؤى المختلفة وبين هذه القراءات المتباينة للعنف وللمرأة المعنفة.

خاتمة: من امرأة الشأن الخاصّ إلى امرأة الشأن العام

يحاول الخطاب المعلن للمرأة المعنفة على وجه خاص وللشخصيات القيادية وللرجال العاديين بوجه عام إبراز العنف على أنه عنف جسدي بالدّرجة الأولى. وكأنّ تضييق الحرّيات على النّساء وحرمانهن السياسة ومن الكلمة الحرة ومن المعرفة ومن الفن ومن المقاومة ومن التمرّد على القيم والتصنيفات السائدة تصبح أمراً هيّناً لا يشكل خطراً كبيراً. كما أن هذا الخطاب المعلن الذي استمعنا إليه من خلال المقابلات والجماعات المركزة يحاول أن يرجع هذا العنف المسلّط على المرأة إلى الفقر والبؤس والبطالة والجوع والحرمان وضيق اليد، وكأنّ التقليد وما ينتجه أو يعيد إنتاجه من تصنيفات وثنائيات ميثولوجية بين الرجولة والأنوثة لا أثر لها على أرض الواقع. هذا الذي لا يقال، هذا الذي يُطمس حتى في خطاب الضحية نفسها، هذا المسكوت عنه هو الذي يهمّنا. علينا أن نذكّر أنفسنا بحقائق أصبحت من المسلّمات في الإنسانيات وفي الخطاب السوسيولوجي والإنثروبولوجي على وجه الخصوص؛ وهي أن المرأة المتأدبة، المتعفّفة، صاحبة العطر الجميل كما تقول فيرجينا وولف هي امرأة لا تُعطى هديّة أو قرباناً من السماء للمؤمنين وإنما هي نتيجة لمقاومة فاعلة لقوى التقليد المنتصرين في حلبة الصراع الاجتماعي في الأردن. وعلينا أن لا ننسى أيضاً أن العنف المسلّط على المرأة لا يمكن اختزاله في العقاب الجسدي. وإنّه ليس بحدث عابر يمكن أن نتخطاه ونتجنبه وليس بأفعى يمكن أن نقطع رأسها لنرتاح من شرها مرّة واحدة. وإنما هو سلوك يوميّ ثابت وسيرورة تأخذ كل مرة شكـلاً مختلفاً. وهو آلية تسكن اللغة والخطاب والتربية والتعليم، وهو آلية تشتغل في الحياة اليومية وفي المؤسّسات كعنف رمزي يهدف في نهاية المطاف إلى إقصاء المرأة وتغييبها من الشأن العام ومن التفكير النقدي والاستقلالية. إنه عنف ثقافة وتعليم وسياسة. فلئن كانت المقاومة الاجتماعية والسياسية ضرورية فهي لا تكفي. الأهمّ من الفعل السياسي هو خلخلة هذا الفكر التقليدي وزحزحة هذه التصنيفات التي تعطي المعنى للرجولة والأنوثة ولمنطق الأشياء عموماً. من هنا تأتي الحاجة إلى تكوين مراصد ومراكز بحث ومنظمات نسائية لتفكيك هذا العنف الرمزي وتعريته ومحاصرته في العائلة وفي المدرسة وفي المسجد، أو في الكنيسة وفي الطريق العام وفي جسدنا وفي كل حركة نقوم بها. وهو جهد وحلم وإرادة تحملها النساء في المقام الأول وعلى وجه الخصوص، وتحملها في ذات الحين وبنفس روح المقاومة قوى العلم والتنوير أو حقوق الإنسان، أمـلاً في أن تثمر وتترك أثراً في المستقبل القريب.