مقدمة

تستمد المرحلة الاستعمارية قوتها التاريخية والسياسية من كونها لم تتحول بعد إلى جزء من الماضي، فما زالت تداعياتها وتبعاتها ومنعطفاتها مستمرة في الزمن الراهن. ففرنسا التي خرجت من باب السياسة، مع إعلان استقلال المغرب، ستعود إليه بغير التدخل العسكري وموظفي إدارة الاحتلال، وستعمل على إيجاد الشروط الموضوعية لإنتاج علاقات التبعية وفق شروط جديدة وقواعد مختلفة، وصناعة أدوات تعمل على إعادة إنتاج علاقات الإخضاع والاستتباع.

تسعى هذه الدراسة إلى تعرية الظاهرة الاستعمارية وإبراز مفعولها العميق في الزمن الراهن، من زاوية استقرائية تستنطق أسئلة الحاضر وتثير ملابساته وتعقيداته.

لقد أصبح من البديهي القول إن التربية والتعليم هما المنفذان لتحرير الأفكار وصوغ العقول، واخضاع المجتمعات واستغلالها. وقد حرصت القوى الإمبريالية على أن تجعل من التربية والتكوين مدخلًا مضمونًا لإرساء أسس هذا التوسع واستمراره في البلدان التي استعمرتها. في هذا السياق نتساءل: كيف استطاعت فرنسا أن تترجم نياتها التوسعية في مجال التربية والتعليم في إطار مشروعها الاستعماري في المغرب، والتي سار عليها كل المقيمين الفرنسيين في المغرب في إدارتهم، بدءًا من ثيودور ستيغ (Théodore Steeg) الذي خلف الجنرال ليوطي (Lyautey) في تشرين الأول/أكتوبر 1925، إلى آخر مقيم عام فرنسي في المغرب (André-Louis du Bois)؟، ثم ما علاقة السياسة التعليمية التي سنتها في المغرب قبل الاستقلال، مع الاختيارات التي شكلت السياسة التعليمية لهذا البلد المستقل؟ هل استطاع المغرب أن يصون هويته الوطنية ويحافظ على ثقافته وإرثه اللغوي والحضاري في مرحلة ما بعد الاستعمار، أم أن المشروع اللغوي والأيديولوجي الفرنكوفوني يقف حاجزًا في وجه التحرر الثقافي واللغوي والعلمي بعيدًا من تطلعات المجتمع واختياراته؟ هل نَعيب عودة الاستعمار أم البنية الحاضنة للاستعمار؟

تستدعي الإجابة عن الأسئلة المؤسسة لإشكالية الدراسة استحضار حقول معرفية متجاورة ومتكاملة من قبيل علم السياسة، وعلم الاجتماع السياسي، والسوسيولوجيا التاريخية (Sociologie historique) حيث نلمس القيمة المنهجية لهذا المدخل في استحضار التاريخ بوصفه صيرورة ومدى قدرته على إمدادنا بالعناصر المفسرة لمدى امتداد الإرث الكولونيالي، والتأثيرات العميقة للمرحلة الاستعمارية ودرجة استمرارها في أحشاء الدولة المغربية الحديثة على المستوى الثقافي، وبوجه خاص على مستوى الاختيارات اللغوية للنظام التعليمي المغربي.

تنطلق هذه الدراسة من فرضية أساسية مؤداها أن المغرب ما زال يعدّ منطقة نفوذ فرنسية، وأنه بالرغم من انكسار دور الدولة الفرنسية في إدارة البلاد بصورة مباشرة كما كان عليه الشأن إبان الحقبة الاستعمارية، فإنها استطاعت أن تبقي المغرب ضمن فلكها ودائرة اهتمامها من خلال ما يعرف بـ «الاستعمار الجديد» أو الاستعمار غير المباشر. وهي سياسة تقوم على أساس الخروج من مفهوم الحماية والاستعمار المباشر، لمفهوم أكثر ليونة وتحضرًا، ولكن بأبعاد وخلفيات ثابثة تكرس لمواصلة التحكم والسيطرة، واستمرار أيديولوجية فرنسا بغطاء ثقافي ولغوي، تحت مسمى «الفرنكوفونية» كنظام وصاية، أملته فرنسا على مستعمراتها القديمة، ولا تزال تتبناه إلى اليوم لخدمة مصالحها، حتى وإن راحت بجريرة ذلك مصالح الآخرين، دولًا وشعوبًا ومنظومات قيم.

وتنتهي الدراسة إلى استنتاج مركزي مؤداه أن الخيارات اللغوية في النظام التعليمي المغربي، في حقبة الاستعمار الفرنسي، وفي حقبة الاستقلال، وحتى خلال الآونة الراهنة، كانت أداة من أدوات الاستعمار الفكري، وأدت دورًا أيديولوجيًا يتمثل بخدمة مصالح الدولة الفرنسية وتكريس «أبوتها الثقافية». لكن هناك نوع من التحفظ عن سلوكها الاستغلالي وهيمنتها الثقافية في مقابل هذا الاعتراف.

أولًا: السياسة اللغوية والتعليمية في حقبة الاستعمار

تميزت السياسة الكولونيالية الفرنسية في المغرب، منذ وقت مبكر، بالرغبة في فرض لغتها وثقافتها، حيث كرست المدرسة الاستعمارية ثنائية المغرب النافع/المغرب غير النافع لتخلق بذلك شرخًا اجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا. فالمغرب النافع ليس هو فقط مغرب السهول والأراضي الزراعية الخصبة، بل هو أيضًا مغرب التحديث الاستعماري، والمغرب الناطق بلسان المستعمر والمشبع بثقافته.

ومن أجل استخلاص أبعاد السياسة التعليمية المطبقة في المغرب من لدن فرنسا إبان الحماية، بهدف استنبات «الفرنكوفونية» في المجال اللغوي والثقافي المغربي، يتوجب الاعتماد على نصوص مختارة من أدبيات كبار منظّري نظام الحماية الفرنسية في المغرب، وبخاصة الأوائل منهم الذين وضعوا الخطوط العريضة لبناء أسس السياسة الفرنكوفونية في المغرب، أمثال الجنرال ليوطي وجورج هاردي (Georges Hardy) وبول مارتي (Paul Marty).

كانت سلطات الحماية الفرنسية واعية بأهمية اللغة ودورها في خلخلة الهوية الثقافية لسكان هذه المنطقة من المغرب العربي وتشويهها، وسعت منذ السنوات الأولى إلى فرض «فرنسة» الإدارة المغربية، وهو ما اتضح جليًا مع إصدار دورية ليوطي بتاريخ 16 حزيران/يونيو 1921، التي أمر فيها ممثليه بالمناطق التي يحكمونها بالعمل على طمس اللغة المحلية سواء منها العربية أو الأمازيغية وتعويضها باللغة الفرنسية. وفي مدة لا تتعدى 20 سنة، استطاعت سلطات الحماية أن تجعل كل الإدارات تشتغل باللغة الفرنسية. ولم يسلم قطاع التعليم من ذلك، إذ أصبحت أغلب المواد التي تدرّس في المدارس تجري باللغة الفرنسية باستثناء المواد الدينية، سعيًا للنيل من اللغة العربية، بوصفها – بحسب ليوطي- «عاملًا من عوامل نشر الإسلام، بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر، خارج إطار الاسلام»[2].

وصف المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري الظاهرة الاستعمارية بأنها «ظاهرة كلية اقتصادية اجتماعية سياسية ثقافية»[3]، لهذا لا نستغرب اهتمام المستعمر بالمجال الثقافي بوجه عام، وحرصه على أن يجعل من قطاع التعليم بخاصة، مدخلًا أساسيًا لإرساء أسس سياسته الاستعمارية، وعنصرًا مكملًا للتدخل العسكري، إذ وجدناه يبني وينشئ المدارس لغايات وأهداف غير بريئة، تتمثل ببث المقولات الاستعمارية في عقول الناشئة بهدف خلق فئة اجتماعية مدافعة عن مصالح فرنسا ومتشبعة بثقافتها[4]. يقول الجابري في هذا الصدد: «لقد كان التعليم الفرنسي في بلادنا يحرص بشكل واضح على تأطير التلاميذ تأطيرًا أيديولوجيًا محكمًا []، فمادة التاريخ مثلًا كانت كلها إشادة بفرنسا وعظمتها []، أضف إلى ذلك كله، الإشادة باللغة الفرنسية وتحقير اللغة العربية ومحاربة الفكر الوطني التقدمي. والنتيجة المتوخاة من كل ذلك تركيز التفوق الفرنسي في عقول الأطفال المغاربة، وجعلهم يشعرون بالنقص إزاء أنفسهم ولغتهم وثقافتهم ووجودهم الحضاري»[5].

لم يعتمد الاستعمار الفرنسي على القوة المادية والعسكرية فقط لفرض سيطرته على الإنسان والمجال، بل توسل أيضًا بالسلطة الرمزية لممارسة تأثيره في أفراد المجتمع المغربي وجماعاته، وقولبة الذهنيات، وتكريس المثاقفة المفروضة، بغية خلق القابلية للاستعمار لدى هذا المجتمع، وكان التعليم هو المحرك الرئيسي لإنجاح مخطط الحماية. وفي هذا السياق، يتحدث جورج هاردي، مسؤول السياسة التعليمية في المستعمرات الفَرنسية، وأحد المنظّرين لفلسفة البحث العلمي الاستعماري[6]، بصورة واضحة وصريحة؛ إذ يقول: «إن القوة تبني الإمبراطوريات، ولكنها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدوام، إن الرؤوس تنحني أمام المدافع، في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة في الانتقام، يجب إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان»[7].

ولم يكن مارتي خارجًا عن الاتجاه الذي سلكه هاردي، حيث نجده يتحدث عن الأبعاد السياسية والاجتماعية للمشروع التعليمي الفرنسي بالقول: «يجب ألا نخلق – بواسطة التعليم – جماعة من الساخطين المستائين اللامنتمين طبقيًا. لنبق أسياد المستقبل، لنجمع بين الصفوة الاجتماعية والنخبة الفكرية، وذلك بمنح التربية الفكرية الرفيعة لأطر المجتمع المغربي وحدها، أولئك الذين يستطيعون استيعابها واستعمالها»[8].

إن الاعتماد على هذه النصوص المختارة من أدبيات كبار منظّري نظام الحماية الفرنسية في المغرب، وبخاصة الأوائل منهم الذين وضعوا الخطوط العريضة لبسط الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية على المغرب، يعدّ أمرًا ضروريًا لفهم أي مقاربة تروم تحليل مكونات المرحلة الاستعمارية وعمق تأثيرها في المرحلة اللاحقة، إذ لا يمكن فهم الحاضر من دون «استبصار الماضي»، ولا تكون معرفتنا بهذا الماضي مجدية إلا من خلال إقامة علاقة تفاعلية بين الحاضر والماضي، كما أشار إلى ذلك الأب الروحي لمدرسة الحوليات مارك بلوك[9].

ثانيًا: استمرار الفرنكوفونية لغةً وأيديولوجيا

إن الخيارات اللغوية خلال حقبة الحماية التي امتدت 44 سنة (1912-1956)، لم تكن حيادية وبريئة أو خاضعة لمتطلبات التنمية، بل كانت موجهة أيديولوجيا من لدن المستعمر[10]، وجعلها تدور حول خدمة المصالح الفرنسية البعيدة المدى، والمتمثلة بالخصوص في خلق فئة اجتماعية متشبعة بالثقافة الفرنسية، ومدافعة عن مصالح فرنسا سواء داخل المغرب أو خارجه.

إن عرض هذه المعلومات الحاسمة في تاريخ المغرب المعاصر ضروري لفهم كل التحولات التي سيعرفها هذا البلد بعد الاستقلال، حيث واجه المغرب منذ السنوات الأولى لحصوله على الاستقلال ضغطًا استعماريًا خفيًا يرمي لإقرار وتثبيت الوجود اللغوي الفرنسي في المغرب المستقل، وإعطاء هذا الوجود صفة الشرعية، بحيث أصبح الطابع العام الذي طبع الوضع الجديد في المغرب هو الاستقلال في ظل الاستمرارية.

صحيح أن المدرسة الاستعمارية لم تنجح في اجتثاث اللغة العربية ومسحها من الوجود أو إخراجها من الميدان، وهي التي كانت ترى فيها العدو الأول بامتياز، بسبب ارتباطها بالدين الإسلامي الذي هو المحرك الأساسي لثقافة المقاومة[11]، لكن سيكون من باب المكابرة الوطنية الجوفاء، الادعاء بأنها لم تحقق نجاحات هائلة في مجال تحقيق هدف «الاغتصاب» اللغوي والثقافي. فحين غادرت الإدارة الاستعمارية الفرنسية المغرب، تركت وراءها بنية تحتية ثقافية ولغوية فرنسية قوية قابلة للاستثمار على امتداد عقود، بدليل أن لسان فرنسا ما زال حتى الآن لسان الإدارة في عموم مناطق المغرب، ولسان التعليم فيه من الابتدائي وحتى أسلاك التعليم العالي والبحث العلمي، وما زال الرأسمال الأمثل لتنمية الموقع الاجتماعي[12]، حيث يستمر اللسان الفرنسي مهيمنًا على الوظائف العليا ومراكز اتخاذ القرار وصنع السياسات، بما في ذلك قطاعات الإدارة العمومية والاقتصاد والإعلام والجيش، في مقابل تهميش اللغتين العربية والأمازيغية. فلغة القرار السياسي والسيادي هي الفرنسية، وبذلك تتعدى الطبقة «المفرنسة» كونها مجرد طبقة مثقفة، إلى طبقة مسيّسة أيضًا، حيث لا تزال فرنسا تعمل على الحفاظ على هيمنة النخب الناطقة بالفرنسية على مراكز القرار، انطلاقًا من قاعدة أن خير وأفضل من يحافظ على مصالح فرنسا في المغرب، هم المغاربة الناطقون بالفرنسية والمؤمنون بما يسمى قيم الحضارة الفرنسية، وعلى رأسها العلمانية[13]. لذلك نحت الزعيم المهدي بن بركة مصطلح «مَغْربة الحماية»، لانتقاد ما آلت إليه الأمور، أي أن منظومة الحماية استمرت ولكن بمغاربة. وبحسب المؤرخ حسن أوريد، فقد كان «البعض من هؤلاء يتقلد مناصب سياسية في قطاعات حساسة، ويحظى بثقة الهيئات العليا، ويحافظ على جنسيته الفرنسية، ولم تكن الجنسية مجرد وثيقة إدارية، ولكن توجهًا وخيارًا، بل عقيدة. وكانت هذه الفئة مسنودة بلفيف مؤثر في باريس، من رجال السياسة والإعلام والمال، أو من كان المقيم العام لوسيان ستيك يسميهم إبان الاستعمار بقبيلة أولاد لاسين»[14].

كان جزءٌ من الصراع المحتدم في مغرب الستينيات بخاصة، بين اتجاه مؤتمَن على الميراث الاستعماري، واتجاه يريد أن يتخلص منه، وكانت المعركة ضارية، لأنها كانت معركة وجودية. على أن فرنسا لم تنجب فقط نخبًا حاكمة تنفذ عنها سياساتها، بل نجحت أيضًا في إنجاب نخب سياسية وثقافية تصادمت مع الأولى وانبرت معارضةً لها ومحتجةً على سياساتها الداخلية، غير أنها لم تتحرر من سطوة ثقافة المستعمر ولسانه رغم رصيدها الوطني المعادي للاستعمار[15]. وفي الوقت الذي ينفرط فيه عقد الفرنكوفونية في الكثير من المستعمرات الفرنسية في أفريقيا، نجد في المغرب نخبًا سياسية واقتصادية وثقافية، معجبة بفرنسا إلى حد العشق، وما زالت تقوم بمهمة تحقيق استمرارية المشروع الفرنكوفوني، واستعدادها الكامل للدفاع عن مبادئ هذا المشروع وتوجهاته بجرأة أكثر من المستعمر نفسه، ولا تتوانى عن تقديم مصالحها هي، حتى وإن تعارضت مع مصالح البلد الأصل.

ثالثًا: التوجه الفرنكوفوني للتعليم المغربي

بعد استقلال المغرب، ما زال البلد إلى اليوم، يبحث عن الحلول للارتقاء بمنظومته التعليمية والتربوية، عبر سلسلة من التدخلات والسياسات الترميمية، لم تتجاوز مضامينها، على العموم، ما نعته عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو بطقوس الإصلاح (Le Cérémonial des reformes). وإذا كان المغاربة قد استطاعوا التصدي للتوسع العسكري الفرنسي من خلال طرد جنود الاحتلال ونيل الاستقلال، إلا أن شقوق الاستعمار ما زالت مستمرة في الزمن الراهن، وتسعى، من خلال الخيارات اللغوية للنظام التعليمي في المغرب، إلى تنفيذ الاستلاب وتكريس الارتباط فكريًا وأيديولوجيًا ونفسيًا ورمزيًا بفرنسا وثقافتها.

لقد كانت السياسة الاستعمارية في التعليم تكمن في تكوين ناشئة محدودة العدد من فئات اجتماعية مختلفة، وتكون مشبعة بالثقافة والمعرفة ذواتي الأفق الاستعماري، وقوامها التسلط الرمزي من طريق اللغة والتاريخ الفرنسيين والحضارة الغربية لتظل مرتبطة بثقافة المستعمر[16].

بعد ما يزيد على نصف قرن على رحيل فرنسا، ما زالت البنية الثقافية – اللغوية تشتغل بطاقتها القصوى، هي ما سيُعهد لها أن تفكر في قضايا التربية، بل حتى في الدين، وتصوغ تصور التنمية. وسنقف هنا عند إحدى أهم المحطات الفارقة في تاريخ المغرب الراهن، التي كشفت مفعول الشقوق الاستعمارية، وخلقت واقعًا لغويًا وثقافيًا مركّبًا، وجعلت فرنسا تعود إلى رحاب الوطن من خلال لسانها وجمهرة المتعصبين لثقافتها ومثالها الحضاري. وهي المحطة المتعلقة بإصلاح المنظومة التعليمية من خلال مصادقة البرلمان المغربي، نهاية تموز/يوليو 2019، على القانون الإطار الرقم 51.17، المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي[17]، الذي تقضي مادّتاه الثانية والواحدة والثلاثون باللجوء إلى «التناوب اللغوي» لتبرير وتمرير قرار تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية بدل العربية التي تقرّرت كلغة لتدريس هذه المواد منذ نحو أربعين سنة. وقد مثل تمرير هذا «القانون – الإطار» ارتكاسة قوية نحو اختيار غير وطني، يصب في النهاية في مصلحة اللغة الفرنسية وتقوية حضورها في المنظومة التعليمية، وإحلالها بصورة نهائية مكان العربية واللغات الأخرى والحكم على الأجيال الجديدة بأن تعيد إنتاج شبكة قيم مغايرة لشبكة القيم المغربية المشتركة[18].

يجب التنويه في هذا الصدد، أن تعريب التعليم وتجفيف الفرنسية منه، كان مشروعًا وطنيًا تبنته الحركة الوطنية بوصفه رمزًا للاستقلال السياسي وفك الارتباط مع فرنسا، وكان من العيب بل من الخيانة الوطنية والقومية أن يظهر شخص يدافع عن الفرنسية في التعليم. كما يجب التنويه أيضًا إلى أن اعتماد اللغة الفرنسية كاختيار لغوي للتدريس بدل الإنكليزية، لا يعني حديثًا عن اللغة الفرنسية في حد ذاتها، بالمعنى الديداكتيكي البيداغوجي، وضرورة انفتاح المغرب على تعلم اللغات الأجنبية، والفرنسية من ضمنها[19]، إنما يعني حديثًا عن منظومة ثقافية صيغت في هيئة مشروع للهيمنة مسكون بأيديولوجيا شوفينية تعمل على ربط المغاربة بفرنسا وبتاريخها، ومسخ الشخصية الثقافية، وتزوير الذاكرة الجماعية من أجل إنقاذ الميراث الثقافي واللغوي الفرنسي من الاكتساح الأنكلوفوني[20].

إن التوجه الفرنكوفوني للتعليم في المغرب تستفيد منه فرنسا أكثر مما يستفيد منه المغرب، وتتحمل الدولة الفرنسية بصورة مباشرة مسؤولية النزيف المهول الذي يعرفه المغرب في مجال هجرة الأدمغة، حيث يفضل المئات من التلاميذ المغاربة المتفوقين ممن اجتازوا بنجاح الأقسام التحضيرية، وكلفوا الدولة المغربية ملايين الدراهم في مرحلة تكوينهم، متابعة دراستهم بالمدارس الفرنسية العليا كمدارس البوليتكنيك، والمعادن والقناطر. وقلّما يعود هؤلاء الطلبة إلى العمل في المغرب. ولا يتوقف الاستقطاب الفرنسي على التلاميذ فقط، بل يشمل الأطباء والمهندسين أيضًا، لتصبح فرنسا هي المستفيد الأول من هذه التبعية لنموذجها التربوي من خلال استقطاب النخب التي تدافع عن مصالحها، وتوظيفها لخدمة اقتصادها وتنميتها، ويصبح المغرب في نظر لفرنسا مجرد مستعمرة سابقة ومشتلًا لاستقطاب المادة الرمادية. وهذا ما يجعل الغزو الثقافي، في شكله الفرنكوفوني، وجهًا من أوجه التبعية الثقافية الذي يقوض الاستقلال الوطني المفترض، باسم «شعارات حضارية» زائفة، تقول بالمثاقفة وحوار الحضارات، وتحاول إحياء الطبيعة الاستعمارية للدولة الفرنسية حفاظًا على امتيازاتها، وفي كل مرة تخرج وجهها القبيح الذي يثبت نظرتها الاستعلائية وخطابها المفعم بالاستئصال ومحاربة المشترك الوطني وكل قيم التنوع والاختلاف.

إن اللغة مكون من مكونات الهوية، والتحليل الذهني للهوية يدعو إلى حسبان اللغة أساس الهوية، بناءً وتعبيرًا، وهذه مسلّمة لها أحقية الوجود. وفقدان الهوية اللغوية سيؤدي حتمًا إلى فقدان الهوية العربية عند المغاربة والانتماء إلى الذات، والحفاظ على الهوية العربية واللغة العربية ليس إلا تعلقًا بالهوية البشرية، ومن «العار أن نعترف بكل الهويات إلا بالهوية العربية البارزة في لغتنا العربية الفصحى وفي عربيتنا الدارجة»[21].

خاتمة

تبقى العلاقات المغربية – الفرنسية ذات طابع خاص، حيث يؤدي الإرث التاريخي والاستعماري دورًا محوريًا في المعادلة، ولا يمكن فهم واقع المغرب المعاصر إلا من خلال العودة الى المرحلة الاستعمارية لما لها من أهمية في تحديد دينامية تكون الدولة الحديثة في هذا البلد اقتصادًا ومجتمعًا وثقافة، على اعتبار أن جانبًا مهمًا في تشكلها له صلة بالحقبة السابقة على الاستقلال، حيث شكل المساس بالهوية مقومًا أساسيًا لسياسة فرنسا الاستعمارية، وكان طبيعيًا أن يتعرض الاقتصاد والمجتمع والثقافة لتحولات بنيوية، وأن تتطلب الخيارات اللغوية  للنظام التعليمي جرأة كبيرة في بلد مثل المغرب بحكم الارتباطات التاريخية والرغبة القوية في الحفاظ على المصالح. هناك نوع من «الأبوة الثقافية» يشعر بها المغاربة تجاه فرنسا، وساهمت في ظهور نخبة مغربية بفكر فرنسي، لكن في مقابل هذا الاعتراف، هناك نوع من التحفظ والنقد على سلوكها الاستغلالي وهيمنتها الثقافية. فليست الفرنسية مجرد لغة للتواصل العلمي والتقني أو حتى لغة العلوم، بل هي لغة سياسية وثقافية تحاول فرض حمولتها القيمية على الدول الموجهة إليها، وتم صوغها بطابع سياسي في هيئة مشروع للهيمنة. والإصرار على استخدام الفرنسية وتقوية حضورها في المنظومة التعليمية، هو ضرب للهوية المغربية وترسيخ لفكرة التبعية لفرنسا، وهذا يمس على نحو مباشر وخطير سيادة البلاد واستقلالها. وعندما نستحضر السياسة اللغوية لفرنسا في ما يتعلق بالبحث العلمي، وحرص المؤسسات والجامعات الفرنسية على ترسيخ اللغة الإنكليزية كلغة للتداول والكتابة العلمية على المستويين الوطني والدولي، يصبح الانتقال من الفرنكوفونية إلى الأنكلوفونية ضرورة وظيفية ملحة واستعجالية، ويغدو الرهان على لغة متجاوزة علميًا وتقنيًا في أي تطور أو تنمية، رهانًا خاسرًا واجترارًا للفشل والتخلف.

صحيح أنه لا يمكن تصور هوية الشعوب من دون استحضار ماضيها، والرواسب السلبية للماضي ليست قدرًا محتومًا، لكن المطلوب، وخصوصًا من جانب فرنسا، هو أن تتجاوز تلك النظرة الاستعمارية الاستعلائية المثقلة برواسب التاريخ، والتي تنظر إلى المغرب ككيان يجب أن يظل تابعًا وخاضعًا للوصاية بصورة من الصور، فمثل هذه النظرة الفوقية تصنع علاقات دبلوماسية تنتج الغبن والظلم، وهو ما لم يعد يقبله المغرب وكل دول الجنوب بوجه عام. لذلك لا بد من إعادة قراءة الإرث التاريخي والثقافي والحضاري المشترك لكل من المغرب وفرنسا بنظرة واقعية هادئة وبناءة، تتطلع إلى المستقبل بعيدًا من ثقل الماضي ومن تابوهاته، وهنا بالضبط يكمن الأفق الجديد للشراكة والاحترام.

كتب ذات صلة:

أفريقيا والعرب والاستعمار: دراسات في فكر علي مزروعي

ما بعد الاستعمار والقومية في المغرب العربي: التاريخ والثقافة والسياسة