ملخص

مع قيام الدولة العراقية في 23 آب/أغسطس 1921، تصاعدت المطالب، لتأسيس الأحزاب، فتم إصدار القانون في 2 تموز/يوليو 1922، وكانت العلاقة مع بريطانيا، والارتقاء بالبلاد، في مقدمة أولوياتها، ما يستوجب دراسة نشاط الأحزاب للمدة (1930-1935)، التي ضمت النخب المثقفة، وتوزعت إلى أحزاب السلطة والمعارضة، التي تبنت مواقف مختلفة تجاه موضوع الاستقلال، ومع دخول العراق عصبة الأمم، في 3 تشرين الأول/أكتوبر 1932، مارست النشاط التقليدي.

مقدمة

شهد العراق خلال قيام الحكم الوطني بتنصيب الأمير فيصل بن الحسين (20 أيار/مايو 1883 – 8 أيلول/سبتمبر 1933) في 23 آب/أغسطس 1921، ملكًا على العراق، نمطًا ملموسًا من الحراك الوطني، الذي يتبنى في المقام الأول الدعوة إلى إرساء قواعد الديمقراطية والحكم النيابي الرشيد. ومعلوم أن الأحزاب السياسية تعَدّ الركيزة الأولى لذلك، فتصاعدت المطالبات الشعبية بذلك من الطبقة السياسية الفاعلة قبل عام 1918، ثم ما بعدها في إثر الاحتلال البريطاني، الذي أتاح نوعًا من الحرية النسبية للنشاط السياسي مقارنة بالحكم العثماني. لذا استجابت السلطة لتلك المطالبات، وفي 2 تموز/يوليو 1922، صدر قانون الأحزاب السياسية الذي نظم العمل الحزبي في البلاد، في حين لم يختلف عن سابقه المطبق في العهد العثماني، وبخاصة من حيث منحه وزارة الداخلية، بوصفها الجهة المسؤولة عن إعطاء التراخيص، صلاحيات رسمية مطلقة في التعامل مع الموضوع، وهكذا بدأت المرحلة الأولى من الحياة الحزبية في العراق (آب/أغسطس 1922 –  نيسان/أبريل 1935)، حيث سعى البحث إلى دراسة الأفكار السياسية لهذه الأحزاب المرخصة خلال المدة (1930 – 1935).

تطرق المبحث الأول إلى بدايات النشاط الحزبي في العراق (1918 – 1922)، الذي كان يعدّ التمهيد التاريخي للبحث العلمي. فالنخبة السياسية العراقية، كانت نشطة جدًا خلال العقد الأخير من الحكم العثماني (1908 – 1918)، ثم عهدي الاحتلال والانتداب (1918 – 1932)، وبخاصة في ما يتعلق بتنظيم العلاقة مع المحتل البريطاني، وشكل نظام الحكم، واختيار المرشح لعرش العراق؛ لذا شهدت المدة (1918 – 1921)، سجالًا سياسيًا واسع النطاق امتد ليشمل جميع شرائح النًخب العراقية وعلى امتداد مساحة الوطن، ذلك الذي تُوج باختيار فيصل بن الحسين ملكًا، ثم إقرار قانون الأحزاب السياسية في 2 تموز/يوليو 1922، كمقدمة للنشاط الحزبي في البلاد.

درس المبحث الثاني معالم التجربة الحزبية في العراق الملكي، وهي تُعد تجربة متقدمة إذا ما قورنت ببلدان المحيط الإقليمي، بالرغم من أنها لم تتجاوز ثنائية السلطة والمعارضة، أي بمعنى وجود نوعين أساسيين من الأحزاب، في حين كان لأحزاب السلطة حضورها الطاغي سواء من حيث العدد أو التأثير السياسي، وهو ما يمكن تحديده بدءًا من تأسيس الحزب الحر العراقي (3 أيلول/سبتمبر 1922).

تناول المبحث الثالث الأحزاب السياسية في العراق (1930 – 1935)، وهي مرحلة تاريخية حافلة بالأحداث السياسية، سواء على الصعيد الداخلي، أو الخارجي، حيث شهدت توقيع معاهدة 30 حزيران/يونيو 1930 مع بريطانيا، التي سمحت بحصول العراق على الاستقلال، ودخوله إلى عصبة الأمم في 3 تشرين الأول/أكتوبر 1932، كأول بلد عربي يحصل على ذلك، وهو ما يُعدّ إنجازًا للنخبة السياسية. ظهرت في أثناء تلك المدة ثلاثة أحزاب سياسية، عُني المبحث بدراستها، وتسليط الضوء على ظروف تأسيسها ونشاط زعمائها، ثم -  وهو المهم – أفكارها السياسية عبر برامجها المعلنة.

أولًا: بدايات النشاط الحزبي
في العراق (1918 – 1922)

مع سقوط الدولة العباسية عام 1258، تعاقب الغزاة على حكم العراق، فسيطر عليه المغول (1258 – 1534)، ومن ثم العثمانيون (1534 – 1918)[2]، حتى دخول البريطانيين إبان الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918). وقد أثر كل حكم، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في وضع العراق السياسي والاقتصادي والاجتماعي وخلق حالة من عدم الاستقرار. وإذا كان من أبرز مساوئ الحكم العثماني سوء الإدارة وفساد السلطة، فإن استغلال المحتلين الجدد وتحصيل الضرائب الفادحة، كان أسوأ مما كان عليه حكم العثمانيين وهذا ما ولد شعورًا ووعيًا بضرورة النضال لرفع الظلم فجاءت ثورة العشرين، التي كانت نتاجًا لنضال طويل خاضه الشعب العراقي ضد الاستعمار الأجنبي من أجل الاستقلال والاعتراف بحق تقرير المصير.

إن ثورة العشرين، بالرغم من إخفاقها عسكريًا نتيجة التفوق الساحق للمحتل بما يمتلكه من أسلحة وخبرات عسكرية، إضافة إلى عوامل الوهن في الحركة الوطنية العراقية، كانت قد نجحت سياسيًا، لإيقاظها الشعب بمختلف طبقاته والصُعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي دفع البريطانيين إلى إعطاء العراق الحكم الوطني في 23 آب/أغسطس 1921 [3].

فالحركة الوطنية في العراق، منذ بدأت تحركها في مقاومة الاحتلال البريطاني عقب الحرب العالمية الأولى، طالبت بالاستقلال التام وحق تقرير المصير، كما اختارت النظام الديمقراطي أسلوبًا للحكم في العراق الذي كانت تريد أن تقيمه، حيث عبّرت عن ذلك في الاستفتاء الذي أجراه أرنولد ولسون  (Arnold Wilson)(1884 – 1940) الحاكم الملكي العام بالنيابة خلال المدة 1918 – 1919. كما تكرر ذلك في مضابط بعض المدن الرئيسية مثل بغداد والنجف وكربلاء والكاظمية، وفي مضابط البيعة للأمير فيصل ملكًا على العراق[4]، فتشترط أن تكون الحكومة ذات صيغة دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بالقانون، بما يحقق لنظام الحكم المقترح مفاهيم الحكم الديمقراطي، وأساس ذلك مجلس منتخب لنواب الشعب، ومسؤولية الوزراء أمام مجلس النواب.

معروف أن المزايا التي تحدد معالم هذا النظام، تُظهر أنه يقوم على أساس من مجلس للنواب منتخب من الشعب تنبثق من هذا المجلس وزارة، تكون مسؤولة أمام مجلس النواب، فالشرطان اللذان يتأسس عليهما هذا النظام إذًا هما الوزارة ومجلس النواب، لكن ما يُمكن هاتين المؤسستين من أداء مهامهما بالصيغة المثلى، هو الأحزاب السياسية، لذلك فلا يمكن تصور نظام ديمقراطي من غير أحزاب سياسية، لأنها تمثل مصالح الطبقات التي يتكون منها المجتمع، فكل طبقة في مجتمع طبقي، لا بد أن تجد تعبيرها عن مصالحها من طريق حزبها. والنظام الديمقراطي هو النظام الذي يعكس مصالح المجتمع وصراع طبقاته صراعًا سلميًا، من طريق الدعوة والجدل وإقناع الناخبين لانتخاب مرشحي حزب من الأحزاب، حتى إذا تكونت أغلبية في مجلس النواب ألّف مجلس الوزراء ونفّذ منهاجه، إلى أن يبدل الناخبون حكومتهم في انتخاب قادم يمنح حزبًا آخر ثقتهم وانتخاب مرشحي ذلك الحزب لتكوين أغلبية جديدة تتولى الحكم، ضمن مفهوم التداول الديمقراطي للسلطة[5].

يمكن تتبّع ملامح هذا الوعي السياسي، إبان تنصيب الأمير فيصل ملكًا على العراق، فبتاريخ 11 تموز/يوليو 1921 قرر مجلس الوزراء في الحكومة العراقية المؤقتة (25 تشرين الأول/أكتوبر 1920 – 23 آب/أغسطس 1921) برئاسة عبد الرحمن النقيب (1841 – 1927)، تبنّي الدعوة إلى «المناداة بسمو الأمير فيصل ملكًا على العراق بشرط أن تكون حكومة سموّه حكومة دستورية نيابية ديمقراطية مقيدة بقانون»، كما دوّن المجتمعون في المضابط  الشعبية التي تم رفعها شروطهم للمبايعة، فظهرت مضابط في بغداد والأعظمية وبعض مناطق الموصل، وفيها إضافة بالصيغة التالية:

«اجتمعنا وصوتنا بإجماع الرأي على تتويج سمو الأمير فيصل ملكًا على القطر العراقي بحدوده الطبيعية على أن تكون ملكًا يرأس حكومة دستورية نيابية ديمقراطية حرة مستقلة مجردة من كل قيد، منقطعة عن سلطة الغير، وأن أول عمل يقوم به تشكيل وجمع المؤتمر العام الذي يسن القوانين والدستور في مدة ثلاثة أشهر من تسلم زمام الأمور»[6].

تعود أسباب هذا الوعي السياسي في المقام الأول، إلى الدور الكبير الذي قام به العراقيون في الجمعيات السرية والعلنية التي ظهرت بالولايات العربية لمقاومة الاستبداد العثماني والحصول على الاستقلال وحق تقرير المصير، ومن أبرزها جمعيتي العهد (1918) وحرس الاستقلال (1919)، وعقب الاحتلال البريطاني العراق استأنفت الجمعيات السرية نشاطها العلني مستفيدة من استياء الرأي العام وسخطه ضد إجراءات السلطات التعسفية[7]، ومع تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة شعر الوطنيون بضرورة تنظيم وتأليف الأحزاب السياسية لتحقيق استقلال العراق الناجز. وقد ازدادت المطالبة بتأليف الأحزاب السياسية عقب تتويج فيصل الأول، الذي كان يدرك بجلاء ضرورة وجود معارضة وطنية يستطيع بمساعدتها أن يضغط على بريطانيا، ليحصل منها على المطالب الوطنية[8].

وبقيام العهد الجديد كما بدا للكثيرين، فكر المعنيون بالسياسة من حزبيين سابقين وغيرهم بضرورة تكوين أحزاب سياسية تعبر عن إرادة الأمة على نحو أوسع من السابق وأكثر تنظيمًا، تتوجه نحو العمل لتحقيق الأهداف الرامية إلى الوحدة الوطنية والاستقلال التام.

لذا تقدمت جماعة من الكاظمية، ببغداد في أوائل شهر آب/أغسطس 1921، بطلب إنشاء حزب سياسي باسم «حزب النهضة»، إلى المندوب السامي برسي كوكس (Percy Cox) (1864 – 1937)، إلا أن دار الاعتماد، كان رأيها واضحًا بتأجيل الحياة الحزبية، فبعث المندوب السامي مذكرة بهذا الخصوص إلى مجلس الوزراء، الذي اجتمع بدوره في 11 آب/أغسطس 1921 وقر رأيه بتأجيل قيام الأحزاب إلى ما بعد صدور قانون خاص ينظمها.

وأيًا كن الرأي، فلا يمكن تجاهل استمرارية الرغبة في العمل السياسي بعد قيام الحكم الوطني، والمشاركة في الحياة السياسية، لتحقيق استقلال العراق ووحدته عند الكثيرين ممن كان لهم دور مهم في الحركة الوطنية قبل تأسيس الدولة العراقية، كما لم تمنع معارضة دار الاعتماد من قيام الأحزاب، فكان أن نشأ الحزب الوطني العراقي بزعامة محمد جعفر أبو التمن (1881 – 1945)، وجمعية النهضة العراقية بزعامة محمد أمين الجرفجي، بصورة سرية أول الأمر، وهو ما أرغم وزارة عبد الرحمن النقيب الثانية (12 أيلول/سبتمبر 1921 – 19 آب/أغسطس 1922)، على أن تسن قانون تأليف الجمعيات الذي ينظم تأسيس الأحزاب. ومع أن هذا القانون قد جاء بصيغة حافلة بالكثير من المحددات، فإن دعاة الأحزاب لم يتأخروا في تقديم طلباتهم إلى وزارة الداخلية. وبصدور قانون الأحزاب في 2 تموز/يوليو 1922، بدأت الحياة الحزبية في العراق بصورة رسمية[9].

يمكن تقسيم الأحزاب التي تأسست خلال مدة الحكم الوطني إلى نوعين:

الأول، يوصف بأنه حزب ذو توجه معتدل، ويسند دائمًا الحكومة التي تقوم بمفاوضات مع بريطانيا[10] ، للحصول على أكبر ما يمكن من المطالب الوطنية.

الثاني، يوصف بأنه «متطرف»، وغايته معارضة الحكومة، وانتقاد المعاهدات التي يُراد عقدها مع بريطانيا، وهدفه الحصول على الاستقلال التام، ولتسهيل الدراسة يمكن تقسيم الأحزاب السياسية إلى ثلاث مجموعات هي:

الأحزاب السياسية التي أجيزت قبل بدء الحياة النيابية[11]؛

الأحزاب السياسية التي ارتبط ظهورها بقضية الموصل؛

الأحزاب البرلمانية التي ظهرت مع بدء الحياة النيابية[12].

ثانيًا: معالم التجربة الحزبية
في العراق الملكي

لما كان النظام الديمقراطي أمرًا أكبر من أن يحققه فرد، كان لا بد، منذ البداية، من التجمع السياسي، الأمر الذي يفسر لنا ارتباط نمو الديمقراطية الغربية بنشأة التجربة الحزبية، وقد أصبح نظام تعدد الأحزاب في الغرب «قاعدة أساسية للديمقراطية البرلمانية»، حتى قيل أن «لا ديمقراطية مطلقًا بغير أحزاب»، كما قيل أيضًا «أن من الوهم أو النفاق الادعاء بإمكان وجود الديمقراطية دون الأحزاب وذلك بسبب وذلك وجيه هو أن الفرد منفردًا، لا تكون له إمكانية لتكوين الإرادة العامة، أو توجيه الرأي العام»، ولا ريب أن الديمقراطية هي دولة الأحزاب[13].

وفي الديمقراطيات الغربية التي اقتبس منها واضعو القانون الأساسي في عام 1925 مبادئه الرئيسية، وبعض المؤسسات التي تقررت وفي مقدمتها مجلس النواب على أساس الانتخابات من قبل الشعب، في تلك الديمقراطيات مؤسسات تقوم على الحياة البرلمانية والحياة السياسية بوجه عام، ومن أهم تلك المؤسسات الأحزاب السياسية. نشأت تلك الأحزاب وتطورت معبرة عن مصالح اقتصادية واجتماعية وسياسية معينة، لها مناهج وخطط محددة، ولكل منها قاعدة شعبية كبيرة أو صغيرة. ويقوم التنافس في الانتخابات النيابية في تلك البلاد بين الأحزاب وعلى أسس من مبادئها ومناهجها وخططها سواء في السياسات العامة أو في الأحداث والمسائل والأزمات الطارئة[14].

إن هيمنة الوزارات المتعاقبة في العراق على النظام السياسي كان حصيلة عامل آخر هو غياب منظمات سياسية فعّالة كالأحزاب التي لو مارست دورها، لكان باستطاعتها التعويض أو تقديم الدعم  لمجلس النواب. ربما تتمتع الأحزاب في بعض الدول بمكانة من القوة تستطيع فيه الضغط لتحقيق بعض مطالبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية أو محاسبة رجال الحكم عن تصرفاتهم، أما في العراق الملكي فلم تتمكن من ممارسة الدور المذكور، باستثناء بعض الفاعلية التي أبدتها في مراحل تاريخية أخرى متقدمة. إلا أن تلك الفاعلية كانت ذا تأثير محدد وفي حالات استثنائية، ولم يبلغ مدى التأثير طويل الأجل على مقررات السلطة التنفيذية، أو إحداث تغيير جوهري في سياسات أو علاقات النظام.

شهدت تلك المدة الكثير من الأحزاب السياسية التي تباينت في أهدافها، وهوية مؤسسيها وزعمائها، والقواعد التنظيمية التي ارتكزت عليها، لكن ومنذ السنين الأولى لتأسيس الدولة العراقية آخذت أحزاب النخبة الحاكمة النصيب الأوفر على الصعيد السياسي، بدءًا من حزب التقدم (22 آب/أغسطس 1925) بزعامة رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون (1889 – 1929) لدعم وزارته الثانية (26 حزيران/يونيو 1925 – 1 تشرين الثاني/نوفمبر 1926) في مجلس النواب، في حين تميزت هذه الأحزاب بعدم الاستقرار وقِصر حياتها نتيجة لضعف هياكلها وأهدافها، إذ اعتمدت أهدافًا محدودة وقصيرة المدى، كإنهاء الانتداب البريطاني والحصول على الاستقلال الكامل أو تجديد وتعديل المعاهدة العراقية البريطانية لعام 1927. بعبارة أخرى، لم تمتلك تلك الأحزاب فلسفة متكاملة تتعامل مع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إن افتقار هذه الأحزاب لمنطلقات نظرية وفكرية لم تكن الصفة الوحيدة التي ميزتها بل كان هناك أيضًا هيمنة الجانب الشخصي على تركيبها ونشاطها، مع سعي زعماء السياسة العراقية إلى بناء تأييد لهم وبخاصة أثناء وجودهم في الحكم وذلك بإنشاء الأحزاب؛ إذ ظهر بعضها على الساحة السياسية حين استلام قادتها مناصب وزارية أو حين ترؤسهم الوزارة أو الهيمنة عليها بواسطة حلفائهم. كان بقاء هذه الأحزاب مرتبطًا باستمرار المركز أو النفوذ السياسي لمؤسسيها كما كان قوامها رعاية وحماية مصالح شخصية وليس اعتناق مبادئ عقائدية. يقول المؤرخ عبد الرزاق الحسني «بأن الجمهور فقد إيمانه بتلك الأحزاب لأن المصالح الشخصية كان محور وجودها واستمرارها». وهكذا عوضًا من الاعتماد على قواعد شعبية واسعة فإن أحزاب النخبة اعتمدت بهياكلها ونشاطاتها على موظفين من الدرجات الوسطى والعليا وعدد من شيوخ العشائر في مجلس النواب.

رست العضوية الحزبية  –  كما يتبين  –  على أسس المصلحة الذاتية، كالحصول على مكاسب اقتصادية وسياسية وإدارية، ولذا لم يكن للعضوية قيمة مجردة، أي أنها لم يكن لها شأن قبل الحصول عليها، وإنما بعد ذلك لما يترتب على اكتسابها من امتيازات خاصة، ومن ناحية أخرى، حيث إن الولاء والانتماء للحزب تأثر بمدى ما تمتع به مؤسس الحزب من نفوذ سياسي، فلم يكن من غير المعتاد أن يتأثر حجم الانتماء والانحسار أو النجاح السياسي للزعماء المعنيين بذلك، فالأشخاص انتموا لأحزاب النخبة أو تركوها وفقًا لمصالحهم الشخصية المتأثرة بالتغييرات الحاصلة على نطاق الوزارة[15].

شهد العراق خلال تلك المرحلة نشاطًا سياسيًا واسعًا تمثل بإجازة الأحزاب السياسية المتعددة[16]، التي ركزت في مناهجها على مقاومة الانتداب للوصول إلى الاستقلال التام. ويؤخذ على مناهج هذه الأحزاب خلوها من البُعد القومي، الذي ربما يرجع إلى خشية تلك الأحزاب من سلطات الانتداب. ولأن الهدف الآني الذي كان مطروحًا أمام الحركة الوطنية هو التخلص أولًا من الانتداب، في حين تبنت من خلال وسائطها الإعلامية، الدعوة إلى الوحدة العربية، عبر طرح برامج محددة بهذا الخصوص، إذ اتفقت في مواقفها الداعية إلى إظهار قوة المشاعر القومية، وانتقاد مواقف الحكومات العربية السلبية تجاه مسالة الوحدة. كما كان لها نشاط ملحوظ لتوجيه الحكومات المتعاقبة وعامة الناس للنهوض الوطني والقومي من خلال سعي تلك الأحزاب للتشديد على بناء الوحدة السياسية والاقتصادية وفق صيغ محددة، منادين بذلك من خلال مناقشاتهم في مؤتمراتهم الحزبية والشعبية، ثم الوقوف بتمعن على تجربة الأمم الأوروبية وغيرها في تحديث الدولة دون الاستئثار بالسلطة[17].

يلاحظ على الأحزاب السياسية في تلك المرحلة من تاريخ العراق المعاصر، عمومًا بأنها كانت متشابهة في أهدافها إلى حد كبير، فقد أكدت ضرورة تحقيق الاستقلال التام للعراق والتحرر من الانتداب ودخوله عصبة الأمم. ولم تولِ هذه الأحزاب، رغم اشتغال الكثير من رجالاتها في الجمعيات العربية القومية، القضايا القومية  –  وبخاصة الوحدة العربية  –  شيئًا يُذكر، فكانت أحزابًا قطرية أو إقليمية، ولم تتطرق إلى مناهج الأحزاب لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية، رغم دعوات معظمها إلى الاهتمام بالزراعة وتوسيع رقعة الأرض المزروعة.

ويمكن القول أيضًا إن معظم تلك الأحزاب كان قائمًا على العلاقات الشخصية بين الأعضاء، ومناهجها أشبه ما يكون بمناهج الوزارات التقليدية، وعملها ونشاطها قاصران في الأغلب على المجالس النيابية، وأهدافها الرئيسية لا تتعدى الوصول إلى الحكم أو البقاء فيه، وكانت تتداعى بسرعة من جراء ضغوط السلطة أو ظهور الخلافات بين أعضائها أو انحياز بعضهم إلى جانب الحكومة، ولم يكن لها قواعد جماهيرية واسعة وإنما تعمل بنفوذ قادتها وسمعتهم وكانت تحصل على التأييد الجماهيري عندما تدافع عن مصالح البلاد وتعبر عمّا يريده الشعب.

لكن على الرغم من هذه الملاحظات يمكن القول بأن الأحزاب في عهد الانتداب أدت دورًا مهمًا في تطور العراق السياسي لأنها ومن خلال برامجها ونشاطاتها المتنوعة هيأت الرأي العام للمطالبة بحقوقه، وعملت على تقوية الوعي الوطني في العراق[18].

تاريخيًا، ومن باب المقارنة وعند معاينة تجربة الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي، رغم اختلافها العميق مع المعطى الراهن، نجد أن تشكيلة الدولة العراقية في تلك المدة تنطوي على قدر من التعين الخاص التاريخي الملائم لبناء الدولة الحديثة وبمواصفات مناسبة. فهي، على الأقل، تمكنت من بناء الكيان العراقي الحديث بعيدًا من الولايات العثمانية، وأفلحت في أن تحصل على الاعتراف الدولي، وتكللت جهودها بعد ذلك بنيل العضوية في عصبة الأمم. فالمؤسسات النيابية والدستورية  –  وإن بشكلها الصوري وشيوع التأسيس التعددي  –  هي من مميزات الدولة تلك، أما العامل الذي ساعد على هذا التشكل المتنوع والنيابي، فيعود إلى طبقة القوى والأحزاب التي كونتها التركيبة السياسية، فكان في مقدمة أهدافها هو تحقيق الاستقلال، من خلال الاعتراف بتعدد القوى السياسية الفاعلة، وفسح المجال أمام أكبر عدد من الشخصيات والتجمعات السياسية في تقديم ما تملك من قدرات لبناء الدولة العراقية[19].

ثالثًا: الأحزاب السياسية
في العراق (1930 – 1935)

1 –  حزب العهد العراقي (14 تشرين الأول/أكتوبر 1930)

قررت بريطانيا والعراق التوصل إلى عقد المعاهدة المنتظرة، ووجد الملك فيصل الأول الفرصة مواتية لإسناد الوزارة إلى شخص وثيق الصلة به، رافقه في الحجاز أثناء الثورة العربية، وكان من خاصة بطانته السياسية في العراق، فعهد بتكليف الوزارة إلى نوري السعيد (1888 – 1958)[20] ، فألفها في 23 آذار/مارس 1930، وكانت أولى مهام الوزارة عقد المعاهدة الجديدة على أساس الاستقلال التام. وتمهيدًا لذلك صدرت الإرادة الملكية استنادًا إلى طلب رئيس الوزراء، بإلغاء تمديد أجل اجتماع مجلس الأمة ابتداءًا من 24 آذار/مارس 1930، فتعطل المجلس عند ذاك، ثم بدأت المفاوضات في 1 نيسان/أبريل، ولم تستغرق أكثر من شهرين، إذ جرى التوقيع على المعاهدة بتاريخ 30 حزيران/يونيو 1930، على أن تكون نافذة لدى قبول العراق عضوًا في عصبة الأمم عام 1932[21]، وتبقى مدة خمس وعشرين سنة، إلا إذا اتفق الطرفان على تعديلها[22].

إضافة إلى عقد المعاهدة، سعى رئيس الوزراء إلى حل مجلس النواب، وإجراء انتخابات جديدة، للإتيان بأغلبية نيابية تضمن تمرير المعاهدة؛ لذا لم تحصل المعارضة إلا على أقل من سدس مقاعد مجلس النواب (14 مقعدًا)، وقد منحته الانتخابات التي جرت بتاريخ 10 تموز/يوليو 1930، نفوذا كبيرًا في المجلس (74 مقعدًا)، وتضمن تقريبًا أنصاره الشخصيين، كما سعى لتأليف حزب جديد باسم حزب العهد العراقي، الذي أراد من اسمه أن يعيد إلى الأذهان نضاله ضد العثمانيين من أجل القضية العربية. تحول الحزب منذ اليوم الأول لتأسيسه إلى أداة بيده، فقد كان معظم أعضائه من أنصاره المقربين، وفي مقدمتهم النواب المؤيدون له، وأعضاء الهيئة التفتيشية في الانتخابات الأخيرة، كما إن أعضاء الحزب من النواب قد وقعوا  –  بإيعاز منه  –  تعهدات خطية عند ترشحهم للنيابة تقضي بالانضمام إلى العهد فيما بعد، إذ كان الهدف الأساسي من تأسيس الحزب هو ضمان تمرير المعاهدة في مجلس النواب، وإسناد سياسته في تلك المرحلة، وفي أول اجتماع عقده الحزب يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر 1930، أكد سياسة التعاون مع بريطانيا، مع التشديد المطلق على إبرام المعاهدة وملاحقها[23].

تألفت الهيئة المؤسسة لحزب العهد العراقي من إبراهيم الواعظ، وعبد الرزاق الرويشدي، وعبد الرزاق منير، وعبد العزيز السنوي، وصادق البصام، وجميل الراوي، وعبد الرزاق الحصان، وداود السعدي، وعبد الهادي الجلبي، وصلاح بابان. ومن جهة أخرى، أوعز نوري السعيد إلى عبد الرزاق الحصان (1895 – 1964)، قبل إجازة الحزب، بإصدار جريدة صدى العهد في 7 آب/أغسطس 1930 للرد على المعارضة ضد الوزارة والمعاهدة[24].

أطلق الحزب على منهاجه «النظام الأساسي لحزب العهد العراقي»، وهو شديد الإيجاز، حيث جاء في أربع مواد، (الأولى) باسم الحزب و(الرابعة) «أن الحزب يذيع في يوم اجتماعه السنوي منهاجًا عن المواد التي سينفذها في تلك السنة»، وننقل فيما بين المادتين الثانية والثالثة، لنتبين منهما الأفكار السياسية للحزب:

المادة الثانية: «غاية الحزب تحقيق استقلال العراق التام وإسعاده بإنماء القوى الوطنية وتنظيم أمور الإدارة والاقتصاد والمعارف والصحة والزراعة والجيش وبث روح التجدد وإصلاح الأنظمة والقوانين بروح الثقافة العصرية».

واضح من هذا النص انه ليس فيه من تحديد سوى القول بأن «غاية الحزب تحقيق استقلال التام».

أما المادة الثالثة فهي تنص على «إدامة وإنماء العلاقات الحسنة مع الدول المتجاورة والمتحابة»[25].

بعد أن أنجز نوري السعيد مهمة وزارته الأساسية بدخول العراق عضوًا في عصبة الأمم بتاريخ 3 تشرين الأول/أكتوبر 1932، استقالت وزارته الثانية (19 تشرين الأول/أكتوبر 1931 – 27 تشرين الأول/أكتوبر 1932)، وعهد الملك إلى ناجي شوكت (1891 – 1980)، أن يؤلف وزارة جديدة تحل المجلس النيابي الذي أجرت الوزارة المستقيلة انتخاباته، وتأتي بمجلس جديد، على أن تجري الانتخابات اللازمة له بالحياد، وإذا بنوري السعيد يزور ناجي شوكت في مكتبه الرسمي، ويعرض عليه استعداده لوضع الأكثرية النيابية المتمثلة بحزب العهد العراقي تحت تصرفه على أن يبقى المجلس قائمًا فلا يُمس بالحل. غير أن فكرة الحل كانت قد تقررت بالفعل، وصدرت الإرادة الملكية بحله في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 1932.

وهكذا انتهت حياة حزب العهد العراقي، وزال من الوجود، كما انتهت حياة بقية الأحزاب التي تألفت لإغراض معينة، بعد أن حققت الأغراض التي تألفت من أجلها، وانتفت الحاجة إلى بقائها[26].

2 –  حزب الإخاء الوطني (25 تشرين الثاني/نوفمبر 1930)

مع تولي نوري السعيد الوزارة، في 23 آذار/مارس 1930، وتأسيس حزب العهد، بدأ التحضير للانتخابات النيابية، فعقد محمد جعفر أبو التمن، بعد عودة الحزب الوطني للعمل السياسي، اجتماعًا في داره مع أعضاء حزبه، أعلن فيه مقاطعة الانتخابات، ونشر بيانًا يحثّ فيه الشعب على عدم الاشتراك فيها. كان هذا الموقف استمرارًا لسياسة الحزب التي دأب عليها، ولكن ما جرى عليه العمل هو أن قرر ياسين الهاشمي، ورشيد عالي الكيلاني، وناجي السويدي، الدخول في الانتخابات، بالرغم من كونهم من جماعات المعارضة[27].

إلا أن حزب نوري السعيد فاز بالانتخابات، التي ضمنت له الأغلبية الساحقة في مجلس النواب، لذا وجدت المعارضة نفسها مضطرة إلى الاتفاق والتفاهم، فألفت فيما بينها حزبًا سياسيًا جديدًا سمته حزب الإخاء الوطني، ليقف مع الحزب الوطني مكونًا جبهة قوية عارضت الوزارة القائمة، في حين أجازت وزارة الداخلية الحزب بصورة رسمية بتاريخ 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1930.

كان حزب الإخاء يمثل صورة مكبرة لحزب الشعب (25 تشرين الثاني/نوفمبر 1925)[28]، إلا أن منهاجه جاء أقل اقتضابًا من سابقه، فالمادة الرابعة والأخيرة منه بينت أن الحزب ينشر تباعًا المناهج التفصيلية لتنفيذ مواده، وهذه هي المادة عينها في منهاج حزب الشعب، أما بقية مواد المنهاج الثلاثة، فلم تكن منهجًا لحزب سياسي يهدف الحصول على أكثرية نيابية كي يتبنى مطالب الشعب وحقوقه، بقدر ما كانت خططًا سياسية للرد على حزب العهد والتشكيك بوزارة نوري السعيد. فالمادة الأولى مثلًا «نبهت الشعب العراقي إلى مقاومة التصرفات الشخصية التي لا تأتلف والمصلحة العامة»، أما المادة الثانية فقد «حثت على تأليف رأي عام عراقي لمكافحة كل ما من شأنه أن يشوب استقلال البلاد بأية شائبة»، في حين أكدت المادة الثالثة «صيانة  حقوق العراق في مرافقه الاقتصادية وحماية وترويج مصنوعات البلاد واستثمار مواردها لخير أبنائه».

أما النظام الداخلي للحزب فكان واحدًا في كلا الحزبين، فياسين الهاشمي عندما أنشأ حزب الشعب أوجد له نظامًا داخليًا سار بموجبه إلى أن انتهى الحزب في أواخر عام 1928، وعندما كون الحزب الجديد جاء بالنظام الداخلي ذاته ولم يغير فيه سوى الاسم، وكان من أطول الأنظمة الداخلية للأحزاب سواء المتقدمة عليه أو التي جاءت بعده[29]. كان من أبرز أعضاء الحزب رشيد عالي الكيلاني وناجي السويدي وياسين الهاشمي وعلي جودت الأيوبي وحكمت سليمان وكامل الجادرجي، إضافة إلى عدد كبير من المحامين وبعض العسكريين ورؤساء قبائل الفرات الأوسط. وعند إجراء الانتخابات للهيئة الإدارية انتُخب رشيد عالي الكيلاني وعلي جودت الأيوبي كاتمًا للأسرار وعبد الإله حافظ محاسبًا وياسين الهاشمي وحكمت سليمان وغيرهم أعضاء.

أظهر حزب الإخاء، نشاطًا سياسيًا كبيرًا للوقوف بوجه حزب العهد، فعمل ما بوسعه للتعاون مع الحزب الوطني، حتى تم التوقيع على وثيقة التآخي بين الحزبين في 22 – 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1930 «أي قبل إجازة حزب الإخاء رسميًا». وقد وقع هذا الميثاق كل من ياسين الهاشمي ورشيد عالي عن حزب الإخاء، ومحمد جعفر أبو التمن ومولود مخلص ومحمود رامز (عن الحزب الوطني).

اتجه الحزبان المتآخيان إلى خطة عمل جديدة بعد أن وجدا أنهما لا يستطيعان التأثير داخل المجلس النيابي لوجود الأكثرية العهدية فيه، فاتجها إلى عقد المؤتمرات العشائرية في الفرات الأوسط، وعقدا مؤتمرًا في كربلاء في 5 كانون الثاني/يناير 1931، وتابعوا جولاتهم في النجف والكوفة والحلة، ولدى عودتهم قدموا برقيات احتجاج إلى الملك فيصل الأول، على تصرفات رجال الأمن في المدن التي زاروها، والتمسوا منه عدم التصديق على المعاهدة، كما زار رشيد عالي الكيلاني ومحمد جعفر أبو التمن البصرة للغرض ذاته، ما أدى إلى توتر العلاقة مع الوزارة، التي وجدت في تحركات الزعماء الإخائيين، محاولة لتقويض جهودها في ضمان تنفيذ بنود معاهدة عام 1930، لتتصاعد حدة الخلاف. وفي 8 آذار/مارس 1931، قدم ياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني وعلي جودت الأيوبي استقالتهم من مجلس النواب، واستمروا بنشاطاتهم المعارضة للوزارة، سواء بعقد الاجتماعات الشعبية، أو تقديم عرائض الاحتجاج إلى الملك فيصل الأول[30].

وفي 26 حزيران/يونيو 1932، اختار الملك فيصل الأول، رشيد عالي الكيلاني لمنصب رئيس الديوان الملكي، فأبعده ذلك عن الهيئة الإدارية لحزب الإخاء الوطني، وإن جرى غض النظر عن بقائه عضوًا في الحزب (جمد عضويته في الحزب، وإن بقي منتسبًا إلى حين إلغائه)، فاستقال كامل الجادرجي إثر ذلك من عضوية اللجنة العليا للحزب، ذاكرًا «أن الفائدة للحزب من هذا العمل لا تقابل الأضرار المعنوية التي سوف يتكبدها الحزب»، على حين أن بقية الأعضاء كانوا يعتقدون أن قربه من الملك سوف يكون عونًا للحزب على تحقيق أهدافه الوطنية. ولما ألّف جميل المدفعي وزارته الأولى (9 تشرين الثاني/نوفمبر 1933  –  12 شباط/فبراير 1934)، أخذ متصرفو الألوية يضايقون المنتمين إلى الحزب لحملهم على تركه، فلقي الإخائيون عنتًا كبيرًا من جراء ذلك[31].

مع تصاعد التطورات السياسية، عهد الملك غازي إلى ياسين الهاشمي، بتأليف الوزارة فألف وزارته الثانية (17 آذار/مارس 1935  –  29 تشرين الأول/أكتوبر 1936)، ثم حلت الوزارة مجلس النواب في 9 نيسان/أبريل 1935، وفي 1 أيار/مايو 1935، نشرت الصحف بيانًا صادرًا عن اللجنة العليا يتضمن قرارًا بوقف جلسات الحزب، وتعطيل أعماله السياسية، وكان البيان بالنص الآتي:

«نظر المؤتمر العام لحزب الإخاء الوطني في اجتماعه المنعقد في 29 نيسان/أبريل 1935 في الاقتراح المقدم من اللجنة العليا بشأن موقف البلاد الحاضر وما يتطلبه من العمل لتحقيق الإصلاحات الخطيرة، وبعد المداولة وجد أن البلاد في أمسّ الحاجة إلى توحيد الكلمة والجهد لقطع المراحل الأخيرة لتصل إلى أهدافها الوطنية، سواء من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ولأجل تنفيذ هذه الغاية النبيلة لا بد من إفساح المجال لأبناء البلاد الغيارى أن ينبذوا التحزبات القديمة ويتحدوا لتكوين جبهة واحدة تعضد الخطط الإصلاحية المنوي تطبيقها، وعليه توقف جلسات الحزب وتعطل أعماله السياسية على أن يسعى رجاله لتوحيد كلمة الأمة وإدماج الأحزاب في هيئة واحدة».

يعقب مجيد خدوري على ذلك بالقول «أن السبب الرئيسي لذلك رغبة ياسين الهاشمي في أن تكون له يد مطلقة لإدارة شؤون البلاد»، حيث كشف نفسه أن هذه الخطوة كانت تمهيدًا لإقامة نظام الحزب الواحد، إذ كتب بتاريخ 19 نيسان/أبريل 1935، أي قبل قرار التعطيل، رسالة إلى ناجي شوكت، سفير العراق في تركيا، قال له فيها «باشرت بإعداد العدة لتأليف حزب واحد وذلك بدعوة مؤتمر الإخاء الوطني لتعطيل أعماله السياسية تمهيدًا لهذا التأليف»، ولكن هذا الحزب لم يتألف وبقي العراق بلا أحزاب إلى عام 1946 [32].

3 –  حزب الوحدة الوطنية (20 تشرين الثاني/نوفمبر 1934)

نجح علي جودت الأيوبي (1886 – 1969) في تأليف الوزارة (23 آب/أغسطس 1933  –  23 شباط/فبراير 1934)، ولكنه لم يبقَ فيها طويلًا، لانتفاض عشائر جنوب الفرات ضده لعدم ارتياحهم إلى سياسته التي كان يتبعها وهو رئيس للديوان الملكي، كما أن جمعًا غفيرًا من رجال السياسة غير المتفاهمين معه سعوا للحصول على مساندة العشائر، تخلصًا من نفوذ علي جودت الأيوبي وجميل المدفعي واستمرارهما في الحكم[33].

عملت هذه الوزارة على إنشاء حزب سياسي أسمته حزب الوحدة الوطنية، ونشرت بيانًا أوضحت فيه أسباب تأليف الحزب، مؤكدة ضرورة ضم الصفوف وتوحيد الكلمة وتضامن الأحزاب والهيئات، ونبذ التطاحن والاختلافات جانبًا.

والواقع أن دعوة هذا الحزب إلى انخراط الأحزاب الأخرى واتحادها به، لم تقابل بإيجاب من الأحزاب الأخرى كالإخاء الوطني وبقايا حزب العهد العراقي، ولكن الجماعات النيابية التي اعتادت التنقل من حزب إلى آخر ما لبث أن دعمت الحزب وساندته[34].

كانت الغاية من تأسيس الحزب هي إسناد الحكومة والتصدي للمعارضة الواسعة، غير أن هذا الحزب كان ضعيفًا في شخصياته، التي ضمت سياسيين مغمورين وبعضًا من شيوخ العشائر، من غير المعروفين سياسيًا، فضلًا عن غياب التأييد الشعبي للحزب، ومع ذلك ظهر أول حزب سياسي تالف بعد الاستقلال، وقد روعيت في تأليفه السبل التي تسلك عادة في تأليف الأحزاب، حيث اقترنت إجازة تأسيسه ومنهاجه الأساسي ونظامه الداخلي كلها بتصديق وزارة الداخلية.

انضم إلى الحزب المنتفعون من الوزارة، ولا سيما الذين وصلوا إلى كرسي النيابة، بعد الانتخابات التي تمت بتاريخ 9 أيلول/سبتمبر 1933، وقد كانت الهيئة الإدارية للحزب تتكون من علي جودت الأيوبي رئيسًا وصالح باش أعيان نائبًا وسالم قاسم أغا سكرتيرًا. أما الأعضاء فهم علي باشا الدوغرمجي، ونجيب الراوي، وحازم شمدين آغا، وعبد الهادي الجلبي، والحاج رايح العطية، وبهاء الدين النقشبندي.

أصدر عادل عوني جريدة نصف أسبوعية باسم الوحدة كانت تنطق بلسان الحزب ومديرها المسؤول درويش لطفي معروف، إذ صدر منها 9 أعداد، ثم توقفت عن الصدور بعد استقالة الوزارة في 23 شباط/فبراير 1934، وقد عدت وزارة الداخلية الحزب منحلًا عقب ذلك، كما حل المجلس النيابي من جانب وزارة ياسين الهاشمي الثانية بتاريخ 9 نيسان/أبريل 1935، ولذلك لم تسمح وزارة الداخلية للحزب بالاستمرار، في النشاط وإصدار جريدة ناطقة باسمه بدلًا من التي عطلتها، وهكذا انتهت حياة حزب الوحدة الوطنية هذا من دون أن يترك أثرًا في الحياة السياسية[35].

ومن غريب ما يذكر في هذا السياق، أن علي جودت الأيوبي الذي ألّف ثلاث وزارات في أوقات مختلفة، ونشر مذكراته القيمة[36]، لم يشر إلى حزب الوحدة الوطنية، في مذكراته لا من قريب ولا من بعيد، وكان السيد عبد الرزاق الحسني قد أشرف على أعداد هذه المذكرات، وعلى طباعتها، وقد «لفت نظره أكثر من مرة إلى وجوب نشر شيء، عن حزبه العتيد في مذكراته دون أن يحظى بموافقته أو بجواب مقنع»[37].

خاتمة

تعَدّ الأحزاب السياسية الركيزة الأساسية للنظام الديمقراطي، مع الأخذ بالحسبان ظروف المرحلة التاريخية التي تأسست فيها، لكونها تتحكم بنشاطاتها، ثم  –  وهو الأكثر أهمية -  طبيعة برامجها السياسية، التي تضم الأهداف المعلنة لتلك الأحزاب ووسائل تحقيقها، كُل بحسب وجهة نظر قادته ومنظّريه.

لكن في المقابل يبقى لموقف السلطة القائمة، النصيب الأوفر من العوامل المتحكمة بالحياة السياسية، فهي التي تضع شروط تأليف الأحزاب، ثم تمنحها الإجازة، وتراقب عملها عن كثب لبيان مدى التزامها، بل وتملك الصلاحيات الكاملة للتدخل ووقف النشاط الدائم أو المؤقت إذا اقتضت الحاجة إلى ذلك.

ارتبطت بدايات الوعي السياسي في العراق بالعقد الأخير من الحكم العثماني (1908 – 1918)، حيث بدأت بواكير الفكر السياسي، مع سعي السلطات للسماح بنمط مقنن من العمل السياسي، ثم تلى ذلك المتغيرات السياسية الغير معهودة مع الاحتلال البريطاني عام 1918، الذي سمح للعراقيين بالتعبير عن آرائهم، ولكن من دون المساس بالمحتل، أي تبعًا لشروط محددة.

لقد كان لهذا تداعيات إيجابية مع تأسيس الدولة العراقية في 23 آب/أغسطس 1921، إذ سبق ذلك حراك سياسي شعبي غير معهود، استفاد مباشرة من الخبرات المتراكمة، لتتصاعد الضغوط على الحكم الجديد من أجل السماح بتأسيس الأحزاب السياسية، وهو ما حدث عقب إقرار قانون الأحزاب السياسية في 2 تموز/يوليو 1922، الذي أتاح حرية تأسيس الأحزاب السياسية، ذلك ما مهد للمرحلة الأولى من النشاط الحزبي في العراق (2 آب/أغسطس 1922  –  29 نيسان/أبريل 1935).

يمكن أن يتبين ظهور نوعين أساسيين تقليديين من الأحزاب في العراق إبان تلك المدة التاريخية، وهما أحزاب السلطة والمعارضة، ليكون الصراع ما بينهما الإطار الذي ميز الحياة السياسية في تلك المرحلة، وهو ما اتخذ من قضية تحديد نمط العلاقة مع المحتل البريطاني، المرتكز الفكري لتلك المدة التاريخية (1922 – 1932)؛ إذ تباينت الآراء بادي ذي بدء، ثم ما لبث هذا الأمر أن انتقل إلى الأوساط الشعبية، فكانت الجرائد والبيانات والتظاهرات والانتخابات، وغيرها من وسائل التعبير السلمي، الوسائل التقليدية التي لجأت إليها الأحزاب للتعبير عن وجهات نظرها تجاه القضايا الملحة، وبالتحديد ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي عقب تحديد ملامح العلاقة ببريطانيا مع توقيع معاهدة عام 1930، التي مهدت لحصول العراق على الاستقلال، ودخوله إلى عصبة الأمم في 3 تشرين الأول/أكتوبر 1932، ومن ثم كسب المؤيدين لطروحاتها في مرحلة لاحقة، عبر تبنّي قضايا شعبوية، تكون قادرة على إثارة اهتمام الأوساط الشعبية.

إجمالًا، كان لأحزاب السلطة النصيب الأوفر من النشاط السياسي، أي تلك الأحزاب التي تؤسسها الوزارة أو الزعماء السياسيون التقليديون، لدى وصولهم إلى الحكم، لدعم برامجهم السياسية، ثم السعي للتصدي لأحزاب المعارضة، التي عادةً ما تكون أكثر شعبية، لكن تنقصها الوسائل اللازمة لتحقيق أهدافها، وبخاصة مع تعنت السلطات تجاهها في كثير من الأحيان، الأمر الذي يؤثر بالسلب فيها. لكن، في المقابل، كانت أحزاب السلطة تنتهي بمجرد خروج زعمائها من سدة الحكم، إذ سرعان ما يتحول قادتها نحو فرص أخرى قد تكون متاحة.

كتب ذات صلة:

ثورة العشرين : الجذور السياسية والفكرية والاجتماعية للحركة القومية العربية (الاستقلالية) في العراق

الفكر القومي لدى الأحزاب والحركات السياسية في العراق، 1945 – 1958

العراق بعد الغزو: تشرذم – ولادة جديدة – اندماج

شركاء في الجريمة: الدور البريطاني في غزو العراق / الملخص التنفيذي لتقرير لجنة تشيلكوت للتحقيق بشأن العراق