ثمة تباين كبير في موقع الدين والحداثة السياسية في سيرورة وتكوين وحفز الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينية، رغم ما قد يتبدى من تشابه ظاهري بين الحالتين، وهو تباين ظل مستمراً رغم أنه شهد تحولات مختلفة. وأساس هذا التباين كما تقدمه هذه المقاربة هو التالي: ادعت الحركة الصهيونية الانتساب إلى الحداثة السياسية والأفكار القومية الحديثة والعلمانية بما فيها الليبرالية والديمقراطية، لكنها في الجوهر اعتمدت الدين والأساطير الدينية كمحرك أساسي لها، واستندت إليه كمسوِّغ مركزي في إدعاء حق إقامة دولة على أرض فلسطين، وكأداة تعبئة لإقناع يهود العالم بالهجرة إليها. أما الوطنية الفلسطينية، ورغم نشوئها في سياق تقليدي محافظ وأميَل إلى التديُّن الاجتماعي، فقد اعتمدت على الحداثة السياسية في تشكلها ومأسستها ونزوعها نحو تأكيد هوية قائمة على الرابطة الوطنية، هدفها بناء كيانية فلسطينية، وفي خضم هذا الجهد اختلف استخدامها للدين عن استخدامه من جانب الصهيونية في مستويين: مستوى مركزية الدين في المشروع الوطني ومستوى الوظيفة المُناطة به (أي بالدين).

ففي الوقت الذي احتلت فيه الادعاءات الدينية مركز المشروع الصهيوني، وبخاصة في مسألة ادّعاء ملكية ما أطلق عليه «أرض الميعاد»، فإن الدين والادعاءات الدينية لم تحتل في الوطنية الفلسطينية تلك المركزية نفسها في إثبات ملكية فلسطين. اعتُبرت تلك الملكية، من وجهة نظر فلسطينية، تحصيل حاصل ولم يكن ثمة حاجة إلى الذهاب إلى الماضي السحيق أو استخدام الدين لإثباتها. أما على مستوى الوظيفة، ففي الوقت الذي كانت فيه وظيفة الدين في الحركة الصهيونية متمركزة حول إثبات الأحقية التاريخية بالأرض وتخليق قومية حديثة ومن ثم إقامة الدولة، فإن وظيفة الدين في الوطنية الفلسطينية تمحورت حول استخدامه في الحشد والتعبئة والمقاومة بصورة أساسية. وفي العقود السبعة التي تلت قيام إسرائيل تضخمت مركزية الدين في المشروع الصهيوني وفي الدولة العبرية نفسها، ودخلت الصهيونية في مسار تديُّن متصاعد، وبخاصة بعد حرب 1967 وبقي هذا المسار متواصـلاً إلى يومنا هذا، وذلك على حساب المكوِّنات الحداثية التي شكلت القشرة الخارجية للصهيونية. في المقابل، ترسخ في الحركة الفلسطينية مفهوم الوطنية بكونها البوتقة القومية المُشكِّلة للهوية، وضمن ذلك الترسخ شهدنا تحوُّل التيارات الدينية السياسية الفلسطينية التدريجي نحو تبني الوطنية الفلسطينية وطموحها بإقامة دولة فلسطينية، مع الإبقاء على الوظيفة المقاومية للدين. والتحول التدريجي الذي شهده أكبر تيار سياسي فلسطيني ديني متمثل بحماس يقدم الشاهد الأبرز على هذه السيرورة. وهكذا، في الوقت الذي سارت الصهيونية ودولتها في اتجاه متسارع نحو أصولية دينية بعيدة من الحداثة السياسية، اتجهت الوطنية الفلسطينية نحو مسار قومي وطني أقرب إلى الحداثة السياسية.

تناقش المُقاربة التالية بعض جوانب الأطروحة الأساسية من خلال محاولة قراءة موقع الحداثة السياسية والدين في المشروعين الصهيوني والفلسطيني، وتتوقف عند أهم المحطات أو الأفكار أو التحولات ذات العلاقة، مع الإشارة إلى أن ما تقدمه هذه السطور لا يتعدى مُقدمة أولية في هذا الموضوع العريض.

أولاً: المعيارية الحداثية الغربية والصهيونية

ابتداءً، من المهم الإشارة إلى أن هذه المقاربة لا تتبنى أي معيارية مُستبطنة ترى أن الحداثة عموماً، أو الحداثة السياسة على وجه التحديد (سواء أكانتا مشروعات مركبة وثابتة، أم سيرورات متغيرة)، تمثلان النظام القيمي الأرقى مرتبة بين النظم السياسية والاجتماعية المختلفة التي ينبني عليها قياس وتقييم النظم القيمية الأخرى. وعليه فإن المقارنة بين أفضلية الحداثة أم الدين في السياسة ليس هدف هذا النقاش. في الوقت ذاته، يُحاكم النقاش في هذه المقاربة المشروع الصهيوني ومؤيِّديه الأوروبيين والأمريكيين، وإن بصورة غير مباشرة، عبر استخدام المعيارية الحداثية المُتبناة من جانب هذه الأطراف جميعاً التي تزعم الصهيونية ومؤيدوها في الغرب تبنيّها والتصرّف وفقاً لها. فإبان ظهور بدايات الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، رأت أوروبا أن تبني الحداثة عموماً، والحداثة السياسية خصوصاً من جانب الحركات أو المجتمعات المُختلفة، يمثل امتداداً للمشروع الغربي (التنويري!)، وبالتالي يستدعي الدعم والتأييد الفوري. وفي المقابل فإن النظرة الأوروبية ذاتها رأت أن الحركات والشعوب والأفراد الذين لا يتبنون الحداثة أو «ما زالوا» خارج نظامها (مثل شعب فلسطين) بعيدون من القيم الأوروبية والحضارية، وبالتالي لا يستحقون ذات الدعم والتأييد الذي استحقه الأولون.

على ذلك، اعتبرت النظرة الأوروبية في عمومها الصهيونية حركة حداثية تقوم على المبادئ الحديثة للقومية والعلم والتقدم، بينما نُظر إلى العرب عموماً والفلسطينيين منهم بوصفهم جزءاً من الشعوب المتخلفة الغارقة في الأنظمة الماضوية والتقليد والدين. وقد انعكست تلك النظرة الأوروبية العنصرية خلال النصف الأول من القرن العشرين في سياسات الدول الكبرى تجاه فلسطين (والعرب والعالم غير الغربي إجمالاً)، وتجسدت في السياسة الخارجية البريطانية والفرنسية والروسية والألمانية والأمريكية. وبينما تباينت هذه السياسات فيما بينها حول المصالح والأهداف والحصص في فلسطين وحولها، فإنها انطلقت جميعاً من قاعدة عنصرية مشتركة كانت تحتقر عرب فلسطين وتراهم أقل مرتبة وأهلية من اليهود الأوروبيين في فلسطين، ولا تلقي لهم بالاً. تَمثل ذلك بوضوح في اتفاقية سايكس – بيكو سنة 1916، ووعد بلفور بعدها بعام، وخلال مراسلات حسين مكماهون في الفترة نفسها أيضاً. لم يخف اللورد بلفور نظرته العنصرية والدينية (المُناقضة لادّعاءات الحداثة السياسية التي يزعم تمثيلها) عندما تحدث عن أهل البلاد الأصليين في فلسطين، فقال مبرراً دعم المشروع الصهيوني في فلسطين: «في فلسطين لا نقترح حتى مجرد الاهتمام برغبات قاطني البلاد الحاليين. القوى الأربعة العظمى مُلتزمة بالصهيونية. الصهيونية، سواء أكانت مصيبة أم خاطئة، جيدة أم سيئة، متجذرة في الإرث القديم للماضي الطويل، ومتجذرة في ضرورات الحاضر، ومتجذرة في آمال المستقبل، وهو ما يفوق بأهميته رغبات وتوقعات السبعمئة ألف عربي الذين يقطنون تلك الأرض القديمة»‏[1]. لم تكن رؤية بلفور هذه خاصة به، بل عكست قناعة النخبة السياسية البريطانية إزاء فلسطين والصهيونية قبل وخلال حقبة الانتداب البريطاني، سواء من اليمين أو من اليسار‏[2]. وربما يمكن القول إن أحد ذرى تلك الرؤية العنصرية الحداثوية تمثلت بتصريح ونستون تشرتشل وزير المستعمرات البريطاني عام 1937 الذي يشرعن فيه ممارسات الاستعمار في إبادة وطرد السكان الأصليين، حيث يقول: «أنا لا أقر أن الكلب الذي يقيم في بيته (بيت الكلب) له الحق النهائي في ذلك البيت، حتى لو كان يعيش فيه لزمن طويل. أنا لا أقر، على سبيل المثال، بأن خطأ كبيراً قد وقع على الهنود الحمر في أمريكا، أو على الشعب الأسود في أستراليا. لا أعتقد أنه كان للهنود الحمر الحق للقول بأن «القارة الأمريكية تعود لنا وأننا لن نقبل بقدوم المستعمرين الأوروبيين». لم يملكوا ذلك الحق ولا القوة. لا أقر بأي خطأ وقع في حق هذه الشعوب بسبب حقيقة أن جنساً أقوى، وأن جنساً أرقى منهم، أو على أي تقدير أن جنساً أكثر حكمة في معرفة العالم… جاء وأخذ مكانهم»‏[3]. في هذا النص الكاشف عن تجذُّر العقلية العنصرية الأوروبية ضد «الآخر» هناك افتراض بدهي يعتبر اليهود القادمين من أوروبا جزءاً من مشروعها «الحداثي» وبكونهم ينتمون إلى «جنس أرقى» و«أكثر حكمة».

هذه السياسة البريطانية الاستعمارية والاحتقارية لأهل فلسطين كانت جزءاً من كلٍ أعرض وهو المشروع الكولونيالي الكوني آنذاك الذي انطلق من أوروبا لاحتلال مناطق وشعوب العالم المتخلِّفة، وتحت مُسوِّغات متناقضة من الحق الديني، أو حق التنوير الحداثي، أو مسوِّغ التفوق العرقي، وهي المسوِّغات المُتناقضة نفسها التي استخدمتها الصهيونية أيضاً تجاه فلسطين وأهلها. فبرغم الادعاء بأن الاستعمار إن هو إلا مهمة «إنسانية» يتصدى لها «الرجل الأبيض» لإنقاذ الشعوب المتخلفة من تخلُّفها، إلا أن حقيقة وجوهر الكولونيالية الغربية وأختها الصهيونية كان مختلفاً تماماً ولا علاقة له بذلك الادعاء. لكن الكولونيالية الأوروبية سوّقت دعمها للصهيونية بوصف هذه الأخيرة حاملة مشروع «التنوير الغربي» في منطقة مُتخلفة ما زالت أسيرة حقب «ما قبل الحداثة». وقد احتضن هيرتزل ومنذ البدايات الأولى للصهيونية هذه الفكرة واعتقد أنها بالغة الفعالية في حشد التأييد الأوروبي لحركته، أي بوصفها امتداداً للحداثة والتقدم الأوروبيَّين.

وخلال العقود الثلاثة للاستعمار البريطاني في فلسطين عكست السياسة اليومية البريطانية في التعامل مع الفلسطينيين و«إدارتهم»، وفي مجالات التعليم والمأسسة وغيرها، نظرة الازدراء والإهمال، مقابل التقدير والاهتمام باليهود والصهيونية. اشتغل البريطانيون بجد، وعلى مستوى «البنية الصلبة»، على إعاقة قيام أي مؤسساتية كيانية فلسطينية، وطبقوا سياسة «فرِّق تسد» لتشتيت وتدمير القيادات الفلسطينية، مقابل المساعدة الكبيرة والدائمة لليهود لإقامة كيانية دولتية ومؤسسات وبنى تحتية. وعلى مستوى «البنية الناعمة» اتبع البريطانيون سياسات عنصرية تفضل اليهود في كل المجالات وتزيد مكنتهم وتأهيلهم وتعلي خبراتهم ومهاراتهم، في الوقت الذي أبقت فيه الفلسطينيين تعليمياً واقتصادياً وثقافياً في مستويات أدنى كثيراً. ولم تكن المناهج البريطانية، على سبيل المثال، في المدارس الفلسطينية تتضمن تعليم الموسيقى بينما كانت تقوم بتدريسها في المدارس اليهودية، بذريعة أن العرب ما زالوا في مرحلة لا تؤهلهم لفهم الموسيقى وتذوقها. وعلى مستوى سياسي أعلى أعاقت بريطانيا قيام أي نظام سياسي فعّال أو ديمقراطي في فلسطين يُترجم ادعاءاتها الحداثوية والتنويرية‏[4].

ثانياً: الدين والحداثة السياسية في الحركة الصهيونية

تمثلت الصهيونية، بدورها، فكرة تمثيل «الحضارة الغربية» في الشرق المُتخلف واستبطنتها، وقدمت نفسها بوصفها تجسيداً للمشروع الحداثوي الغربي. لكن على الضد من هذه الحداثوية الإدعائية، فإن الصهيونية (سواء السياسية المُخاتلة، أم الدينية المباشرة) استندت في الجوهر إلى أركان ودعاوى رجعية دينية وغير حداثية بهدف «إثبات» حق اليهود في إقامة دولة في فلسطين. ولم تستطع ترجمة «القومية الحديثة» كما تفترضها الحداثة السياسية الغربية التي زعمت الانتماء إليها، وهي الفكرة التي تفترض أن الدولة القومية تقوم على ركائز الأرض المشتركة، والشعب المُتجانس، واللغة المشتركة. لم يمتلك يهود القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أياً من تلك الركائز، وكان على الصهيونية أن تشتغل على تخليقها ولو قسراً. فمن ناحية الأرض المشتركة لم يعش اليهود على أرض واحدة متوارثة كما هو معروف، كما أن التجمعات اليهودية في البلدان الأوروبية كانت تتحدث لغات تلك البلدان، وبعضها يتحدث اليديشية القديمة أو العبرية، ومن ناحية التجانس القومي كان هناك انتفاء كامل لهذه السمة بسبب قرون من العيش في مجتمعات مختلفة كما هي حال أتباع أي دين يعيشون في بلاد متباينة من العالم. وبسبب هذا التشتت «الحداثوي» في بناء «قومية حديثة» على الطراز الأوروبي عمدت الصهيونية إلى إعادة تعريف اليهود والدين اليهودي على أنهم «شعب» وليسوا فقط أتباع دين، وهو التعريف الذي صارت أوروبا «الحديثة والاستنارية» تتبناه وعلى أساسه تدعم المشروع الصهيوني. ثم استُتبع ذلك بفكرة هجرة اليهود إلى «أرض الميعاد» وهي فكرة خليط، وهو ما اعتقده ديفيد بن غوريون وتبعه آخرون‏[5]. ولم تلقَ فكرة الإبادة والطرد للفلسطينيين من وطنهم معارضة أوروبية، ذلك أنها تماشت عملياً مع النهج الاستعماري الأبيض إزاء شعوب البلدان المُستعمرة سواء أكانت مسوغاته «حداثية» أم «دينية». والنقطة المهمة في هذا النقاش أياً كانت اتجاهاته، هي الارتكاز على مقولات دينية صرفة في تسويغ امتلاك الأرض وطرد من عليها وإقامة دولة يهودية خالصة، ولا علاقة لمثل هذه السيرورة بأي سيرورات حداثية قومية كتلك التي تطورت في أوروبا. والسيرورة اليهودية الدينية التي مثلت العمود الفقري للصهيونية تقف عملياً على النقيض من الحداثة السياسية المُعلمنة افتراضاً، التي تحيِّد الدين أو على الأقصى تمنحه مرتبة ثانوية في التكوين القومي للأمم والمجتمعات.

المسألة الثانية التي اشتغل عليها الدين في قلب السيرورة الصهيونية وفي تناقض مباشر مع أي حداثة سياسية، هي الإيمان بتفوق اليهود كجنس مميز وبكونهم في مرتبة عرقية أعلى من الأجناس الأخرى، وأن بقية الأجناس (الأغيار) إنما خلقوا لخدمة اليهود. تباينت تمثلاث هذه الفكرة على أرض الواقع وأخذت أشكالاً خفية بسبب عنصريتها الواضحة. لكن برغم ذلك كان ذلك الجوهر العرقي والاحتقاري لبقية البشر سبباً رئيساً من الأسباب التي أدت بالجمعية العامة للأمم المتحدة إلى استصدار قرار بأغلبية كبيرة اعتبر الصهيونية شكـلاً من أشكال العنصرية. وثمة لائحة طويلة من السياسات والتصريحات والسلوكيات التي عبّر عنها قادة صهاينة تجاه الفلسطينيين تعكس تلك العنصرية، منها اعتبار الفلسطينيين حيوانات وصراصير وأفاعيَ وغير ذلك؛ بل تحفل المناهج الإسرائيلية بأوصاف احتقارية وعنصرية ضد الفلسطينيين[6]. وتعدّت التصريحات العنصرية ضد الآخرين الفلسطينيين؛ فحديثاً وصف الحاخام الإسرائيلي الأكبر يتسحق يوسف السود الأمريكان بأنهم قرود‏[7]، كما أن المهاجرين السود في إسرائيل وصفوا على الدوام بأكثر الأوصاف عنصرية‏[8].

المسألة الثالثة تتعلق بفكرة «المواطنة في دولة إسرائيل». وهنا وبحسب الادعاء الصهيوني المتكرر بأن «إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط» فمن المُفترض «ديمقراطياً وحداثياً» أن تكون إسرائيل دولة كل مواطنيها. لكن هذا كما هو معروف غير مُتحقق عملياً على الإطلاق، بل مرفوض من ناحية نظرية أيضاً. فـ «الدولة الإسرائيلية» تنطوي على نوعين من المواطنة: مواطنة الدرجة الأولى وهي الخاصة باليهود، ومواطنة الدرجة الثانية وهي يندرج تحتها غير اليهود. والتجسيد لهذه العنصرية في المواطنة، وكما هو ماثل في سياسات وممارسات لا تُحصى تجاه فلسطينيي الداخل، لا يحتاج إلى كثير نقاش وإثبات نظراً إلى اتساعه وحضوره. لكن الجانب النظري الوقح لهذه العنصرية وسياساتها التمييزية صار يتبلور في خطاب رسمي لا يتردد في الإعلان عن قولبة تلك العنصرية في إطار «نموذج» نظري خاص بإسرائيل. وفي سياق هذه القولبة نفهم تصريح وزيرة العدل الإسرائيلية إيليت شيكد بأن «الصهيونية يجب أن لا تواصل، وأقول إنها لن تواصل، قبول نظام الحقوق الفردية كما هو مُعبر عنه بالمفهوم الكوني»‏[9]. وقبلها كان أرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق واحد أعلام اليمين الإسرائيلي قد تحدث بإزدراء عن الديمقراطية في مقابلة مع صحيفة يديعوت قائـلاً: «إن تعبيرات مثل «الديمقراطية» و«ديمقراطي» غائبة تماماً من إعلان الاستقلال (لإسرائيل)، وهذا ليس بصدفة. وليس هناك حاجة إلى القول إن الغاية من الصهيونية لم تكن جلب الديمقراطية. بل كانت، وحصرياً، مدفوعة بإقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل، تنتمي إلى كل الشعب اليهودي، وللشعب اليهودي فقط»‏[10]. تشير هذه الأمثلة من التصريحات إلى رؤية راسخة ترى في الليبرالية والديمقراطية خطراً على الصهيونية ونقاء الدولة، كما تُعبر عن بنية عقلية ما قبل حداثية قروسطية مُتجذرة عملياً في الفكرة الصهيونية منذ التأسيس. فما عبَّرت عنه الوزيرة المنوط بها تحقيق العدالة وما عبر عنه رئيس وزراء سابق له جذوره القديمة في قلب تيار الصهيونية التنقيحية التي كان زئيف جابوتنسكي من أهم رموزها، والتي لم تؤمن إلا بالقوة وجبروت النخبة. تكفي الإشارة هنا إلى آبا أحيمئير، اليهودي الصهيوني الروسي الذي ولد في روسيا القيصرية عام 1896 وتوفي عام 1962 في تل أبيب، وكان مُقرباً من جابوتنسكي ويُعد أحد المؤثرين الكبار في أفكار هذا التيار. وكان أحيمئير قد تأثر بأفكار نيتشه التي تقدس العظمة والقوة ولا تأبه للجماهير، وهاجم «التربية الليبرالية التي تقود حسب رأيه إلى الانتحار، ودعا إلى استبدال هذه التربية بأخرى استبدادية … ورفض الديمقراطية والليبرالية باعتبارهما قوى آفلة، وهاجم المطالبة بحقوق زائدة للفرد»‏[11]. لم تكن أفكار أحيمئير، الذي كان يكتب مقالات في عشرينيات القرن الماضي تحت عنوان «يوميات فاشي»، هامشية بل أثرت كثيراً في مناحم بيغن وإسحق شامير اللذين أصبحا في أوقات لاحقة رئيسي وزراء. وتأكيداً لمركزيته و«تقديراً» لتاريخه وأفكاره فقد جرى تكريمه عبر إطلاق اسمه على شوارع وساحات في 13 مدينة إسرائيلية، وأقيم متحف يحمل اسمه، كما نُظمت فعاليات في الذكرى الخمسين لوفاته شارك فيها بنيامين نتنياهو ورئيس الكنيست رؤوبين ريفلين‏[12].

وربما من أهم الوثائق الأولية التي التقطت الجوهر الرجعي والمعادي للحداثة السياسية في الصهيونية المذكرة التي قدمها إدوين صامويل مونتاغ، الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية والمسؤول عن شؤون الهند بين سنوات 1917 و1922، رافضاً تصريح بلفور وفكرة مساعدة اليهود على إقامة وطن قومي لهم في فلسطين. في خضم مناقشة تصريح بلفور في أروقة الحكومة البريطانية قدم مونتاغ مذكرة شهيرة للحكومة ورد فيها ما يلي: «… لا أعرف ماذا يتضمن هذا (الوطن القومي لليهود في فلسطين)، لكني أفترض أنه يتطلب من المحمديين (المسلمين) والمسيحيين التنحّي جانباً وفسح المجال لليهود الذين سوف يخلفونهم في كل المواقع ويتميزون بعلاقتهم في فلسطين كما يتميز الإنكليز في علاقتهم مع إنكلترا، أو الفرنسيين مع فرنسا، ويُعامل الأتراك والمحمديين الآخرين كأجانب في فلسطين بنفس الطريقة التي يعامل فيها اليهود في كل البلدان الأخرى ما عدا فلسطين. وربما سوف تُمنح المواطنة تبعاً لاعتبارات دينية. وإنني أشدد هنا على أربعة مبادئ:

– أؤكد أنه ليس هناك شعب يهودي. لا يمكن القول بأن اليهودي الإنكليزي واليهودي الموريسيكي (الإسباني) ينتميان إلى نفس الشعب، إلا إذا قلنا إن المسيحي الإنكليزي والمسيحي الفرنسي ينتميان إلى الشعب نفسه.

– عندما يُقال لليهود إن فلسطين هي وطنهم القومي فإن كل بلد (في العالم) سوف يرغب على الفور في التخلص من مواطنيه اليهود، وسوف تجد في فلسطين مجموعة سكانية تطرد السكان الحاليين وتأخذ أفضل ما في البلد (فلسطين).

– إنني أنفي فكرة أن فلسطين مرتبطة اليوم باليهود أو اعتبارها المكان الملائم لهم للعيش فيها. صحيح أن الوصايا العشر تنزلت على اليهود في سيناء، وأن لفلسطين دوراً كبيراًَ في التاريخ اليهودي لكنها تؤدي الدور نفسه في التاريخ الحديث للمحمديين، وبعد زمن اليهود في فلسطين فإنها تؤدي في التاريخ المسيحي كما لا يؤديه أي بلد من البلدان.

– [يتحدث مونتاغ عن النجاح النسبي والتدريجي في اندماج اليهود في أوروبا كمواطنين في دولها ثم يتابع قائـلاً] … لكن عندما يمتلك اليهودي وطناً قومياً فإن ما يترتب على ذلك هو مبررات حرماننا (كيهود) من حقوق المواطنة البريطانية سوف تزيد، ففلسطين ستصبح الغيتو العالمي (لليهود). لماذا (مثـلاً) يمنح الروسي اليهودي حقوقاً كاملة، ووطنه القومي هو فلسطين؟».

ثم يختم مونتاغ مذكرته بمناشدة الحكومة البريطانية عدم الخضوع لضغوط الحركة الصهيونية، ويقول: «إنني أشعر بأن الحكومة يُطلب منها أن تكون أداة لتنفيذ رغبات حركة صهيونية بل تدار عامة، وحسب معلوماتي، عبر رجال من أصول أو أماكن ميلاد معادية، وهذا يعني توجيه ضربة قوية إلى الحريات، والموقع، وفرص الخدمة لليهود الآخرين المواطنين في بلدانهم. إنني أقول للّورد روتشيلد إن الحكومة مستعدة للقيام بكل ما في طاقتها من أجل تأمين الحرية الكاملة لليهود للاستيطان والحياة في فلسطين على قدم المساواة مع سكان ذلك البلد الذين يتبعون أدياناً أخرى. ولكني أطلب من الحكومة أن لا تقوم بما هو أبعد من ذلك»‏[13].

ثالثاً: الدين والحداثة السياسية في الوطنية الفلسطينية

تطورت «الوطنية الفلسطينية» في مرحلتها الأولى ضمن سيرورة السياق التاريخي لتفكك وانهيار الحكم التركي، وما استتبعه من احتلال واستعمار بريطاني توازى معه صعود المشروع الصهيوني وتبلور أهدافه في فلسطين. ويمكن القول إن الوطنية الفلسطينية وفي توجهاتها العامة قد تبلورت ضمن ثلاث مراحل: أولاها امتدت منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى قيام إسرائيل عام 1948، والثانية تشمل الفترة منذ قيام إسرائيل وصولاً إلى بروز حركة حماس 1987، والثالثة يمكن رصدها من تاريخ ظهور حماس وحتى الآن. ومن المهم التوضيح هنا أن استخدام تاريخ نشوء حماس كمفصل زمني هنا سببه كون حماس التعبير الديني الأهم في تاريخ الوطنية الفلسطينية حيث قُدِّمت «الإسلاموية» إلى موقع مركزي وينافس «الوطنية» كما سيُناقش لاحقاً. ويمكن القول إنه خلال هذه المراحل الثلاث لم يؤدّ الدين دوراً مركزياً في تكوين هذه الوطنية، كما أداه في تكوين الفكرة الصهيونية، رغم بعض التمظهرات الدينية العامة التي برزت هنا وهناك، وبعض الاستثناءات التي سوف يُشار إليها، وأهمها تجربة حماس. كما أن وظيفة الدين في السياق الفلسطيني تمثلت، وعلى نحو شبه حصري، بالتعبئة والحشد من أجل مقاومة الاستعمار البريطاني والصهيونية ثم إسرائيل على حد سواء، ولم تتمثل تلك الوظيفة للدين في استخدامه لإثبات حق ملكية العرب والفلسطينيين بفلسطين. فقد كانت القناعة بهذا الحق متجذرة وراسخة وتُعَد تحصيل حاصل ولا تحتاج إلى اختراع مقولات دينية أو تدبيج مرافعات تاريخية أسطورية لتثبيته.

وبصورة أساسية برزت أفكار «الوطنية الفلسطينية» في المرحلة الأولى داخل أوساط النخب الفلسطينية الناقمة على الحكم التركي وسياسته الاستبدادية، وهي النخب التي حملت توجهات قومية عربية ونظرت إلى فلسطين كجزء من سورية الكبرى التي كانت الأحزاب الفلسطينية تطالب باستقلالها. وكما في الحركة القومية العربية الأعرض، فإن الدين لم يُعد المكوِّن الأساس للنظام السياسي الذي طمح إليه العرب بعد التخلص من الحكم التركي، وبخاصة أن الدين كان هو المسوِّغ المركزي الذي اعتمدت عليه الدولة العثمانية في حكمها للعرب وغيرهم من غير المسلمين غير الأتراك في طول الإمبراطورية وعرضها. على هذا فقد سيطر على النخب الفلسطينية فكرة الهروب من النمط السياسي التقليدي المتكلس الذي مثله الحكم التركي، بما في ذلك علاقة الدين بالسياسة وخضوعها له. وعوضاً من ذلك تبني أنواع حديثة من النظام السياسي. صحيح أن ثمة توتراً وغموضاً شاب توتر المقاربة بين هوية عربية جامعة وتوحيدية قائمة على تعريب عرب فلسطين بالمعنى السياسي، وهوية فلسطينية محلية قائمة على فلسطنة عرب فلسطين‏[14]، إلا أن «المكون الحداثي» في التوجّهين كان هو الجامع المشترك، القائم أساساً على مفهوم الدولة الوطنية والمواطنة المتساوية. كما يمكن فهم المقصود بـ «المكون الحداثي» على حساب المكوِّن الديني في المرحلة الأولى عبر التأمل في بعض الجوانب التي لها علاقة بطبيعة، وسياق تكوُّن الوطنية الفلسطينية، وبعض الاستثناءات لجهة استخدام الدين بوضوح.

الجانب الأول، المتعلق بطبيعة المكوِّن الحداثي لهذه الوطنية يتمثل ببروز أفكار الاستقلال والمفاهيم الدستورية كما عكستها برامج ومطالبات وآمال الأحزاب الفلسطينية الأهم في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته. ولم تتضمن برامج هذه الأحزاب أي تضمين للدين بكونه أحد آليات التأسيس أو الأرضية الفكرية والأيديولوجية لهذا الحزب أو ذلك. وكانت اللغة السائدة في أوساط القيادات والأحزاب الفلسطينية لغة حديثة تتكلم على الاستقلال والدولة والمواطنة وسوى ذلك. كما أن هذه الأحزاب لم تستخدم الدين لتثبيت شرعية أو ملكية فلسطين من جانب عرب فلسطين وسكانها. كانت تلك الملكية تحصيل حاصل، ولم تحتج إلى مسوغات دينية تاريخية غارقة في الماضي لإثابتها‏[15]. إضافة إلى ذلك ولا يقل عنه أهمية، هو الإشارات الدائمة في دساتير ومطالبات الأحزاب السياسية وقياداتها إلى «المواطنة» الكاملة للأفراد في دولة الاستقلال المنشودة، بغض النظر عن الدين والأصل والجنس‏[16]. وهذه المواطنة التي تقع في قلب الحداثة السياسية تتناقض مع المواطنة التمييزية التي تضمنتها الحركة الصهيونية التي كانت تدعي الحداثة منذ تأسيسها.

الجانب الثاني الذي يستحق التأمل في إطار نقاش «المكون الحداثي»، ضمن السياق الاستعماري، ومتعلق بتبلور الوطنية الفلسطينية في المرحلة الأولى هو السياسة والتوجهات المهادنة التي تبنتها الحركة الوطنية الفلسطينية تجاه الانتداب البريطاني، وبخاصة القيادات والأحزاب التي كانت قاعدتها مدينية. هنا يمكن فهم تلك التوجهات المُهادنة بكونها قامت على أساس «الثقة» في حكمة وإنصاف الحكومة البريطانية، وما تأملته قيادات فلسطينية عديدة في أن تتسم تلك الحكومة بالنزاهة والعدل، وما تفرضه عليها قيم الحداثة السياسية والديمقراطية. ومن المُهم هنا أن يُشار إلى نجاح البريطانيين في فلسطين والمنطقة عموماً في تمثل «دبلوماسية الجنتلمان» التي تُظهر احترامها للقادة المحليين وتتعامل معهم بتقدير، لكن من دون تقديم أي تنازلات لهم. وهذه الدبلوماسية الناعمة (لكن الخادعة) جاءت بعد الدبلوماسية الخشنة والاحتقارية التي كان الحكم التركي يتبناها تجاه القيادات نفسها، وهذا ساعد على نجاحها أيضاً. لكن في الحصيلة تسببت «دبلوماسية الجنتلمان» في توريط القيادات المحلية في علاقات مُهادنة قائمة على مظنة القدرة على التأثير في البريطانيين عبر استخدام منطق الحداثة السياسية والديمقراطية نفسه، لكن عملياً من دون تحقيق أي إنجازات وطنية على الأرض.

الجانب الثالث الذي يجب أن يُتضمن في النقاش هنا هو الإشارة إلى بعض الاستثناءات البارزة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية احتل فيها الدين موقعاً مركزياً، وهي بروز حركة عز الدين القسام في النصف الأول من الثلاثينيات، والتأسيس المتأخر لفرع الإخوان المسلمين في فلسطين في النصف الثاني من الأربعينيات من القرن الماضي، وكذلك حالة الحاج أمين الحسيني. في حالة الحركة القسامية كان الدين لا يقل تأثيراً وأهمية عن الفكرة الوطنية. واعتمد الشيخ القسام على الخطاب الديني في تنظيم العناصر المُقاتلة وتجنيدها والمحافظة على انضباطها. لكن استخدام الدين والخطاب الديني العاطفي تبلور في صورته الأهم في مضمار الحشد والتعبئة والمقاومة ضد الاحتلال البريطاني والمنظمات الصهيونية، ولم تكن هناك طروح فكرية ودينية معمقة في إرث القسام تشير إلى استخدام الدين كما استخدم في الصهيونية لإثبات دعاوى تاريخية في امتلاك الأرض. ومرة أخرى كانت ملكية أرض فلسطين وشرعية الحق لسكانها لا تحتاج إلى أي إثبات من قبل القيادات والأحزاب حتى الدينية.

أما في حالة جماعة الإخوان المسلمين في تلك الفترة فقد كانت هامشية التأثير والوجود، لكن تتوجب الإشارة إليها كونها اعتمدت الدين كمحرك وهدف أساسي للجماعة. ومع ذلك فإن سيطرة الخطاب الوطني، وليس الديني، في الوسط الفلسطيني السياسي والنضالي دفع الجماعة إلى تبني خطاب خليط بين الإثنين كما برز في مقررات مؤتمر حيفا الذي عقدته فروع الجماعة في فلسطين في تشرين الأول/أكتوبر 1947‏[17]. أما الحالة الثالثة، المتمثلة بالحاج أمين الحسيني، مفتي القدس وأحد أهم القيادات السياسية في تلك المرحلة، فإن الجانب الديني لا يتجاوز المظهر العام والموقع الشرفي، وفي ما عدا السمت العام فإن خطاب أمين الحسيني وتفكيره وسياساته كانت تدور حول أفكار الاستقلال الوطني، ولم يؤسس لمركزية دينية خلال كفاحه ضد البريطانيين أو الصهيونية. هذه الاستثناءات والإشارات المرافقة لها لا تعني نفياً تاماً لحضور الدين في السيرورة الفلسطينية، فقد بقيت الرموز الدينية حاضرة وبقوة في المشروع الوطني الفلسطيني، لكن مرة أخرى لم تكن في مقدمة المشروع ولم تهيمن عليه، ولم تمثل التسويغ المؤسس له. حتى في حركة القسام، وهي التعبير الديني الأقوى خلال تلك المرحلة، ظل استخدام الدين مقتصراً على الحشد والمقاومة.

في المرحلة الزمنية الثانية التي امتدت منذ قيام إسرائيل وحتى بروز حماس سنة 1987 سيطرت القوى والتنظيمات والأفكار التي تنتمي إلى أيديولوجيات القومية العربية أو الماركسية أو الوطنية الفلسطينية على الحركة الوطنية الفلسطينية. وفي هذه المرحلة لم يكن هناك دور مركزي للدين في هذه الوطنية، واقتصر على الرمزية العامة التي كان يعكسها تحديداً ياسر عرفات بسمته الخاص وخطابه العمومي. بيد أن الذي تكرّس أكثر فأكثر في عقود هذه المرحلة كان الخطاب العلماني الوطني الذي يحوم حول التحرير ولاحقاً إقامة دولة فلسطينية على أساس حق تقرير المصير. وقد تبلور الخطاب العلماني الوطني وفي قلبه مفردات الحداثة السياسية في الحركة الوطنية الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته وثمانينياته على التوازي، للمفارقة، مع نزوع الصهيونية نحو خطاب ديني متصاعد، وبخاصة بعد حرب 1967 التي عدَّتها الصهيونية الدينية تعبيراً عن تدخل إلهي لصالح إسرائيل. ولتعميق تلك المفارقة فإن نهاية الستينيات وبداية السبعينيات اللذين شهدا بدايات الانقلاب نحو المزيد من الصهيونية الدينية وما رافقها من مكونات مناقضة للحداثة السياسية ولفكرة المواطنة الليبرالية، شهدا أيضاً طرح الفلسطينيين لفكرة الدولة الديمقراطية العلمانية في كل أرض فلسطين التي يعيش فيها الجميع متساوي الحقوق، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية وأصولهم.

المرحلة الثالثة في فهم تطور «الوطنية الفلسطينية» وعلاقتها بالدين تبدأ منذ بروز حركة حماس سنة 1987 وتمتد إلى الوقت الراهن. فحماس، وهي التحول الذاتي للإخوان المسلمين الفلسطينيين من حركة دعوية إلى حركة سياسية جهادية، هي الحالة الأبرز في السياق الفلسطيني «الديني» لجهة دفع وتقديم الدين إلى قلب الوطنية الفلسطينية. وتستحق السيروة الحماسية تأمـلاً خاصاً يرافق رحلة العقود الثلاثة من عمر الحركة التي شهدت فيها حماس الانتقال التدريجي من موقف «الديني الخالص» إلى موقف «الوطني الديني». من ناحية أولية تأسست حماس عشية الانتفاضة الفلسطينية الأولى في كانون الأول/ديسمبر 1987، بقرار من قيادة تنظيم الإخوان المسلمين في غزة، ثم امتدت الحركة إلى الضفة الغربية. لم يستطع الإخوان المسلمون آنذاك الانزواء وعدم الانخراط في التيار الجارف للانتفاضة والمقاومة المباشرة للاحتلال، من دون التعرض لخسارة شعبية فادحة تلقي بهم إلى هامش النشاط السياسي والكفاحي في فلسطين. وتأكد الإخوان المسلمون الفلسطينيون أن المقاومة والانخراط الوطني فيها هو الذي منحهم الوجود الحقيقي في فلسطين بعدما تحولوا إلى حماس، وانتقلوا إلى مربع المواجهة بعد عقود طويلة من الانزواء في برامج «الدعوة والأسلمة» الإخوانية التي تفادت مواجهة الاحتلال الإسرائيلي في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات وصولاً إلى الانتفاضة الأولى سنة 1987. وهكذا سوف يظل عنصر المقاومة هو العنصر الأهم في دفع حماس، المنظمة الإسلامية الفلسطينية الجديدة، إلى مربعات أكثر وطنية. وتكفلت السنون والأحداث المتعاقبة على مضاعفة ضغط الواقع التحرري الوطني الفلسطيني على حماس، كما عملت منافسات القوى السياسية والعسكرية في الساحة الفلسطينية على تسريع سيرورة «قومنة» و«وطننة» حماس على حساب هويتها الدينية، على قاعدة أن أساس الشرعية السياسية الفلسطينية الشعبية يتأتى من مقاومة المشروع الصهيوني على أساس وطني.

على ذلك فإن الفكرة الأساسية التي تجادل في شأنها هذه المقاربة إزاء فهم تحولات حماس تقول بأن الحركة شهدت فعـلاً انتقالاً من مربع ديني صرف إلى مربع وطني وهو مربع التيار المُسيطر في الوطنية الفلسطينية. وقد حدث هذا الانتقال بالتوازي، للمفارقة، مع انتقال الصهيونية السياسية إلى مربع ديني، وهو المربع الذي يسيطر الآن على السياسة الإسرائيلية بعامة. في السياق الوطني الكفاحي الضاغط تسارع انتقال حماس من «لاحدودية الدين» إلى «حدود وجغرافية الوطن»، في ظل التحدي الصهيوني الذي استهدف فلسطين أرضاً وجغرافيا وأرادها «وطناً قومياً» لليهود. وتسارع إدراك حماس، أو جزء مهم منها، إزاء خطورة تعميمات الخطاب الإسلاموي حول الوحدة الإسلامية وعدم ضرورة الانتماء إلى كيانات قومية محددة، وبكونه يصبّ في مصلحة الخطاب الصهيوني. فهذا الخطاب كرر ويكرر دائماً مقولة أن فلسطين كـ «وطن قومي» للفلسطينيين لم يكن أبداً، وأن «الشعب الفلسطيني» شعب مختلق أساساً، وأن السكان الذين وجدوا في فلسطين قبل قيام إسرائيل هم عرب وليس لهم هوية «فلسطينية»، وأكثر ما يمكن قوله هو أنهم جزء من سورية الكبرى. ومعنى ذلك أنه بإمكان هؤلاء السكان الانتقال إلى أجزاء أخرى من سورية الكبرى أو العالم العربي الشاسع وعدم منافسة اليهود في «وطنهم القومي». على ذلك بدا أن خطاب «الوحدة» الإسلامي أو العربي الذي يُماهي الفلسطينيين مع العرب والمسلمين بكل عمومايته وسمته الفضفاضة يخدم الادعاءات الصهيونية مباشرة.

ثمة نقطة أخرى تستحق التأمل في السيرورة التي انخرطت فيها حماس. فبرغم انتماء الحركة الفكرية إلى تيار الإخوان المسلمين، ومع غموض أفكاره حول الحدود الوطنية، فإن حماس تطورت بصورة لافتة من ناحية النصوص النظرية وحاولت إعادة تعريف نفسها من حركة إسلامية دينية ذات بعد وطني تحرري إلى حركة تحررية وطنية بمرجعية دينية. وقد تجسد هذا التطور المتسارع مؤخراً في «وثيقة المبادئ والسياسات العامة» التي أصدرتها حماس في أيار/مايو 2017 وفيها أعلنت حماس عن البعد الوطني على حساب الديني، من خلال التشديد اللافت على «الجغرافيا الفلسطينية» على حساب «التاريخية الدينية الفلسطينية»، ومن خلال التشديد المُتجدد على تحديد نشاط حماس وأهدافها وغاياتها ضمن هذه «الجغرافية الوطنية» فقط‏[18]. وهكذا، وبخلاف ما كان يركز عليه ميثاق حماس سنة 1988 من أن الحركة جناح الإخوان المسلمين في فلسطين، فإن «وثيقة المبادئ والسياسات العامة»، تؤكد أن حماس حركة مقاومة فلسطينية تحررية إسلامية، ومن دون الإشارة إلى أي انتماء ما بعد «حدودي». على الرغم من أهمية النصوص الصادرة عن حماس أخيراً ومواقفها، يبقى الاختبار الحقيقي هو ترجمة هذه النصوص على الأرض، وبخاصة لجهة «فلسطنة» حماس تماماً وتقديمها الوطني المحدد على الديني المعمم، وتجسده في العلاقات الوطنية البينية.

بكلمة أخرى، تطورت حماس ضمن سيرورة وطنية وكولونيالية ضاغطة وتحت اشتراطات الأمر الواقع ودخلت في عملية «قومنة» (Nationalization) انتهت بها إلى تقديم الوطني بحدوده الوطنية على حساب الديني المتجاوز للحدود الوطنية (Islamism). هذه السيرورة التي انخرطت فيها حماس خلال العقود الثلاثة الماضية يمكن القول إنها نفسها التي أعادت تكوين كثير من الحركات الإسلاموية ضمن سياقات وطنية ذات حدود جغرافية مُحددة، أيضاً بحكم الأمر الواقع وصلابة الحقيقة الجغراسياسية التي هي «الدولة الأمة». لكن في الحالة الحمساوية أضيف عامل المشروع الصهيوني الاحتلالي القائم على جغرافية فلسطين، الذي سرعّ من انتقال حماس من عموميات لاحدود الدين إلى خصوصيات حدود الوطن. وهكذا فإن السياق الوطني الضاغط سارع في انتقال حماس من «لاحدودية الدين» إلى «حدود وجغرافية الوطن»، وبخاصة في ظل التحدي الصهيوني الذي استهدف فلسطين أرضاً وجغرافيا وأرادها «وطناً قومياً» لليهود. وتسارع إدراك حماس خلال سنوات وجودها ونشاطها، أو جزء مهم منها، لخطورة تعميمات الخطاب الإسلاموي حول الوحدة الإسلامية وعدم ضرورة الانتماء إلى كيانات قومية محددة، وبكونه يصب في مصلحة الخطاب الصهيوني. فهذا الخطاب كرر ويكرر دائماً مقولة أن فلسطين لم تكن أبداً «وطناً قومياً» للفلسطينيين، وأن «الشعب الفلسطيني» شعب مُختلق أساساً، وأن السكان الذين وُجدوا في فلسطين قبل قيام إسرائيل هم عرب وليس لهم هوية «فلسطينية»، وأكثر ما يمكن قوله هو أنهم جزء من سورية الكبرى. ومعنى ذلك فإنه في إمكان هؤلاء السكان الانتقال إلى أجزاء أخرى من سورية الكبرى أو الوطن العربي الشاسع، وعدم منافسة اليهود في «وطنهم القومي». على ذلك بدا أن خطاب «الوحدة» الإسلامي أو العربي الذي يُماهي الفلسطينيين مع العرب والمسلمين بكل عمومايته وسمته الفضفاضة يخدم الادعاءات الصهيونية بوعي أم من دونه.

خلاصة

حاولت هذه الدراسة تقديم أطروحة تقول إن الحركة الصهيونية (بفرعيها السياسي والديني) انطوت على مكونين مُتناقضين جوهرياً، الأول الصورة الحداثية البرانية، والثاني المكوِّن الديني المركزي الذي اعتمد على الدين كآلية تأسيسية وتبريرية للمشروع الصهيوني برُمَّته. وكان لهذا المكوِّن الديني وظيفة مركزية في تقديم «الادعاء القومي» الذي على أساسه قام المشروع الصهيوني، أي أسطورة «أرض الميعاد» وعودة اليهود إليها. ومع مرور الزمن، وعلى الرغم من كل الدعاوى الحداثية التي حاولت الصهيونية (السياسية) تمثلها بوصفها ممثلة عن التقدم الأوروبي الغربي في الشرق الأوسط (المُتخلف)، وتجسد قيم الحداثة السياسية كالليبرالية والعلمانية والديمقراطية والمواطنة، إلا أن كل هذه القيم بقيت قشرة هشَّة على السطح مقابل الصهيونية الدينية التي ظلت تنمو في سياق سيرروة سياق التوسع الإسرائيلي المُفسر بتدخلات إلهية. والمشهد السياسي الإسرائيلي يشير إلى سطوة وجبروت الصهيونية الدينية التي ابتلعت أي تمظهرات لأي شكل آخر من الصهيونية يحاول الإبقاء على مظهر خارجي حداثي ولو في الحد الأدنى. في المقابل، اتسمت الوطنية الفلسطينية ومنذ زمن تبلورها الأولي في نهايات القرن التاسع عشر وحتى الآن بتبنيها مكونات الحداثة السياسية من حيث اعتماد فكرة الاستقلال على المبادىء القومية الحديثة، الشعب، والأرض، والقيادة. وكانت مطالبات الأحزاب والقيادات الفلسطينية خلال حقبة الانتداب تدور حول الاستقلال وإقامة دولة فلسطينية تكون المواطنة فيها هي أساس الانتماء إلى الدولة، بغض النظر عن الدين أو الجنس، وتكون قائمة على مبدأ الانتخابات. ورغم المطالبات الحداثية تلك فإن بريطانيا، أم الديمقراطيات، وقفت ضد تطوير أي شكل ديمقراطي في فلسطين، لأن ذلك سوف يجعل الفلسطينيين الأغلبية في وطنهم. وقد واصلت الوطنية الفلسطينية تبنّيها لأوجه الحداثة السياسية في نضالاتها ومطالباتها. ورغم أن الخطاب الديني برز ولازم بعض الحقب لهذه الوطنية أو بعض تياراتها، إلا أنه لم يحتل مركزها ولم يكن في أي حقبة من الحقب عمودها الفقري كما هو الحال في السيرورة الصهيونية. وإذا كانت السيرورة الصهيونية اتسمت بمسار متسارع نحو المزيد من تديين السياسة، وصولاً إلى ما نراه الآن، فإن السيرورة الفلسطينية اتسمت بمسار مترسخ نحو المزيد من «وطننة الدين» كما أشارت حالة حماس التي شُرحت بالتفصيل.

كتب ذات صلة:

الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين

فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ