مقدمة:

خرجت في 17 أيار/مايو 2018 تقارير صحفية تتحدث عن مقتل أبو براء الشامي مسؤول إعلام داعش أو من أُطلق عليه وزير إعلام التنظيم بعد ضربات جوية عراقية استهدفت اجتماعاً للتنظيم داخل الأراضي السورية‏[1]. جاءت تلك الضربات بعد أقل من ثلاثة أسابيع من كشف شرطة الاتحاد الأوروبي «يوروبول» عن عملية وجهت لمعاقل التنظيم الإعلامية، مثل وكالة أعماق وراديو البيان، التي كان التنظيم يتخذها منابر لتبني العمليات الإرهابية ونشر الدعاية المؤيدة له والداعية لتنفيذ هجمات في أوروبا. شارك في الحملة فرق من بلجيكا وبلغاريا وكندا وفرنسا وهولندا ورومانيا وبريطانيا والولايات المتحدة‏[2].

كانت خسائر تنظيم الدولة قد توالت في خريف عام 2017 في كل من العراق وسورية حتى خرجت تصريحات روسية وأمريكية في كانون الأول/ديسمبر 2017 بهزيمة التنظيم في الأراضي السورية. كما أعلن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في الشهر ذاته الانتهاء من «تحرير آخر معاقل» تنظيم داعش في العراق‏[3]. نظرياً كان ذلك يشير إلى فقدان التنظيم ساحة القتال الرئيسية التي ظهر عليها بهدف إقامة دولته المنشودة. لكنه لم يكن يعني اختفاء التنظيم أو عدم القدرة على الظهور في أمكنة أخرى. وأخيراً، تبقى الساحة الأهم والأصعب والأكثر صموداً لداعش ألا وهي الإنترنت.

يلجأ داعش عادةً إلى الأحداث التي تجتذب اهتماماً عالمياً واسعاً ليمارس حملاته الدعائية الساعية لإثارة الرعب بين الجماهير وتأكيد البقاء. فنراه يهدد تنظيم كأس العالم لكرة القدم عبر مقولة: «نحن في روسيا»، أو نشره صورة أحد الاستادات الرياضية الروسية مصحوبةً بعبارة: «ستمتلئ الأرض بدمائكم»‏[4]. ولعل الخوف من استغلال الفضاء الإلكتروني لإرسال التنظيم رسائله المشفرة لأعضائه هو ما دفع الاتحاد الدولي لكرة القدم للإعلان بأن الإجراءات الأمنية في بطولة كأس العالم 2018 بروسيا، ستتضمن مراقبة منصات التواصل الاجتماعي.

في سياق ما عُدَّ مؤشراً لما تعانيه الدول – بما فيها الدول الغربية – في مواجهة التطرف في الفضاء الإلكتروني، صرحت في حزيران/يونيو 2017 رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي عقب هجوم «لندن بريدج» أنه لا بد من صوغ اتفاقيات دولية تنظم الفضاء الإلكتروني حتى يتم حرمان المتطرفين من المساحات الآمنة على ذلك الفضاء‏[5]. ثم عادت في تشرين الأول/أكتوبر 2017 لتؤكد أنها ستتخذ موقفاً أكثر حزماً حيال من ينشرون التطرف على الإنترنت بل ومعاقبة ليس فقط من يبث تلك المواد المتطرفة وإنما أيضاً من يتصفحها بحيث قد تصل العقوبة إلى الحبس 15 عاماً‏[6]. جاء ذلك التصريح الأخير بعد أيام من صدور دراسة عن مركز الأبحاث البريطاني Policy Exchange صُنفت فيها بريطانيا الأولى أوروبياً والخامسة عالمياً في تصفح المواد المتطرفة على الإنترنت‏[7]. ثم امتدت التهديدات لتشمل الشركات العملاقة العاملة بمجال الإنترنت وشبكات التواصل حيث طالب وزير الدولة لشؤون الأمن في بريطانيا تلك الشركات بتحمل مسؤولياتها حيال مراقبةٍ أكثر صرامة للمحتوى الذي ينشر عبرها وتتحمل الدولة تكلفة إعاقته بالمنع أو التشفير وإلا فإن الشركات ستجد نفسها مضطرة إلى ذلك عندما تدفع المزيد من الضرائب‏[8]. وفيما بدا استجابة من الشركات لتلك الانتقادات والتهديدات قام موقع «يوتيوب» بتطوير برنامج آلي يرصد مقاطع الفيديو المتصلة بالتطرف، وصرحت رئيسته التنفيذية بأن عام 2018 سيشهد تعيين مزيد من الموظفين لكشف المحتوى غير الملائم، وبأن الشركة ستطور أدوات لتعديل أو حذف التعليقات التي تحض على العنف والتطرف‏[9].

يأتي ذلك في ضوء حقيقة مفادها أن دور شبكات التواصل الاجتماعي لم يعد يقتصر على التفاعل بين مشتركيها عبر إرسال واستقبال الرسائل ومشاركة الآراء والملفات، ولكنها أضحت جزءاً مما أطلق عليه الإعلام الجديد، حيث لم يَعُد الفرد العادي مجرد متلقٍ للخبر وإنما أصبح منتجاً له. وما بين دراسات ترى في الإعلام الجديد أداةً لتعميق التفاهم والتواصل مع الآخر، ودراسات أخرى اعتبرته نقمةً خلقت علاقات زائفة ودفعت الأفراد إلى الانعزال عن مجتمعاتهم والهروب إلى عالم افتراضي، ظهرت تحليلات ترى أن ذلك النمط من الإعلام قدم العديد من الفرص لكنه مثّل أيضاً تهديداً للمجتمعات والدول.

يدور التساؤل الرئيس للدراسة حول: كيف استخدم تنظيم الدولة الإنترنت لتيسير الوصول إلى قطاعات من جمهوره المستهدف كان يصعب الوصول إليها سابقاً؟ والإجابة عن ذلك التساؤل تتطلب الإجابة أيضاً عن التساؤلات الفرعية التالية:

– كيف شكلت الإنترنت ساحة جديدة للحرب ضد التطرف؟

– كيف ساهمت طبيعة الجمهور المستهدف في فعالية الإنترنت كأداة لاستقطابهم؟

– لماذا لجأت تلك القطاعات من الجمهور إلى الواقع الافتراضي؟

– ما هي مخاطر وحدود الاستعانة بالإنترنت من جانب التنظيم المتطرف؟

تبدأ الدراسة بتناول بعض القضايا المفاهيمية التي يثيرها موضوع البحث ثم تتنقل تباعاً للإجابة عن تلك التساؤلات التي طرحها الباحث.

أولاً: حول مفاهيم الحرب والعدو وعلاقات القوة

تأتي استعانة التنظيمات المتطرفة – مثل تنظيم الدولة – بالواقع الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها في ظل تطور مفاهيم مثل الحرب، والعدو وماهيته، وعلاقات القوة، التي تسود في ذلك الواقع الافتراضي، وسعي التنظيمات المتطرفة لفرض هيمنتها على الأفراد. ويسعى هذا القسم من الدراسة إلى التعريف بإيجاز بتلك القضايا المفاهيمية.

1 – حول مفهوم الحرب

الحرب – حسب كلاوزفيتز – ما هي إلا مبارزة واسعة النطاق. المبارزات اللامتناهية العدد تصنع الحرب، ولكن الصورة الأشمل يمكن تصورها عبر تخيل زوج من مصارعي الذراع. يسعى كل طرف منهما عبر قوته الجسمانية إلى إجبار الآخر على الإذعان لإرادته ويكون هدفه الآني هو إطاحة خصمه لجعله عاجزاً عن المقاومة‏[10]. ذلك المفهوم التقليدي، الذي عبرت عنه المواجهات المسلحة بين الدول، شهد تطوراً عبر ظهور فاعلين جدد من غير الدول وأشكال أخرى من المواجهات الصراعية التي يمكن اعتبار حروب الإنترنت أحد تلك الأشكال الجديدة.

حروب الإنترنت هي مفهوم شديد الاتساع بحيث يشمل قيام الأطراف المتصارعة باستخدام الوسائل التي توفرها شبكة المعلومات لإلحاق الضرر بالطرف الآخر، وقد يندرج تحت ذلك قيام جماعات إرهابية باستهداف الحواسب الآلية التي تدار من خلالها مواقع حيوية في البلدان المعادية لها أو استهداف الصفحات الرسمية والمواقع الإلكترونية لهيئات مهمة بتلك الدول. لكن البحث هنا سيركز بالأساس على استخدام الإنترنت في الحرب بين الجماعات الإرهابية والدول التي تستهدف فيها تلك الجماعات تجنيد أعضاء جدد سواء لنشر عقيدتها أو القيام بعمليات إرهابية داخل تلك الدول.

لذا لم تعد الحروب تأخذ فقط ذلك الشكل التقليدي المتمثل بالمواجهات المسلحة بين الدول. ففي سياق الحرب ضد الإرهاب ظهرت تنظيمات وجماعات من غير الدول تدخل في مواجهات دامية مع الدول. كما أضحى الكثير من الدول تواجه تحدياً حقيقياً من الداخل عبر اعتناق بعض مواطنيها أفكاراً متطرفة وصلت إليهم عبر الفضاء الإلكتروني وأصبح أولئك الأفراد – سواء اختاروا البقاء داخل دولتهم أو قرروا السفر للانضمام إلى أعضاء التنظيم بالخارج – مصدر تهديد لتلك الدولة. ففي الحالة الأولى قد يقوم أولئك المواطنون بتجنيد آخرين أو القيام بأنفسهم بعمليات إرهابية داخل الدولة ويصعب التنبؤ بتوقيت حدوثها؛ حيث يكون أولئك الأشخاص – ممن يطلق المراقبون عليهم «الذئاب المنفردة»‏[11] – عادةً ممن ليس لهم سجل إجرامي أو تاريخ من اعتناق الأفكار المتطرفة‏[12]. وفي الحالة الثانية رغم مغادرتهم البلاد إلا أن منهم من يقرر العودة معلناً تبرؤه من الأفكار المتطرفة وأنه لم يرتكب أي جرائم خلال فترة انضمامه للتنظيم، ولكن ليس هناك من ضمان بصدق تلك النيات. على سبيل المثال لاحظت السلطات الألمانية أن سبع داعشيات ألمانيات عُدن في النصف الثاني عام 2017 إلى البلاد من السجون العراقية والكردية لكنهن سرعان ما اندمجن مجدداً في أوساط المتشددين عبر حلقات ومساجد معروفة بارتياد المتشددين لها‏[13]. من ثم يصبح لزاماً على الدولة أن تضع هؤلاء الأشخاص تحت المراقبة أو الملاحظة للتأكد من تخليهم عن الفكر المتطرف، وهناك من الدول من يجد في عودة هؤلاء وسيلة لجمع المعلومات عن التنظيم المتطرف. ولعل ذلك التخوف من عودة مقاتلي داعش الأوروبيين هو ما دفع وزير الدفاع البريطاني غيفن ويليامسون للتعهد بتتبُّع المسلحين الذين فروا إلى دول أخرى غير سورية والعراق، ومنعهم من العودة إلى بريطانيا فصرّح بأن «إرهابياً ميتاً لا يمكنه إلحاق الضرر ببريطانيا»‏[14].

2 – حول مفهوم العدو

تبرز قضية من هو العدو في ظل طبيعة العالم الافتراضي التي يصعب معها التيقن من هوية صاحب صفحة موقع التواصل، ناهيك بإمكان اختلاق صفحات وهمية أو غير حقيقية لشخصيات معروفة. وعلى الرغم من اجتماع أغلبيتهم على الكراهية العلنية والعداء للغرب عموماً، إلا أن الجماعات المتطرفة أدركت أهمية الاستعانة بتقنيات التواصل التي اخترعها ذلك العدو لتصنع ميداناً جديداً للمعركة‏[15]. بل إن فريق عمل داعش الإعلامي يتميز بتنظيم وكفاءة حتى تكاد تتمناه كبرى دوائر التسويق الإلكتروني بشركات ومؤسسات عالمية‏[16]. كما اعترف من قبلُ مسؤولون أمريكيون أنهم يلاقون صعوبات في التصدي للآلة الإعلامية لداعش.

تبرز أيضاً مصادر التهديد التي تمثلها الجماعات المتطرفة في ذلك الخطاب الطائفي الذي يتبناه أنصارها ويستعدي كل من يخالفه. على سبيل المثال، إحدى نصيرات تلك الجماعات – تسمي نفسها أم خطاب – كتبت على تويتر: هناك معسكران في ذلك العالم، إما معسكر الإيمان وإما معسكر الكفر، ولا شيء بينهما‏[17]. لذلك تمنح الحرب الفرصة للتنظيمات المتطرفة أن تلعب على وتر الهوية؛ فهي تعيد تفسير المواجهات بين أعدائها بوصفها صراعاً بين أصحاب هويات مؤمنة وعلى الطريق القويم وهم بالأساس أعضاء التنظيم ومعتنقو أفكاره، وآخرين أصحاب هويات ضالة أو كافرة وهم الخصوم من دول أو تنظيمات أخرى تحاربهم.

تفرِّق التنظيمات الجهادية المتطرفة عادةً بين العدو القريب والعدو البعيد. يقصد بـ الأول من وجهة نظر تلك الجماعات أعداء الدين من داخل العالم الإسلامي «التقليدي»، ومن أمثلتهم الأنظمة العلمانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أما الآخر فتطلق تلك التنظيمات عليه «التحالف الصليبي – الصهيوني» المعادي لها‏[18]. أما الدول الغربية التي ضربها الإرهاب فقد بات جلياً من تصريحات مسؤوليها أنها لم تعد تتساءل: من هو العدو؟ هل هو ذلك التنظيم المتطرف الذي نجح في بث أفكاره وتنفيذ مخططاته الإرهابية داخل الدولة أم هم أولئك الأشخاص من ضحاياه الذين اعتنقوا أفكار التنظيم من مواطني الدولة ورأوا فيه معبِّراً عن هوياتهم التي تخيَّلوها وعبَّروا عنها عبر العالم الافتراضي؟ فالإجابة أضحت بأن كليهما لا يقل خطورة عن الآخر وينبغي التعامل معهما سواءٌ كعدو مباشر أو كمصدر للتهديد.

بعد أن أضحى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) من أكثر الجماعات المسلحة استقطاباً للمقاتلين الأجانب، احتلت تلك القضية محور جلسة مجلس الأمن في 29 أيار/مايو 2015. فقد زاد عدد هؤلاء المقاتلين آنذاك على 25 ألف مقاتل من 100 دولة حسب تقارير أممية أكدتها كلمة الأمين العام للأمم المتحدة في الجلسة ذاتها. وينتمي أولئك المقاتلون إلى فئة الشباب حيث تراوحت أعمارهم ما بين خمسة عشر وخمسة وثلاثين عاماً‏[19].

عرّفت اللجنة التنفيذية لمكافحة الإرهاب التابعة للأمم المتحدة المقاتل الأجنبي استناداً إلى قرار مجلس الأمن الرقم 2178 لسنة 2014 بأنه الفرد الذي يسافر إلى دولة غير دولة إقامته أو جنسيته بغرض ارتكاب أو التخطيط أو الإعداد أو المشاركة في أعمال إرهابية أو تقديم أو تلقي تدريب إرهابي بما في ذلك ما يرتبط بالصراع المسلح‏[20]. لكن ظاهرة المقاتل الأجنبي ليست بالجديدة؛ فأسامة بن لادن – على سبيل المثال – كان مقاتـلاً في أفغانستان قبل أن يؤسس القاعدة. لكن الجديد هو اتساع نطاق الظاهرة لتشمل آلاف المقاتلين الذين انتشروا مؤخراً في مناطق الحروب الأهلية والصراعات الطائفية كما في سورية والعراق وليبيا‏[21].

3 – علاقات القوة والهيمنة في الفضاء الإلكتروني

زاد الاهتمام بدراسة دور الإنترنت في السياسة عموماً منذ تسعينيات القرن العشرين حينما بدأ الباحثون يناقشون دور تقنيات التواصل عبر الإنترنت في السياسة. وأصبح مفهوماً الآن أن اختيارات الفاعلين السياسيين لم تعد مقصورة على الهياكل والعمليات الرسمية، ولكنها أضحت تتشكل أيضاً عبر ما تقدمه تكنولوجيا المعلومات‏[22]. كما أضحى التواصل بين الجماعة المتطرفة وشخص تستهدف تجنيده أو عضو محتمل عبر وسائل التواصل يمثل نموذجاً لعلاقة قوة تسعى الجماعة خلالها لفرض الهيمنة والسيطرة على ذلك الشخص.

يُبرز تطبيع علاقات القوة داخل تقنيات التواصل عبر الإنترنت دورَ وسائل التواصل الاجتماعي كفضاء تتكون به الهيمنة. الهيمنة – بمفهوم غرامشي كما يعبر عنها بسيطرة جماعة اجتماعية على أخرى – تمثل قدرة القوي على فرض رؤيته للعالم؛ لذا فإن الخاضعين (المذعنين) لهذه الهيمنة يأخذونها كمعطى أو أمر مسلمٍ به. ترتبط الهيمنة مفاهيمياً بالأيديولوجيا (تزييف للواقع لإدراك مصالح معينة) وبالقيم (التقاليد التي تربط الأفراد في المجتمع)، وتشير إلى عملية إنتاج مشروع الذوق العام عبر إعداد الصور والنصوص التي تقدم إحداثيات تعريف الحياة الاجتماعية‏[23].

لكن الهيمنة التي تمارسها الجماعة عقب إخضاع الشخص لها تنطوي على الموافقة أو الرضاء. فالتسليم بطبيعة الواقع الاجتماعي تنطوي على رضاء الخاضعين أو المذعنين للسيطرة. لذا يمكن النظر إلى تقنيات التواصل عبر الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي على وجه الخصوص، كساحة للصراع يكتسب خلالها الرضاء باستمرار. بناء عليه إذا أصبح الخطاب مهيمناً فالنتيجة ليس القدرة على السيطرة فقط وإنما إدراك أو الحصول على الرضاء التلقائي أو العفوي من الأفراد للسيطرة‏[24]. كما قد تمتد الهيمنة أيضاً إلى جماعات أخرى ترتضي أسلوب الجماعة المتطرفة التي يُنظر إليها بأنها الأقوى. فانتصارات داعش في العراق وسورية ومهارته في استخدام وسائل التواصل للترويج لعقيدته ونشر أساليبه مثل قطع رؤوس الضحايا من الأسرى والمختطفين كجزء من الحرب النفسية ضد أعدائه، كلها عوامل ساهمت في اجتذاب التنظيم تأييد الجماعات الجهادية المتطرفة في العالم الإسلامي.

لذلك يمثل الفضاء الإلكتروني بالنسبة إلى الجماعات المتطرفة مسرحاً تستغله لإلهاب مشاعر الاستياء وردود الأفعال المبالغ فيها من الجمهور المستهدف. كما يعمل الإنترنت كوسيط لخلق فرص التواصل بين أعضاء الجماعة والدعاية لها. هذا الاقتراب القائم على الإنترنت يصنف بأنه بعد حداثي (Postmodern)، حيث الافتراض أن الاتصال لا يتحدد بوجهة معينة ولا توجد حاجة إلى القيادة أو أنها غير موجودة بالأساس‏[25].

ثانياً: الإنترنت والساحة الجديدة للحرب ضد التطرف

كانت بدايات وصول الفكر السلفي الجهادي لشبكة الإنترنت مع محاولات الرد على الشبهات التي تروَّج ضد الإسلام والمسلمين بدافع الحماسة الدينية. ولكن تطور الأمر للاحترافية بانضمام جيل جديد من أصوليي المهجر الأمريكي – بوجه خاص – الذين حملوا أفكار المنظومة السلفية الجهادية من ناحية وتمكنوا من التقنيات الحديثة من ناحية أخرى‏[26]. لذلك أسّس الواقع الافتراضي ساحة جديدة للحرب ضد التطرف في ظل استخدام الجماعات المتطرفة لشبكة الإنترنت، وتحديداً وسائل التواصل الاجتماعي، لاستهداف الشباب المسلم في أوروبا والغرب عموماً.

1 – شبكات التواصل والنقلة النوعية في أساليب التجنيد

يقدم الفضاء الإلكتروني بطبيعته ساحة مثالية تستخدمها الجماعات المتطرفة لما يتسم به من صفات مثل سهولة الدخول إليه، وغياب أو ضعف التنظيم أو الرقابة أو أي صورة من صور التحكم الحكومي، وصعوبة تحديد هوية أطراف التواصل، وسرعة تداول المعلومات، وقلة تكلفة تطوير وصيانة الوجود الإلكتروني، والبيئة متعددة الوسائط التي تتيح استخدام توليفة من النصوص والصور والمقاطع الصوتية والمصورة وتتيح للمستخدمين كذلك الحصول على أفلام وكتب وغيرها، وأخيراً القدرة على تأمين التغطية في وسائل الإعلام الجماهيرية التي أضحت تستقي مصادرها من الإنترنت‏[27].

كان التطور في التعامل مع الإنترنت يشمل الجمهور المستهدف أيضاً، فبعد أن كان نشاط جماعات العنف معتمداً بالأساس على المنتديات المغلقة التي تستلزم اسماً للمستخدم وكلمة مرور صار المجال مفتوحاً للجميع عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تكاد تتلاشى فيها القيود على الدخول والاستخدام‏[28]. هذا وقد جاءت النقلة النوعية لتعامل الجماعات مع الفضاء الإلكتروني بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر ثم الحرب في أفغانستان عام 2001 وغزو العراق عام 2003، وفي ظل ظهور ما أطلق عليه الجيل الجهادي الرابع الذي يستخدم الإنترنت لنشر رسائله وتجنيد وتدريب أعضائه عبر توفير المواد التعليمية والإعلامية اللازمة‏[29]. بل إن أحد المواقع الجهادية التي تحمل اسم الفاروق كان قد نقل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2005 عن نائب أمير جبهة الإعلام الإسلامية العالمية إعلان القاعدة عن جامعتها للدراسات الجهادية وذلك – حسب الإعلان – بهدف استخدام البنية التحتية العالمية للإنترنت لتأسيس جامعة لا مركزية دون حدود جغرافية بحيث تصل لأي مكان، ولا تقدم فقط التدريب العسكري وإنما أيضاً التعليم الأيديولوجي والأخلاقي. وتنقسم كلياتها إلى ثلاثة تخصصات: الجهاد الإلكتروني، وإعلام الجهاد، والجهاد الروحي والمالي‏[30].

لذلك لم تكن داعش أولى الجماعات المتطرفة استخداماً لشبكات التواصل الاجتماعي. على سبيل المثال، في أيلول/سبتمبر 2013 استخدمت حركة الشباب الصومالية تويتر للتباهي بعملية احتجاز الرهائن في أحد المراكز التجارية بالعاصمة الكينية نيروبي‏[31]. لكن كثافة استخدام تويتر عام 2013 من جانب القاعدة وداعش دفعت أحد المحللين إلى تسمية العام بعام تويتر لكلتا الجماعتين‏[32]. بل إنه على الرغم من الضربات القاسية التي تعرَّض لها تنظيم الدولة في أواخر عام 2017 إلا أن مطلع العام ذاته شهد تحذير الجنرال الأمريكي جوزيف فوتل قائد القيادة الأمريكية الوسطى (التي تمتد من الشرق الأوسط إلى آسيا) من أن «القضاء على تنظيم الدولة على أرض المعركة لن يكون كافياً». وفي نص بعنوان «الخلافة الافتراضية» كتب فوتل: «حتى بعد هزيمة قاسية في العراق وفي سورية، فإن تنظيم داعش سيجد على الأرجح ملجأً في العالم الافتراضي وخلافة افتراضية تمكِّنه من مواصلة تنسيق الاعتداءات والإيحاء بها»‏[33].

2 – مواءمة آليات التجنيد لطبيعة الجمهور المستهدف

خدمت شبكات التواصل الاجتماعي استراتيجية داعش التي ترحب بانضمام الأجانب مقارنة بجماعات أخرى كالقاعدة. ذلك ربما لأن التنظيم – من الناحية الفلسفية – يساوي بين المسلمين، وهو ما جعل كثيراً من قيادات داعش البارزين ليسوا عرباً‏[34]. بل تبدو حملة داعش الدعائية كما لو كانت موجهةً بالأساس للمقاتلين الأجانب؛ سواء من حيث المحتوى أو من حيث الجمهور المستهدف. فرسائل التنظيم المهمة عادةً ما تبث بالإنكليزية والفرنسية والألمانية، ثم يجري لاحقاً ترجمتها إلى اللغات الأخرى كالروسية والإندونيسية والأردية‏[35]. ففي إحدى رسائل التنظيم التي يوجهها – بالإنكليزية – مقاتل فنلندي من أصول صومالية يقول: «أدعو المسلمين المقيمين بالغرب في أمريكا وأوروبا وفي كل مكان أن يأتوا، يهاجروا بعائلاتهم إلى أرض الخلافة». ثم يكمل: «هنا يمكنكم أن تجاهدوا ثم تعودوا إلى عائلاتكم. وإذا ما قُتلتم دخلتم الجنة، إن شاء الله، وسيتولى الله بالرعاية من تتركون خلفكم. لذا سوف تعتني الخلافة بكم»‏[36].

لكن ينبغي ملاحظة أن مواءمة طبيعة الجمهور المستهدف تظهر حتى وإن استخدمت الجماعات المتطرفة الأسلوب التقليدي في التجنيد عبر التعامل وجهاً لوجه مع الأفراد المستهدفين حيث أضحت تلجأ إلى اختيار أماكن كان من الصعب سابقاً تصور أنها تصلح للتقرب من الشباب مثل المراقص والنوادي الليلية بالدول الأوروبية، حيث يدخل عضو الجماعة للمكان ويبدأ الحديث مع الشاب موجهاً له النصح بأن الطريق الذي يسلكه خاطئ وهناك طريق آخر يوصله إلى الجنة ثم يدعوه لزيارة أحد المساجد وبعد عدة مقابلات يرتبون له لقاءات مع شباب آخرين في أماكن مختلفة بالمدينة‏[37].

كما أن الشبان المسلمين – وبخاصة الفتيات – في المجتمعات الأوروبية، وكذلك في المجتمعات الإسلامية المحافظة، يعانون أوقات فراغ تقابلها قوائم محظورات طويلة قد يفرضها الأهل أو المجتمع المحيط فيصبح اللجوء إلى الإنترنت هو الملجأ الأسهل لهؤلاء فيقعون ضحايا لمواقع تستقطبهم وتقوم بتجنيدهم في الجماعات المتطرفة‏[38]. لكن ينبغي ألّا نسلّم بأن الحصول على فرصة عمل يعني حتماً الاندماج في المجتمع؛ حيث تشير أمثلة لحالات سابقة إلى أن الاستجابة للتنظيم المتطرف تكون أعلى في تلك المدن المكتظة بالمهاجرين‏[39]. كما تشير الدلائل إلى أن بعض هؤلاء الفتيات اللاتي انضممن إلى التنظيمات المتطرفة قد جئن من عائلات ميسورة الحال وعلى قدرٍ عالٍ من التعليم وينتظرهن عموماً مستقبل جيد في الغرب، وهو ما يفسر لماذا يصاب أقرباؤهن بالصدمة عندما يعلمون بتخليهن عن تلك الحياة من أجل العيش في إقليم مزقته الحرب‏[40]. لذا يصبح من المهم تحليل دوافع انضمام الشباب المسلم في الغرب إلى تلك التنظيمات.

ثالثاً: دوافع الجمهور المستهدف نحو التطرف

اعتادت دراسات الإرهاب في البلدان النامية الحديث عن الجهل والفقر والبطالة كمسببات رئيسة لانضمام الشباب للجماعات المتطرفة. لكن ماذا عن انضمام مواطني دول متقدمة وفرت لهم فرص العمل وينتمي أغلبهم إلى أسر ميسورة الحال؟ هناك من يرى أن الدافع وراء ذلك هو العقيدة. غير أن تحليلات أخرى ترى أن انفصال هؤلاء الشباب عن مجتمعاتهم أو اضطراب علاقتهم ببيئتهم يسهم أكثر فأكثر في تقبلهم للأفكار المتطرفة من دون أن تكون لهم دراية بمفهوم الجهاد، وأن تلك الفئات تعاني الاكتئاب والانعزالية رغم المستوى الاقتصادي الجيد لأسرهم.

لكنه من الصعب الحديث عن سبب وحيد يدفع الشباب إلى الانضمام للجماعات المتطرفة أو وجود خلفية اجتماعية أو اقتصادية أو حتى تنشئة دينية مشتركة للمؤيدين لتلك الجماعات. غير أنه عموماً يمكن التفرقة بين دوافع خارجية وأخرى داخلية. تتعلق الدوافع الخارجية عادةً بإدراك الفرد لحوادث كبرى في العالم. وأشار محللون إلى عوامل أخرى كالدول الضعيفة، ومستوى التعليم، والصعوبات الاجتماعية والاقتصادية كدوافع خارجية لكن يظل الاتفاق غائباً حول أهمية تلك العوامل. أما الدوافع الداخلية فهي تلك التي تنبع من رغبات الفرد أو حاجاته الذاتية في ما يتعلق بالفائدة التي ستعود عليه من الانضمام إلى الجماعة مثل الشعور بالانتماء، أو الهروب إلى هوية جديدة، أو المغامرة، أو جني المال‏[41].

يتناول هذا القسم من الدراسة أولاً تحليـلاً لظاهرة المهاجرات أو فتيات داعش الأوروبيات، ثم ثانياً قضية الهوية الافتراضية في محاولة لفهم الدوافع التي تشجع تلك الفئات على الانضمام إلى الجماعات المتطرفة.

1 – تنظيم الدولة وصناعة المهاجرات

عادةً ما تلجأ الجماعات المتطرفة إلى استخدام النساء في عملياتها الانتحارية في إطار حربها النفسية وجذب الانتباه الإعلامي لإدراكها أن الإعلام غالباً ما يولي اهتماماً أكبر أو يضخم من العمليات التي تقوم بها النساء بما يحقق لتلك الجماعات استهداف جمهور المشاهدين بالرعب والخوف‏[42]. كما أن الدوافع الشخصية لقيام الفتيات بتفجير أنفسهن تتلاقى مع المزايا التي يحققها قيامهن بذلك للجماعات المنتمين إليها. فالنساء – إلى حدٍ ما – يمكنهن تجاوز نقاط التفتيش بسبل أيسر من الرجال، وتكون فرصهن أكثر من حيث دقة ضرب الهدف لكونهن أقل إثارة للاشتباه‏[43]. يضاف إلى ذلك طبيعة التكوين الجسدي للمرأة بما يمكنها من إخفاء المتفجرات أو الأحزمة الناسفة‏[44].

لكن تتباين دوافع النساء في القيام بعمليات انتحارية أو الانضمام إلى الجماعات المتطرفة. ففي داخل مناطق النزاع تسعى النساء، شأنها في ذلك شأن الرجال، إلى التعبير عن الغضب الذي يعتري المجتمع من جرّاء أعمال القتل الوحشية تجاه المدنيين وبخاصةٍ من الأطفال. وربما يصبح الانضمام إلى تلك الجماعات وسيلة لحفظ النفس من التعرض للاغتصاب أو القتل أثناء الصراع أو التحرش بالنسوة في مخيمات اللاجئين مثـلاً. أما خارج مناطق الصراع فالدوافع تتعدد أيضاً؛ فمنها مثـلاً الشعور بالتمييز والاضطهاد والتهميش والإحباط، والرغبة في إثبات الذات أو التحول إلى بطل، والرغبة في المغامرة، والارتباط العاطفي. والصدمات النفسية التي يتعرض لها ضحايا الصراع قد تنتقل بصورة ثانوية لمن هم خارج تلك المناطق عبر ما يبث من صور أو مقاطع مصورة للصراع، وبخاصةٍ إذا ما استشعر هؤلاء ارتباطاً روحياً أو متخيـلاً بضحايا الصراع‏[45].

ذلك الارتباط الروحي المشار إليه يتجسد في فكرة الأمة الإسلامية – على سبيل المثال – وبخاصة مع هؤلاء المسلمين أو المسلمات الذين يعيشون في بلاد غير مسلمة، سواء كانت المجتمعات فيها ترفض التعدد والاختلاف أو نتيجةً لفشل الفرد في الاندماج، ومن ثم يسعى لأن يجد ذاته أو هويته المفقودة، وهو ما تراهن عليه دعاية داعش عبر ما تروِّج له بأنها تمثل العودة لصحيح الإسلام‏[46].

كانت القاعدة قد أولت الاهتمام بظاهرة الانتحاريات، وفي عام 2003 تم الكشف عن تأسيس التنظيم قسماً خاصاً بهن‏[47]. أما داعش فقد بدأت تجنيد النساء فعلياً في عام 2014 وبلغ خلاله عدد من التحقن بها من أوروبا 300 شابة‏[48]. وبمرور الوقت تزايد دور النساء في التنظيم من مجرد الانضمام إلى تكليفهن بمهمات مثل تجنيد آخرين أو مراقبة سلوكيات النساء في المناطق التي يهيمن عليها التنظيم‏[49]. لذلك خصصت داعش فيلقاً أو كتيبةً باسم الخنساء تتولى مهمة تجنيد المسلمات بالتزامن مع إطلاق فتاوى مجهولة المصدر تدعو هؤلاء النسوة إلى الالتحاق بدولة الخلافة‏[50]. تشكلت كتيبة الخنساء في مدينة الرَّقة بسورية من 60 امرأة مسلحة‏[51]. كانت تلك الكتيبة تقوم بتجنيد النساء وتتعقب نساء المدينة لمراقبة سلوكياتهن والتحقق من هوياتهن‏[52]. ورغم تكليف النساء في داعش بمهمات أمنية وشرطية إلا أنها كانت تظل محدودة في ظل الاهتمام الأكبر من التنظيم بوظائف التجنيد ورعاية الأسرة كما عرضها منشور كتيبة الخنساء‏[53]. ففي رسالة لنساء التنظيم يقول المنشور: «بادرن بتنشئة أبناء الخلافة على التوحيد الخالص، وبناتها على العفة والحشمة، واعلمن أنكن أمل هذه الأمة، فمن بين أيديكن يخرج لنا حراس العقيدة وحماة الأرض والعرض»‏[54]. وفي رسالةٍ أخرى وجهها المنشور إلى النساء في كل مكان يقول: «ليكن في خبركن أن أمة النبي محمد (ﷺ) لن تنهض من دون سواعدكن، فلا تخذلن الخلافة، واخدمنها ولو بكلمة، وليكن أبناؤكن حجارةً أو لبِناتٍ في صرح المجد ومنارات دولة الإسلام»‏[55].

لذلك مثل التجنيد عبر الإنترنت فرصة غير مسبوقة للجماعات المتطرفة كالقاعدة وداعش للوصول إلى نساء المجتمعات المحافظة اللاتي كان يصعب الوصول إليهن لتجنيدهن في السابق في ظل ارتباطهن ببيوتهن أو صعوبة احتكاكهن بالغرباء عنهن. فكانت غرف المحادثة ووسائل التواصل مدخـلاً لجأت إليه تلك الجماعات للحوار مع هؤلاء، ومنحت أولئك النسوة على الجانب الآخر الفرصة لطرح آرائهن والتعبير عنها على قدم المساواة مع الرجال‏[56].

كما نجد أن الفتيات الأوروبيات اللاتي التحقن بداعش – على سبيل المثال – قد استخدمن بكثافة مصطلح مهاجرات لتعريف أنفسهن على شبكات التواصل الاجتماعي، وهذا يعد مؤشراً على عدم رضائهن عن البيئة التي عشن بها سابقاً، والرغبة في الانتقال إلى مكان مثالي (دولة الخلافة)، وأخيراً الدافع الديني لطلب التغيير‏[57]. فالنساء اللاتي ينتمين إلى جوالٍ مهاجرة في الغرب عادةً ما يكشفن على مدوناتهن اغترابهن عن المجتمعات المضيفة، بل وعن مجتمع الشتات الذي تعود إليه أصولهن. كما أن الكراهية العنصرية والتوجهات السلبية حيال المسلمين المهاجرين في الغرب تسهم في تعزيز تطلعاتهن لأن يعشن دينهن في بيئة أفضل مثل الخلافة الجديدة التي يدعيها داعش‏[58]. تأتي هنا أيضاً قضية التمكين؛ ففي بعض الأحيان يكون دافع أولئك الفتيات هو الرغبة في إثبات الذات، وبخاصة إذا ما كنّ ينتمين إلى عائلات محافظة أو تعلي من الهيمنة الذكورية بما يجعل هؤلاء الفتيات يتبنين شكـلاً من النسوية الإسلامية الحديثة‏[59].

لوحظ كذلك أنه على الرغم من تلك المعاملة السيئة التي كانت تتعرض لها النساء في المناطق التي يسيطر عليها داعش إلا أن الجماعات المتطرفة استغلت سعي الفتاة للحصول على زوج مناسب للإيقاع بها على الإنترنت وإقناعها بهجر أسرتها‏[60]. على سبيل المثال، اتهمت إحدى الداعشيات الألمانيات حكومة بلادها بالتخلي عنها وعدم منحها فرصة ثانية تستحقها. لكنه على الرغم من مقتل زوجها الداعشي وفرارها من داعش وسجنها مع طفليها بأحد السجون الكردية شمال سورية، إلا أنها وصفت حياتها مع زوجها بالسعيدة وأكدت أنها لم تمتلك غير جدرانها الأربعة وابنها – حيث ولد الطفل الثاني بعد مقتل والده – وزوجها، ولم تكن تعرف بما يجري خارج الجدران‏[61].

وكان من الدوافع أيضاً المغامرة والسعي لبدائل أكثر جاذبية من أنماط حياتهن غير المرضية وبعض المشكلات النفسية الفردية. يعتقد البعض منهن أنهن يؤدين مهمة إنسانية تجاه الشعب السوري المضطهد وليست لديهن أية نية في ارتكاب أعمال عنف‏[62]. بينما تتوقع أخريات أن يشاركن في أعمال القتال مثلهن كالرجال أو يصبحن على أقل تقدير فلورنس نايتنغال الجهادية التي تخفف من آلام الجرحى‏[63]. لذلك ما زال مسؤلو الدول الأوروبية يحذرون من الأدوار القتالية لنساء داعش. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2017 أشار تقرير للاستخبارات الهولندية إلى أنه لا ينبغي الاستهانة بدور المرأة في التنظيم والتزامها بالإرهاب شأنها شأن الرجل حيث تستطيع الإرهابيات تحت سن الثلاثين حمل السلاح الذي يتركه قتلى المعارك من الرجال؛ فتلك الفتيات أصبحن أكثر عنفاً ولسن أولئك الساذجات الساعيات وراء الحب أو اللاتي وجدن أنفسهن في صفوف الخلافة بطريق الخطأ‏[64].

من ناحيةٍ أخرى فإن اشتراك النساء بالعمليات الانتحارية يجنِّب تمكيناً للمرأة لا ترغب فيه تلك الجماعات على مستوى قياداتها العسكرية التي ترى في نهاية حياة تلك المجندات عبر التفجيرات أو حتى أثناء القتال ما يكفل هيمنة ذكورية على مناصب القيادة بالجماعة‏[65]. لكن بالطبع فإن القاعدة وداعش لا تصرحان بقضية التمكين تلك، بل على العكس تماماً، ففي إطار السعي لتجنيد المزيد من النساء أطلقت الجماعتان مجلات إلكترونية تبجل دور المرأة في الجهاد عبر الزواج من المجاهدين ودعمهم‏[66]. وفي داخل الأسرة يصبح دور الزوجة هنا تحفيز أقربائها الذكور على الجهاد وتربية أطفالها على قيم الجماعة ودعوة غيرها من النسوة للانضمام ونشر فكر الجماعة عبر الإنترنت، وبخاصة في تلك المنتديات التي تعتمد في عضويتها بالأساس على النساء لكونها تتناول موضوعات خاصة بالمرأة. وفي الميدان يمكن للمرأة أن تقدم الخدمات الطبية للمصابين وتجمع المعلومات الاستخبارية. بل إن انضمام النساء في ذاته وقيامهن بالعمليات الانتحارية يصبح دافعاً للرجال، وبخاصة في تلك المجتمعات التي تعلي من مفاهيم الثأر للكرامة والانتقام من المعتدي‏[67]. كل تلك الأمور جذبت انتباه الجماعات لأهمية دور المرأة داخل تلك التنظيمات.

أما عن أمثلة توظيف النساء داخل داعش فقد تنوعت وبرزت إعلامياً بعض الأسماء مثل سجى الدليمي زوجة أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم، التي أوكل إليها الإشراف على نقل الأموال للمقاتلين وتجنيد النساء وتزويجهن أعضاء داعش‏[68]. ومنهن أيضاً أقصى محمود الفتاة الإسكتلندية ذات الأصول الباكستانية التي التحقت بالتنظيم وتزوجت أحد مقاتليه وأطلقت على نفسها اسم أم ليث وكانت تدعو المسلمين عبر الإنترنت إلى استهداف الغرب بالعمليات الإرهابية‏[69].

2 – التطرف والمجتمعات الافتراضية للهوية

يتحدث توماس فريدمان عن أن الإنترنت ساعد مستخدميه عموماً على التمكين‏[70]. وعادةً ما تعلي الجماعات المتطرفة من الدوافع الخارجية لدى جمهورها المستهدف حينما تركز على صراعات مسلحة أو أفعال إبادة جماعية يكون ضحاياها ينتمون إلى نفس هوية الفرد المستهدف تجنيده. بل إن مُنظِّري تلك الجماعات يتحدثون عن واجب الفرد في الجهاد والدفاع عن أبناء أمته كفرض عين ينبغي عليه أداؤه‏[71]. ويصبح على الفتاة المسلمة المقيمة في الغرب مثـلاً أن تهجر مجتمعها وترحل للأقاليم التي تسيطر عليها تلك الجماعات. وحتى وإن لم تقاتل فعليها أن تعيِّن إخوانها من الرجال في جهادهم‏[72]. يأتي ذلك في ظل توفير القنوات الفضائية والإنترنت منبراً لعرض مظالم الشعوب المسلمة عبر العالم والترويج لهوية مسلمة مشتركة ودور الغرب – تحت قيادة الولايات المتحدة – في اضطهاد تلك الشعوب‏[73]. لذلك يرى محللون أن داعش يستقطب شباباً مضطرباً من المسلمين أو ممن يؤمنون بقضية يرون أنها تستحق القتال من أجلها. وبالنسبة إلى أولئك الشباب الذين يفتقدون إحساساً قوياً بالهوية أو بالهدف في الحياة فإن خطاب داعش الراديكالي العنيف يبعث برسالة قوية ويقدم إجابات سهلة وحلولاً لمن يبحث عن الإجابات‏[74].

كما أن الأفراد الذين يتحولون إلى التطرف يكونون في بعض الحالات منفصلين عن مجتمعاتهم نتيجة إحساسهم بالاحتقار أو القهر. لذلك تقدم الشبكات الافتراضية لهم فرصاً للانخراط في مجتمع جديد. لكن في الوقت ذاته هناك حالات أخرى لأفراد كانوا نشطاء في مجتمعاتهم – ولديهم مهارات القيادة – ثم تحولوا إلى التطرف. لذلك ينبغي النظر على مستويات عديدة مع فهم لطبيعة المجتمعات واحترام تعدد الهويات والسلوكيات والخلفيات‏[75].

ينبغي ملاحظة أن أزمة الهوية وتحدياتها المرتبطة بها ليست بالقضية الجديدة في أوروبا. فالأزمة الاقتصادية التي شهدتها البلدان الأوروبية في سبعينيات القرن العشرين دفعت تلك الدول إلى فرض القيود على دخول المهاجرين بل وعرضت على أولئك المهاجرين المقيمين بها تعويضات للعودة إلى بلادهم الأصلية لكن أغلبيتهم رفضوا في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية بموطنهم الأصلي. بل إن منهم من استقدموا زوجاتهم وأبناءهم أو رزقوا بأبناء لهم في بلد المهجر، وأضحى على هؤلاء الأطفال الالتحاق بالمدارس الغربية. تلك التحولات الاجتماعية التي شهدها ذلك العقد دفعت الباحثين إلى دراسة قضية التعليم والمواطنة‏[76].

يبدأ صراع الهويات لدى الطفل المولود بالمهجر لأبوين من أصول عربية أو إسلامية مبكراً عندما يتلقى في مدرسته قيماً لا تنسجم مع ما يتلقاه في البيت. فكثير من العائلات العربية على سبيل المثال جاءت من البادية ولم تحظ بمستوى تعليمي متقدم وانتقلوا إلى مدينة أوروبية وصلت فيها الحداثة إلى مراحل متقدمة. فالبيت قد يضع قيوداً صارمة في النقاش أو ما يمكن مشاهدته على التلفاز. وتلك القيود ربما لا يتفهمها أو يقبلها معلمو الطفل أو زملاؤه إذا ما ناقشها معهم بالمدرسة. فتظهر هنا أولى مشكلات المواطنة‏[77]. وفي ظل تعارض تلك الهويات تستمر هذه الوضعية مع المراهق ليجد نفسه في فترة شبابه مضطراً إلى اختيار أحد النموذجين على حساب الآخر. فيصبح إما متمرداً على الهوية المفروضة في البيت ويظهر ذلك في طريقة ملبسه ومأكله وتحريفه لاسمه وصداقاته وابتعاده عن اللغة العربية، وإما أن يحاول البحث عن النموذج البديل عبر السعي لارتباط أكبر بالجالية سواء عبر الصداقات أو الزواج‏[78]. لذلك يجد الشاب المنحدر من أصول عربية في بلد أوروبي نفسه مدفوعاً للبحث عن الهوية البديلة وبخاصةٍ إذا ما شعر بإقصاء أقرانه له وعدم قبولهم إياه. هنا قد يلجأ الشاب إلى الدين الذي يتحول إلى نمط من التدين يرتبط بالمظهر سواء عبر اللحية أو الملبس. وفي ظل ضعف الثقافة الدينية لأغلب هؤلاء الشباب فإنهم ربما يقعون ضحية مواقع إلكترونية تشجعهم على التطرف‏[79].

تخلق شبكة الإنترنت بيئة اجتماعية جديدة تصبح فيها الآراء والسلوكيات المتطرفة أو الشاذة قابلة للتطبيع. ومع تآلف وتلاقي المتطرفين يتحول العالم الافتراضي إلى «غرفة صدى الصوت» بحيث تلقى الأفكار والمقترحات المتطرفة القدر الأكبر من التأييد والتشجيع‏[80]. تعني غرفة صدى الصوت تلك البيئة التي تنتقي مسبقاً الأفكار والآراء المماثلة لها وهي ليست بالظاهرة الجديدة‏[81]. بل تشكل تلك الظاهرة جزءاً من برمجة الأفراد المعرفية وسعيهم لهوية جماعة قوية‏[82]. لذلك ففي ظل حالة الاغتراب التي قد يشعر بها الفرد في دولة إقامته يصبح القبول الاجتماعي والدعم النفسي من العوامل المهمة لانضمام الشباب إلى الجماعات المتطرفة. بل إن الشاب أو الفتاة يبدأ في النظر إلى أصدقائه – ممن يشاركونه التفسيرات السلفية الجهادية وتفزعهم الحرب في سورية – في العالم الافتراضي على أنهم عائلته الجديدة‏[83]. لكن الأمر ربما ليس بذلك القدر من السهولة أو التبسيط التي قد يبدو عليها أحياناً بالنسبة إلى الجماعات المتطرفة؛ فهو لا يخلو من مخاطر تستوجب الحذر والحيطة عند اللجوء إلى استخدام شبكة الإنترنت.

رابعاً: الجماعات المتطرفة ومخاطر التجنيد عبر العالم الافتراضي

بالطبع ما قد تعدّه الجماعات المتطرفة خطراً أو تحدياً سيكون في المقابل يمثل فرصاً أو مميزات للدول التي تواجه تلك الجماعات، والعكس صحيح. ويمكن هنا التفرقة بين مجموعتين من المخاطر: الأولى تتعلق بالخصائص البشرية لمن تقوم تلك الجماعات بتجنيدهم؛ والأخرى ذات طبيعة تقنية حيث ترتبط بالأساس بطبيعة العالم الافتراضي الذي تتم خلاله عملية التجنيد.

1 – مخاطر تتعلق بخصائص المجندين الجدد

رغم المزايا التي تحققها التنظيمات المتطرفة من استخدام النساء في عملياتها إلا أن هناك من المحاذير والصعوبات التي تجعلها أكثر تحوّطاً عند الاستعانة بهن. من تلك المحاذير ميل النساء عموماً إلى كثرة الحديث مقارنة بنظرائهن من الرجال وهو ما يعني إمكان انكشافهن أمنياً‏[84]. ربما يفسر ذلك لماذا أولى منشور الخنساء – المشار إليه سابقاً – اهتماماً أكبر لدور المرأة داخل الأسرة بحيث اعتبر أن جهادها عبر القتال يشترط له هجوم العدو على بلدها والحاجة إلى مزيد من المقاتلين لعدم كفاية الرجال، كما كان الحال – بحسب المنشور – في فلسطين والشيشان‏[85]. لذا يضيق داعش من خروج المرأة من بيتها ويسمح لها فقط حال سعيها لدراسة العلوم الدينية أو كونهن طبيبات أو مدرّسات، أو خرجت فتوى بالحاجة إلى النساء في الجهاد بعد تعرض بلادهن لخطر داهم‏[86].

يتضح مما سبق أيضاً أن الجماعات المتطرفة ربما تغير لغة خطابها للمرأة وتوظيفها لها حسب طبيعة جمهورها المستهدف وحسب السياق الاجتماعي الموجود به هؤلاء النسوة. فالمجتمع المحيط ربما يكون محافظاً ويرفض انخراط النساء في مثل تلك العمليات. ففي العراق على سبيل المثال يعاني داعش انغلاق المجتمع ومحافظته الشديدة، لذا يلجأ ربما إلى دول تتمتع المجتمعات فيها بقدر أكبر من الانفتاح ومن ثم يمكن التجنيد فيها عبر شبكات التواصل كما هو الحال بالسعي لتجنيد الفتيات من المغرب العربي‏[87]. لكن عندما تتعرض الجماعات لتضييق أمني من جانب السلطات الرسمية ويصبح اجتياز الرجال لنقاط التفتيش أمراً بالغ الصعوبة على خلاف النساء يصبح اللجوء للنساء أمراً حتمياً لتنفيذ تلك العمليات ويكون على الجماعات آنذاك مواجهة السخط الشعبي الناجم عن ذلك‏[88].

أما عن قضية الهوية وفشل بعض الدول الغربية في إدماج قطاعات من مسلميها أو استيعابهم داخل منظومة المواطنة فقد دفع أحياناً إلى دعم هوية جديدة ستعتبرها المجتمعات المسلمة بتلك الدول متطرفة لأنها تنسلخ عن أسرتها تماماً وتقدم النقيض من الإرهابي المتطرف لكن عبر دعم المثلية الجنسية أو الإلحاد على سبيل المثال. من ذلك ما تناوله موقع هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في أحد تقاريره في أيلول/سبتمبر 2015 عن قضية الإلحاد في المجتمعات المسلمة ببريطانيا. يبدأ التقرير بالحديث عن تضاعف أعداد الملحدين بين سكان إنكلترا وويلز في الفترة من 2001 حتى 2011. وهي الفترة التي قابلها زيادة أعداد المسلمين بنسبة 80 بالمئة لتصل إلى 2.7 مليون مسلم. لكن التقرير يشير إلى أن أعداد الملحدين بين هؤلاء المسلمين يصعب حصرها لأن كشف الملحد عن معتقده يجعله تحت التهديد أو عرضةً للتنكيل به‏[89]. ويسرد التقرير قصصاً لأفراد ملحدين – لا يذكرون أسماءهم الحقيقية خوفاً على حياتهم – يتحدثون عن هروبهم من أسرهم ويقدمون النصيحة لمن يريد التخلي عن ديانته.

لذا فقد بدا التقرير السابق كما لو كان دعماً لهؤلاء المرتدّين ودعوة إلى أقرانهم باتباع خطوات من سبقوهم. وما هي إلا بضعة أسابيع حتى تناولت هيئة الإذاعة الموضوع من جديد ولكن هذه المرة بنشر معلومات عمّا أطلق عليه مجلس مسلمي بريطانيا السابقين. وأعلن المجلس أن هدف تأسيسه هو الدفاع عن حق الأفراد في ترك الإسلام وانتقاده دون الخوف من التعرض لهم‏[90]. ثم في تشرين الثاني/نوفمبر 2017 – أي بعد نحو عامين من التقرير الأخير – عادت الهيئة لتتحدث عن مسلمين بريطانيين سابقين ارتدّوا عن الإسلام ويجوبون الولايات المتحدة للحديث عن تجربتهم‏[91]. ومع انتقال هؤلاء المسلمين السابقين إلى الولايات المتحدة تنتقل تقارير البي بي سي هي الأخرى فتخصص في شباط/فبراير 2018 تقريراً عن كيان شبيه بمجلس مسلمي بريطانيا السابقين أطلق عليه مسلمو شمال أمريكا السابقين. ويروي التقرير قصة مهد أُلاد، ذلك الشاب الصومالي الأصل والأمريكي الجنسية الذي فر من عائلته بكينيا بعد أن علمت والدته بكتابته مقالاً يظهر فيه سعادته بميوله الجنسية الشاذة وتخليه عن الإسلام. ثم يحكي كيف استطاع الشاب بمساعدة جماعة مسلمي شمال أمريكا السابقين الوصول إلى السفارة الأمريكية ومنها إلى نيويورك‏[92].

2 – مخاطر تتعلق بطبيعة العالم الافتراضي

تتيح بعض الدول للعامة إمكان إبلاغ الشرطة أو وحدات متخصصة عن محتوى أي مواقع يرون أنها تدعو إلى التطرف وتشجع على استخدام العنف. يشمل المحتوى المقاطع المصورة التي تحمل رسائل تمجيد للإرهابيين أو تحث الأفراد على ارتكاب أعمال عنف‏[93]. ولم يقتصر الأمر بالطبع على الدول الغربية، ففي كانون الثاني/يناير تبنت الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي مقترحاً بإنشاء جيش إلكتروني خليجي تضمنته ورقة عمل عرضت بندوة حملت عنوان «مواجهة التطرف الفكري: الواقع والمأمول». ويقوم الجيش – حسب المقترح – بالتصدي للأفكار المتطرفة ومواقعها على شبكة الإنترنت‏[94].

لكن التطرف على الإنترنت ظاهرة شديدة الدينامية حيث تلجأ الجماعات المتطرفة إلى المناورة لمنع التنظيمات التابعة للحكومات من تعقُّبها وتتبُّع مسارات اتصالاتها. فالمواقع التابعة للجماعات التي تنشر الأفكار المتطرفة تظهر فجأة ثم ما تلبث أن تغير من أشكالها كل فترة وأخيراً تختفي أو يبدو أنها اختفت عبر تغيير عنوانها على شبكة الإنترنت مع احتفاظها بنفس المحتوى تقريباً‏[95]. كما نجحت داعش في استخدام جيوب مخبأة في الإنترنت يصعب الوصول إليها ويطلق عليها «المناطق الداكنة» وذلك لتبادل المواد والاتصالات الجهادية. وتتصف بأنها شبكة متعددة الطبقات تخفي أصول الرسائل والملفات وتستطيع تشفير جميع عناوين الإنترنت‏[96].

من المشكلات التي تواجه الحكومات أيضاً الاتهامات بأن آليات الرقابة على وسائل التواصل لتتبع الجماعات المتطرفة تؤدي على المدى الطويل إلى قمع الحريات، وهو ما تقوم به الحكومات الاستبدادية تحت ذريعة حماية الأمن القومي ومكافحة الإرهاب والتطرف‏[97]. من أمثلة ذلك قيام الرئيس السابق لزيمبابوي روبرت موغابي بإنشاء وزارة «الأمن السيبراني ورصد والتعامل مع التهديدات» في تشرين الأول/أكتوبر 2017، وكان الهدف المعلن لتلك الوزارة هو التعامل مع السلوكيات المسيئة وغير القانونية في الفضاء الإلكتروني. وصرح المتحدث الرسمي باسم موغابي آنذاك أن الوزير المختص قد تم تكليفه من الرئيس بدراسة كيف نجحت دول مثل الصين وكوريا الشمالية في صوغ تشريعات تستهدف الإرهاب السيبراني والعمل على تطبيق تلك الآليات بالبلاد‏[98].

يضاف إلى ذلك أنه من الصعب نسبياً فرض الرقابة على كل أشكال المواد التي تبثها الجماعات المتطرفة، وبخاصة أن كثيراً من تلك المواد لا تعد غير قانونية بشكل مباشر. وبتطور تقنيات الإنترنت تزداد صعوبة المراقبة‏[99]. لكن إذا كانت مواقع التواصل الاجتماعي تتيح لأعضاء التنظيمات المتطرفة الجدد نشر يومياتهم والترويج لعقيدة التنظيم إلا أنها في الوقت ذاته تتيح للمراقبين والمحللين رصد سلوكيات هؤلاء الشباب والتعرف إلى أساليب تفكيرهم.

صحيح أن صعوبة التعرف إلى هويات من يتعامل عبر الإنترنت تمنح أعضاء الجماعات المتطرفة قدراً من الحرية في العمل من دون رصد هوياتهم الحقيقية، غير أن تلك الخاصية قد تصبح ضدهم إذا ما دخل إلى عالمهم الافتراضي أحد رجال الاستخبارات من دون التعرف إلى هويته. وإدراكاً منهم لخطورة تلك المسألة أضحى أعضاء تلك الجماعات أكثر حذراً ويحاولون قدر الإمكان التحوّط عبر السعي لاختبار صدق أولئك الذين ينخرطون في نقاشاتهم‏[100].

خاتمة

يمكن القول إن ظهور الإرهاب في مجتمعِ ما تتحكم فيه مجموعة من العناصر التي تشكل مزيجاً خاصاً: العنصر الأول هو جماعة لها هدف سياسي تسعى لتحقيقه عبر الإرهاب؛ والثاني أيديولوجيا ترى الإرهاب عمـلاً مبرراً ومطلوباً؛ والثالث دعم اجتماعي للإرهاب ربما لا يتحقق مجتمعياً عبر الأشخاص المحيطين بالجماعة ولكن يكفله لهم العالم الافتراضي؛ وأخيراً تتفاعل تلك العوامل جميعاً مع دوافع الفرد وتقبله للأفكار المتطرفة‏[101]. لذلك قدم الإعلام الجديد وشبكة الإنترنت عموماً للتنظيمات المتطرفة وجمهورها المستهدف ما يلبي حاجات الطرفين. فالأولى انتهزت الفرصة التي قدمتها الإنترنت عبر توفير فضاء إلكتروني استطاعت تلك التنظيمات من خلاله أن تكسب المؤيدين، وتجند المزيد من الأعضاء، وتجمع المعلومات، ويتواصل أعضاؤها، وتنشر دعايتها، وتشن حرباً نفسية على أعدائها. في المقابل أتاحت غرف المحادثة والمنتديات وصفحات الفيسبوك وحسابات تويتر المجال لأفراد يعاني أغلبهم الانعزال أو اضطراب علاقاتهم بمجتمعاتهم في ظل شعورهم بالاغتراب داخله لأسبابٍ شتى، ومن ثم نجحت الجماعات المتطرفة في كسب تعاطفهم بعدما خلقوا لأنفسهم هويات متخيّلة في الواقع الافتراضي. لكن مع ملاحظة أن هناك أيضاً أمثلة لأفراد قادهم التطرف إلى وجهة أخرى مغايرة وهي الابتعاد من الإسلام تماماً فألحدت لكنها وجدت الدعم من جماعات وتنظيمات خارج مجتمعاتها المسلمة في الغرب.

اتسمت معالجة بعض قضايا المسلمين في أوروبا بالسطحية أحياناً. فالتعامل مع قضية كالحجاب – على سبيل المثال – أدى إلى تكريس الاختلافات في المجتمع؛ حيث اعتبر الحجاب معادياً للتقدم ومناهضاً للعلمانية رغم أن ليست كل من ترتديه تعارض العلمانية، وأضحى رمزاً للمهاجر وإن كانت من ترتديه مواطنة ذات أصول أوروبية‏[102]. لذلك ينبغي الحذر من أن تصنع الدولة لنفسها العدو. فالنظر إلى المسلم على أنه مشروع إرهابي أو إرهابي محتمل يعزز فرص اغتراب ذلك المواطن داخل الدولة. ولعل ذلك ما انتبهت إليه بعض دول أوروبا؛ فعلى الرغم من تعرض بلجيكا لعدة هجمات إرهابية إلا أن دراسة أجرتها إحدى الجامعات البلجيكية حذرت من التعاطي الإعلامي المتسرع مع الهجمات واختلاف التغطية الإعلامية لتلك الهجمات التي يرتكبها المسلمون عن تلك التي يرتكبها غير المسلمين‏[103].

يظل من التحديات التي تواجه حكومات الدول الأوروبية كيفية اقناع الشباب الأوروبي بالامتناع عن الانضمام للتنظيمات المتطرفة وتبنّي أفكارها من ناحية، وكيفية التعامل مع العائدين من تلك التنظيمات بعد أن أدركوا خطورتها وأنهم قد خُدعوا. فإن كانت الحالة الثانية قد يقبل فيها الأفراد ما تقدمه لهم الدولة من محاولة إعادة إدماجهم بالمجتمع فإن الحالة الأولى قد تحتاج فيها مؤسسات الدولة – التي ربما لا يكون هؤلاء الأفراد على وئام معها أو لا يثقون فيها بشكل كامل – إلى الاستعانة بالمنظمات غير الرسمية التي تدرك الطريقة التي يفكر بها أولئك الشباب. كما أن القبض على مرتكب العمل الإرهابي لا يعني التخلص من العدو، وإنما العدو الحقيقي في تلك الحرب التي تخوضها الدولة في الواقع الافتراضي هو المحرض على تلك الأفعال الذي ربما يظل طليقاً يبحث عن ضحية جديدة.

أخيراً ينبغي القول إنه لا توجد وصفة معدة سلفاً وصالحة للتطبيق في كل الدول. فعلى الدولة أن ترى مَواطن الخلل؛ سواء في سياساتها الاجتماعية والإدماجية أو في أنظمتها التعليمية أو التوظيفية أو القانونية وغيرها، لتقطع الطريق على الجماعات التي تجد تربةً خصبةً لنشر أفكارها في عقول أولئك الشباب الذين ربما فقدوا الثقة في مؤسسات الدولة أو شعروا بالتهميش واضطروا إلى الانعزال عن أقرانهم.

 

قد يهمكم أيضاً  فهم التراث ومشاكل الجهاديين: ابن تيمية والسلفية الجهادية نموذجاً

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #داعش #الفضاء_الالكتروني_لداعش #الدعاية_الالكترونية #الحملات_الدعائية_لداعش #تنظيم_الدولة_الإسلامية #التطرف #الإرهاب #الفضاء_الالكتروني #الجماعات_الإرهابية #العالم_الافتراضي #التطرف_في_الفضاء_الالكتروني #الجماعات_المتطرفة #الفكر_السلفي #الجيوش_الالكترونية