مقدمة:

من العوامل الأساسية التي يمكن اعتمادها في كل الأحوال لتدعيم أي مشروع مجتمعي، الثقافة التي تعتبر كلاً معقداً يشمل جميع الأنشطة التي ينتجها مجتمع ما في فترة من فترات تطوره لمواجهة المحيطين الطبيعي والإنساني قصْدَ فهمهما وتفسيرهما، وكذلك التحكم فيهما وتسخيرهما لصالح المجتمع. فالثقافة على هذا النحو هي تراث يحتوي على قيم وعادات تطبع الوجدان ويبنى عليها سلوك عن وعي أو غير وعي. فهي الممارسات العادية ومجموع السلوكات والتصورات التي تعبِّر عن الطريقة التي تعيش بها جماعة ما وتفكر بها وتنظم بواسطتها علاقات بالعالم وبذواتها وبالآخرين. الثقافة بهذا المعنى تعكس الهوية، وهي تؤدي أدواراً اجتماعية في خطة تحليلية قد توضع في إطار برنامج عمل قابل للتطبيق.

وفي سياق الحديث عن مفهوم الثقافة دائماً، تنبع ضرورة التمييز بين مستويات ومجالات للثقافة، التي تفرز بالضرورة أنماط إنتاج ثقافية (الفنون والآداب…). بدءاً من نقطة الارتكاز هاته فإن مقالتنا سوف تخصص ما هو عام بتناولها أحد أوجه الثقافة، ويتعلق الأمر هنا بالجانب الاجتماعي (التقاليد، الأفكار، اللغة…) وهي كلها عناصر تعكس سلوك الأفراد، وسنبين ذلك من خلال عرض لكتاب الذاكرة والهوية لـمؤلفه جويل كوندو[1]، الذي يعتبر ثمرة مجهود لدراسة أنثروبولوجية جعلت الإنسان محور اهتمامها في خصوصيته ككائن اجتماعي وثقافي. وتأتي أهمية هذه الدراسة في كونها تطرح إشكالية العلاقة بين الذاكرة والهوية ومن ثم صعوبة الانتقال من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي بالنسبة إليهما ولا سيَّما على مستوى التمثلات. وفي محاولة للإجابة عن الإشكال المطروح قسَّم كوندو كتابه إلى ستة فصول: الأول منه خصصه المؤلف لتقديم المفاهيم الأساس لمعالجة مشاكل أنطولوجية. بينما ارتبط الفصل الثاني بمعالجة بناء وتغييرات الذاكرة والهوية لدى الفرد والجماعة. وفي الفصل الثالث يوضح فيه الكاتب مسألة تذكر العالم التي تفترض في نظره عملية مسبقة تتمثل بترتيبه وتنظيمه من طريق تدجين أو هيكلة الزمن؛ ذلك أنه من دون معالم وإشارات زمنية وهي أصل الحدث يستحيل أي تحديد. أما الفصول الثلاثة الأخيرة فيحاول الكاتب من خلالها معالجة الإطار الاجتماعي للذاكرة والهوية من خلال العناصر التالية: أولاً رصد أشكال النقل واستقبال الذاكرة من طرف الأفراد والجماعات؛ ثانياً: تحديد أسلوب دعم وتقوية الذاكرة بالاستناد إلى عاملي الذكرى والنسيان؛ ثالثاً: ملامسة ما سمي الحداثة وأزمة الهويات؛ رابعاً، استخلاص ما يميز الذاكرة عن التاريخ.

العلاقة الجدلية بين الذاكرة والهوية

يؤكد جويل كاندو أهمية الذاكرة، انطلاقاً من ارتباطها بالزمن. هذا الأخير الذي يعتبر جارفاً للإنسان، وبالتالي فهو يهدد كيان الأفراد والمجتمعات ويسير بهم نحو الزوال. ومن هنا تأتي أهمية الذاكرة في استرجاع الذكريات والأحداث الماضية لوضعها في خدمة عملية التكيف مع البيئة المحيطة. كما يؤكد كاندو الترابط العضوي بين الذاكرة والهوية، هذه الأخيرة التي يعرِّفها إيزاك تشيفا[2] بأنها القدرة التي يمتلكها كل واحد منّا للبقاء واعياً باستمراريته في الحياة. فهذا الترابط العضوي بين الذاكرة والهوية، يشكل موضوع أعمال متعددة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي أكدت الروابط التشاركية والتعايشية بين الذاكرة والهوية على أساس أن الذاكرة هي القاعدة الأولية التي تغذي الهوية، سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي. فتشغيل الذاكرة هو إنعاش وبناء لهوية الذات وهو العمل الذي يوصي به الكاتب كل فرد منا تجاه ماضيه قصد منع النسيان.

وإذا كانت الذاكرة هي القاعدة الأولية للهوية كما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن هذه الأخيرة بدورها تحدد نشاط الذاكرة والاختبارات التذكرية، وهذه هي حالة بناء الهوية اليهودية التي تعمل على كل ما يشكل هذه الذاكرة من خلال عدة طرائق: إحياء اللغة، خلق تخصصات في التعليم مرتبطة باللغة اليهودية، نشر الكتب والمجلات….

وبالرغم من أن الذاكرة تطورياً وتكوينياً هي الأولى فإنه يصعب إعطاء الأولوية لأحدهما على الآخر؛ ذلك أنهما مندمجان في بعضهما يتبادلان التأثير والتأثر ومن ثم يصعب فك ترابطهما وتشابكهما منذ ظهورهما إلى نهايتهما المحتمة.

أولاً: الإطار المفاهيمي للذاكرة والهوية

 

1 – مدلول الذاكرة

تصنف الذاكرة من الناحية الأنثروبولوجية إلى ثلاثة مستويات:

الذاكرة الأولية: وهي مختلف أشكال التعلمات المكتسبة خلال التنشئة الاجتماعية المبكرة بما فيها الحياة الرحمية. وتسمى أيضاً التعلمات الأولية؛ أي رواسب التفكير المختلفة وكل ما يتعلق بالكلام، المشي، الإحساس، التفكير… وهي بذلك ذاكرة بدون وعي، أي أن الذات في غير علمها.

الذاكرة الفعلية: هي ذاكرة للتذكر أو لإعادة التعرف، وكذلك هي استدعاء اختياري أو غير اختياري للذكريات المتعلقة بالسيرة الذاتية أو الخاصة بالذاكرة الموسوعية (معتقدات، معارف…) وهي مكونة أيضاً من النسيان.

الماوراء الذاكرة: ترتبط من جهة بالتمثلات والتصورات التي يكونها كل فرد عن ذاكرته الشخصية ومعرفته حولها. ومن جهة أخرى الأبعاد التي تحيل على طريقة ارتباط الفرد بماضيه وبناء الهوية.

بعد عملية التعرف إلى هذه المستويات للذاكرة، يرى جويل كاندو أن المستويين الأول والثاني يرتبطان بملكة الذاكرة، في حين يحسب المستوى الثالث تمثلاً لهذه الملكة. ولا يصح هذا التصنيف إلا في حالة الذاكرة الفردية، فالذاكرة الجماعية تبقى مرتبطة بخصائص سائدة أو غالبة مشتركة، أما ملكة الذاكرة فهي خاصية الذاكرة الفردية، وبذلك تعتبر الذاكرة الجماعية تمثلاً يمكن إدراجها في ما وراء الذاكرة، غير أنها تختلف عن مثيلتها في الذاكرة الفردية فما وراء الذاكرة في الذاكرة الجماعية يبقى متعلقاً بوصف الاشتراك الافتراضي للذكريات.

2 – مدلول الهوية

في حالة الهوية يكون التحديد المفاهيمي أمراً صعباً جداً، فعلى المستوى الفردي: توظف الهوية هنا في ثلاثة مستويات: الهوية كحالة: مثلاً البطاقة الشخصية؛ والهوية كتمثل: الفكرة التي يكونها الفرد عن ذاته؛ وأخيراً الهوية كمفهوم يعني الهوية الفردية، وهو مفهوم متداول في العلوم الإنسانية والاجتماعية. أما على المستوى الجماعي، يعَدّ مصطلح الهوية غير ملائم لعدم تماثل الأشخاص، وبالتالي فإن الهوية الجماعية هي تمثلٌ ليس إلا. فأفراد جماعة ما ينتجون تمثلات عن كونهم أعضاء في هذه الجماعة من حيث الأصل والتاريخ… فالهوية إذاً لا تتكون انطلاقاً من مجموعة مستقرة أو محددة في إطار ثقافي ولكن تنتج أيضاً في إطار علاقات تفاعلية اجتماعية حيث يبرز الشعور بالانتماء.

ثانياً: الذاكرة والهوية من خلال البلاغات الشمولية

 

1 – الهوية والذاكرة الجماعية

تعد البلاغة تقنية للإقناع تهدف إلى نقل الذاكرة والهوية من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي. ولقد استعملت الهوية الجماعية باسم البلاغات الشمولية على أساس بعض الشعارات الكولونيالية الكبرى (موت الأشخاص نتيجة الصراعات العرقية) وذلك استناداً إلى فرضية أن الكائنات البشرية ذوات قابلة للتواصل فيما بينها والانخراط في اشتراك جماعي، سواء في المعرفة أو المعتقدات والتمثلات والمعلومات… كما أن مصطلح الذاكرة الجماعية المطبقة على جماعة معينة بقدر ما يكون ملائماً حيث يشترك أعضاء الجماعة في عدد محدد من التمثلات التي تم إيصالها إليهم مسبقاً بأنماط محددة اجتماعياً وثقافياً، بقدر ما يثير غموضاً على ثلاثة مستويات:

– غموض بين الذكريات المتداولة والذكريات المخزونة في الذاكرة؛ حيث لا ينبغي الخلط بين سرد الحدث والذكرى التي كوّنها الأشخاص حوله.

– غموض بين ما وراء الذاكرة والذاكرة الجماعية، أي الخلط بين الحدث الموصوف وما تتم كتابته وقوله عنه، إذ ترتكز جماعة ما على نفس المعالم التذكارية (الاحتفال بالذكريات، إنشاء المتاحف…) لكن أعضاءها لا يقتسمون نفس التمثلات حول الماضي، الأمر الذي يستحيل معه الحديث عن ذاكرة مشتركة، حيث تتدخل فردانية العقل البشري في نهج طرق مختلفة للتذكر رغم كون الذكريات تتغذى من نفس المصدر.

غموض ما بين الذاكرة ومضمون هذا الفعل، إذ لا شيء يؤكد وجود شخصين ينتجان نفس التأويل لحدث معين. وفي هذا الإطار اهتم دان سبيرْبر[3] بسيرورة توزيع التمتلاث حيث ميَّز بين مستويين: الأول يهم سيرورة التمثلات الداخل – فردية في الذاكرة، حيث يدخل ضمنها المعتقدات والاهتمامات والاختبارات ويطلق عليها «التمثلات الذهنية». بينما يتعلق المستوى الثاني بسيرورة التمثلات البينفردية في الذاكرة، ويدخل ضمنها الإشارات واللافتات والصور… ويطلق عليها «التمتلاث العمومية». ويوضح دان سبيربر أنه عندما يتم نقل التمثل الذهني (Représentations mentale) من شخص إلى آخر يتحول إلى تمثل عمومي (Représentations publiques)، هذا الأخير يتحول إلى تمثل ذهني بواسطة المرسل إليه، الأمر الذي ينعكس على درجة التطابق بين التمتلاث. وبالتالي يمكن اعتبار الذاكرة الجماعية عبارة عن عملية الذكريات بصفة متكررة إلى عدد كبير من الأشخاص. تتكون هذه الذاكرة من تمتلاث عمومية وذهنية، وبالتالي فإن هذا يحول في نظر دان سبيرْبر دون صياغة نظرية موحدة للتمثلات مثل: الأساطير والأشكال الفنية… ويضيف إليها جويل كاندو الذكريات.

2 – معايير تقويم البلاغات الشمولية

رغم أن التمييز بين التمتلاث الذهنية والعمومية التي قام بها دان سبيربر لها أهمية كبرى من الناحية النظرية، فإن مدى اشتراك الأفراد في التمتلاث العمومية ظل غامضاً، لذلك تم وضع عدة معايير لإزالة هذا الغموض وهي كالتالي:

المعيار الأول: يميز بين التمثلات الوقائعية التي هي تمتلاث ترتبط بوجود الحدث (الأحداث الطبيعية) والتمثلات الدلالية (الأحداث القصدية) المرتبطة بدلالة هذه الأحداث. ولتقويم درجة وثوقية هذه البلاغات الشمولية، فإن الأولى تعتبر إثباتا وبالتالي درجة الوثوقية بالنسبة للاشتراك مرتفعة. أما الثانية فهي عبارة عن خطابات ودلالات ومن ثم فقدرة الوثوقية منخفضة.

المعيار الثاني: يتمثل بمفهوم الشك أو التشكك الذي يرتبط بالأحداث القصدية التي هي تمثلات فردية، وعليه فكلما كان الحدث يحتمل الشك فإن درجة الوثوقية منخفضة.

المعيار الثالث: يهتم بحجم الجماعة، حيث يتم نقل الأفكار بكيفية سهلة وكذلك مراقبة حقيقة الاشتراك الجماعي في التمثلات والمعتقدات بسهولة كلما قلَّ عدد الجماعة.

المعيار الرابع: يميز بين الذاكرة القوية والمنسجمة والمنظمة التي تفرض نفسها على الأغلبية وبالتالي تهيكل الجماعة، والذاكرة الضعيفة السطحية غير المنظمة التي تؤدي إلى هدم الجماعة وتفكيكها. وبالتالي فدرجة الوثوقية للبلاغات الشمولية أكثر ارتفاعاً في الذاكرة الأولى والعكس صحيح بالنسبة إلى الذاكرة الثانية.

إن تكوين الذاكرة الجماعية هو في واقع الأمر رهين بإنتاج الذكريات الفردية والسعي نحو هدف مشترك، فهناك إذاً إطارات اجتماعية تغذي كل عملية تذكر، وبالتالي تشغيل الذاكرة الجماعية كضابط للذاكرة الفردية. فالإطارات الاجتماعية تسهل عملية التذكر أو النسيان، وبالتالي فإن الذاكرة هي اجتماعية وليست بالضرورة جماعية.

ثالثاً: الذاكرة الفردية والوعي

إن فقدان الذاكرة يعني فقدان الهوية، فالذكرى شرط مهم للوعي ومعرفة الذات، وتتم عملية اشتغال الذاكرة في ثلاثة اتجاهات مختلفة نعرض لها كما يلي:

– ذاكرة الماضي: ترتبط بالنتائج والتقويمات.

– ذاكرة الفعل: تشتغل بحاضر متلاشٍ.

– ذاكرة التوقع: ويدخل ضمنها المشاريع والوعود وهي موجهة نحو المستقبل.

ومن طريق الإحساس المتكرر بالاستمرار الزمني يتولد الوعي بالذات الذي يفترض القدرة التذكرية. والتذكر حسب إيمانويل كانط[4] يسمح بربط العلاقة بين ما حدث في الماضي وما لم يحدث بعد بواسطة ما هو حاضر، ذلك أن زمن الذكرى يختلف عن الزمان المعاش، ومن ثم فالتذكر هو شيء آخر غير الماضي، ما دامت الذكرى هي صورة حول الحدث الماضي من دون الاهتمام والتساؤل عن الزمن.

1 – الذاكرة والهوية من خلال التسمية

يمثل الاسم رهان الذاكرة والهوية، وهو يعد شكلاً من أشكال المراقبة الاجتماعية للغيرية الأنطولوجية للذات أو الغيرية المتمثلة لجماعة ما. إن محو اسم شخص هو إنكار لوجوده، وإيجاد اسم شخص معين هو إخراجه من النسيان وبالتالي إثبات هويته. ولا يكفي أيضاً أن نسمي لكي نحدد الهوية، ولكن ينبغي الحفاظ على ذاكرة هذه التسمية. وهذا ما يفسر وجود الذاكرة الإدارية المدونة في أوراق أو سجلات الحالة المدنية. وعموماً قد يؤدي تغيير الاسم إلى تهديد الهوية للذات نظراً إلى أن الاسم يعتبر مادة حقيقية حسب هذه الأخيرة.

2 – تجميع الأحداث الوجودية

قد يطرح متذكر لحياته الخاصة التساؤل التالي: كيف نعطي معنى لمتتاليات حياة ذات سلسلة من الأفعال المفككة، وعدم تماسك الواقع وشذرات الأحداث الشخصية؟ كل تقديم للذات يرتكز على حبكة واستحضار الماضي من طريق جملة معبِّرة تكون أو تسعى لتكون تامة وشاملة. عملية الحكي إذاً تعتبر توضيحاً لما تبقى من الماضي، ذلك أن الراوي يجمع الأحداث ويرتبها ويجعلها منسجمة من خلال تعديلات وإضافات واختصارات ورقابات ومسكوت عنه… وهي تكون لحمة الذاكرة؛ فالسرد يُعد أساس تجميع الأحداث الوجودية. ومع ذلك فإن العديد من الحكايات عن الذات يشوبها الغموض نتيجة عدة عوامل؛ كالاعتلال الذي يصيب الذاكرة نتيجة التقدم في السن، والإعجاب بالنفس، والنسق الأسطوري…

من الخطأ تماماً أن نقيِّم سرد الأحداث انطلاقاً من معيار صدقية الذكريات هل هي صحيحة أم غير صحيحة، لأن هناك ما يتم إخفاؤه وهو أيضاً حقيقة. وحقيقة الإنسان توجد في ما يتم إخفاؤه كما أن النسيان الذي لا يرى فيه أغلبنا سوى جانبه السيئ المتعلق بعدم التواصل مع الذات نفسها، فهو في تجميع الأحداث الوجودية يسمح للذات بأن تؤمن استمرارية هذا التواصل نتيجة فرز دقيق بين الذكريات المقبولة والأخرى غير المقبولة، فهذه طريقة سردية لاشعورية.

ويمكن أن نضيف بأن الإطار الاجتماعي للذاكرة يوجه عملية الاستحضار. فالشخص الذي يريد أن يحكي حدثاً ماضياً بأمانة يفترض فيه أن يكون قادراً على نسيان كل تجاربه اللاحقة، بما فيها تلك التي يعيشها أثناء السرد؛ الشيء الذي يعتبر مستحيلاً؛ فاشتغال الذاكرة هو توليد للهوية بشكل متجدد وباستمرار في كل عملية سردية. وانطلاقاً من هذا يمكن تعريف تجميع الأحداث الوجودية (La totalisation existentielle) بأنها فعل الذاكرة الذي يستثمر الآثار المتروكة من طرف الماضي فيوحدها ويجعلها منسجمة لكي تتمكن من تأسيس صورة كافية عن الذات.

رابعاً: علاقة الذاكرة والهوية بالزمن

 

1 – تقسيم الزمن

لتمثيل هذه القاعدة يجب الأخذ بعين الاعتبار أن العملية الفكرية هي أساس ما نريد أن نقسّمه، وبذلك نميز بين الماضي والحاضر والمستقبل. هذا هو التمييز الذي ينفرد به المجتمع الإنساني عن باقي الكائنات الحية. وفي مستوى آخر فإن لكل مجتمع أدوات وعناصر لتنظيم الزمن وقياسه؛ يوميات، شهريات، ساعات، وكل أدوات تسجيل الزمن الماضي؛ وذلك لتسهيل توجيه الذاكرة وتنظيم وجود الجماعة وبالتالي تمثيل هوية الأفراد والجماعات.

أ – تقلص وتمدد الزمن في الذاكرة وعلاقته بالهوية

يرى جويل كاندو أن الذاكرة يمكن أن تعطي للماضي وقتاً أكبر، كالطقوس والشعائر، وهذا ممثل عند اليهود الذين يبنون هويتهم بإعطاء قيمة للزمن الذهبي الخيالي. من هنا فإعادة بناء الهوية هي وظيفة اجتماعية، والمجتمع الذي تكون فيه الذاكرة ممثلة دائرياً هي ذاكرة قوية وبالتالي هوية قوية، والمجتمع الذي تكون فيه ذاكرة سهمية فهي ضعيفة وهذا ينعكس سلباً على الهوية.

ب – الزمن الخاص والمجهول

الزمن الخاص هو الزمن الذي يرتبط بأحداث يتم تذكرها في وقت خاص ومحدود. فالمجتمعات القروية مثلاً تعاملها مع الزمن لا يتماشى مع سلم تقسيم الزمن المحدد (الأيام والشهور والسنوات) بل يتم ربطه باللحظات الرئيسية كالزواج، الولادة، الموت… أو اللحظات الثانوية كالسفر… أما الزمن المجهول فهو موجود في الوسط العائلي، وأحداثه بلا تاريخ محدد، حيث يتم ربطه بالعلاقات الإنسانية العائلية؛ فمثلاً عندما يسأل طبيب مريضه منذ متى أنت تعاني من دوار؟ يجيب المريض منذ أن تركتني زوجتي. ومنذ متى تركتك زوجتك؟ منذ أن رسب ابني في امتحانات الباكالوريا فلا يوجد أبداً رقم ولا تاريخ سوى الأحداث الشخصية.

ج – الزمن الحقيقي والحاضر الحقيقي

الحاضر الحقيقي يذوب في البساطة المفترضة واللاوقتية للزمن الحقيقي، وهذا الحاضر هو تنسيق بارع بين الماضي اللامتناهي والمستقبل اللاحق، عكس الزمن الحقيقي المجرد وغير المحدود، الذي يتلاعب بكل أحداث التفكير بحيث يدمر البنية الزمنية الكرونولوجية للذاكرة، وبالتالي فالحاضر الواقعي غني بذاكرة الأحداث، أما الزمن الحقيقي فلا يحتوي إلا على حدث بدون ذاكرة.

2 – حقل المتذكر

حقيقة الزمن لا تكون إلا إذا كان له مضمون، أي أحداث يتم التفكير فيها، حيث إن عملية بناء الهوية لا تتأسس حول ما هو مخزون في الذاكرة، بل يتم الانتقاء من هذا المخزون وفق ما يناسب صيانة التقاليد. فحقل المتذكر متحرك في إطار تنظيم الهوية ويتأسس من خلال مستويين:

أ – ذاكرة الأصول

أي المرجعية الأصل، وهي تبنى على اللحظة الأولى التي هي رهان للهوية والذاكرة. إلا أن هناك تغيرات ثقافية تؤدي إلى وضع لحظة جديدة مكان اللحظة القديمة قصد تأسيس هوية جديدة. كما أن للخطابات حول الأصول في الزمن دور كبير في إعطاء تعريف لهوية الأفراد والمجتمعات؛ فاليهود مثلاً يرجعون أصلهم إلى أبناء يوسف بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم، وذلك بهدف جعل هويتهم خالصة، وهي ذات طابع عنصري لأن صفاء العرق المتأصل شرط لتمثيل هويتهم.

ب – ذاكرة الأحداث

إن نقطة الأصل لا تكفي لكي تكون الذاكرة أداة لتنظيم الهوية، فالواجب هو أن يكون لها زمن محدد متمثل بالأحداث؛ مثلاً ذكرى تجربة شخصية ترجع إلى سيرورة اختيار رمز يساعد على التذكر لعدد من الأشياء حقيقية أو وهمية، وهذا أساس التنظيم الإدراكي للتجربة الزمنية.

أما من وجهة نظر المجموعة فنجد أن صنع الهوية يكون عبر الأحداث أو بقايا الأحداث التي لها نصب تذكارية تعمل على إخراجها من طي النسيان. إن قوة الذاكرة تتغير بحسب الانسجام العام للحقل التذكري، يعني البناء انطلاقاً من تجانس مجموعة من الذكريات، أي انطلاقاً من اللحظة الأصلية وتتابع الأحداث. فالحدث المتذكر له علاقة وطيدة بحاضر السارد، على عكس البناء التاريخي فالحدث يؤسس المحور الزمني بالنسبة للمؤرخ.

تأسيساً على ما سبق يؤكد جويل كاندو، من خلال المعطيات النظرية التي أوردها في الفصول الثلاثة الأولى، العلاقة العضوية بين الذاكرة والهوية، وكذا صعوبة الانتقال من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي بالنسبة إليهما، وبخاصة على مستوى التمثلات، الأمر الذي يؤشر إلى فردانية العقل البشري في التعامل مع الذاكرة، مبيناً مدى ارتفاع درجة وثوقية البلاغات الشمولية، وذلك بالتمييز بين التمثلات الوقائعية والتمثلات الدلالية معتمداً في ذلك على معايير مختلفة.

وفي إطار حديثه عن الهوية والذاكرة يجد قياس الزمن أهميته الكبرى في تأسيس وتوجيه الذاكرة، وبالتالي تنظيم الجماعة وتمثيل هويتها، وكذا التخطيط لمواجهة الحياة الراهنة والمستقبلية. كما أن الحديث عن الذاكرة والهوية هو من المواضيع المهمة والضرورية لإثبات الوجود الفعلي للإنسان والتمييز عن الآخر، وترسيخهما واجب ومشروع قصْد مواجهة الضياع، وبخاصة ونحن في زمن العولمة وصراع الحضارات والثقافات.

وإذا كان جويل كاندو منذ البداية يعلن ويقر بأهمية الذاكرة وعلاقتها الجدلية بالهوية، انطلاقاً من ارتباطهما بالزمن والتفكير اللذين يعطيان للهوية بعدها المحدد، ويرسمان معاً إطارها المرجعي؛ إذ تأتي الذاكرة لأحياء الماضي عن طريق لم بقاياه وأنقاضه لبناء صورة جديدة قد تساعد على مواجهة الحياة الراهنة. وفق هذا المستوى الأخير سيحاول كاندو من خلال الفصول الثلاثة الأخيرة من كتابه معالجة الإطار الاجتماعي للذاكرة والهوية وذلك من خلال العناصر التالية: 1 – رصد أشكال نقل واستقبال الذاكرة من طرف الأفراد والجماعات؛ 2 – تحديد أسلوب دعم وتقوية الذاكرة بالاستناد إلى عاملي الذكرى والنسيان؛ 3 – ملامسة ما سمِّي الحداثة وأزمة الهويات؛ 4 – استخلاص ما يميز الذاكرة عن التاريخ كدراسة.

خامساً: الذاكرة بين النقل والاستقبال

 

1 – أشكال نقل الذاكرة

ثمة فائدة في تأكيد أن للذاكرة الإنسانية إمكانيات مهمة لتخزين المعلومات، ورغم ذلك لم يقتنع الإنسان بعقله كأداة واحدة؛ ذلك أن الذاكرة الشفوية من سماتها النسيان، هذا الوضع دفع الإنسان إلى البحث عن إمكانيات ووسائل لتمديد ذاكرته وبالتالي العمل على نقلها (الاهتمام بتسجيل المعلومات وترك الآثار وكتابة الأحداث…).

ويمكن التمييز في ما يخص أشكال نقل الذاكرة بين ثلاثة مستويات:

أ – المجتمعات ذات التقاليد الشفوية

تخزين المعلومات ونشرها يتم هنا بلا وسائط بالاتصال المباشر مع الأشخاص (ذاكرة أسرية، قبلية). فالذاكرة الأسرية تنظم هوية الفرد من خلال مستويين: الأول، يجعل الأفراد يشتركون في تذكر بعض الأحداث؛ أما الثاني، فهو يبنى في ضوء التصور الخاص لكل فرد عن ماضيه العائلي، الذي يمكن أن يختلف عن باقي تصورات أفراد الأسرة.

ب – المجتمعات ذات التقاليد المكتوبة

ما يميز هذا النوع من المجتمعات هو أن كمية المعلومات تصبح وفيرة، ومعها يرتفع إمكان التخزين ونشر المعرفة. ويعد استقبال الذاكرة المنقولة هنا أمراً صعباً وغير مضمون لاعتبارين هما: أولاً، محدودية قدرة الفرد في تحصيل المعلومات؛ وثانياً، الكم أو الزخم المعلوماتي الهائل، وهو الأمر الذي قد يحول دون الوصول إلى مصدر المعلومة. ويفرض هذا الوضع القبول بالاختيار والانتقاء للمعلومات مع عدم إخفاء إمكان نسيان جزء منها.

ج – المجتمعات العصرية

هنا يتم تفضيل الصيغ التقنية للاتصال، كما أن جزءاً كبيراً من الذاكرة يخضع لهذه الوسائل (الكتب، الحاسوب…). والحال هنا هو أن المجموعات والأفراد لديهم قدرة أكبر على صناعة وترك الآثار والحفاظ عليها من خلال الأرشيف، البصمات، الأطلال… تجدر الإشارة هنا إلى أن العالم العصري ينتج آثاراً وصوراً (التلفزيون) جعلت الذاكرة الإنسانية تمتد إلى درجة لم تعد فيه أي ذاكرة فردية قادرة على الإدعاء بالإحاطة بمضمونه (كل لحظة تتسم بإنتاج كبير للمعلومات آثار وصوراً).

2 – الاستقبال أو التلقي

تعمل الجماعات على إرسال الذاكرة/الإرث الثقافي، لأنه يترك لها الفرصة للاختراع والتأويل. وإذا كان تعدد أشكال نقل الذاكرة لا يسمح بنوع محدد من الاستقبال، فإن التقاليد تقتضي نوعاً من الانخراط الجماعي الذي يضفي الشرعية على الهوية (دينية، سياسية، ثقافية) والتي سترسم معالمها في الحاضر، وفي هذا السياق يمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من التقاليد: التقاليد الأصلية وهي تشكل ثوابت هدفها الحفاظ على القيم؛ والتقاليد الوهمية وهي تمثل أعرافاً وهي مشكلة بمناسبة تغيرات كبرى؛ وأخيراً التقاليد القطعية التي تمثل متغيرات وهي تستعمل أشكالاً محتفظاً بها في المضمون الذي تم تعديله. التقاليد إذاً هي نقل الذاكرة أكثر مما هي استقبال، وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن أشكال الاستقبال هي التي تحدد شروط الاستقبال التي يمكن أن تنطلق من الاستمرار إلى القطيعة. وكخلاصة يمكن القول إن فعالية الإرسالية تقتضي وجود منتجين للذاكرة التي سيتم إنتاجها أو إرسالها (الأجداد، الأسر، المحاربون…)، وهؤلاء يعدّون من طرف المستقبلين كواضعي الذاكرة الحقيقية، وفي هذه الحالة فإن الإرسالية الاجتماعية ستضمن إنتاج الذاكرة. في المقابل، حينما يصبح داركو الذاكرة وأماكن الذاكرة متعددين (الإرسال المنقول هنا غير محدد) فإن ما يتم نقله يكون غير واضح وهذا ما يفتح المجال أمام المستقبلين إمكان التصرف الذي تمكنهم من التذكر أو النسيان.

سادساً: الذاكرة والنسيان موردان أساسيان للهوية

 

1 – إحياء الذكرى والشعور بالاستمرارية

لعل من نافلة القول التذكير بأهمية إحياء الماضي لأنه يساعد على بلورة الانتماء التاريخي للأجيال الحالية والإحساس بالاستمرارية. وكل متذكر يكثف الماضي ويدمجه ويبصمه ببصماته، ويتم التركيز هنا على الأحداث المفعمة وجدانياً، وفي المقابل العمل على توجيه النسيان في ما يخص السيئ منها.

واضح أن إحياء الذكرى هو في حد ذاته إنعاش للهوية، والإحياء هنا يتم بالشكل المرغوب فيه من طرف الأفراد والجماعات. وفي هذا السياق تأتي الاحتفالات لتسهم بشكل أو بآخر في تنظيم الذاكرة ومن ثم بناء الهوية (مثلاً يوم تقديم عريضة الاستقلال بالنسبة إلى المغرب…). ولهذا فالمجتمعات تسعى دائماً نحو إعطاء صورة مشرقة عن ماضيها المجيد حتى تكون في مستوى التحديات الحالية للهوية.

وإذا كانت الذكرى في بعض الأحيان قد تجمع بين تصورين متناقضين، مثال على ذلك (الاحتفال بالحرب العالمية الثانية في فرنسا وصعوبة محو ذكرى المشاركة في التهجير) فإن بعثها يعد عملية توافقية على حد تعبير تييري غازنييه [5] وهو كذلك عملية لفصل أو لطمس جزء من الذاكرة (Lobotomie mémorielle). تجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن التوحد حول الحدث المحتفى به يبقى وهمياً، من هنا يفسر كاندو ظاهرة حمى الاحتفالات التي ترجع إلى أزمة هوية نتيجة التخوف من الماضي وعدم تقبل الحاضر (اليهود). كما يرى كاندو أيضاً أن النظر إلى يوم الاحتفال كعطلة فقط يعبر كذلك عن أزمة هوية تجاه الأمة (عيد الشغل).

يتضح مما سبق أن الحاجة إلى إحياء الذكرى باتت ملحة، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بأزمة هوية، فالذاكرة على حد تعبير هنري برغسون هي الماضي المباشر والمستقبل الوشيك، فعلى هذا الماضي نحن متكئون وعلى المستقبل نحن منعطفون؛ الذاكرة بهذا المعنى هي جسر الملتقى بين الماضي والحاضر والمستقبل.

2 – ذاكرة المآسي بوصفها مصدراً للهوية

تعد ذاكرة المآسي مورداً أساسياً للهوية، وهي ذاكرة قوية تترك علامات تجعل الأفراد الذين عاشوا نفس المآسي يتقاسمونها، ويؤكد إرنست رينان [6] أن الآلام المشتركة توحد الأفراد والجماعات أكثر من الأفراح (ذاكرة الحروب)، ومن ثم فإن الهوية التاريخية تنبني أساساً على ذاكرة المآسي (ذاكرة اليهود الألمان الذين تم نفيهم) التي تلاحق باستمرار الأفراد والجماعات والذين يعتبرون أنفسهم هم حماة لها من أجل الحفاظ على هويتهم. وإذا كانت الأفراح والمآسي كبورصتي قيم الذاكرة يضمنان إنعاشها واستمراريتها، فإن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: ما العمل حينما تتعثر الذاكرة؟

3 – صناعة النسيان والحاجة إليه 

يأتي النسيان هنا لكي يجيب عن السؤال، ففي كل تعثر للذاكرة يشكل النسيان وسيلة للتغلب على الذكريات الأليمة، وهنا يجب ألّا نفهم النسيان على أنه محاولة للتخلص من المآسي لصعوبة حملها من طرف الجماعات، لأن ذلك يؤدي بالضرورة إلى فقدانهم هويتهم. بل يعتبر النسيان مجالاً للبناء والتواصل وتفعيل الروابط الاجتماعية وتأكيد الهوية. جدير بالإشارة أن النسيان قد ينتقل إلى الحركة الثقافية؛ مثلاً التلفزيون كل صورة تطرد الأخرى والأحداث تصبح عبارة عن تتابع للأشياء بلا زمن ولا استقبال، وبالتالي يضيع أكثرها في ذهن المتفرج. وأخيراً يمكن القول إن النسيان هو شيء دائم يسعى إليه أعضاء المجتمع حينما يفكرون في التخلص من الماضي قبل نقل الذاكرة لنشر هوية جديدة، وفي هذا الإطار وجب التمييز بين نوعين من النسيان: الأول تقليدي، يرمي إلى إعادة إدماج الفرد في المستقبل ويؤدي إلى تفكيك الهوية؛ بينما الثاني فهو عصري (المخدرات…) يؤدي إلى تفكيك المجتمع وفقدان الهوية. وكيفما كان الحال، فإن الحاجة إلى النسيان تبدو ضرورية للذاكرة. يقول فرويد في هذا السياق: «من الواجب أن نهتم بالنسيان أكثر من التذكر، فلكي نتعرف إلى مجتمع ما يجب أن نأخذ بعين الاعتبار ما لا يخلد».

سابعاً: الذاكرة والهوية تأسيس وبناء/نضوب وانهيار

 

1 – ذاكرة الموروث

لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ننكر أهمية التراث في بناء الهوية، إذ يعمل الموروث هنا كآلة أيديولوجية بالنسبة للذاكرة. والتراث هنا مبدئياً هو نتاج فترة زمنية تقع في الماضي وتفصلها عن الحاضر مسافة زمنية معينة. وفي سياق الحديث عن الموروث، يميز جويل كاندو بين نوعين من التراث: الأول قديم وهو مرتبط بالإرث، والذي يشكل مرجعية هدفها هو الحفاظ على مشروعية العائلة؛ أما النوع الثاني، فيتأسس على منظور حديث للتراث سماته الأساسية هي التنوع والشمولية والانتقائية والارتباط بكل ما هو وطني وقومي. إن الحرص على جمع التراث يبقى مطلباً ضرورياً لتثبيت الهوية، وهو الأمر الذي يزداد خصوصاً بالنسبة للمجتمعات التي لها علاقات ضعيفة بأصولها. من هنا تفسر لهفة الأفراد على جمع الآثار وتشبثهم به مهما كان بسيطاً. وتأسيساً على ما سبق يمكن القول بأن التراث هو تعبير طبيعي لعمل الذاكرة؛ هذه الأخيرة تعددها يضمن اتساع حقل التراث، كما أن تشكيلها هو في حد ذاته تشكيل للهوية وإرساء لها.

2 – الحداثة وأزمة الهويات

سبق لنا أن أشرنا إلى أن الذاكرة هي تأسيس للهوية (الذاكرة التراثية)، ولكن هذا القول لا ينبغي أن يحجب عنا حقيقة مفادها أن الذاكرة قد تصيبها بعض التلاعبات المقصودة التي تهدف إما إلى خلق هويات جماعية جديدة من خلال ماض يعاد تشكيله ويتم توظيفه في خدمة أهداف وطنية وعرقية… وإما إلى جعلها طريقة لطمس حقائق تشكل نوعاً من التهديد للهويات (النازية كمثال). هناك إذاً مجموعة من الأحداث التي تتضارب فيها الذاكرات، وفي هذا الإطار يُبرز جويل كاندو أهمية امتلاك المجتمعات بنية تيماتها الأساسية هي العقائد، الأسطورة، الرواية، الحكي التي تشكل حجر الزاوية في الذاكرات ذات البنى القوية، وبالتالي تسهم في توجيه التمثلات والمعتقدات داخل المجتمع، كما أنها تفرض تقاسمها (أوساط الذاكرة: المدرسة، الكنيسة، الدولة). إلا أن هاجس تراجع الذاكرات والهويات جاء كنتيجة لما يصطلح عليه بالحداثة؛ ذلك أن بنى الذاكرة لدى المجتمعات المعاصرة أصبحت متعددة وأكثر ضبابية وتعقيداً، والحالة هاته تؤدي بشكل أو بآخر إلى فقدان كثافة الذاكرة، أو نهاية الذاكرات الاحتكارية الكبرى المنظمة لصالح الذاكرات المشوشة
(brouillés)؛ وهذا ما أدى إلى أزمة هويات (انهيار المتتاليات الكبرى/فوكوياما ونهاية التاريخ)[7]. ويعبر بيير نورا [8] عن هذا الوضع بتراجع الذاكرات الوحيدة وتفكك الذاكرات العامة إلى ذاكرة خاصة، وهذا التحول يفسر بالعناصر التي تعد بمثابة مذيبات (dissolvants) للذاكرات والهويات الجماعية.

إن خطاب ما بعد الذاكرة/الحداثة أصبح يقبل عن مضض فكرة اختفاء الذاكرات الجماعية الكبرى لصالح بلقنة الذاكرات، ويتعلق الأمر هنا بذاكرات فوضوية بلا ماضٍ ولا رابط على حد تعبير جيرارد نامر (Gérard Namer) وهي ذاكرات صاعدة أقل امتداداً وأكثر خصوصية وغزارة (ذاكرة العمل الجمعوي، الرياضي…) وفي هذا الصدد يرى جرار نامر أن الذاكرات المعاصرة قد أصبحت كفسيفساء يتكون من حطام الذاكرات الكبرى المنظمة [9]. هذا الصعود والفقدان للذاكرات في نظر كاندو كذلك يعَدّ معطى أنثروبولوجياً وفي ذلك يقول: «نفقد شبابنا وصحتنا لذا وجب القبول بفقدان القديم وإتاحة الفرصة لصعود الجديد، كما أنه من الضروري القبول بالاختيار في موروثنا»[10].

ثامناً: النقل التاريخي والنقل الذاكراتي

تمثل الذاكرة مكوناً أساسياً من مكونات نقل الماضي في تجلياته المختلفة (الآلام والأفراح)، وهي وإن كانت تشترك مع التاريخ أو بمعنى أدق وأصح التاريخ المنقول في تمثل الماضي (الكتب المدرسية، تاريخ العامة…)، فإنهما يختلف بعضهما عن بعض، وهذا الاختلاف يمكن أن نفهمه في ضوء التقابلات التالية:

 

الذاكـــرةالتاريــــخ
منقولة ومتعددة ولا تأخذ إلا بطابعها التشبيهي.

ترمي إلى إقرار الماضي.

فوضوية (الشعور، العواطف، الانطباعات…)

تبحث عن النماذج مثلما تفعل التقاليد.

الاندماج في الماضي.

قادرة على الاختفاء والظهور المفاجئ.

تتغذى بالذكريات الغامضة.

الذاكرة تعني الحكم المباشر.

التاريخ دراسة على مقاس علمي.

يهدف إلى توضيح وتصحيح تمثلات الماضي.

يحكمه منطق النظام (الوازع العلمي).

التاريخ يبحث لإجلاء أشكال الماضي.

يحاول قدر الإمكان الابتعاد من الماضي.

عملية ثقافية تستدعي التحليل والنقد.

يحاول التاريخ قدر الإمكان الإحاطة بذلك الغموض.

التاريخ يعني التفسير والتأويل.

 

على سبيل الختام

بناءً على ما تقدم من أفكار في هذه الدراسة البحثية، أمكن لنا الخروج بالاستنتاجات التالية:

– عدم الفصل بين الذاكرة والهوية، فالعلاقة بينهما جدلية أو تكاد تكون كذلك.

– استناد الذاكرة الجماعية إلى الشروط الاجتماعية وارتباطها بالمقولات الكبرى (الزمن/البراديغم).

– للزمن دور مهم في توجيه الذاكرة من خلال النسيان أو التذكر.

– يعد كل من الموروث والنسيان خزانين مهمين للذاكرة.

– صعود هويات متعددة على حساب مرجعيات كبرى (الذاكرة المنظمة/الذاكرة الضبابية).

مهما يكن من أمر، فإن عملية الخوض في تفاصيل وملابسات موضوع كمثل هذه المواضيع الملغزة، يستدعي في واقع الأمر مهاداً من الاحتراسات المنهجية التي من شأنها أن تصلح كمؤشرات قرائية قد تساعد على ضبط مختلف التشعبات التي تحيط بالمفهومين معاً، أي الذاكرة والهوية. ولعل أول احتراس منهجي يمكن أن نبادر إلى تسجيله هو أن مفهوم الذاكرة مفهوم غير بريء، فهو مشكل يجب استعماله بحذر، وبخاصة عندما يتعلق الأمر هنا بالمبالغة في ربطه بالهوية. أما الاحتراس الثاني فينبني أساساً على أن المفهومين معاً قد يصلحان كأداة للتحليل السياسي والتاريخي والثقافي عموماً.

في ضوء كل ما سبق ندرك جيداً أهمية هذا العمل الأنثروبولوجي الخالص الذي يتناول أحد المواضيع الملغزة وهي الذاكرة والهوية كعنصرين ضروريين لإثبات الوجود الفعلي للإنسان والتميز عن الآخر، وترسيخهما واجب ومشروع قصْد مواجهة الضياع وبخاصة أننا في زمن العولمة وصراع الثقافات والحضارات.

 

قد يهمكم أيضاً  البحث عن هوية عربية جامعة

إطّلعوا أيضاً على هذه الدراسة الشيقة  سوسيولوجيا الهوية: جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الذاكرة #الهوية #الذاكرة_الجماعية #الذاكرة_الفردية #الوعي #الإنسان #النسيان #إبستيمولوجيا #أنثروبولوجية #دراسات