هذه المقالة هي محاولة لدراسة القضية الفلسطينية من خلال دراسة الإنسان العربي والثقافة العربية – الإسلامية، بمعنى أنني سوف أحاول أن أجيب عن الأسئلة التالية: لماذا فشل العرب في إنقاذ فلسطين من براثن الحركة الصهيونية ومشروعها الاستيطاني كامتداد للاستعمار الغربي في الشرق الأوسط، ما أدى إلى ضياع فلسطين وتشتُّت أهلها وخضوع العالم العربي لهيمنة النفوذ الصهيوني – الأمريكي – الغربي؟ ولماذا فشل العرب على مدى أكثر من ستة عقود في استرداد فلسطين و/أو تحقيق حق العودة لملايين اللاجئين الفلسطينيين المشتتين في الأقطار العربية ومختلف بقاع الأرض؟ ولماذا استسلم العرب كلياً لواقع العجز ونفضوا أيديهم من قضية تحرير فلسطين؟

نحن بلا شك، لا نتحدث هنا عن نكسة أو كبوة أو فشل تكتيكي موقت في معركة كَرٍّ وفَر، وإنما نتحدث عن فشل استسلامي مستديم، نابع من العجز ومن الاستكانة إلى العجز؛ عجز الإنسان العربي والمجتمع العربي والثقافة العربية. في الواقع الراهن، يبدو وكأن العالم العربي، بأنظمته وشعوبه، قد استقر في حال العجز وتقبَّلها كواقع لا مناص منه، وتأقلم معها وتنازل عما يمكن أن يقضّ مضجعه فيها. لذا، فإنه من البديهي أن ندّعي أن مصير فلسطين كوطن وشعب وقضية مَنوط بمقدرتنا على تشخيص حال العجز العربي العام (والعجز الفلسطيني من ضمن ذلك)، وفهم أسباب هذا العجز ومنابعه، ومحاولة طرح حلول للأزمة وإيجاد سُبُل للتغلب عليها والخروج منها.

حاول عدد من المفكرين والباحثين العرب تشخيص أسباب العجز العربي في العصر الحديث، سياسياً واجتماعياً وحضارياً وفكرياً. وعلى الرغم من أننا يمكن أن نختلف حول التشخيصات والحلول التي توصَّلَ إليها هؤلاء المفكرون والباحثون، إلا أنه لا يمكننا أن ننكر جديّة الجهود التي بذلوها في هذا المضمار، وأعتقد أن مفكرين مثل صادق جلال العظم (1968) ومحمد عابد الجابري (1984) وبرهان غليون (2004) ومحمد أركون (2011) قد تركوا لنا ما يكفي للتعرُّف إلى الأسباب المختلفة للعجز العربي الراهن. ولكني أعتقد أن هذا كله، على الرغم من أهميته الفائقة، ليس كافياً لإخراجنا من حال العجز العربي، وإنما نحن بحاجة إلى الإجابة عن سؤال إضافي لم يتطرق إليه أحد منا حتى الآن بشكل جدي عميق:

إن معظم شعوب العالم وأممه (إن لم يكن كلها) تفشل في مرحلة من مراحل تاريخها، ولكنها لا تلبث أن تتغلب على فشلها وتنهض من كبوتها. هذا ما حدث لأوروبا بعد انهيار اقتصادها في ثلاثينيات القرن الماضي، وما حدث لألمانيا بعد تدميرها في الحرب العالمية الثانية، وما حدث لليابان بعد قصفها بالقنابل النووية، وما حدث للأرجنتين بعد حكم ديكتاتوري أعدم عشرات الآلاف واستنزف خيرات البلاد، وما حدث لفيتنام بعد حرقها بالنابالم، وما حدث لجنوب أفريقيا بعد تحررها من أبشع أنظمة الاضطهاد والاستغلال والتمييز العنصري، ونستطيع أن نورد عشرات الأمثلة الأخرى من مختلف بقاع الأرض، إلا العرب، فهم يزدادون فشـلاً على فشل بدلاً من أن يتغلبوا عليه.

لماذا لا يتغلب العرب على فشلهم وينهضون من كبوتهم كغيرهم من شعوب الأرض؟ ولماذا أصبح العجز العربي عجزاً تراكمياً يغذي نفسه ويُنتج ذاته ويستفحل؟ ولماذا يبدو وكأن العرب فقدوا مقدرتهم على النهوض؟ ولماذا يتصرفون من منطلق أن فلسطين ضاعت إلى الأبد ولن تعود أبد الدهر، وأن «إسرائيل» حقيقة خالدة خليقٌ بالعرب أن يتعايشوا معها ويكسبوا ودها ويتغاضوا عن انتهاكاتها واعتداءاتها ونواياها المناقضة لمصالح العرب والمسلمين؟ إن التاريخ العربي الحديث عبارة عن سلسلة لا تنتهي من الهزائم والاستسلامات والتنازلات، وما تاريخ القضية الفلسطينية إلا الخط الآخر من سكة الحديد العربية التي يبدو أنها متجهة نحو الهاوية. لماذا؟ وأين يكمن الخلل؟

بعد كثير من الدراسة والتفكير، توصلتُ إلى نتيجة مفادها أن الإجابة عن هذا السؤال لا بد من أن تأخذنا إلى موضوع «العار والذنب» والفرق بينهما، وكيف يؤثر كل منهما في إدراك الذات، وفي الحالة النفسية والدافعية والسلوك الاجتماعي لدى الأفراد والجماعات. هذا ما أرى أنه موضوع مفصلي في غاية الأهمية، وسوف أحاول أن أتناول بالتحليل جوانبه ومركباته المختلفة في هذه الورقة، وصولاً إلى بعض التوجيهات والإرشادات لمحاولة الخروج من الأزمة.

مدخلنا إلى هذا المبحث هو التفريق بين ثقافات الذنب وثقافات العار. وتصنيف الثقافات الإنسانية إلى ثقافات ذنب وثقافات عار، كان سائداً في «دراسات الثقافة والشخصية» في علم الإنسان منذ منتصف القرن الماضي، ولا يزال يُستعمل بكثرة في علم الإنسان حتى الآن. وكان أول من استعمل اصطلاحَي «ثقافة الذنب» و«ثقافة العار» هو الباحث الإيرلندي إيريك دودز (Eric Dodds) في دراسته الثقافة الإغريقية والنظام الأخلاقي الإغريقي كما انعكسا في الأساطير والمسرحيات اليونانية القديمة (Dodds, 1951)، ثم استعملتهما الأنثروبولوجية الأمريكية روت بنيدكت في الطبعة المنقحة لكتابها عن الثقافة اليابانية، حيث استخدمت اصطلاح «ثقافة العار» في وصفها التحليلي المستفيض للثقافة اليابانية (Benedict, 1967).

في الوقت نفسه تقريباً، صدر كتاب جان بريستياني (Jean Peristiany) الشرف والعار (1965)، الذي احتوى على عدد كبير من الدراسات الأنثروبولوجية التي تناولت القيم المركزية في المجتمعات المتوسطية (أي مجتمعات حوض البحر المتوسط)، وكان محور التحليل الرئيس في هذه الدراسات هو ثقافة الذنب في مقابل ثقافة العار، واستخلصت هذه الدراسات أن الثقافات المتوسطية هي ثقافات عار أكثر منها ثقافات ذنب. وقد احتوى هذا الكتاب على مقالة للباحث المصري نصر حامد أبو زيد بعنوان «الشرف والعار لدى البدو في مصر» (Abou-Zeid, 1965) وصف فيها ثقافة البدو في مصر بأنها من ثقافات العار، وكانت هذه أول مرة يوصف فيها مجتمع عربي بأنه حاملٌ ثقافة العار، وتبعه في ذلك باحثون أنثروبولوجيون آخرون ممن درسوا المجتمعات البدوية في العالم العربي، مثل طلال أسد (Asad, 1970) وليلى أبو لغد (Abu-Lughad, 1986). وقد تم تعميم وصف «ثقافة العار» على الثقافة العربية ككل من قبل باحثين أنثروبولوجيين آخرين ممن درسوا المجتمعات العربية، مثل ريتشارد أنطون (Antoun, 1972) وبيتر دود (Dodd, 1973) وكرسِل وويكان (Kressel and Wikan, 1988). من هنا، فقد أصبح سائداً وشائعاً بين الباحثين والمفكرين العرب والأجانب أن يصنفوا الثقافة العربية من بين ثقافات العار. ولا شك في أن لهذا التصنيف ما يدعمه ويبرّره، وسوف نرى من خلال الأمثلة الكثيرة التي سنسوقها في هذه المقالة أن ثقافتنا العربية تتمحور بالفعل حول محور العار، وأن مركّب العار يفسر الكثير من الأخلاقيات والسلوكيات والتفاعلات وأساليب التنشئة والتربية في المجتمع العربي.

هناك بالطبع فروقات ثقافية لا يمكن إنكارها بين الفلسطينيين وباقي الشعوب العربية، وخصوصاً في ما يتعلق بثقافة العار، وما يتبعها من مواقف وأفعال وسلوكيات، كما أن هناك فروقات ثقافية بين كل شعب وآخر في الأقطار العربية، وفروقات بين عرب الجزيرة العربية وعرب الهلال الخصيب وعرب المغرب العربي. هذه الفروقات نابعة من خصوصية التجارب التاريخية التي مر بها كل شعب من الشعوب العربية، والفلسطينيون هم القاعدة لا الاستثناء في ذلك. إلا أن هذه الفروقات هي بمثابة تنوعات فرعية داخل الثقافة نفسها، فكلها تنتهي إلى منظومة القيم المركزية نفسها، وتنتمي إليها، وعليه فإن هذه الفروقات والاختلافات في التفاصيل لا تلغي التشابه في الأساس والأصل؛ فإحدى المميزات الاستثنائية للثقافة الإنسانية هي أنها مصدرٌ للتشابه وللاختلاف في الوقت نفسه، وهي توَلِّد الاختلافات بين الأجزاء بقدر ما توَلّد تشابه الأجزاء في انتمائها إلى الكل، في حين أن المراوحة الدائمة بين الانشطار والانصهار (Fission and Fusion) هي المصدر الأساسي لديناميكية الثقافة‏[1].

قبل أن نستمر في الدخول إلى عمق هذا الموضوع الشائك، علينا أن نتوقف هنا لنقول إن الحديث عن «ثقافة الذنب» و«ثقافة العار» هو حديث عن ميل ثقافي عام وروح ثقافية عامة، وليس عن صفات يتصف بها حتماً كل الأشخاص الذين ينتمون إلى الثقافة المعنية. إن ما نقصده في حديثنا عن ثقافة العار أو ثقافة الذنب هو أقرب ما يكون إلى ما دعاه موريس أوبلر (Opler, 1945) «الموضوع الأساسي للثقافة» (Basic Theme of Culture)، أي ذلك الموضوع الأساسي المركزي الذي نجده ماثـلاً بقوة في كل المكونات الثقافية للمجتمع وما يترتب عليها من علاقات وتفاعلات وسلوكيات.

بهذا المعنى، فإن العار هو موضوع مركزي أساسي في الثقافة العربية نجده ماثـلاً بقوة في الأمثال والحكم والحكايات والعادات والتقاليد والعرف الاجتماعي وعلاقات القرابة ومبنى العائلة والقبيلة وقيم العزوة والشرف والجاه والكرامة، وغير ذلك الكثير. هنالك بالطبع اختلافات بين الأفراد في المجتمع نفسه، من حيث أهمية العار والذنب في شخصياتهم وسلوكياتهم، فليسوا كلهم خاضعين لمبدأ العار بالدرجة نفسها. ولكن حين نقارن بين المجتمعات والثقافات المختلفة، يبرز الفرق بين روح ثقافية وأخرى، أو بين المواضيع الثقافية الأساسية التي تميز مجتمعاً من آخر. من خلال الشرح والأمثلة في هذه المقالة، سنرى بوضوح كيف أن هذا الموضوع الثقافي المركزي (العار) يحدد النمط العام للثقافة العربية والمجتمع العربي.

من المؤكد أن مُرَكّب العار في الثقافة العربية لم يأتِ من فراغ ولم ينشأ عشوائياً أو بمحض الصدفة، وإنما مع نشوء المجتمع العربي البدوي كآلية للتكيُّف مع حياة الترحال في البيئة الصحراوية، فتكيَّفَ المبنى الاجتماعي لهذه المجموعة من البشر مع البيئة الضحلة والعدائية من خلال النظام القبلي المعقد وما استتبعه من العصبية القبلية. وحيث إننا نعلم أن المبنى الاجتماعي والثقافة هما وجهان لعملة واحدة، فإن نشوء هذا النظام القبلي على مستوى المبنى الاجتماعي كان لا بد من أن يترافق مع نشوء مُرَكّب العار (ونقيضه الشرف) على مستوى الثقافة، كآلية للحفاظ على تماسك النسيج الاجتماعي القبلي ورفد العصبة القبلية؛ فسلوك الفرد تحدده مصلحة القبيلة، لأن بقاء الفرد لا يتم إلا من خلال بقاء القبيلة كوحدة متماسكة قادرة على الصمود في وجه تحديات البيئة الجائرة، وفي التنافس مع القبائل الأخرى على مصادر العيش الشحيحة‏[2].

مع مرور الوقت (منذ عهد ما قبل الإسلام وحتى العصر الحديث) تغيرت البيئة، وتغيرت الظروف والأحوال وطرائق العيش وسبل المعيشة، ولكن المبنى الاجتماعي للمجتمع العربي ظل على حاله قبلياً، عماده علاقات القرابة والمصاهرة وما يلازمها من الانتماء إلى العائلة والحمولة والقبيلة والعشيرة. إن كل أشكال التقسيم والانتماء التي تعاقبت على المجتمع العربي عبر تاريخه، كالانتماءات الدينية والطائفية والإقليمية والحزبية والطبقية والقومية والوطنية، والأيديولوجيات الحديثة كالعلمانية والاشتراكية والليبرالية والديمقراطية، لم تفلح في زعزعة النظام القرابي القبلي في المجتمع العربي، بل تعايشت معه واندمجت فيه وتقاطعت خطوطها مع خطوطه، وفي معظم الأحيان عززته وغذت العصبية القبلية التي تحافظ على لُـحمَته. ومع ديمومة النظام القرابي القبلي في المجتمع العربي، دام مركب العار الملازم له في الثقافة العربية‏[3].

علينا أن ننوِّه هنا، بأنه على الرغم من تصنيف كل ثقافة على أنها ثقافة عار أو ثقافة ذنب، فإن كل إنسان يشعر بالعار وبالذنب في المراحل والمواقف المختلفة أثناء مسيرة حياته؛ ففي مجتمعات العار يشعر الإنسان بالذنب (وكلنا نعرف ذلك من خلال تجاربنا الشخصية)، وفي مجتمعات الذنب يشعر الإنسان بالعار كذلك.

في كتابه الوجود والعدم، يعطينا الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر مثالاً على موقف يشعر فيه رجل من ثقافة الذنب بالعار؛ رجل يتوقف أمام باب شقة جاره ويسترق النظر من خلال ثقب الباب ليشاهد الفعل الذي دلت عليه أصوات حميمية كانت تنبعث من داخل الشقة، وفجأة يسمع حركة خلفه فيلتفت، وإذ بجاره الآخر واقفاً يراقبه وهو يسترق النظر من ثقب باب جاره (Sartre, 1964). في هذه الحال، ينظر ذاك الرجل إلى نفسه من منظور الآخرين، فيشعر بالخزي من نفسه لأنه ضُبط متلبساً بفعل غير لائق لم يكن من المفترض بشخص مثله أن يقوم به، ويهتز إدراكه لذاته ويبدأ بتساؤلات من نوع: «هل أنا حقير إلى هذا الحد؟ هل أنا بالفعل من هذا النوع من الناس الذين «يبصبصون» إلى بيوت الآخرين؟ هل أنا شاذ؟ هل أعاني مشكلةً نفسيةً؟»

وسوف نرى في ما بعد أن مثل هذه التساؤلات الموجهة إلى جوهر الذات (ومعدنها) هي ما يميّز الشعور بالعار من الشعور بالذنب. جدير بنا أن نذكر هنا أيضاَ أن كـلاً من الشعورين – الذنب والعار – مؤلم جداً ويُدخل الذات في حالة أزمة، وكل منهما ترافقه مجموعة من أعراض توتر ما بعد الصدمة (PTSD)، وذلك على الرغم من أن نوعية المعاناة في حالة الذنب تختلف منها في حالة العار؛ ففي حالة الذنب تكون المعاناة مقترنة بالحزن والاكتئاب، بينما تكون المعاناة في حالات العار مقترنة بالعجز والإحباط (Anthony, 2015).

بيد أنه من المتفق عليه بين الباحثين، أن هناك اختلافات جوهرية بين مجتمعات الذنب ومجتمعات العار، من حيث الروح الثقافية العامة ونمطية سلوك الأفراد. ويمكننا أن نلخص هذه الاختلافات في أمرين:

الأمر الأول هو أنه في مجتمعات الذنب يشعر المرء بالذنب أولاً، ومن ثم يمكن أن يتطور هذا الشعور إلى شعور بالعار إذا ما بدأ المرء بالحكم على ذاته من منظور الآخرين، بينما في مجتمعات العار، يشعر المرء بالعار أولاً، ومن ثَمّ يمكن أن يشعر بالذنب لأنه تسبب بالعار لنفسه وللآخرين. فما يُلحِق العار بالفرد في مجتمعات العار لا يُلحِقه به هو فحسب، وإنما بأقرب الناس إليه كذلك، كأبنائه وإخوته وأبناء عمومته، وأيضاً بجيرانه أو أهل حارته أو قريته، ولذا فإن من يجلب العار على نفسه، يمكن أن يشعر بالذنب لأنه أضر بسمعة الآخرين، أو شرفهم أو كرامتهم من دون أن يكون لهم ضلع في ذلك.

أما الاختلاف الجوهري الثاني بين مجتمعات الذنب ومجتمعات العار، فينبع من أنَّ الشعور بالذنب يكون دائماً مرتبطاً بارتكاب خطأ، أي بالإتيان بفعل خاطئ من قبل الشخص نفسه، والخطأ يُحدَّد من خلال القيم المعيارية المتوارثة والسائدة في المجتمع والتي تُستدخل إلى صُلب شخصيات الأفراد من طريق التربية والتنشئة؛ فحين يخطئ شخص ما بسلوك أو تصرف معين، فإنه يشعر بالذنب لأنه ارتكب هذا الخطأ. أما الشعور بالعار فليس مرتبطاً حتماً بإتيان الشخص نفسه بفعل خاطئ، وإنما يمكن أن ينتج من عدد من الأسباب:

1 – ارتكاب خطأ من قبل الشخص نفسه، كما هي الحال في الشعور بالذنب، كأن يسرق أو يعتدي بشكل سافر على شخص آخر أو يرتكب خيانة أو جرماً.

2 – ارتكاب الآخرين خطأ؛ فإذا ارتكب ابني خطأ ما مثـلاً، كالسرقة أو الخيانة أو القتل أو الاعتداء، فإنني أشعر بالعار لأن ابني أخطأ وجلب العار على نفسه وعليّ مع أنني لم أرتكب الخطأ ولم يكن لي أي ضلع فيه. ويمكن للمرء أن يشعر بالعار الشديد لأخطاء يرتكبها جاره أو صديقه أو ابن بلده أو حتى ابن شعبه أو طائفته أو أمته.

3 – القيام بفعل ليس خاطئاً ولكنه يعتبر معيباً أو شائناً أو مضراً بالشرف، والمثال على ذلك من ثقافتنا العربية هو أنه في كثير من الأماكن في فلسطين والعالم العربي بعامة، لا يزال الرجل حتى يومنا هذا يشعر بالخجل من حمل زوجته وينتابه شعور شديد بالعار إذا ما اضطر إلى مرافقة زوجته الحامل في زيارة لأقاربه أو معارفه المقربين، وذلك على الرغم من أن الحمل والإنجاب هما أمران يعتبران صحيحين ومحبذبن ومرغوببن، ومدعاةً للفرح والابتهاج. ولا يزال حتى الآن سائداً في مجتمعاتنا العربية أن تخجل المرأة من حملها الأول وتشعر بالعار إذا ما أبدت حملها لأبيها أو إخوتها، لأن الحمل مؤشر لا لُبس فيه على أنها أصبحت تمارس الجنس (أو لمزيد من الدقة، أصبح يُمارَس الجنس بها)، وهو أمر يعرفه الجميع ولكن لا يريد أن يعترف به أو يفكر فيه أحد‏[4].

4 – احتلال موقع معين يعتبر معيباً وجالباً للعار، كالفقير الذي يخجل بفقره وينتابه الشعور بالعار إذا ما تواجد بين أغنياء، أو كالمرأة التي تجد نفسها فجأةً وحيدةً بين مجموعة كبيرة من الرجال فتشعر بالعار لأنها زجَّت نفسها في مكان يجب ألا تكون فيه. ومن الأمثلة المؤسفة والمؤلمة جداً على ذلك في مجتمعاتنا العربية، العائلة التي تخجل خجلاَ شديداً من وجود ابنة معوّقة عقلياً أو جسدياً (من ذوي الاحتياجات الخاصة) في العائلة، وتشعر بالعار إذا ما اكتشف الآخرون ذلك، فتحاول إخفاء الابنة المعوّقة عن أنظار الناس بأساليب تكون في أغلب الأحيان لاإنسانية ووحشية، ذلك لأن الناس في مجتمعنا يعتقدون أن احتواء العائلة على ابنة معوّقة (أو ابن معوّق) هو أمر معيب يَحُط من شأن العائلة ويُخل بمركزها الاجتماعي ويضعها في موقع لا ترغب أن تكون فيه.

5 – احتلال موقع يُعتبر إيجابياً ولكن في المكان أو الزمان الخطأ، كأن يدخل شخص ميسور الحال بسيارته المرسيدس الجديدة الفارهة في زقاقات مخيم للاجئين أو في طرقات قرية نائية تنضح فقراً وإهمالاً، أو كأن تضطر سيدة ذات مؤهلات أكاديمية تخصصية رفيعة المستوى للعمل كعاملة نظافة في بيوت الناس، فلا المؤهلات الأكاديمية تجلب العار ولا العمل بالنظافة يجلب العار، ولكن الاضطرار إلى الجمع بين المتناقضات والشعور بأن المرء ليس في مكانه الصحيح، هو ما يولد الشعور بالعار.

عليه، فإن المحك الأساسي لتشخيص الحالة العامة لمجتمع أو لشعب هو كيفية تصرف الأفراد في حالة الخطأ أو الفشل. ولكي نتمكن من إجراء مقارنة بين ما يحدث في مجتمعات الذنب وما يحدث في مجتمعات العار بهذا الخصوص، علينا أن نحيِّد تحليلياً الحالات التي لا ينشأ العار فيها عن ارتكاب الشخص نفسه لخطأ ونركز على الحالات التي تتماثل فيها مجتمعات العار ومجتمعات الذنب من حيث ارتباط الشعور بارتكاب الخطأ.

منذ بداية دراسات الذنب والعار في منتصف القرن الماضي وحتى الأعوام الأخيرة، كان الرأي السائد في علم الإنسان وعلم النفس وعلم الاجتماع، والذي كان يحظى بإجماع الدارسين والمحللين، هو أن الفرق الجوهري بين الذنب والعار يكمن في الافتراض بأن الذنب ينبع من حكم الذات على ذاتها في ذاتها، بينما العار ينبع من حكم الذات على ذاتها بناءً على موقف الآخرين منها ومن أفعالها. بمعنى أن الذنب ينبع من محاسبتك لنفسك في نفسك، أي بناءً على ما استدخلته من قيم ومعايير فأصبح جزءاً لا يتجزأ من محتوى ذاتك، في حين أن العار ينبع من الخوف مما سيقوله الناس عنك وكيف ستكون ردود أفعالهم على تصرفاتك وأفعالك (Peristiany, 1965; Barth, 1962; Erikson, 1963). ولقد قدم علم النفس تلخيصاً مفاهيمياً لهذا التفسير من خلال الثنائية التي وضعها جوليان روتّر عام 1954: «مركز السيطرة الداخلي» (Internal Locus of Control) الذي يتماثل مع حالة الذنب، و«مركز السيطرة الخارجي» (External Locus of Control) الذي يتماثل مع حالة العار (Rotter: 1954; 1975)، وظلت هذه الثنائية تسيطر على علم نفس الشخصية حتى مطلع هذا القرن.

لكن، على الرغم من أن هذا التفسير «الكلاسيكي» للفرق بين الذنب والعار لا يزال مقبولاً ومستخدماً لفهم المجتمعات والثقافات والأفراد، وللتعامل العلاجي مع كل من الضحايا والمعتدين في حالات العنف الأسري والمجتمعي، فإن الدراسات الحديثة في علم النفس والعلوم الإنسانية الأخرى، تقلل من شأن هذا الاختلاف وتقودنا إلى الاعتراف بأن هذا ليس هو الفرق الأساسي بين الذنب والعار، وإنما هو فرق ثانوي نابع من سمة أخرى أهم وأعمق من ذلك بكثير. هذه الدراسات الحديثة تقول لنا «إن الشعور بالذنب يكون موجهاً نحو الفعل المرتكَب، بينما الشعور بالعار يكون موجهاً نحو الذات التي ارتكبت الفعل».

بهذا المعنى، فإن الذنب هو بمثابة تقييم سلبي للفعل الخاطئ الذي قامت به الذات الفاعلة، بينما العار هو تقييم سلبي للذات الفاعلة نفسها، وكأن لسان حال الإنسان في حالة الذنب يقول: «أنا قمت بفعل سيئ» (I did something bad)، بينما يقول لسان حال الإنسان في حالة العار هو: «أنا سيئ» (I am bad) (Slaughter, 2012). فإذا كنتُ أنا من ثقافة الذنب وارتكبت فعـلاً خاطئاً، فإنني أشعر بأنني أخطأت، وقمت بفعل خاطئ أو سيئ، فأوجه نقدي واستيائي إلى الفعل وأتساءل: «لماذا ارتكبت هذا الخطأ؟ وما الذي جعلني أقدم على هذا الفعل السيئ؟ ألم يكن من الممكن أن أتصرف بطريقة أفضل؟ وماذا علي أن أفعل كي لا أعود إلى ارتكاب الخطأ نفسه مرة أخرى؟».

في هذه الحال، يوجه النقد إلى الفعل وملابساته وليس إلى الذات وتكوينتها، وتالياً لا تهتز ثقتي بنفسي ولا يضعف إيماني بذاتي وأظل قادراً على الاستفادة من أخطائي، وعلى الإصلاح والتغيير. في المقابل، فإذا كنتُ أنا من ثقافة العار وارتكبتُ فعـلاً خاطئاً فإنني أشعر بأنني خاطئ، وإنسان عاجز عن فعل الصواب، وإنسان ضعيف أو سيئ، وبهذا أوجه نقدي واستيائي إلى ذاتي، وأفكر: «أنا غلط، أنا سيئ، أنا مجبول على الخطأ، هكذا خلقتُ وهكذا سأبقى». في هذه الحال، يوجَّه النقد إلى طبيعة الذات وتكوينها، فتهتز ثقة المرء بنفسه ويضعف إيمانه بمقدرته على إصلاح ذاته.

طالما أن النقد موجه إلى الفعل، يستطيع المرء أن يفكر بطرائق ليحسن سلوكه وأفعاله، كي لا يستمر في ارتكاب الخطأ. أما إذا كان النقد موجهاً إلى صميم الذات وشرَعَ المرء بالشك في طبيعة ذاته ومقدراتها، فإن هذا يحدّ من مقدرة المرء على الإصلاح ويفرض قيوداً صارمة على إمكانيات التغيير.

دعونا نأخذ مثالاً صارخاً على ذلك لتوضيح هذا الفرق بين الذنب والعار، وهو مثال الفتاة التي تُتهَم بشرفها، أي الفتاة التي تُتّهَم بإقامة علاقة جنسية من دون أن تكون متزوجة، ونحن نعرف أن مثل هذه الحالات كثيراً ما تؤدي في مجتمعاتنا العربية إلى قتل الفتاة المعنية «على خلفية شرف العائلة». إذا حدث ذلك في أحد مجتمعات الذنب (في المجتمعات الأوروبية مثـلاً)، فماذا يجري؟ تتصرف عائلة الفتاة المعنية كأنها ذات واحدة، ويبدأ الوالدان (وربما الأخوة والأخوات كذلك) بمناقشة الموضوع مع الفتاة في محاولة للتغلب على المشكلة: ماذا حدث؟ وهل الاتهام صحيح أم لا؟ هل حدث ذلك بالفعل؟ وإذا حدث، هل هو خطأ أم لا؟ هل من مصلحة الفتاة أن تقيم علاقة كهذه؟ وإذا كان ذلك خطأ، فما الذي دعاها إلى ارتكاب هذا الخطأ؟ وماذا عليها أن تفعل كي تتعلم درساً من ذلك الخطأ فلا ترتكبه مرة أخرى؟ وهكذا تحاول العائلة أن تساعد فتاتها على فهم خطئها والأسباب التي أدت إليه، وعلى التفكير مليّاً قبل اتخاذ قراراتها بحيث لا تكرر الخطأ نفسه في المستقبل (Keyes, 2008).

أما إذا حدث ذلك في أحد مجتمعات العار (كمجتمعنا العربي)، فماذا يحدث؟ هنا أيضاً تتصرف عائلة للفتاة المعنية كأنها ذات واحدة، ولكن بطريقة مختلفة تماماً. فبمجرد أن تتهم الفتاة في شرفها، فقد وقعت الواقعة وانتهى الأمر. فالفتاة جلبت العار على نفسها وعائلتها لمجرد أنها تصرفت بشكل أعطى للناس فرصة توجيه هذا الاتهام إليها، وإن لم يكن الاتهام حقيقياً. ومجرد أنها استدعت هذا الاتهام فهذا مؤشر على أنها قابلة لارتكاب مثل هذا الفعل. أما إذا كان الاتهام صحيحاً، فهذا برهان قاطع على أن الفتاة والعائلة غير شريفتين، غير أخلاقيتين، مصابتان في الصميم ومعطوبتان، فتعيش العائلة في حالة عار، وتتأصل حالة العار في هوية العائلة ومركزها الاجتماعي مما يستدعي اتخاذ إجراء قاطع وحاسم وعنيف للخروج من الأزمة.

في الأغلبية العظمى من الحالات، تظل وصمة العار ملتصقة بالعائلة حتى بعد اتخاذ مثل هذا الإجراء العنيف. وكما نرى هنا بوضوح، فإن الحديث في مثل هذه الحالات في مجتمعات العار ليس عن الإصلاح، إصلاح الفرد أو الفعل أو السلوك، وليس عن التغيير، تغيير الفرد أو الثقافة أو المجتمع، وإنما الحديث هو عن طعنة قاتلة تلقتها الذات في صميم كيانها، واستماتة الذات المطعونة في إنقاذ ذاتها والبقاء حية في المجتمع، حتى وإن تطلّب ذلك التضحية بحياة أحد أفراد العائلة.

لشرح هذا الفرق الجوهري بين الذنب كنقد موجَّه إلى الفعل، وبين العار كطعنة في صميم الذات الفاعلة، علينا أن نركز جهدنا التحليلي على العلاقة الجدلية بين الذات وبين الآخرين، أي بين الذات الفردية للفرد الفاعل وبين الذات الجمعية للمجتمع الذي هو عضو فيه (Atherton, 2013). تلخص القائمتان التاليتان الاحتمالات الممكنة لهذه العلاقة الجدلية في كل من ثقافة الذنب وثقافة العار، وذلك لتسهيل التوضيحات التي ستأتي بعدهما:

ثـقـافـة الـذَّنْبأنـا أعــرف
الآخرون يعتقدونأنني فعـلـتهاأنني لم أفعـلها
أنني فعـلـتها(2)

أنا مذنب، أعترف بالذنب وأندم على ما فعلته، أطلب الغفران من المجتمع، وأعِد نفسي والمجتمع بأنني سأتغير

(4)

أحاول أن أثبت براءتي، وإذا ثبتت براءتي تنتهي المشكلة

أنني لم أفعـلها(3)

أنا مذنب، أعترف بالذنب وأندم على ما فعلته، ألوم الآخرين لأنهم لا يرون أنني مذنب ويمنحونني فرصة لطلب الغفران، وأعِد نفسي والمجتمع بأنني سأتغير

(1)

أنا لم أفعلها، لا توجد مشكلة

 

ثـقـافـة الـعـارأنـا أعــرف
الآخرون يعتقدونأنني فعـلـتهاأنني لم أفعـلها
أنني فعـلـتها(2)

أنا مذنب، أعترف بالذنب، أشعر بالعار لأن المجتمع يعرف أنني مذنب، أندم لأنني جلبت العار لنفسي والآخرين، ولكنني لا أطلب الغفران من المجتمع

(4)

العار لحِق بي بمجرد الاتهام،

البراءة لن تفيد في إزالة وصمة العار، أنا مذنب ومدان حتى وإن ثبتت براءتي

أنني لم أفعـلها(3)

أنا مذنب ولكني لا أشعر بالذنب أو الندم، لا أشعر بالعار طالما أن الآخرين لا يعرفون، أستمر في ارتكاب الفعل أو أتوقف عنه، بحسب الظروف والإمكانيات

(1)

أنا لم أفعلها، لا توجد مشكلة

 

(1) في كلا الثقافتين، إذا كنتُ أعرف أنني لم أرتكب الفعل، وكان الآخرون كذلك يعتقدون أنني لم أرتكبه، فأنا لم أرتكبه، ولا توجد مشكلة. ليس هناك فرق يُذكر بين ثقافة الذنب وثقافة العار في هذه الحال.

(2) في ثقافة الذنب: إذا كنتُ أعرف أنني ارتكبتُ الفعل، وفي الوقت نفسه، يعتقد الآخرون أني ارتكبته، فإنني مذنب وأعترف بذنبي، وتالياً أندم على ما فعلته، وأطلب المسامحة والمغفرة من المجتمع، وأعد نفسي والمجتمع بأني سأتغير وأحسِّن سلوكي فلا أرتكب الفعل نفسه، مرة أخرى.

في ثقافة العار: إذا كنت أعرف أنني ارتكبت الفعل، وفي الوقت نفسه، يعتقد الآخرون أنني ارتكبته، فأنا مذنب وأشعر بالعار لأن المجتمع يعرف أنني مذنب، وتالياً، أندم لأنني ارتكبتُ هذا الفعل وجلبتُ العار لنفسي وللآخرين، ولكن لكي أحفظ ما تبقى من ماء الوجه، وأنقذ ما يمكن انقاذه من مصداقيتي وكرامتي، فإنني لا أطلب من المجتمع أن يسامحني ويغفر لي زلتي، وخصوصاً أنني أعلم أن المجتمع لن يمنحني ذلك.

(3)  في ثقافة الذنب: إذا كنت أعرف أنني ارتكبت الفعل، ولكن الآخرين يعتقدون أنني لم أرتكبه، فإنني على الرغم من ذلك، أعرف أنني مذنب وأعترف بذنبي، وتالياً أندم على ما فعلته وأطلب المسامحة والغفران من المجتمع، وأعد نفسي والمجتمع، بأنني سأصلح ذاتي وأتغير فلا أرتكب الفعل نفسه، مرة أخرى.

في ثقافة العار: إذا كنت أعرف أنني ارتكبت الفعل ولكن الآخرين يعتقدون أني لم أرتكبه، فمن الممكن أن أشعر بالذنب أو بالمخاطرة ولكن ليس إلى الحد الذي يجعلني أشعر بالندم أو الرغبة في التوقف عن فعله. وأنا لا أشعر بالعار طالما أن الآخرين لا يعتقدون أني أقوم بفعل خاطئ أو سيئ أو معيب، وطالما أنني أعتقد أن الآخرين لا يعلمون بما أفعله، وهذا يشجعني على الاستمرار في ارتكاب الفعل، وتالياً من الممكن أن أستمر في ارتكاب الفعل أو أتوقف عنه بحسب الظروف والإمكانيات ومدى العقبات والمخاطر، وبحسب مغريات الفعل والمنافع التي أجنيها من ارتكابه. كل عمليات الاختلاس من المال العام والخاص، ومحاولات الغش في الامتحانات والأبحاث وفي أعمال البناء والإنتاج والترميم والتصليح، وأفعال الخيانة الزوجية والاجتماعية والوطنية في مجتمعنا الفلسطيني والمجتمعات العربية الأخرى، يمكن أن تُفسَّر وتُفهَم على هذا الأساس. طالما أن فعل الاختلاس أو الغش أو الخيانة لم ينكشف، فلا ضير، أما إذا انكشف فإنه ينتهي بما يشبه الإعدام الاجتماعي المعنوي للفرد «المذنب»، في حين تستمر الظاهرة وكأن شيئاً لم يكن ومن دون أن تترتب على ذلك محاولات جذرية جادّة للإصلاح أو التغيير.

(4)  في ثقافة الذنب: إذا كان الآخرون يعتقدون أنني فعلت فعلاَ خاطئاً (ويتهمونني به) ولكنني أعرف أنني لم أرتكبه، فإنني أفعل كل ما أستطيعه، لكي أثبت براءتي وأقنع الآخرين بأني لم أفعله. إذا لم أتمكن من إثبات براءتي، فإن ثقتي بالمجتمع وبالناس وبالأقدار وبالإله وبالكون كله يمكن أن تهتز، ولكن ليس ثقتي بنفسي، لأنني أعرف أنني بريء مما يدّعون، ولم أرتكب ذاك الخطأ.

في ثقافة العار: إذا كان الآخرون يعتقدون أنني فعلت فعـلاً خاطئاً (ويتهمونني به) ولكني أعرف أنني لم أرتكبه، فإن مجرد اعتقاد الآخرين بأنني أخطأت واتهامهم لي بارتكاب الفعل سيُلحق العار بي وبعائلتي، أما قناعتي المطلقة ببراءتي فلن تساعد ولن يكون لها أي أثر في وضع حد للضرر. وإذا حاولتُ أن أثبت براءتي للآخرين، ففي معظم الحالات سيدّعون أنني أكذب أو أتستر على الحقيقة أو أنكر الذنب، ولن يصدقوني. وإن صدقوني، فإن ذلك لن يخرجني من المأزق؛ فالضرر وقع بمجرد الاتهام ولحقني العار وانتهى الأمر، والطعنة التي يُمنى بها الشرف لا بُرء منها حتى بإثبات البراءة، أو كما يقول المثل الفلسطيني: «العرض مثل القزاز، إذا انكسر ما بتصلَّح». إن وصلت القضية إلى القضاء الرسمي وحكمت المحكمة ببراءتي، فإن ذلك أيضاَ لن يُفلِح في إزالة وصمة العار التي ألصقها المجتمع بي وبعائلتي.

إن الأغلبية العظمى من حالات الاتهام بالاعتداء والاغتصاب والإجرام، والتعرض للاعتداء أو الاغتصاب أو الإجرام، في مجتمعنا الفلسطيني والمجتمعات العربية الأخرى، يمكن إدراجها كأمثلة على هذه الحالة. وعلينا أن نضيف هنا، أن إلصاق وصمة العار وإمكانيات الإفلات منها تختلف باختلاف قوة الأفراد والعائلات في المجتمع اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، فمن الأسهل إلصاق وصمة العار بالمرأة منها بالرجل، وبالفقير منها بالغني، وبالمهمَّش منها بالمتنفِّذ، وبالمرؤوس منها بالرئيس.

من هنا، نرى أنه في ثقافة العار، فإن حكم المجتمع على الذات هو الذي يقرر مصير الفرد ويحدده. وبغض النظر عما إذا كان الفرد مذنباً أو غير مذنب، والاتهام صحيحاً أو غير صحيح، فإن المجتمع هو الذي يُدينه ويَطعن ذاته ويُلحق العار به، ومن ثم يوَلِّد لديه الشك في طبيعة ذاته وبُنيتها. بهذا المعنى، فإن حكم المجتمع في ثقافة العار لا يقتصر على إدانة الفعل السيئ، وإنما يتعدى ذلك إلى تصنيف الذات الفاعلة على أنها «ذات سيئة»، وبهذا يحدّ من مقدرتها على إصلاح ذاتها ويحرمها من إمكانية التغيير.

كيف يمكن للمجتمع في ثقافة العار أن يُصدر مثل هذه الأحكام الجائرة على أفراده ويُلزمهم بها ويحدد مصائرهم من خلالها؟ ما هي الآلية التي يستخدمها المجتمع كي يجعل أفراده يستدخلون أحكامه إلى عمق ذواتهم فيُقنعون أنفسهم بأنهم سيئون أو فاسدون ولا رجاء يرجى منهم؟ للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نعود إلى المقارنة بين الذنب والعار:

الذنب هو شعور نابع من محاسبة الذات حين يرتكب المرء فعـلاً منافياً لقانون أو قيمة أو مبدأ أخلاقي مما أنتجته ثقافة الذنب عبر تاريخها واستدخله الأفراد إلى محتوى ذواتهم. أما العار، فهو شعور نابع من محاسبة الذات حين يرتكب المرء فعـلاً يُبعده عن نموذج اجتماعي صاغته ثقافة العار عبر تاريخها واستدخله الأفراد إلى محتوى ذواتهم (Keyes, 2008).

إن الأمثلة على هذا التعريف للعار كثيرة، ومنها أن الرجل العربي (في حالته الثقافية المثالية) يشعر بالعار إن أتاه ضيف فقدم له طعاماً عادياً ليكسر جوعه، ولم يستطع أن يقيم له وليمة من أفخر الولائم، لأن فعله هذا يُبعده عن نموذج الكرم العربي كما صاغته الثقافة العربية عبر تاريخها.

لكي نقرّب الأمثلة إلى واقعنا المُعاش، نأخذ هذا المثال من الواقع الفلسطيني الراهن في المناطق المحتلة؛ فالشاب الفلسطيني الذي ينتابه الخوف حين يرى جندياً إسرائيلياً يصوِّب سلاحه نحوه، يشعر بالعار لأنه شعر بالخوف من الجندي الإسرائيلي. هذا ليس لأنه خالف قانوناً أو خرج على مبدأ أخلاقي، وإنما لأنه لم يتصرف بما يتلاءم ونموذج البطولة الذي طوَّرته الثقافة الفلسطينية عبر تاريخها كثقافة شعب مُحتل. والشاب الفلسطيني في هذه الحال يشعر بالعار حتى وإن لم يره أحد، وإن لم يعيّره أحد أو يعيب عليه تصرفه. وذلك لأن شعوره بالعار ينبع من محاسبته ذاته وإدراكه عجزه عن التصرف بحسب نموذج البطولة الذي استدخله إلى محتوى ذاته، فتهتز ثقته بنفسه وتتشوه صورته عن ذاته ويفقد احترامه ذاته حين يكتشف «أنه جبان»، ليس لشعوره أنه مخطئ أو مذنب، ولكن لأنه ينظر إلى نفسه من منظار الآخرين، ويتصور كيف سيكون موقفه لو أن الآخرين شاهدوا «جُبنه» أو عرفوا به أو سمعوا عنه، وكأن الآخر الاجتماعي أصبح جزءاً منه، دائم الحضور حتى في غيابه الجسدي، يراقبه وينتقده ويعيِّره إذا ما ابتعد عن النموذج. هكذا، فإن إخفاقه في تحقيق نموذج البطولة في مثل هذه المواقف، يؤدي بالضرورة إلى الشعور بإخفاقه في تحقيق نموذج الذات الفلسطينية بالمُطلق.

من خلال هذه الأمثلة، نرى بوضوح أنه على الرغم من أن العار ينبع من النظر إلى الذات بعيون الآخرين ومحاسبتها – كما يمكنهم أن يحاسبوها – على ابتعادها عن النموذج، فإن النموذج – الذي صاغه المجتمع في ثقافته عبر تاريخه وغرسه في عمق ذوات أفراده – هو الآلية التي يستخدمها المجتمع كي يفرض أحكامه على الأفراد ويلزمهم بها ويحدد مصائرهم من خلالها، وبهذا نقترب قرباً مذهـلاً من تعريف فريدريك نيتشه للعار بأنه «تعطيل للإرادة الحرة» (نيتشه، 2007: 141 – 144). غني عن القول، إن هذا التفسير ينطبق على النماذج الاجتماعية الأخرى في ثقافة العار، كالكرامة والحشمة والطهارة والشرف.

إن ما يُضفي على ثقافة العار صبغة من التناقض واللامنطقية، وتالياً يوقع الأفراد في مآزق وجودية يصعُب التغلب عليها أو الخروج منها، هو حقيقة أن الأغلبية العظمى من النماذج الاجتماعية التي تفرضها الثقافة على أفرادها، تتناقض مع منظومة الأخلاق المثالية التي تغرسها، هي أيضاً، في عمق ذوات أفرادها. في مجتمعاتنا العربية مثـلاً؛ منظومة الأخلاق تقول للرجل «لا تقتل!»، بينما نموذج الشرف يقول له «أقتل! إذا أردت أن تستعيد شرفك المهدور، فعليك أن تقتل!» فإذا قتل الرجل ابنته أو أخته لأنها «اتهمت في شرفها» فإن المجتمع «يصفق له» ويمتدحه ويكافئه على فعلته، مع أن وصمة العار التي ألصقت به على الأغلب لن تزول أبداَ. حتى أن «العُرف الاجتماعي» يتغلب في هذه الحال على القانون الرسمي فيخفَّف الجرم، وتالياً العقاب، إلى الحد الأدنى، وفي بعض الأحيان يبرَّأ القاتل من الجرم ويفلت من العقاب بذريعة «التهيج العاطفي وفقدان السيطرة».

في مجتمعنا الفلسطيني في المناطق المحتلة، تقول منظومة الأخلاق للفلسطيني «لا تسرق!»، بينما حين يصل الأمر إلى السرقة من مكان العمل الإسرائيلي، فإن نموذج «العدالة» يقول له: «اسرق! هذه ليست سرقة وإنما استعادة لحق نُهِبَ واستُلب». فإذا سرق الفلسطيني من رئيس عمله الإسرائيلي فإن المجتمع يمتدحه ويكافئه بزيادة رصيده المادي والاجتماعي. وعلى هذا المنوال، فإن أحداث الواقع من حولنا تشهد أننا لا نعيش بحسب الأخلاق، وإنما نحن نعيش بحسب النماذج التي من أجلها، نرتكب الآثام، ونضحي بحياة بعضنا بعضاً في سبيل تحقيقها، والاقتراب من مثالها الأعلى.

ليس هذا فحسب، بل إن الاجتياح الثقافي واختلال القيم الحاصل في عصر العولمة كثيراً ما يدفع مجتمع العار إلى أن يفرض على بعض فئاته نماذج اجتماعية متناقضة ومتنافرة، ويطالبهم بالجمع بينها من دون تناقض أو تنافر؛ فالمرأة العربية الراهنة (بسبب تزامُن العصرنة مع التديُّن والتزمت في العقدين الأخيرين) عليها أن تتحفظ في لباسها وسلوكها وعلاقاتها، وتعيش بحسب نموذج «الحشمة»، وفي الوقت نفسه، عليها أن تكون عصرية الشخصية حرة التفكير ليبرالية المواقف وتعيش بحسب نموذج «المرأة العصرية»، في حين أن المجتمع لا ينفك يمرجحها على هذا الحبل المشدود كالوتر بين الحشمة والعصرنة، فإن مالت إلى الأولى اتهمها بالابتعاد عن الثانية، وإن مالت إلى الثانية اتهمها بالابتعاد عن الأولى.

نستنتج من كل ما سبق أن «محاسبة الذات» في مجتمعات العار لا تعني حرية الإرادة، بل على العكس من ذلك، فالإرادة الحرة تكاد تكون مُعَطلة في أهم جوانب الحياة وفي أخطر نقاط التحول في مسيرة الأفراد؛ فالذات ومحاسبتها ذاتها، كلتاهما مخترقتان حتى الصميم من قبل المجتمع والإرادة الجمعية. إن المجتمع هو الذي يشكل الذات، ويقرر طبيعتها ومقدراتها، ويصدر حكمه عليها بالسوء والجودة، ويصنفها في هذا أو ذاك، ويخترقها دائماً وباستمرار من خلال إلزامها بنماذجه الاجتماعية الصارمة، وهو الذي يحدد مجال مقدرتها على الفعل وإمكانيات الإصلاح والتغيير.

ليس أدل على ذلك من مفهوم «الهوية» في الثقافة العربية ؛ فالهُوية مشتقة من ضمير الغائب المذكر «هُو»، وهو الضمير الذي يجسد الآخر اللامحدَّد، بمعنى أن أعمق أعماق ذواتنا مُشَكَّل ومُصاغ ومُحدد «من خلال «هو - ية» الذات، أي من خلال الآخر «هو»، ومن خلال كون الذات «آخر» للآخرين» (Kanaaneh, 1995: 56). وفوق ذلك كله، فإن المجتمع يضع السقف النهائي لحرية الذات ومقدراتها وإمكانياتها من خلال الآخر المطلق، الآخر الجبار الذي لا سبيل للإفلات منه، أي المشيئة الإلهية والقضاء والقدر. ما الذي يبقى من حرية الفرد إذا أقنعه المجتمع بأنه سيئ ومعطوب بطبيعته، وبأنه هكذا خُلِق، وهكذا سيبقى، وهذا هو الموضع الذي قُدِّر له وعليه في «الخطة الإلهية» الأزلية التي لا تخضع للتغيير أو التبديل؟! ومن أين ستأتي الدافعية الذاتية إلى الإصلاح والتغيير إذا كان المجتمع يخبر الفرد ويُلح عليه بأن كل ما يرتكبه من أخطاء وآثام مرتبط بالمشيئة الإلهية ومحتوم بالقضاء والقدر؟! ليس مُفاجئاً إذاً أن نعلم بأن كل مجتمعات العار تتصف بالنزعة القدرية، وإن كان بدرجات متفاوت (Peristiany, 1965; Kaufman, 1996).

هل يعني هذا أن المرء في مجتمعات العار لا يستطيع أن يفلت أبداً منه إذا لحقه؟ إنه بالتأكيد يستطيع أن يحاول على الأقل، وبطرائق تراجيدية في كثير من الحالات، ولكني أشك في أنه يستطيع الإفلات منها كلياً. ولكي نفهم ذلك، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن العار نقيضه الشرف، بينما الذنب نقيضه البراءة:

 

في حالة الذنب: إذا اتهم امرؤ بارتكاب فعل خاطئ يؤدي إلى الذنب، فإنه يستطيع أن يخرج من حالة الذنب ويصل إلى حالة البراءة؛ إما من خلال إثبات براءته إذا كان الاتهام خاطئاً، وإما من خلال الاعتراف بالذنب وطلب المغفرة والعمل على إصلاح السلوك، إذا كان الاتهام صحيحاً.

في حالة العار: إذا اتهم امرؤ بارتكاب فعل خاطئ يؤدي إلى العار، فإن إثبات براءته لن يساعده على الخروج من حالة العار، لأن العار قد لحقه بمجرد اتهامه في شرفه ولا سبيل إلى العودة عن ذلك، وحتى لو تمكن من إثبات براءته، فإن ذلك لن يمحو وصمة العار التي ألصقت به ولن يُعيد إليه شرفه كما كان من قبل. أما إذا كان الاتهام صحيحاً، فإن الاعتراف بالذنب سوف يَزيد الطين بلة، ويَمنح المجتمع ذريعة لإحكام الخناق عليه، وهو بالتأكيد لن يُعطَى فرصة طلب المغفرة ومحاولة إصلاح ذاته، والتي هي غير ممكنة أساساً في مثل هذا المجتمع.

هكذا، فإن الطريق من حالة العار إلى حالة الشرف مغلقة بحواجز يستحيل تجاوزها، فلا يبقى أمام المرء إلا واحدة من وسيلتين لمحاولة الالتفاف على الموضوع والوصول إلى حالة الشرف: الوسيلة الأولى هي إعدام أو تصفية سبب العار (Barker, 2003)، وهذا ما يحدث في حالات الثأر، والقتل «على خلفية الشرف»، وخيانة القوي المُتمكن إن انكشفت خيانته. أما الوسيلة الثانية فهي الإنكار والتجاهل والانشغال بأمور أخرى بعيدة من الموضوع، في محاولة للتخفيف من حالة العار والتصرف وكأنها غير موجودة (Anthony, 2015). غني عن البيان أن هاتين الوسيلتين لا تفلحان في معظم الحالات في تحرير المطعون في شرفه من وضعية العار وإيصاله إلى وضعية الشرف.

من باب التلخيص والاستنتاج نقول: إن كل المضاعفات المترتبة تحليلياً ومنطقياً على ما تقدم من شرح للعار وثقافته، تتطابق بصورة شبه كلية مع ما نعرفه وما نجده في أبحاثنا الإمبيريقية من ظواهر اجتماعية وأنماط سلوكية وسمات أخلاقية وحالات نفسية في مجتمعنا الفلسطيني والمجتمعات العربية الأخرى في الوقت الحاضر:

1 – انعدام الرادع الأخلاقي الذاتي لدى العديد من أفراد المجتمع: إن بعضهم بعامة يَسمحون لأنفسهم بارتكاب التجاوزات القانونية والأخلاقية طالما أن الآخرين لا يعلمون، وطالما يعتقدون أنهم قادرون على تفادي افتضاح أمرهم؛ فالكذب ليس سيئاً إلا إذا اكتُشِف، والغش ليس دنيئاً إلا إذا افتُضِح.

2 – انتشار حالات السرقة والاختلاس والفساد، والخداع والنفاق والغش والخيانة: إذا افتضِح أمر حالة من هذه الحالات، فإنها تنتهي بفضيحة فردية مجلجلة، ولكنها نادراً ما تؤدي إلى محاولات جدية للإصلاح والتغيير في المجتمع؛ فالشخصيات والأسماء تتغير، لكن الظواهر تستمر.

3 – ازدواجية معايير الحكم على السلوك: وهذا إلى حد يبدو وكأنه حالات من فصام الشخصية أو الشيزوفرينيا؛ فليس من النادر مثـلاً أن تجد طالبة جامعية شديدة الورع رفيعة الخلق ولكنها تسمح لنفسها بالغش في الامتحانات، وشيخاً تقياً ورعاً يسرق من أموال الزكاة، وحاكماً يقطع رأس متهم بالزنا ويقضي لياليه مع نساء ساقطات يجلبهنَّ من بيوت الدعارة، ورجـلاً يعاشر النساء كما يشاء ولكنه يرتكب جريمة إذا ما رأى ابنته تتحدث مع زميل لها في الدراسة أو العمل.

4 – انتشار حالات التصفية الجسدية أو المعنوية: يتمّ ذلك خصوصاً للأطراف الضعيفة في معادلات العار، كجرائم الشرف والثأر والاغتيالات السياسية وعمليات التصفية على خلفية الاختلاس والفساد.

5 – الميل إلى الانطواء وتفادي الآخرين والابتعاد عنهم في حالة الإصابة بآفة العار: أَثبتَ عدد من الدراسات السيكولوجية الحديثة، التي أجريت على آلاف الأشخاص من مجتمعات مختلفة، أن من يدخل في حالة الذنب يميل إلى الاختلاط بالناس كي يأخذ منهم لتأكيد نجاح مجهوده في إصلاح ذاته واستعادة تقبل المجتمع له، في حين أن من يدخل في حالة العار يميل إلى إخفاء نفسه وتحاشي الاختلاط بالناس كي يوفر على نفسه الهمز واللمز والطعن والتشهير (Steiner, 2009; Kemeny [et al.], 2004).

6 – المبالغة في محاولات استقاء الشرف من مجالات أخرى غير تلك التي طُعن فيها الشرف: إن مَن يلحقه العار لسبب من الأسباب، يحاول في كثير من الحالات أن يلتف على الموضوع ويستعيد تقبل الناس له من خلال منصب أو مركز، أو من خلال الظهور بمظهر المُحسن الذي يُغدق من خيره على الناس، أو من خلال الهرولة إلى مساعدة المحتاجين، أو من خلال التديُّن المفاجئ والظهور بمظهر المؤمن التائب وتعمُّد أداء الصلوات جماعة في المسجد لعله يُنسي الناس عاره ويستعيد بعضاً من شرفه من مجال لا علاقة له بأصل المشكلة.

7 – تفادي الحديث عن موضوع العار: أولاً للتخفيف من ألم المعاناة، وثانياً كمحاولة يائسة للتقليل من حدة حالة العار ومحاولة الخروج منها. هذا ينطبق ليس على الأفراد فحسب، وإنما على مجتمع العار ككل، ونحن الفلسطينيون نعرف أن العالم العربي – بأنظمته وحكوماته ومؤسساته وأكاديمييه – يُنكر علينا وعلى نفسه الحق في التطرق (حتى بحثياً) إلى ما جرى في نكبة فلسطين عام 1948 وما ألحقته من عار بالأمة العربية كلها، وحتى الفلسطينيين أنفسهم (خصوصاً في مناطق الـ48) ظلوا لأكثر من ثلاثين عاماً يَقمعون وعيهم بالنكبة ويطردونها من أحاديثهم وأحاسيسهم، وإذا سألهم أبناؤهم عنها استشاطوا غضباً وأمروهم بعدم التكلّم على الموضوع (Karmi, 1994; Said, 1998; Sayigh, 2007).

لعل هذا الميل إلى تفادي التطرق إلى موضوع العار هو السبب الذي يفسر عدم وجود أدبيات جدية عن العار باللغة العربية؛ فالعالم الأكاديمي العربي يكاد يخلو من أية أبحاث جدية مُكرَّسة لموضوع العار كظاهرة ومفهوم، فهذا الموضوع يبدو أنه لا يروق للباحثين والأساتذة المشرفين، ولا للجامعات والممولين.

8 – الامتناع عن النقد الذاتي: عوضاً من ذلك، يجري توجيه النقد واللوم للآخرين؛ فمن السهل جداً علينا نحن العرب أن نوجه النقد – بحثياَ وأدبياً وخطابياً – إلى الاستعمار والغرب والرأسمالية والشيوعية والعلمانية، وكل ما يأتينا أو يمكن أن يأتينا من الخارج. أما أن ننتقد أنفسنا، فهذا صعب جداً. ومن يتجرأ على النقد الذاتي، فإنه يلقى الإهمال والتهميش (كصادق جلال العظم) أو الإذلال والاضطهاد (كأدونيس) أو الملاحقة الجسدية والقانونية (كنوال السعداوي) أو التحريم والمصادرة (كإدوارد سعيد) أو التكفير (كيوسف زيدان) أو حتى التهديد بالقتل (كنصر حامد أبو زيد) أو التصفية الجسدية الفعلية (كناجي العلي).

9 – المزاوجة بين الافتخار الشديد بالذات وجَلد الذات: نتفادى التطرق إلى أشكال عارنا وأسبابه ونُحجم عن توجيه النقد البناء إلى أنفسنا؛ فالكبت الناجم عن ذلك، يجد متنفساً له في نزعتين مترابطتين: المبالغة في الافتخار بعروبتنا وثقافتنا وديننا وأخلاقنا كوسيلة للإنكار، ورجْم أنفسنا وجَلد ذواتنا بلا رحمة، إما بأسلوب رمزي مبطن كما نجده في النكات اللاذعة واللاسعة عن العرب و«العربي»، وهي بالآلاف، وفي بعض الأعمال المسرحية والسينمائية، وإما بأسلوب مباشر وصادم نجد أقوى تجسيدات له في أشعار مظفر النواب وأحمد مطر، ونثريات مارون عبود سابقاً ومحمد الماغوط حالياً، وأغاني زياد الرحباني، ومسلسلات ياسر العظمة، ورسومات ناجي العلي وعدد من رسامي الكريكاتور الحاليين في أقطار العالم العربي. من الجدير بالذكر، أن هذا النقد الذاتي الكريكاتوري المشوَّه يؤدي إلى التنفيس لا إلى التغيير (على النقيض من الأمثلة في النقطة السابقة)، ويخدم كصمّام أمان داخلي يُبقى الاستياء أو التذمر تحت خط «الخطر الثوري».

10 – الشعور الطاغي بالعجز، سياسياً وعسكرياً واجتماعياً وفكرياً: لعل هذا هو أكثر ما يُشَكِّل الذات العربية ويميِّزها من سواها، على المستويين الفردي والجمعي، في الوقت الراهن.

11 – الشعور بالغرق المتزايد والمتسارع في الأزمة: لا نبالغ إذا قلنا إن أكثر ما يعانيه الإنسان العربي في الوقت الحاضر، هو الشعور بانسداد الأفق والدوران اللانهائي في حلقة مفرغة.

12 – الشعور بالتخلف عن الركب الحضاري والوقوف بلا حراك على قارعة التاريخ.

إذا كان كل ما ذكر أعلاه مرتبطاً بثقافة العار ومترتباً عليها، فلا بد لنا في النهاية من طرح السؤال: هل من الممكن أن نغير ثقافتنا من ثقافة عار إلى ثقافة ذنب؟

إنني أشك في ذلك، على المدى القصير على الأقل؛ فثقافة العار متجذرة في عمق الثقافة العربية ومنتشرة في مكوِّناتها وتشكُّلاتها، وفي فضاءاتها وفراغاتها، ومتجذرة كذلك في عمق ذواتنا على مستوى الوعي واللاوعي على حد سواء. ولكنني في الوقت نفسه، أعتقد أنه ليس لنا من مَخرَج مما نحن فيه إلا أن نحاول، «ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة» كما قال الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، وأعتقد أنه علينا أن نخطو هذه الخطوة في الحال، رحمةً بأطفالنا وبالأجيال القادمة. وهذه الخطوة تتكون من شقين:

1 – خلال تربيتنا أطفالنا؛ فحين يُخطئ الطفل،علينا أن نوجِّه نقدنا إلى الفعل كفعل خاطئ يمكن أن يُصلَّح وليس إلى الذات كذات قاصرة و«مجبولة على الخطأ»، وهذا ما لا نفعله حتى الآن. بل على العكس من ذلك تماماً، إذ حين يرتكب طفلنا خطأ ما، فإن نمط التربية السائد في ثقافتنا هو أننا نشن هجوماً على ذاته، فنسحقها سحقاً بكلمات الطعن والإهانة وعبارات التهديد والوعيد، ونقتل فيه ثقته بنفسه، ونغرس في أعماق نفسيته الشك في مقدرته على الإصلاح والتغيير. مهما كانت جدية وفداحة خطأ طفلنا، علينا أن نمتنع عن توجيه الطعنات إلى ذاته من خلال عبارات من نوع «يا حمار؛ يا تيس؛ يا بغل؛ يا حيوان؛ يا غبي؛ الله خالقك حمار؛ عمرك ما راح تصير بني آدم؛ عمره ما راح يطلع منك إشي…».

تلك العبارات التي تغرس في ذهن الطفل الاعتقاد بأنه سيئ أو فاشل أو عاجز بطبعه وفطرته، وعلى الأرجح أن هذا الاعتقاد لن يفارقه، وإنما سيظل يصبغ مواقفه وآراءه وأفكاره وأفعاله مدى الحياة. حريٌّ بنا إذاً، أن نأخذ أطفالنا بجدية أكبر ونعطيهم من وقتنا وجهدنا قسطاً أكبر، كي نتحاور معهم بهدوء وروية إلى أن نُفهِمهم خطأهم وأسبابه ودواعيه، ونرشدهم إلى كيفية إصلاح سلوكهم، بُغية عدم الوقوع فيه. هكذا ننشئ إنساناً قادراً على إصلاح ذاته، ومجتمعاً قادراً على النهوض من كبواته.

2 – علينا كذلك، في الوقت نفسه، أن نُضعِف النزعة القدريّة في ثقافتنا ونُرخي قبضة الأقدار على أفعالنا وأحداث واقعنا، فننمّي الإرادة الحرة لدى أفراد المجتمع، وتالياً نستطيع أن ننقل مجتمعنا من مفعول به مغلوب على أمره مستسلم لعجزه، إلى فاعل قادر على الإصلاح والتغيير، وعلى مواجهة العقبات والإملاءات والمخاطر، وعلى تقرير مصيره وصنع تاريخه بنفسه.