مقدمة:

تمثل المرحلة الاستعمارية في الجزائر حقبة من المعاناة ونضال الجزائريين في سبيل تحقيق حريتهم والحفاظ على قيمهم وثوابتهم إزاء الرغبة الفرنسية في تغييرها وطمسها، وكذا كفاحاً من أجل إنهاء السيطرة الخارجية على ثروات البلاد ومواردها. وقد شكّل الاستقلال الوطني فرصة لإخراج دولة تسعى إلى تعزيز السيادة واستقلال القرار الوطني عن التأثير الخارجي – وبخاصة الفرنسي منه – بأبعد قدر ممكن، وذلك في خضم محيط دولي يعكس حالة من التجاذب الأيديولوجي، والعداءات المتبادلة بين مستعمري الأمس والدول المستقلة، عداءات تجد صداها في ما خسرته الأطراف من تضحيات، وفي ما أفضت إليه من رسم لنمط متميز من العلاقات الثنائية الفرنسية – الجزائرية، يشوبه شيء من الحنين إلى الماضي من الجانب الفرنسي، ونضال من أجل إثبات الندية من الطرف الجزائري.

لقد عكست العقود الثلاثة التي تلت استقلال الجزائر، حساً شعبياً معادياً – إلى حد ما – لفرنسا الاستعمارية، وهو الحس الذي حاول الساسة الجزائريون استثماره في إدارة العلاقات بين الدولتين، والحصول على قدر من المكاسب باللعب على وتر الماضي في الخطاب الداخلي ورغبة في تجاوز ذلك الماضي في بناء العلاقات مع فرنسا. ومع دخول الجزائر دائرة التأزم الأمني والتراجع الاقتصادي، ظهر للعيان ما يوحي بقدرة النظام الفرنسي على ممارسة تأثير فعلي على الوضع الجزائري، ومن وراء هذا التأثير إمكان توجيه السياسة الخارجية الجزائرية، بما يتمشى والمصالح الفرنسية وطموحاتها في أفريقيا والوطن العربي. وأوحى هذا الاستنتاج لعدد من المتتبعين بوقوع النخبة الجزائرية المسؤولة عن صنع القرار تحت تأثير النفوذ الفرنسي. كما أن هذه النخبة لم تستطع – وهي تتعامل مع عدد من القضايا الإقليمية خاصة – أن تثبت تحررها الكامل في اتخاذها لقرارات السياسة الخارجية، سواء بحكم ماضيها وتكوينها، أو بسبب شبكة العلاقات الجديدة التي تم بناؤها بين النظامين الجزائري والفرنسي.

يطرح هذا الواقع المتجذر في صلب منظومة صنع السياسة الخارجية الجزائرية، التساؤل في شأن قدرة الوحدة القرارية الجزائرية على التصرف متحررة من الميراث الاستعماري وإرادة النظام الفرنسي، تساؤل يمكن بلورته على النحو التالي:

كيف ساهمت الخلفيات التاريخية والارتباطات المتصلة بالنفوذ الفرنسي في الجزائر، في تحديد نمط العلاقات الجزائرية – الفرنسية، وتحديد أجندة السياسيين في كلا البلدين أحدهما تجاه الآخر؟

أولاً: الميراث الفرنسي في بنية النظام السياسي الجزائري

تشكّل النظام السياسي الجزائري عقب ثورة تحريرية ضد المستعمر الفرنسي، وتجاذبته صراعات الجناحين العسكري والمدني، وبدأت معالمه تبرز إلى الوجود مع مؤتمر الصومام أثناء الثورة التحريرية، ثم تشكيل الحكومة المؤقتة سنة 1958، ثم تحييد أغلب الآباء المؤسسين للحراك المسلح تباعاً؛ إما بالتصفية الداخلية بسبب التنافس على المسؤوليات الثورية، وإما بسبب الخيانة والاستهداف الفرنسي لهم، أو القبض عليهم، لتشهد الفترة التي تلت وقف إطلاق النار في آذار/مارس 1962، تبلور نظام يستند إلى القوة العسكرية لجيش الحدود بما حواه من ضباط الجيش الفرنسي، تكمله إدارة مدنية كان للطرف الفرنسي دور كبير في تأطيرها.

1 – الدور الفرنسي في تشكيل الإدارة الجزائرية

خلال الفترة الاستعمارية كانت فرنسا دومـاً بحاجة إلى من يستطيع التواصل مع الأهالي، وينظم معاملاتهم اليومية، ويشرف على التحكم في جمع الضرائب وتنفيذ الأحكام القضائية، وتوثيق الحالة المدنية للجزائريين، وازدادت هذه الحاجة أكثر مع اندلاع الثورة التحريرية سنة 1954 بالجزائر، وظهور مؤشرات تتصل بالخروج الحتمي للاستعمار من الجزائر. لذا بدأ الرهان نحو فترة ما بعد الاستقلال الجزائري، والواقع أنّ الإدارة الاستعمارية قد نجحت في أن تكوّن نخبة من الإداريين والتكنوقراط الجزائريين من أصحاب النزعة التغريبية والتوجه الفرانكوفوني المعادي للقيم الاسلامية واللسان العربي، حتى بعد عقود من خروجها من الجزائر‏[1]، وفي هذا الشأن يتم دائماً التطرق في معرض الحديث عن هذه النخبة إلى ما يطلق عليه «دفعة لاكوست» (Promotion Lacoste) التي ضمت أبناء «القياد» و«الباشغوات» وعدد من المتعاونين مع الجيش الفرنسي، وذلك نسبة إلى الحاكم العام للجزائر (1956 – 1958) روبير لاكوست (1898 – 1989)، إذ بعدما أيقنت فرنسا أن الجزائر في طريقها إلى الاستقلال، فقد عمل الجنرال جاك سوستيل (1912 ‑ 1990) على خلق حالة من العداء بين الجزائريين من خلال الاستعانة في قتال الثوار بأفراد ما عرف بـ «قوات القوم»‏[2] التي منحها إطاراً قانونياً، وأطلق عليها اسم الفرق المتنقلة للشرطة الريفية (Les Groupes mobiles de police rurale) التي تعرف اختصاراً بـ «G.M.P.R»، وهي تتكون أساساً من عناصر مسلمة، حيث تشكلت 37 فرقة من هذه القوات عبر مناطق الثورة سنة 1955‏[3].

أنشأ سوستيل مركز التكوين الإداري سنة 1955، بهدف التكوين السريع للإطارات الجزائرية، بما يخدم الإدارة الفرنسية، وركّز على إدخال المتعاونين مع الاستعمار إلى التوظيف العمومي، وفتح أمامهم المسابقات للحصول على مناصب شغل في القطاعات العمومية، كما اهتم بفتح المدارس الفرنسية أمام أبناء هؤلاء المتعاونين، الذين استفادوا من هذه التسهيلات، وكانوا آلافاً ممن وصفوا بـ «الحركى» وأبنائهم‏[4]، وعدد من هؤلاء قد صاروا أهم الإطارات المدنية والقيادات العسكرية، بعد أن التحقوا بجبهة التحرير الوطني وبخاصة سنة 1961. ومع مرور الوقت أصبح هؤلاء بمنزلة النخبة العسكرية والإدارية التي سيطرت على البلاد، ويصفهم رئيس الحكومة الجزائرية الأسبق بأنهم ناتج خالص للتكوين الفرنسي، ويحبون بشدة فرنسا، رغم أن بلعيد نفسه لا ينكر حبه الشديد لها أيضاً، وكان يلجأ إلى الخزينة الفرنسية للتحقق من الأرقام التي قدمها – أي بلعيد – في تصريحاته لوسائل الإعلام، وكان يقضي عطله في فرنسا حتى تلك التي لا تتجاوز 48 ساعة ‏[5].

لم يقتصر السعي لتكوين إطارات المستقبل في الإدارة الجزائرية على الرجال فقط، فقد كانت هناك محاولة لجلب تعاطف وولاء العنصر النسوي في الجزائر لفرنسا، إذ يمكن الإشارة هنا إلى تأثير السيدة سوزان ماسو في عدد كبير من الجزائريات، حيث عكفت ابتداء من سنة 1957 على استقطاب الشباب ضمن مؤسسة «Association Jeunesse»، ثم استطاعت سنة 1960 تجميع قرابة 60,000 امرأة وفتاة ضمن ما أطلق عليه «حركة التضامن المرأة» (Mouvement de Solidarité Féminine)‏[6]. من الراجح جداً أن هذا العدد الضخم سيشكل في ما بعد نواة الارتباط بالثقافة الفرنسية لدى مئات الألوف من الأفراد، وسيخرج من هؤلاء المنتميات لهذا المركز نساء تبنَّين فكراً فرنسياً خالصاً، ودافعن عنه بشدة، حين هيمن فيما بعد على قطاعات التعليم والصحة والإعلام، وتبوأن المناصب القيادية في التنظيمات الجماهيرية، وعلى رأسها الاتحاد الوطني للنساء الجزائريات.

ترسخ في الوعي الجمعي الجزائري أن فرنسا استمرت مهيمنة على القرار الجزائري وعلى السياسة العامة للدول، وتأطر هذا الاعتقاد بما كان يوصف بحزب فرنسا. ويشير كتاب الوزير الأول السابق عبد الحميد الإبراهيمي المعنون في أصل الأزمة الجزائرية 1958 – 1999 إلى وجود ما يصفه حزب فرنسا‏[7]، وبتعبير بلعيد عبد السلام في مذكراته، الاندماجيون الجدد، وكل النفوذ الذي يتمتعون به، يعطي صورة سلبية عن الدور الذي تولاه هؤلاء الموالون للنظام الاستعماري، حتى وإن لم يكن ذلك في بعض الأحيان بالعمد، وإنما انعكاساً لتكوينهم الاستعماري، وسوف يتضاعف مستوى ارتباطهم بالساسة الفرنسيين في خضم الانهيار الشامل الذي مسّ مختلف القطاعات، السياسية منها والاقتصادية، وهو الانهيار الذي ضرب صميم الأنسجة المجتمعية، وشبكة العلاقات المدنية والعسكرية في الجزائر، مع إفراز ظواهر غريبة عن المجتمع الجزائري في مقدمها صعود المال السياسي وتكون قطاع عريض من الفساد والمفسدين، الذين لم يجدوا حرجاً في استثمار الأموال المنهوبة في قطاع العقار وباقي الأنشطة الاستثمارية في فرنسا نفسها، ويدعم عددٌ من القضايا التي وصل بعضها إلى أروقة المحاكم هذه الرؤية.

2 – ضباط الجيش الفرنسي الجزائريون في الجيش الجزائري

خلال الثورة التحريرية التحق عدد من الضباط وصفّ الضباط والجنود الذين كانوا منتمين إلى الجيش الفرنسي، بوحدات جيش التحرير، ولأن التحاقهم كان من طريق الفرار من وحداتهم الفرنسية، فقد عرفوا أول الأمر بالفارّين من الجيش الفرنسي الذين أطلق عليهم اختصاراً «DAF»، بينما يرى العقيد الطاهر زبيري في مذكراته أنهم تقسموا إلى ثلاث فئات هي‏[8]:

– فئة ضباط أدّوا الخدمة العسكرية في الجيش الفرنسي.

– فئة الضباط الذين التحقوا بالثورة في بدايتها بين سنتي 1955 و1957.

– فئة الضباط الفارّين من الجيش الفرنسي الذين التحقوا بالثورة على الحدود وأتوا من خارج البلاد منذ 1958.

– المارسيون (نسبة إلى شهر آذار/مارس)؛ وهم كل من التحق بجيش التحرير بعد إعلان وقف إطلاق النار في 18 آذار/مارس 1962.

رغم أن العقيد الزبيري يصرّ على أن عددهم بجميع رتبهم نحو 200 ضابط وصف ضابط‏[9]، إلا أنه اتضح بعد عقود من الاستقلال؛ أنّ عدد هؤلاء كبير جداً، على نحوٍ يخالف كل التصريحات التي كانت تتحدث عن عشرات أو مئات من هؤلاء، بل إنّ المتصفح لقائمة الجزائريين المتقاعدين من صندوق المعاشات للجيش الفرنسي يجدهم بالآلاف، ويدعم هذا الرأي شهادة أحد هؤلاء وهو وزير الدفاع الأسبق خالد نزار الذي يتحدث عن 15000 فرد من هؤلاء الفارين‏[10].

كانت الرغبة في استبعاد هؤلاء الضباط من المراكز القيادية أحد أسباب الصدام أثناء الثورة التحريرية والفترة التي أعقبت الاستقلال، وكان أول من نبّه إلى خطر هؤلاء على الثورة الجزائرية هو المجاهد علي منجلي في اجتماعات المجلس الوطني للثورة الجزائرية بطرابلس في سنة 1960، وأثيرت المسألة مجدداً في أزمة صيف 1962، ثم في تمرد ثم إعدام العقيد شعباني الذي كان مناوئاً لوجود هؤلاء في صفوف الجيش الوطني الشعبي. ولقد دعّم بومدين سلطته بضباط الجيش الفرنسي، واستند أعوانه إلى هؤلاء. ويورد الرائد لخضر بورقعة أحد قادة ثورة التحرير مجموعة من الحقائق في هذا الإطار، ومن بينها أن العقيد أحمد بن شريف القائد العام لقوات الدرك الوطني نصّب شقيقه عبد القادر الذي كان في الجيش الفرنسي ولم يغادره إلى غاية الاستقلال، ضابطاً في القيادة العامة للدرك الوطني بالعاصمة‏[11]. كما أن الجنرال العربي بلخير الذي يعد أبرز الضباط الفارّين من الجيش الفرنسي، والرجل النافذ في الحكم وصانع الرؤساء، وبخاصة منذ مجيء الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، ظل دوماً محسوب الولاء على فرنسا، وخصوصاً أنّه ابن أحد «القياد» الجزائريين الذين منحتهم السلطات الاستعمارية الفرنسية مكانة مهمة ليقوموا بالوساطة بينها وبين الشعب الجزائري. كما كان للجنرال بلخير شقيق ظل يعمل كضابط في الجيش الفرنسي حتى تقاعده عام 1992‏[12].

استمر صعود هذه الفئة من الضباط عبر العقود التي تلت الاستقلال، مستفيدة في ذلك من التأهيل العسكري والمستوى التعليمي الذي حظيت به، كما أن هذه الفئة لم تكن مبالية بالدفاع عن الانتماء الحزبي لجبهة التحرير الوطني، وإنما تصرف أفرادها بوصفهم تنفيذيين حيث لا ولاء حزبي لهم، وإنما كانوا ينفذون الأوامر فقط. ولقد أوعز بومدين – حسب الرائد بورقعة – إلى رجاله المقرَّبين من ضباط الجيش الفرنسي إلى التضييق على المجاهدين الحقيقيين الذين كان يتوجس منهم، وكان هذا أحد أسباب تمرد العقيد الزبيري ومحاولته الانقلابية في 11 كانون الأول/ديسمبر 1967 ‏[13]. ويقول الرائد عمار ملاح، إنه حضر اجتماعاً للضباط مع العقيد هواري بومدين وإن عبد المجيد شريف طرح الموضوع من جديد، إلا أن ردّ بومدين كان واضحاً: «لو أسمع واحداً يتحدث عن ضباط فرنسا سأرمي حجراً في فمه».

وكان رأيه أنّ الذين أدوا الخدمة العسكرية في صفوف القوات الفرنسية هم الأكثر كفاءة، لكن للأسف اتضح أنه مجرد تمويه وكلام فراغ – بحسب تعبير الرائد عمار ملاح – حيث وزعت عليهم الرتب مع أن مستوياتهم كانت بسيطة جداً‏[14].

شكّلت فترة الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد ذروة صعود هؤلاء الضباط، وذلك من خلال سلسلة من الترقيات السريعة لهم، ووصولهم إلى شغل المناصب القيادية في الجيش. وبعد انتفاضة 5 تشرين الأول/أكتوبر، صار خالد نزار وزيراً للدفاع، وهو ما أدى إلى سلسلة من الاستقالات في قيادة الجيش احتجاجاً على ذلك؛ كان أبرزها استقالة الجنرال محمد عطايلية كمفتش عام في الجيش، الذي انتقد تولي ضباط فارّين من الجيش الفرنسي زمام المؤسسة العسكرية والدخول فيها في مواجهات سياسية ‏[15]، وهو ما سيتضح فعلياً عام 1992 مع قرار وقف المسار الانتخابي وحل حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وقد تمكن نزّار بحكم منصبه، وبمساعدة زملائه من هذه الفئة، من إزاحة الرئيس الشاذلي بن جديد وتشكيل مجلس أعلى للدولة، سيؤسس لهيمنة القطاع العسكري على الحياة السياسية للجزائر، إلى غاية استقدام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة سنة 1999.

تراجع عدد ضباط الجيش الفرنسي ونفوذهم؛ بمقتل عدد منهم في حقبة المواجهة مع الإرهاب، وبتقاعد أبرز رموز هذه الفئة، وهو خالد نزار، منتصف تسعينيات القرن الماضي، ثم نهاية الخدمة والوفاة المتوالية لعناصر هذه الفئة تباعاً أثناء حكم الرئيس بوتفليقة، وفي مقدمهم الرجل النافذ العربي بلخير الذي يوصف بالكاردينال سنة 2010، وكذا قائد أركان الجيش الشعبي الوطني السابق محمد العماري سنة 2012، ليتضاءل ظهور تأثير هؤلاء الضباط باستثناء الإسهامات الصحافية أو الرد على الاتهامات، وكتابة المذكرات، وكذا حضور الجنائز الرسمية، ولم يبق في مصاف المسؤولية منهم سوى شخصيتين بارزتين، هما الجنرال محمد تواتي بوصفه مستشاراً للرئيس، واللواء عبد المالك قنايزية الذي استمر وزيراً منتدباً لدى وزير الدفاع الوطني إلى غاية سنة 2013.

ثانياً: العلاقات الفرنسية – الجزائرية بين المطالبات المتبادلة وأوراق الابتزاز

شهدت العلاقات الجزائرية – الفرنسية إرادة معلنة في ترقيتها من الجانبين، إلا أن تلك العلاقات، بعيداً من الخطاب الدبلوماسي والتناول الإعلامي، اقترنت بإثارة جملة من الأحقاد التاريخية وحالات التصعيد، كما أن عدداً من الملفات المقترنة بالحقبة الاستعمارية ظلت تحول دون تفاهم ثنائي دائم، وجرى توظيفها أكثر من مرة كشكل من أشكال الابتزاز، الذي اقتضى أن تتحرك الماكنة القانونية ومن ورائها وسائل الإعلام في تجييش حالة من الركون إلى الماضي، وفتح ملفات التعذيب والحركى والتعويضات، وممتلكات المعمرين وقوانين التأميم. ورغم مرور عقود ما زال واضحاً أن كثيراً من تلك الملفات هي في صلب جمود وتوتر العلاقات الثنائية.

1 – مطالبات الأقدام السود في صميم تشنج العلاقات الفرنسية – الجزائرية

نصت «اتفاقيات إيفيان» (Les accords d’Évian) لإنهاء الاحتلال الفرنسي الموقعة بين الحكومة المؤقتة الجزائرية ونظيرتها الفرنسية في 18 آذار/مارس 1962، على توضيح لوضع الأقدام السود بعد إقرار الاستقلال. وفي هذا الإطار يشير رضا مالك رئيس الحكومة الأسبق، وعضو الوفد الجزائري المفاوض في اتفاقيات إيفيان في شهادة له؛ أن في هذه الاتفاقيات الموقعة في 18/3/1962 وافقت الجزائر على بند يقضي بتمتع العناصر الأوروبية كافة بحقوق الرعايا الأجانب المكفولة قانوناً، على غرار ما حصل مع الرعايا الفرنسيين الذين فضلوا البقاء في تونس والمغرب مع حفاظهم على الجنسية الفرنسية، بعد حصول هذين البلدين على استقلالهما عام 1956، بل أكّد رضا مالك أن 16 من الرعايا الفرنسيين، تمكنوا من حجز مقاعد لهم في المجلس التأسيسي الذي انتُخب بعد الاستقلال، وأنه جرى الاتفاق على أن للمعمرين الاختيار في غضون ثلاثة أعوام، بين ممتلكاتهم ونيل الجنسية الجزائرية مع الاحتفاظ بالفرنسية، أو مغادرة الجزائر وبالتالي فقدان حقهم في ذلك بعد تجاوز هذه المدة‏[16].

غادر الأقدام السود الجزائر غداة الاستقلال، تاركين – ما اعتبروه – ممتلكاتهم من عقارات ومنقولات، وكان خيارهم اللجوء إلى السلطات الفرنسية لتحصل لهم من الجزائر على تعويضات بقيمة تلك الممتلكات. ولقد حاول بعض هؤلاء الحصول على تعويضات من الحكومة الجزائرية، لكن السلطات الجزائرية رفضت ذلك، بدعوى أن الجزائر لم تطردهم وأنّ رحيلهم كان طوعياً، حيث بلغ عدد هؤلاء الذين فروا من الجزائر بين عامي 1962 و1964 مثـلاً قرابة مليون شخص‏[17]، ولقد رسخ في المزاج العام الجزائري أن كل الأملاك التي تركها هؤلاء هي أملاك شرعية للجزائريين، يجب الاستيلاء عليها وضمها إلى ممتلكات الدولة الجزائرية.

في هذا الإطار أصدر الرئيس أحمد بن بلة في 1 تشرين الأول/أكتوبر 1963 مرسوماً خاصاً بتأميم ممتلكات المستعمرين، وجاء هذا القرار في خطاب أمام آلاف الجزائريين، قال فيه: … من هذه اللحظة لن يبقى هكتار واحد ملكاً لمعمر فرنسي‏[18].

بعد انقلاب 19/6/1965 الذي قاده وزير الدفاع آنذاك، تعرضت المصالح والممتلكات التي يحوزها المعمرون لسلسلة من عمليات التأميم، بوصفها أملاكاً شاغرة تعود ملكيتها للدولة الجزائرية، وفي 20 أيار/مايو 1968 أصدرت الحكومة الجزائرية سلسلة قرارات وفق التسلسل من 68/137 إلى 68/168، يقضي بتأميم جميع أنواع الأموال والحصص والأسهم والفوائد والحقوق للشركات أو الشركات التابعة لها، أو المؤسسات التي تخصص عدداً من عائلات «الأقدام السود» الذين غادروا الجزائر واعتبارها ملكاً للدولة، وكان من أبرزها القرارات هو الأمر الرقم (68/160) المتعلق بتأميم الشركة المدنية للمنقول والعقار ألتيراك (Scimi altairac) وكل ما تعلق بأصولها العقارية والمالية، المنقولة وغير المنقولة‏[19].

في فرنسا ظلت قضايا الأقدام السود والأمور المالية المتعلقة بالوجود الاستعماري الفرنسي بالجزائر في صلب الحياة السياسية الفرنسية، وصدرت ثلاثة قوانين لتعويض الأقدام السوداء، القانون الأول خلال عام 1970 في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق جورج بومبيدو؛ والثاني خلال عام 1974 في عهد فاليري جيسكار ديستان ؛ والثالث خلال عام 1987 في عهد الرئيس فرنسوا ميتران‏[20].

تابعت السلطات الفرنسية هذا الموضوع على امتداد عقود، وظل اليسار الفرنسي، وبالضبط الرئيس ميتران، من أشد المدافعين عن الأقدام السود، وقد التزم بإعادة إدماجهم وتسوية أوضاعهم، ورغم أن هؤلاء قد حظوا بتعويضات أقرتها القوانين المشار آنفاً، غير أن القانون الفرنسي المؤرخ في 15 تموز/يوليو 1970 الذي نص على أن ما قدمته الحكومة الفرنسية لهؤلاء من أموال هو مجرد «استباق» على الحساب لما يحق لهم، أبقى على شرعية مطالباتهم من الناحية القانونية في فرنسا‏[21].

تعززت مطالبات التعويض واسترداد الممتلكات الخاصة بالأقدام السود مع تعمّق العلاقات الجزائرية – الفرنسية، وساهم في إظهار هذه المطالب أن الأقدام السود شغلوا في فرنسا مناصب سامية، كما أنهم حققوا نجاحات كبيرة على الصعد الاقتصادية والثقافية والسياسية، بحيث اندمجوا في المجتمع الفرنسي وانقلبوا إلى «لوبي قوي» مؤثر في كل موعد انتخابي، واستطاعوا الدفع بممثليهم في البرلمان إلى التشديد على مطالبهم في رسم العلاقات الجزائرية – الفرنسية، حتى إن عدد الأسئلة المتعلقة بالجزائر مثـلاً التي وجهها برلمانيون فرنسيون إلى حكومة بلادهم قد وصل إلى أكثر من 150 سؤالاً بين شفوي وكتابي، في الفترة الممتدة من تموز/يوليو 2015 إلى أيار/مايو 2016، ومنها أسئلة تتعلق بمطالب جمعيات «الحركى» و«الأقدام السود»، التي تدعو الحكومة الفرنسية إلى التدخل لتعويضها عما تسميه طرد هذه الفئات من قبل السلطات الجزائرية بعد الاستقلال، وهو ما دفع بالرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى إبداء تعاطفه مع هذه المطالب‏[22].

جاء لجوء هذه الفئة للجنة الأممية لحقوق الإنسان سلبياً، وذلك نتيجة لقبول اللجنة بردود الحكومة الجزائرية، مستندة إلى كل من مذكرة السلطات الجزائرية الجوابية وكذا أحكام المادتين 01 و93 الفقرة 03 من النظام الداخلي للهيئة، التي قضت بأن الأفعال المنسوبة إلى الجمهورية الجزائرية قد وقعت سنة 1962، أي قبل انضمام الجزائر إلى العهد الدولي المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية ودخوله حيز النفاذ بالنسبة إليها في 16 أيار/مايو 1989‏[23].

لقد قدمت الهيئات التي تنشط من أجل الدفاع عن مصالح الأقدام السود 600 ملف إلى اللجنة الأممية المعنية، بهدف إرغام الجزائر على دفع تعويضات عن ممتلكاتهم المتروكة فيها بعد إعلان الاستقلال، ولكن القرار الصادر في أول تشرين الثاني/نوفمبر 2006 عن اللجنة، وذلك في سياق فصلها في قضية رفعها معمّر سابق من مدينة وهران ضد الحكومة الجزائرية، قد تم حسمه كونه يشكّل سابقة سوف تطبق على كل الحالات المماثلة بوصفه اجتهاداً قضائياً جديداً‏[24].

حسم الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أمر استرجاع السلطات لممتلكات تركها فرنسيون غادروا البلاد بعد الاستقلال عام 1962، ناظراً إليها بوصفها «أمراً مشروعاً»، آمراً بتصنيفها ضمن أملاك الدولة، وأوضح بوتفليقة أن إجراء ضم ممتلكات «الأقدام السود»، الذين غادروا البلاد عام 1962، ضمن أملاك الدولة، جاء في سياق «ما فعله المستعمر الغاشم، في الأربعينيات من القرن الماضي بممتلكات أبناء بلادنا… [في إشارة منه إلى عمليات نهب من الاستعمار الفرنسي لأملاك الجزائريين في تلك الفترة] هو إجراء أصبح جزءاً لا رجعة فيه من تشريع دولتنا المعاصرة»‏[25].

 

2 – الاستعمار الفرنسي للجزائر بين التمجيد والتجريم بدلالة التعامل مع الحركى

ظلت الفترة الاستعمارية في الجزائر واجهة لتحديد نمط العلاقات الثنائية بين فرنسا والجزائر، ونتيجة اليأس من إمكان استعادة الجزائر كمقاطعة فرنسية من جانب الفرنسيين، والفشل من جانب الجزائريين في استصدار اعتراف بمساوئ الاستعمار وتحصيل تعويضات عنه، فقد اضطر الجانبان إلى السعي لتجاوز الماضي، حيث حدث تحول في الخطاب الرسمي الفرنسي تجاه النظرة الرسمية إلى الماضي المشترك بين البلدين على مدار أكثر من نصف قرن، واتجهت فرنسا في تسعينيات القرن العشرين – وبخاصة بعد رحيل أغلب رموز العهد الاستعماري – إلى الدفع أكثر نحو تصحيح المنظور الفرنسي الشعبي والأكاديمي لما حدث في الفترة ما بين تشرين الثاني/نوفمبر 1954 وآذار/مارس 1962، وتمّ الإقرار أن الأمر يتعدى التوصيف الرسمي لعقود على أنها مجرد أحداث، حيث تم الاصطلاح عليها بأنها «حرب الجزائر»، بل إنهم اكتفوا بوصف الحرب بالاصطلاح عليها على أنها «عمليات لحفظ الأمن وإنفاذ القانون في الجزائر 1954 – 1962»‏[26]، في رفض تام في شأن توصيف ما حدث أنه ثورة تحريرية وإرادة شعب في التحرر من الاستعمار.

إن الجزائر التي استعادت سيادتها سنة 1962، وجدت نفسها منخرطة في بناء الدولة والاقتصاد وتحقيق متطلبات الزيادة السكانية المتصاعدة، وبذلك فإنها لم تثر على نحوٍ حازم قضية تجريم الاستعمار الفرنسي لها، على مدار 132 سنة، ولم يشهد خطابها الرسمي محاولات جادة في ذلك تتصل بالملاحقة القانونية والاحتكام إلى المؤسسات القضائية الدولية، كما لم تشهد تشريعاتها الداخلية إلقاء الضوء على المرحلة الاستعمارية، إلا أن تشنج العلاقات الثنائية بين البلدين ظل دوماً يثير مسألة الفترة الاستعمارية بين التمجيد والتجريم، وبخاصة في ظل صعود اليمين المعادي للجزائريين بزعامة رئيس الجبهة الوطنية الذي طالما رأى في الجزائر مجالاً جيوسياسياً وأرضاً وشعباً وثروات ونفوذاً، وعنصر سيادة وعظمة لفرنسا.

قبل أن يؤسس جان ماري لوبان حزبه (الجبهة الوطنية) كان في بداية الستينيات قد أسس «الجبهة الوطنية من أجل الجزائر فرنسية»‏[27]، وهي فرع لـ «جبهة الجزائر الفرنسية» التي أُسِّست في 16 حزيران/يونيو 1960 من طرف الباشا آغا سعيد بو علام (1906 – 1982)، بعدد أعضاء لتلك الحركة في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1960 وصل إلى مليون منتسب، كان من بينهم 40 بالمئة من الجزائريين، وبعد هروبه إلى فرنسا تزعَّم ما سميّ «الجبهة الوطنية للمرحّلين الفرنسيين للطائفة المسلمة»، ليتم تعيينه بعد ذلك في اللجنة الوطنية المكلفة دراسة مشاكل «الفرنسيين المسلمين» عام 1979. ومع مرور الوقت صار سعيد بوعلام رمزاً لقضية الحركى ومدافعاً بشدة عن خدماتهم لفرنسا التي ظل يؤمن بانتمائه إليها إلى غاية وفاته، ولعلّ من أشهر إسهاماته الفكرية ما جاء في كتابه بلدي فرنسا! (Mon pays la France)‏[28]، الذي دافع فيه بشدة عما يعتقده ولاء الجزائريين للبلد الذي استعمرهم، وتقديراً لخدماته ومساعدته للاستعمار الفرنسي فقد أطلقت الحكومات الفرنسية المتعاقبة على مدار السنوات السابقة اسمه على 22 مرفقاً ومكاناً في فرنسا، ومنها مقار رسمية وشوارع وحدائق عامة‏[29].

تتقاطع المعلومات المتصلة بتعظيم فئة من المجتمع الجزائري لحقبة الاستعمار، مع حقيقة أن فرنسا استطاعت أن تصمد لمدة سنوات بفعل قدرتها على كسب جزء كبير من الشعب الجزائري. ولعله من المفيد في هذا الشأن الاستناد إلى شهادة المجاهد لخضر بورقعة في معرض حديثه عن تجنيد فرنسا الاستعمارية آلاف الجزائريين في حربها ضد جيش التحرير الجزائري، حيث يقول:

«ما كان متواتراً لدينا أنهم في حدود 250 ألف فرد، لكن عمليّاً أظن أن الرقم أكبر كثيراً، لكن حتى لو اقتصرنا على رقم 250 ألف مهيكل في الجيش الفرنسي، فلا يمكن أن ننسى أن كل واحد منهم له تأثير في 4 إلى 5 أفراد من عائلته، وبالتالي هم في المجموع يتجاوزون مليون جزائري»‏[30].

ظلت فرنسا الرسمية من مسؤولين مدنيين وعسكريين، تسمح بترويج الطرح القائل إنّه كان بالإمكان الحفاظ على انتماء الجزائر إلى فرنسا، وإنّ الشعب الجزائري إنّما تم جره للمواجهة مع القوات الفرنسية، ولا يجد عدد من القادة العسكريين الفرنسيين حرجاً في الدفاع عن أداء الجيش الفرنسي، وتمجيد فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر، حيث قال الجنرال بول أوساريس (1918 – 2013) في معرض سؤاله عن قبوله مقاتلة الذين كانوا يناضلون من أجل تحرير بلادهم في الجزائر: «مع أني أتفهم قيام حركة تحرير في الجزائر، فإني على يقين من أن ذلك من عمل أقلية من غير أصدقائنا»‏[31].

كان هذا القول صادراً عن أحد أعمدة السلطة الفرنسية أثنـاء الثورة التحريرية، الذي مارس صنوف التعذيب والقمع التي كانت رمزاً للحقبة الاستعمارية، وما حملته هذه الأخيرة من معاناة وألم أصاب الجزائريين في كفاحهم من أجل تحرير بلادهم. وقوله هذا يكشف صراحة عن الاعتقاد بعمق ارتباط فئات عريضة من المجتمع الجزائري بالإدارة الفرنسية، سواء من خلال الامتيازات التي حازوها، أو من خلال عمق الطروحات الإدماجية التي استهدفت الجزائريين عبر قطاع التعليم، وهيئات الإدارة، وجعلت منهم من يوصفون في التداول العام والموروث الشعبي الجزائري والتناول الرسمي الفرنسي بالحركى، وقد اعتمدت فرنسا رسمياً قضية الحركى كورقة ضغط تشهرها بين الحين والآخر، واحتضنت مطالبهم جنباً إلى جانب مع مطالب الأقدام السود.

بمجيء الرئيس بوتفليقة إلى الحكم كان هناك سعي لبناء شراكة جيدة بين البلدين، وضمن هذا السياق اتجهت الخارجية الفرنسية إلى إرساء منظور جديد للعلاقات الثنائية بين البلدين، يتجه إلى طي الماضي، وساد الاعتقاد بتجذر الميل إلى الإقرار بأن فرنسا الاستعمارية أضرَّت بصورة فرنسا الحضارية، وخصوصاً مع تصريح الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك – الذي تم أخذه في معرض تبرير رغبة فرنسا استيعاب المطالب المتزايدة بالاعتذار – «كل الدول تكبر حين تعترف بمآسيها وأخطائها» ‏[32]؛ والواقع أن مقولته تلك خصّ بها ما عرف بمجازر الأرمن إبان الحرب العالمية الأولى بين عامي 1915 و1917، والمتهمة بالمسؤولية عنها الدولة العثمانية التي ورثتها تركيا الحديثة.

في تجاوز كبير لمأساة الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وابتزاز الأتراك حول جرائم الإبادة الجماعية من دون الإسقاط على حقبة الاستعمار الفرنسي في الجزائر، حرص نيكولا ساركوزي منذ مجيئه إلى السلطة على الدفع بقوة لإثارة ما يعتبره مأساة الأرمن، وتعرضهم لمحاولات الإبادة من قبل الأتراك. وكان باتريك أولييه الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان قد دافع عن قانون تجريم إنكار إبادة الأرمن، قائـلاً إنّ من ينسى ماضيه سيعيشه مرة ثانية، مشيراً إلى أنه لا يمكن أن نفرق بين قانون إبادة اليهود وقانون إبادة الأرمن‏[33].

إن هذه الازدواجية تعبر عن سياسة براغماتية ضمن استراتيجية انتخابية لربح أصوات الأرمن – زهاء 500 ألف شخص في فرنسا – وكسبهم في دعم سياسته المناوئة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بإثارة مشاعر الرفض المقترنة بما يوصف بجريمة الإبادة، بينما يمتنع الرئيس الفرنسي نفسه عن الاعتراف بجرائم بلاده الاستعمارية ضد الجزائريين بين عامي 1830 و1962، ويبرر ذلك بأن «الأبناء لا يعتذرون عما فعله الأب»‏[34].

تعززت ازدواجية الخطاب الفرنسي تجاه الجزائر، بحالة من غموض التوجه المتصالح مع الماضي الاستعماري، الذي أمل الجزائريون من ورائه كسب الاعتذار الفرنسي كأقل المكاسب المرجوة، إلا أن صدور قانون 158 – 2005 في 23 شباط/فبراير 2005 شكل ضربة في صميم تلك التطلعات نحو تحسين العلاقات الثنائية. وهذا القانون أصدرته الأغلبية المحافظة في البرلمان الفرنسي الممثلة لحزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» لنشر ما تراه القيم الإيجابية التي حملها الاستعمار الفرنسي؛ وبخاصة في المستعمرات الفرنسية في شمال أفريقيا، وفرض على المدارس الثانوية الفرنسية ضرورة تدريس تلك القيم والمعاني الإيجابية للطلاب‏[35]، وكرد آلي على ذلك رفض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة توقيع «معاهدة الصداقة» مع فرنسا بسبب هذا القانون موضحاً أن القانون يرمي لتزييف الحقائق التاريخية وإنكار الجرائم الشنعاء للمستعمر الفرنسي في القرن الماضي.

استمر توجه الحزب الحاكم في فرنسا في مسار الضغط على الطرف الجزائري، بتوظيف الإرث التاريخي المشترك، حيث إنه في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2010 كان الموعد الرسمي لإعلان ميلاد مؤسسة ذاكرة حروب التحرير في الجزائر والمغرب وتونس، وهي المؤسسة التي نص عليها قانون 158 – 2005 الصادر في 23 شباط/فبراير 2005، في مادته الثالثة الخاص بتمجيد الاستعمار وذكر فضائله على الشعوب والبلدان التي خضعت له‏[36]، وكرد فعل على تلك الخطوة الجريئة من الجانب الفرنسي، قرر بعض الأحزاب والناشطين الجزائريين الرد بشدة، وقد تجسدت الفكرة من خلال مشروع قانون تقدم به نواب في حزب جبهة التحرير الوطني وبعض الأحزاب الأخرى، ينص في جوهره على تجريم الاستعمار، والسعي لمطالبة الفرنسيين بتعويض الجزائريين على ما وصف بجرائم فظيعة ارتكبها الفرنسيون ضد المدنيين، على مدى أزيد من قرن من وجود قوات الاحتلال الفرنسي على الأراضي الجزائرية‏[37]، ولم تكن تنقص مشروع قانون تجريم الاستعمار الجزائري أي شرعية، فقد أعده النواب وقدموه إلى رئيس مجلس الشعب عبد العزيز زياري وفق ما تنص عليه صلاحياتهم الدستورية.

استفز هذا التحرك الجانب الفرنسي، حيث استنكرت فرنسا هذا الإجراء، بالرغم من أنه حق سيادي للدولة الجزائرية، وقال وزير الهجرة والهوية الوطنية إريك بيسون «أنا اشعر بالأسف لهذا الاقتراح»، مشدداً من جديد على أن الأمر يتعلق بـ «مسألة حساسة»، وأنه «لا تزال إلى اليوم جروح وآثار»، داعياً في هذا الإطار إلى تجاوز الماضي وعدم نسيانه حيث أردف بالقول «يجب علينا ألا ننسى فترة الاستعمار وما بعد الاستعمار»، إلا أنه يجب «تجاوز» هذه المسألة ‏[38].

في الجزائر ومنذ البداية؛ خرج رئيس الحكومة – الوزير الأول بالتعبير الرسمي الجديد – أحمد أويحيى ليقول إن اقتراح النواب لمشروع القانون لا يعدو أن يكون مزايدة سياسية، وهي أول رسالة إلى فرنسا وإلى النواب؛ في أنه لا مكان لمثل هذا القانون، ومع إصرار بعض النواب على فرض مشروعهم على الحكومة لدراسته في مجلس الوزراء ثم إعادته إلى البرلمان للمصادقة عليه، أبدت الحكومة نوعاً من التراخي والليونة حتى مرور الأجل القانوني الذي يمنحه الدستور للحكومة للرد على النواب، وقد جاء الرد الحاسم والنهائي للنواب على لسان رئيس الغرفة السفلى عبد العزيز زياري، الذي أكد أن هناك مقترحات وردت في مشروع القانون – بحسب تعبيره – تم رفضها، ولن تُقبل لا اليوم ولا غداً، بسبب سياقاتها غير المناسبة وتصادمها مع صلاحيات رئيس الجمهورية الذي يحدد السياسة الخارجية، كما أن الاعتبارات الدبلوماسية والقضائية وعلاقات الدولة ومصالحها تتعارض مع طرحها‏[39].

مضت فرنسا في تطبيق نصوص قانون تمجيد الاستعمار من دون أن تبالي بالسخط الشعبي الجزائري. وفي هذا الإطار حثّ وزير الخارجية الفرنسي الأسبق برنار كوشنير، في المقابل، الجزائريين على التوجه إلى المستقبل، حتى لا يبقوا حبيسي التاريخ والماضي وعقده، وقال بصريح العبارة «إن العلاقات الجزائرية الفرنسية لن تعود سوية وطبيعية، ما لم يرحل جيل الثورة من الحكم في الجزائر»‏[40].

ضمن التوجه نفسه أكدت وزيرة العدل الفرنسية ميشيل آليو ماري – بمناسبة زيارة عمل للجزائر – ذلك في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2010، ورأت أن العلاقات الثنائية التي تربط فرنسا والجزائر أشبه بعلاقة زوج وزوجة تعارفا منذ زمن طويل، بحيث لم يعد بإمكان أي طرف الاستغناء عن الآخر، مهما تأرجحت العلاقات بينهما‏[41].

في 20 شباط/فبراير 2012؛ صادق البرلمان الفرنسي بالإجماع على مشروع قانون قدمه حزب الرئيس نيكولا ساركوزي، ينص على معاقبة القذف أو التشهير بالمقاتلين الجزائريين إلى جانب فرنسا إبان الثورة التحريرية (الحركى)‏[42]، وقد صوتت جميع الكتل لمصلحة المشروع، باستثناء جبهة اليسار الذي لم يشارك في هذا التصويت. أتت هذه الخطوة من البرلمان الفرنسي بعد يومين من تصريحات الوزير الأول أحمد أويحيى التي أطلقها من وهران خلال الاحتفال بالذكرى 15 لتأسيس حزبه حول الموضوع نفسه، حيث قال إن «قانون تكريم الحركى مجرد محاولة من فرنسا لخلق استعمار حضاري، لا يمكنه أن يمحو حجم الهمجية التي خلفت الملايين من الضحايا الجزائريين» مضيفاً بقوله «لنا شهداؤنا ولكم خونتكم» ‏[43].

يمكن القول والجزائر تطوي أكثر من نصف قرن من استقلالها، إن السجال سيستمر في شأن بنية الارتباط في العلاقات الجزائرية – الفرنسية، بالاعتماد على ملفات الماضي، وممارسة قدر كبير من الابتزاز في ذلك، وللأسف فإن الجزائر تجد نفسها الطرف الأضعف في هذه الثنائية على الأقل في الوقت الراهن.

خاتمة

تتيح دراسة تأثير الميراث الاستعماري على بناء العلاقات الجزائرية – الفرنسية إمكان الوصول إلى جملة من الحقائق، المتصلة بخلفية التكوين لجزء مهم من أعضاء الوحدة القرارية في الجزائر وما يتصل بالعلاقات الثنائية من البلدين، وهو تكوين لا ينفصل عن الخلفية الفرنكوفونية، وتأصل الاعتقاد بتطابق المصالح الجزائرية والفرنسية، وفي ظل نظام سياسي مغلق ينتهج أساليب الولاء، ويعاني عقدة الشرعية على نحو عميق، فإنه من السهل جداً على الطرف الفرنسي ممارسة نفوذ قوي عليه، وتكريس النظرة التي طالما شرحت نمط العلاقات بين الجانبين، في حقيقة أنه لا يمكن فهم توجهات السياسة الداخلية والخارجية الجزائرية بمعزل عن السياسة العامة الفرنسية، ودون الإلمام بشبكة العلاقات التي ظلت تتعقد بين الساسة الفرنسيين ونظرائهم الجزائريين، وهي الشبكة التي امتزجت بنفوذ جماعات المصالح المالية والعسكرية.

إن ضعف الأداء المقترن بوحدات صنع القرار الجزائري، الخارجي بخاصة، يعكس عجزاً متزايداً عن مسايرة الأحداث الإقليمية والدولية، وهو العجز الذي لا يمكن أن ينتهي إلا بإحداث تغيير جذري في أساسيات التكوين والتعيين، وفي الفكر الاستراتيجي للنخبة الحاكمة في الجزائر.

 

قد يهمكم أيضاً  المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الجزائر: إشكالية الدور

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #استقلال_الجزائر_1962 #العلاقات_الجزائرية_الفرنسية #الميراث_الاستعماري #الاحتلال_الفرنسي_للجزاشر #الاستعمار_الفرنسي_للجزائر #السياسة_الجزائرية #الدور_الفرنسي_في_السياسة_الجزائرية #الاستقلال_الجزائري #النخبة_الحاكمة_في_الجزائر #استقلال_الجزائر#الجزائر