«الحاجة إلى الفلسفة، هنا والآن، معناها الحاجة إلى التنوير، وإلى التحرر من عوامل التخلف، وإلى قول الحقيقة وعدم الخوف من الحرية. ومعناها كذلك التخلص من ميتافيزيقية النص والإنصات لتحولات الخطاب والواقع».

محمد نور الدين أفاية
في النقد الفلسفي المعاصر (ص 123).

سأركز على دراسة بعض القضايا التي أثارها محمد نور الدين أفاية في القسم الثاني من كتابه الجديد: في النقد الفلسفي المعاصر: مصادره الغربية وتجلياته العربية، الذي عالج فيه «الكثافة النقدية التي تتضمنها الفلسفة وعلاقتها بأسئلة الوجود والحياة، وللأبعاد النقدية الثاوية، بل والمكونة للديمقراطية باعتبارها نظرة إلى الإنسان وإلى المجتمع، فضلاً عن كونها سياسة تنبني من المساءلة، والمراقبة»[1]. من خلال رصد مجموع القضايا التي تجعل من الفلسفة لا مجرد تأمل نظري بحت، بل فعلاً مقترناً بالواقع المعيش وباليومي، حيث يدعونا أفاية إلى إعادة النظر في طريقة وأساليب عمل الفلسفة، وربطها بالواقع اليومي المعاش بما هي نشاط يمنحنا الحياة السعادة بالمعنى الأبيقوري.

أذهب إلى القول إن الموضوعات الأساس التي تخترق القسم الثاني من الكتاب تتعلق بالدور النقدي للفلسفة اتجاه المؤسسة بصفة عامة، والمؤسسة التعليمية على وجه الخصوص[2]، واتجاه مسألة الديمقراطية. وبناء عليه أطرح التساؤلات التالية:

هل تسمح المؤسسة التعليمية بنشر فكر يقوم على المساءلة النقدية للواقع والتفكير الحر ونقد الأفكار السائدة، أم أنها تكبل الفلسفة وتفرض عليها مسايرتها في أهدافها وغاياتها؟ هل يمکن تصور بناء فضاء آخر للتفلسف خارج أسوار المؤسسة المدرسية والجامعية يسمح بممارسة فلسفية حقيقية وفعالة، أم إن التفكير في فضاء للتفلسف خارج المؤسسة هو مجرد طوباوية؟ وتذهب الثالثة إلى التساؤل حول: كيف يمکن استثمار فضاء المدرسة والجامعة من أجل تحقيق أهداف الفلسفة وترسيخ قيم العقلنة والحرية والنقد والاستقلال؟

أولاً: الفلسفة والمؤسسة التعليمية بالمغرب

لا ينكر أحد دور المؤسسة التعليمية بالمغرب في انتشار وتوسيع قاعدة تدريس الفلسفة، كما هي الحال في مختلف التجارب الدولية في تدريس الفلسفة[3]، فالمدرسة العمومية استطاعت بفضل جهود مختلف الأجيال المتعاقبة أن تحافظ على حضورها وأن تعزز مكانتها في المنظومة التربوية ببلادنا. وكما أن للفلسفة واجبات اتجاه المؤسسة بحيث يعتبرها البعض «طبيب المجتمع»، أو «المنقذ من الضلال»، فإن للمؤسسة التعليمية والسياسية أيضاً واجبات اتجاه الفلسفة، وحيثما تحضر المؤسسة بقوة باعتبارها المشرع الحقيقي فهي تحوٍّلُ دورها من دور المتعاون والمتشارك مع الفاعلين الحقيقيين والمعنيين المباشرين بالتدريس، إلى دور القائم على الواجب وحماية السياسات الموجهة، أي إلى الإلزام سواء في صيغته القانونيّة أو القيميّة.

يعود فعل «مأسسة الفلسفة» في تاريخ الحضارة البشرية إلى تقليد أفلاطون الذي استطاع أن يؤسس الأكاديمية في شروط وظروف خاصة. ولقد اتخذ هذا الحدث مع أفلاطون بعداً فلسفياً وقفت عليه حنة آرنت كثيراً باعتباره حدثاً يطرح سؤالي الحقيقة والحريّة، لأن انتقال الفلسفة من مجال الفعل/ساحة الأغوراء (سقراط وديوجين الكلبي وغيرهم)، إلى جدران الأكاديميّة (مع أفلاطون)، يتأطر ضمن مجال تصور الحرية والحقيقة، بحيث كان أفلاطون ينظر إلى الأكاديمية بما هي المنقذ من شطط وشغب السياسة، لأنها ستتيح الهامش الكامل والحرية اللازمة للفيلسوف لكي يمارس وظيفته في أمان بعيداً من الضجيج وصخب الشارع.

يعتقد أفلاطون أن الحرية ستبدأ مع الأكاديمية، فإذا كانت الفلسفة في الفضاء العمومي الأغوراء قد أدت بسقراط إلى الموت، فإن الأكاديمية ستوفر الحرية المثلى لتعليم الفلسفة والتفلسف (بعدها المدرسة المشائية/السكولائية)، وهو الأمر الذي لا يستسيغه السياسيون المنزعجون من الفلسفة (بما هي أداة لتخريب العقول – التهمة الموجهة لسقراط في المحاكمة) وسيرتاح السياسيون لأنهم قد فصلوا نخبة من المتعلمين داخل أسوار الأكاديمية/السجن، عن بقية المواطنين – أبناء النبلاء والأرستقراطيين. وهو ما تراه آرنت مخالفاً لطبيعة وجوهر الفلسفة، فما دام الإنسان حيواناً سياسياً بامتياز فإن جوهره هو الفعل السيّاسي، أو ما تسميه الحياة النشيطة (Vita-Activa)، وتخليه عن هذا الفعل سيؤدي به إلى فقدان حريته، ما دامت هذه الأخيرة مرادفة للسيّاسة: فمعنى السيّاسة بالنسبة لآرنت هو الحرية[4]، ومهما حاول الفكر الفلسفي القديم والحديث على حد سواء أن يضع حداً فاصلاً بين «الحياة التأملية» أو «حياة الفكر»، وبين «حياة الفعل» أو «الحياة النشيطة»، فإن ماهية الإنسان الحديث هي الفعل السياسي.

يشهد تاريخ الفلسفة على حضور سؤال المؤسسة في حياة بعض الفلاسفة الذين كان لهم دور كبير في تعزيز مكانة الفلسفة داخل المجتمع: كانط، هيغل، ابن رشد، الفارابي، توما الأكويني… إلا أن هذا التاريخ لا يهمنا كثيراً هنا إلا على سبيل إعطاء المشروعيّة للتساؤلات الإشكاليّة التي نلخصها في: إن الفلسفة بما هي مادة تدريسية، وأخذاً بعين الاعتبار استمرار النظرة الإقصائية حتى في صفوف من هم أجدر بالدفاع عنها، لن تستطيع أن تدافع عن حقها في الوجود والارتقاء بها ما لم يتوفر الوعي بضرورتها. إننا نواجه باستمرار هذه النظرة حتى داخل المؤسسات التعليمية. وحتى «الغايات والأهداف المرسومة في التوجهات الرسمية تعترضه العديد من المشكلات النظرية والمنهجية والتربوية والاجتماعية»[5].

وهنا نتساءل: هل فعلاً الغايات والأهداف المرسومة في تلك التوجيهات واعية بذاتها وتدرك جيداً ما تتوخاه من تدريس الفلسفة، أم أنها مجرد توجيهات؟ لا نعتقد أن المسألة تتعلق بالبيداغوجية في حد ذاتها، بل إن من أوجه المسألة غياب القرار السياسي، وهو قرار غير ممكن ولا معنى له بدون فاعلين يحملون قيم الأنوار.

في معنى التفلسف

يذهب أفاية إلى أن الفلسفة كمادة فكرية وتربوية تبقى «بالرغم من وضعيتها المؤسسية والثقافية، مجالاً للتنوير والتحفيز والاجتهاد، بل إنه من الأفضل، بجميع التقديرات، دعم الدرس الفلسفي داخل المؤسسات وترسيخه، بدلاً من ترك الميدان حراً للنزعات اللاعقلانيّة، حيث ينتعش التحجر، واللاتسامح، وإعدام التاريخ»[6]، وهو ما يجعلنا نعتبر أن غايات الدرس الفلسفي تتجاوز الممارسة الفصلية، وتخترق جدران الفصل الدراسي نحو الخارج حيث تدعو إلى قيم إنسانية نبيلة غير مستساغة لذوي النزعة اللاعقلانية، ولذوي النزوع نحو التحجر والتعصب.

يقف أفاية كثيراً على وضعية الدرس الفلسفي بالمغرب، ويعتبره درساً تحيط به إكراهات وضغوط تتعلق بالمناخ الثقافي العام وبما هو مؤسسي وبغياب الشروط المادية حيث يقول: «يعيش الدرس الفلسفي سواء كان جامعياً أو ثانوياً، مجموعة ضغوط، منها ما هو مؤسسي وما هو رهين بالسياق المادي، ومنها ما يتصل بالوضعية النظرية التي يتحرك ضمنها، وبالمناخ الثقافي العام الذي يتفاعل معه سلباً أو إيجاباً»[7].

وبطبيعة الحال أمكننا تلخيص هذه الضغوط في طبيعة المجتمع المغربي حيث تحضر السلطة التقليدية والمحافظة بقوة في القرار السياسي، ناهيك بالثقل التاريخي الذي نحمله معنا منذ مأساة ابن رشد.

يفرض علينا النظر إلى طبيعة العلاقة بين المؤسسة التعليمية والفلسفة، افتراض أن هناك اختلافاً جوهرياً بين أهداف وغايات الفلسفة، وأهداف وغايات المؤسسة التربوية. ففي الوقت الذي تتجه الفلسفة نحو نقد المألوف والسائد، وخلخلة الدوكسا، والثابت والآراء المسبقة حول المجتمع وثقافته وسلوكاته، تتجه المؤسسة بصفة عامة نحو تكريس السائد، وإعادة إنتاج التقليد والمحافظة على الأيديولوجيا المهيمنة. تبدو وظيفة المدرس حقاً مختلفة عما ألفناه، في حين أنه كخبير ومختص في مادته التدريسية، فهو لا يقوم بأي شيء إبداعي أو خارق. لأنه يقوم فقط بمساعدة التلاميذ على فهم النصوص وتفكيك المضامين، وتدريبهم على الكتابة الإنشائية.

ورغم ذلك يبقى مدرس الفلسفة بكل سلطاته التربويّة والمعرفيّة والمهنيّة في خدمة المؤسسة التعليميّة للأسباب التي ذكرناها أعلاه، لذلك نتفق مع دريدا في أنه لا وجود لمكان محايد وطبيعي في التعليم، أي أن الأمر يتعلق باتخاذ موقف سياسي، أي موقف القبول أو رفض اللعبة: هذا هو منطق السياسة. وهو ما يرفضه سلافو يجيجيك حينما يعتبر أن الفلسفة والسياسة مفترقتان: ففي الوقت الذي تتجه فيه السياسة صوب تدبير وتسيير وتقويم المجتمع أي حل المشكلات، تتجه الفلسفة نحو إثارة المشكلات وعلى الأخص المشكلات الجديدة؟ وبهذا المعنى تقف الفلسفة في وجه المؤسسة لأنها تخدم أغراض السياسة.

نجد في هذا الكتاب نظرة ثاقبة للمستقبل ولطبيعة الدرس الفلسفي، ولمهام مدرِّسي الفلسفة أيضاً، حيث يتساءل: هل التخصص مهنة في الفلسفة، أو حتى مادة تعليمية جامعية؟ ولكن رغم التفاؤل الذي تحمله هذه النظرة فإن النظر إلى واقع الدرس الفلسفي وإلى حال المشتغلين بها اليوم – مع كامل الأسف – يؤكدان بالملموس أن جزءاً غير يسير من مدرِّسي هذه المادة بالتعليم الثانوي وحتى الجامعي قد حولوا الفلسفة كتخصص إلى مهنة كغيرها من المهن: بل نذهب أبعد من ذلك إلى القول إنه قد تم تسليع الفلسفة، وصارت كغيرها من المواد مادة تمنح الامتياز، وتساعد على الترقي الاجتماعي، وإلا ما السبب في وضع الفلسفة اليوم في المغرب؟

أمكننا التمييز في هذا السياق بين منظورين للفلسفة عرضهما مصطفى محسن في بحثه لطبيعة العلاقة بين الفلسفة والمؤسسة التربوية حيث يشدد على أن الفلسفة تتعرض لحصار نتيجة سيادة منظورين:

أ – المنظور التقنوبيروقراطي (Technobureaucratique) الذي يرى أن الفلسفة مجردة وغير إجرائية، وعديمة الجدوى في النشاط الاقتصادي، ولا تستجيب لسوق الشغل وحاجات السوق.

ب – المنظور التقليدوي المحدث أو المستحدث (Traditionalisme modernisé ou modern) الذي يرى أن الفلسفة إلحاد، تؤدي إلى الاختلاف الفكري، تساهم في التشرذم والتفرقة.

ويمكن أن نختزل هذين المنظورين في ما سماه دريدا بأعداء الفلسفة:

العدو الخارجي: يتمثّل بالسلطة السياسية التي تملك القرار في تعزيز الفلسفة داخل المنظومة التعليمية من عدمه، بحيث يمكن اتخاذ قرار في الحكومة أو الوزارة ضد الفلسفة، ففي كل المجتمعات توجد قوى محافظة يمكنها الوقوف أمام الفكر الفلسفي بالنظر إلى ما قد يشكله من تهديد لبنيتها الأيديولوجية التي تخدم مصالح كمشة معينة أو قوى معينة. لكنه لا يتوجب النظر إلى الفلسفة وكأنها طبيب المجتمع، أو المنقذ من الضلال لأن من شأن ذلك أن يضر بها وأن يضعها في صف سياسي ضد صف سياسي آخر.

العدو الداخلي: يتمثّل بأعداء الفلسفة من الداخل، وهم أصناف ممن يسيؤون للفلسفة من داخل الفلسفة، حيث يجري السعي وراء أسلمة مضامين الدرس الفلسفي من طرف أشباه مدرسين يعملون باسم الفلسفة لغايات أيديولوجية محضة.

إن وضع تدريس الفلسفة اليوم بالمدارس المغربية بحاجة إلى تجديد على مستوى المناهج والمضامين المعرفية وأدوات الاشتغال، لأن الارتكاز على التجربة الفرنسية وحدها غير كاف؛ فثمة تجارب أخرى في العالم ناجحة ويمكن الاستفادة منها وخاصة تجارب العالم الأنكلوساكسوني: فهل ننجح يوماً في تطعيم وتجديد الدرس الفلسفي؟ ليست مضامين الدرس وأدواته وحدها من يحتاج إلى تجديد، بل يقتضي تكوين المدرسين والمشتغلين في حقل الفلسفة المدرسية إلى تجديد أيضاً، فالقضايا التي تشغل بالَهُم صارت في عداد الماضي أي حبيسة نقاشات الثمانينيات والتسعينيات التي أثيرت في فرنسا تحديداً.

ليست تأملات أفاية بنوع التأملات الفارغة من المعنى، ولا بنوع الشعارات الرنانة التي تعودنا سماعها في النقاشات الجارية، بل هي نابعة من عمق غيرته على الدرس الفلسفي في بعده المنهجي والمعرفي أيضاً، لأن «التفلسف معناه أن تفكر في ما تعرف وما تعيش وما تريد»[8]، وهو بذلك يخترق جداراً يعرف جيداً أنه ليس بهيِّن: فكيف لنا أن نفكر في ما نعرف وما نعيش وما نريد؟ إن الدعوة الى تأمل المعيش والتساؤل عن البديهيات والأحكام المسبقة لهو مغامرة حقيقية لا يمكن بدونها الحديث عن تفلسف حقيقي، فهذا الأخير «ليس مجرد ادعاء أو مغامرة، بل هو عمل وجهد لا يحصل من دون قراءات وأدوات بل معاناة»[9].

إن التفلسف يفيد في نظر أفاية كـ «نقد للمسبقات والأوهام وللأيديولوجيات… إنه عمل وكفاح سلاحه العقل وأعداؤه تعبيرات البلاهة والتعصب والانغلاق وحلفاؤه مختلف العلوم، وهدفه الحكمة والسعادة»[10]، وهنا يتضح بجلاء عمق النزعة الأبيقورية التي يستحضرها ويستشهد بها ما من مرة: «الفلسفة نشاط يمنحنا الحياة السعيدة من خلال الخطاب والبرهنة»[11].

من الواضح أن ربط التفلسف بالحياة والوجود في تفكير أفاية يهدف إلى ضرورة «بناء مقاربة فلسفية تعبر عن إرادة العيش بشكل مختلف وذلك بإعادة النظر في رؤيتنا إلى ذاتنا وإلى العالم»[12]، وعلى هذا الأساس فإن وظيفة الفلسفة والفعل الفلسفي هو «زرع الأفضل في حدود الوجود المعيش، وجعل النشاط الفلسفي قادراً على تحقيق هذا الأفضل بالفعل، بدل إرجاء الأفضل إلى عالم آخر كما تفعل ديانات الحق»[13]، وهنا نتلمس حقيقة الفعل الفلسفي الذي يتجاوز أسوار الفصول الدراسية، لأن «الحاجة إلى الفلسفة، هنا والآن، معناها الحاجة إلى التنوير، وإلى التحرر من عوامل التخلف، وإلى قول الحقيقة وعدم الخوف من الحرية. ومعناها كذلك التخلص من ميتافيزيقية النص والإنصات لتحولات الخطاب والواقع»[14].

يؤمن أفاية إيماناً عميقاً بقدرة الفلسفة على القيام بوظيفتها النقدية، فرغم الصورة السلبية التي يرسمها الجميع عن درس الفلسفة و«رغم كل العوائق التي لا تزال تحيط بالدرس الفلسفي في المغرب وفي الوطن العربي ككل فإن هناك بصيص أمل أن هناك من لا يزال يجتهد داخل الحقل الفلسفي ولا تزال أنوية شابة تعمل على توصيل السؤال وتبليغ الهمّ الفكري»[15]. بهذه النظرة التفاؤلية يدعو أفاية إلى النظر في ما سماه التحديات الكبرى:

– الابتعاد عن التعامل مع الفكر كمجالات تأسست خارجه؛

– أن يقدر المفكرون استراتيجيات القول وإرادة القوة السياسية الساعية إلى ترتيب فضاءات الناس.

– فضاء عمومي منفتح وأكثر إنسانية؛

فهل نستطيع مواجهة هذه التحديات؟

ثانياً: الفلسفة في الفضاء العمومي أو الفلسفة خارج المؤسسة

يتعلق الأمر في هذا المستوى بالسؤال التالي: كيف يمکن تصور بناء فضاء آخر للتفلسف خارج أسوار المؤسسة المدرسية والجامعية يسمح بممارسة فلسفية حقيقية وفعالة أم إن التفكير في فضاء التفلسف خارج المؤسسة هو مجرد حلم طوباوي؟

لا أحد ينكر أن لمريدي الفلسفة، من مدرِّسين ومهتمين وعشاق، أدواراً هامة في تعزيز الفكر الفلسفي وتطويره، ذلك أن الترجمة في جزء منها غير مرتبطة بالمؤسسة، وليست حتى ممولة من قبلها، كما نجد أن الحس الفلسفي في الفن المعاصر وفي السينما وفي الأدب لا يرتبط بأي التزام مؤسسي.

تنامت مع موجة الربيع العربي ثقافة ووعي جديدان تحملهما أجيال شاركت في انتفاضات هذا الربيع. لا نعرف الكثير عن هذه التجارب، ولكننا على يقين أن الفلسفة «فالزنقة» (أي في الشارع) بتونس والمغرب، ومسرح الشارع بالدول المغاربية قد يؤديان أدواراً هامة في نشوء وبروز ثقافة جديدة.

وقد بدأ بعض الشباب المنتسبين إلى الاتحاد من أجل إصلاح المنظومة التعليمية، تجربة الفلسفة فالزنقة بكل من البيضاء والرباط واتسعت لتشمل مدناً أخرى، ولقيت إقبالاً واسعاً في صفوف الشباب، وهي مبادرة تقوم على الاتفاق (على صفحات الشبكات الاجتماعية) على موضوع فلسفي معين للمناقشة ويلتفون حوله في إحدى الساحات العمومية ليتبادلوا أطراف الحديث حوله، ويختمون نقاشهم بخلاصات عامة.

تستحق هذه المبادرة وغيرها كل التشجيع، وهي شبيهة بتجربة القراءة في الساحات العمومية. ويكمن تميزها فقط في كونها تجربة متحررة من سلطة المؤسسة ووصايتها، وحتى حضور المدرسين أو المهتمين والمتخصصين، لا يشكل عائقاً، لأنهم يفقدون هالتهم وسلطتهم التي تمنحها لهم المؤسسة، وبذلك يتساوى الجميع في النقاش والاعتراض والتحفظ والتدخل. هذا ناهيك بأن المجتمعات المحافظة تحتاج إلى مثل هذه المبادرات لخلخلة السائد.

أما عن كون هذه الفضاءات غير المؤسسة، مجرد طوبى فلا نعتقد ذلك، مع الإقرار بالاختلاف بين كلا المجالين فمجال المؤسسة شيء والمجال العام شيء آخر. وصحيح أن الرهان عليه أمر لا مفر منه، ولكنه ليس هو كل شيء لأن المؤسسة تؤدي أدواراً هامة بالنظر إلى الإمكانات المتاحة والاعتراف الرسمي بهذا التدريس، ويبقى النضال من أجل الرقي بوضع الدرس الفلسفي وغاياته رهاناً حقيقياً، ولن ننتظر طريقاً مفروشاً بالورود، بل يجب تطهير الطريق من الشوائب، لأن نهراً راكداً تملؤه الطحالب ولكن سرعان ما يتخلص منها مع أول غيث.

ثالثاً: علاقة الفلسفة بالديمقراطية

«يتكئ دوماً الخطاب الفلسفي العربي على مرجع منفصل عن سياقه الثقافي، الأمر الذي يجعله يعاني «غربة مزدوجة»: غربة عن الواقع الثقافي الذي كثيراً ما يعاند كل تفكير عقلاني، تنويري، وغربة عن الروح الفلسفية»

(ص 121).

ينطلق محمد نور الدين أفاية لبحث العلاقة الشائكة بين الفلسفة والديمقراطية من التساؤلات التالية:

- هل يمكن تصور دور ما للفلسفة في ظل التحولات الجارفة الجارية على الصعيد الدولي؟

- هل يحتمل منطق العولمة بانكساراتها وأزماتها وحساباتها النجاعة والمردودية الاقتصادية إمكان إدخال هامش من التأمل والتفكير؟

- ما هو دور الفلسفة في المجال الديمقراطي؟

- كيف يمكن للفلسفة، وللديمقراطية معها، أن تساهم في تكوين المواطنين؟ وما هي وسائلها ومقاصدها؟

إن اختيارنا لموضوع الديمقراطية من بين موضوعات الكتاب لهو نابع من قناعة أن أفاية له إسهام كبير ومتنوع حول هذا المفهوم تأليفاً وممارسة، فهو الفاعل الذي لم يتوانَ يوماً عن الدفاع عن القيم الكبرى للتنوير: المساواة، العدالة الاجتماعية، حرية الرأي والتعبير، حق المشاركة والفعل السياسيين… وهو المفكر الذي اهتجس بالديمقراطية ونظر في الموضوع أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، لهذا فإن الإحاطة بكل ما أنتجه حول سؤال الديمقراطية يحتاج إلى عمل مفرد وإلى بحث أكاديمي رصين.

تمثل تغيرات السيّاسة في عالم اليوم الهاجس الأكبر لأفاية في اختياره لموضوعة الديمقراطيّة، ناهيك بمحيطنا الثقافي والسيّاسي والاجتماعي، أي الطبيعة المركبة لمجتمعنا المغربي. بحيث يدعو إلى تدقيق النظر في العلاقة بين الفلسفة والديمقراطية من خلال رصد الموقفين المتعارضين حول دور الفلسفة اتجاه الديمقراطية، لأنه «يصعب تصور تسخير الأولى قصد تحقيق الثانية»[16]، وسيكون من الخطأ «اعتبار الفلسفة دعامة للديمقراطية بالضرورة، وسنكون واهمين إذا عملنا على تنمية تدريس الفلسفة وانتظرنا، من خلال ذلك، نتائج تخدم وتنشر القيم الديمقراطية بكيفية آلية ونفعية»[17]… وها هو يقول «إنه من الصعب الاستنتاج بأن أي فيلسوف أو من اكتسب معرفة فلسفية، إنسان ديمقراطي بالضرورة، ويشهد تاريخ الفكر الفلسفي على هذا التعارض الصارخ بين الفلسفة وسؤال الديمقراطية، بحيث إن السياق يفرض نفسه: ألم يدافع توماس هوبز عن الحكم الملكي المطلق في وجه الجمهوريين باسم المصلحة العامة؟ الديمقراطي الحقيقي، في نظر أفاية، هو الفاعل الحقيقي للديمقراطية، وليس ذلك الذي يتمنى الديمقراطية في برجه العالي وكأنها قدر ستأتي يوماً لا محالة. غير أن الديمقراطية لا تفيد في نظره مجرد أسطورة أو حكاية بل هي ممارسة لا تخلو من سلبيات، وتقبل التطور والتغير، من هنا يستحضر النقاش المعاصر الذي دشنه الفيلسوف الألماني المعاصر هابرماس إلى جانب رواد الليبرالية السياسية الأمريكية: جون راولز وتشارلز تايلور حول الديمقراطية التمثيلية والتي تعيش أزمة حقيقية في عصر العولمة.

لقد أبانت العولمة عن حدود الديمقراطية التمثيلية من جهة ظهور مؤسسات عالمية تدير حكماً سياسياً دولياً، وهي مؤسسات تمارس سلطتها على مجموع الكوكب دون الحاجة إلى أية شرعية انتخابية أو شعبية، من قبيل مجموعات الدول الثماني الكبار أو مجموعة العشرين، التي تضع مصير مواطني العالم بين أيدي الشركات المتعددة الجنسية، ولنأخذ كمثال على ذلك اتفاقية «AMI» (الاتفاقية متعددة الاستثمار) التي تمنح الحق للشركات للاعتراض على قرارات دولة ما تمس بمصالح الشركة. لقد صار قرار الدولة بسيادتها ومؤسساتها وعمليتها السياسية ككل موضع سؤال، وتعاظم دور الاقتصاد أمام دور الدول.

يقترح أفاية توليفة متأنية وعميقة للدور المفترض للفلسفة اتجاه الديمقراطية لأن «ممارسة التأمل الفلسفي لا تفهم بوصفها مقاربة لتاريخ الأفكار بمقدار ما يفترض فيها المساعدة على تكوين المواطن وتطوير حسه النقدي التحليلي وتقديره لتنوع الحجج واختلافها ووعيه بنسبية الأمور. وتمثل المساهمة في تنمية القدرة على الحكم معطى أساسياً في الحياة الديمقراطية، خصوصاً إذا ما حصل تجاوز الإطار الضيق للاختصاص وتلاه الانفتاح الملائم على وسائط الاتصال الجديدة لمحاربة الأمية الفكرية ونشر الفكر العقلاني»[18]، بحيث إن ما يقرِّب الفلسفة من الديمقراطية في نظره هو القدرة على النقد الذاتي أي قدرة الفلسفة على إعادة النظر في أساسياتها وقدرة الديمقراطية على تطور مؤسساتها في خدمة المواطنين.

في المشترك بين الفلسفة والديمقراطية

لا تسير الفلسفة مع الديمقراطية دوماً في اتجاه واحد، كما إن حضور الفلسفة في بلد من البلدان لا يقترن بالضرورة بالديمقراطية بل يرتبط الأمر بالإرادة السياسية وبمرونة القرار السياسي، وإن التاريخ الثقافي والفكري لبلد ما قد لا يساير تاريخه السياسي، فهناك «بلدان ديمقراطية لا تعير الفلسفة أي اهتمام، ولا تدمجها في نظامها التربوي، أو تستدعيها في حياتها الثقافية، كما هو الشأن بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية»[19]، وبهذه الإشارة فإن رهان مؤسسة اليونسكو أن تحقق الفلسفة وتعزز الديمقراطية في بلدان مستبدة أو أوثوقراطية هو رهان يقبل النقض، وعلى العكس من ذلك نجد الفلسفة حاضرة بقوة في بلدان غير ديمقراطية، ما يطرح السؤال حول أطروحة اليونيسكو.

يحدد أفاية التقاء الفلسفة والديمقراطية في أربعة مستويات:

1 – الشك: بحيث إن البحث عن الحق والمناقشة حول العدالة يتطلب: خلخلة اليقينيات، ومساءلة الثابت، والانتقال من الأجوبة إلى الأسئلة؛

2 – الكلام: أي ضرورة المناقشة والنقد ومواجهة حجج الآخرين سواء في مجال الفكر الفلسفي أو في معترك السياسة؛

3 – المساواة: لأن المساهمة في الحوار والمناقشة لا تتطلب أي ترخيص أو أية سلطة أو صفة، بل القدرة على الكلام والإقناع والحجاج؛

4 – التأسيس الذاتي: بحيث إن «الفلسفة والديمقراطية تستمدان قوتهما من ذاتيهما، ولا تخضعان لأية قوة غير منبعثة منهما»[20].

تمثل هذه المستويات بحق مجالات اشتغال الفلسفة السياسية والعلوم السياسية معاً، مع افتراض التمايز الممكن بين الخطاب الفلسفي وبين الخطاب السياسي، ففي الوقت الذي يتجه هذا الأخير نحو غايات نفعية ولحظية تهدف إلى تدبير الشأن العام، فإن الخطاب الفلسفي يهدف إلى مساءلة الخطاب السياسي برمَّته وإلى إثارة المشكلات، لا كما يراها السياسي ذو النظرة الضيقة – ولربما لأنها تتعارض ومصلحته الخاصة – وإنما كما يراها منطق العقل في تاريخيته وفي بعده الكوسموبوليتي. وبموجب هذا يقر أفاية «أن الفلسفة في الأول والأخير، اختيار فكري وتربوي وسياسي، نجد من يعتبره وسيلة لتعزيز العملية الديمقراطية، وتحفيز التفكير الحر، ونلقى، في المقابل، من يرى أن هناك أولويات اقتصادية واجتماعية يتعين توفيرها، أولاً، قبل الانشغال بقضايا الفلسفة وبأمور تدريسها»[21]، ورغم ذلك فالقرار السياسي يستحضر البعد الديمقراطي للفلسفة لأن مهمة الفلسفة هي «تكوين المواطن، وتطوير حسه التحليلي، وتقديره لتنوع الحجج واختلافها، ووعيه بنسبية الأمور»[22]، هكذا يشدد أفاية على أن «المساهمة في تنمية القدرة على الحكم تمثل معطى أساسياً في الحياة الديمقراطية»[23] وهي التنمية التي يمكن أن تقوم بها الفلسفة.

 

قد يهمكم أيضاً  في المراهنة على الفكر والنقد

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الفلسفة_في_المغرب #المغرب #الفلسفة #محمد_نورالدين_أفاية  #الفلسفة_والديمقراطية #النقد #النقد_الفلسفي #التفلسف #دراسات